(دار نينوى، دمشق، 2024)
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النص، ما هي منابعه وروافده ومراحل تطوّره؟
محمد علي نايل (م. ع. ن.): يوما ما في سنة ٢٠١٧ بينما كنت أفكر بكتابة نص قد يستفيد منه أهالي المخيمات، ولا تكون الفائدة من الكتابة محصورة بي أو بموقع النشر، لمعت في ذهني فكرة الرواية. حدث هذا الإدراك، حول جدوى الكتابة عن مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، بعد مشاركتي بورقة بحثية ضمن ورشة عمل عقدتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت. كان عنوان الورشة: نحو بحث ملتزم ومسؤول، قضية مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. سُلّط الضوء على حالة نفور من قبل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان؛ بسبب الممارسات البحثية في المخيمات، ودور المرشدين والمترجمين وتأثيرهم في البحث المنتَج، والتقارير الصحفية المضللة. دارت بين المشاركين في ورشة العمل نقاشات صاخبة حول جدوى نتائج البحوث حيث تعد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان من أكثر المواقع الجغرافية المبحوثة والمدروسة على وجه الأرض. ورغم كثافة البحوث العلمية والتقارير الصحفية عن المخيمات استمر وضع اللاجئين في الانحدار. والأنكى من ذلك أن كل البحوث العلمية والتقارير في الصحف العالمية لم تعد بأي منفعة أو فائدة على أهالي المخيمات. تحت ضوء هذا اليقين عزمت أمري على إنتاج عمل مستوحى من رغبات الفلسطينيين في المخيمات. فوجدت أن الثابت الوحيد طوال سنوات عملي في المخيمات والقاسم المشترك الذي كان يصر عليه الناس كحل نهائي هو حق العودة.
في هذا الجو من العصف الفكري خطرت فكرة تحثني على فتح أبواب المخيلة لتجاوز الواقع والتأمل في كيفية العودة إلى فلسطين إن حصلت يوما ما. وكما يقول غسان كنفاني: إن الفكرة النبيلة لا تحتاج غالبا إلى الفهم، بل تحتاج إلى الإحساس. ذهبت مع إحساسي خلف سيناريو بدأت تتكون ملامحه داخل جمجمتي. كانت تلك اللحظات تبعث أفكاراً لا يمكنك الاعتماد فيها على الذاكرة. أخذت دفتراً وقلماً بعجالة، ورحت أرسم هيكل الرواية متبعاً إحساسي في تخيل العودة كفعل واقعي. مر الوقت بسرعة وأنا سارح على الورق. وحين فرغ رأسي وعم الصمت في أرجاء الجمجمة وضعت القلم جانباً. هكذا استطعت اجتراح التصور الأولي للرواية. أصبح لدي الإطار الزمني والمكاني والشخصية الرئيسية، اسمها وشكلها وملامحها ومكانها في سياق الرواية.
تركت الفكرة على الورق ورحت أبحث في كيفية الصياغة والتأليف. مرت على هذه الحادثة سنتان وأنا أبحث عن طريقة تمكنني من التفرغ والغوص في الكتابة. بقيت الفكرة حاضرة في مقدمة رأسي وعند بداية سنة ٢٠١٩ قررت التوقف عن العمل، اقترضت مبلغاً من المال يغطي مصروفي لمدة سنة، وبدأت الرحلة. عدت إلى الدفتر الذي ولدت عليه فكرتي، رسمت خطة عمل، والتزمت بنظام كتابة يومي. بعد تسعة أشهر خرج نص الرواية ولكني شعرت أنه ما يزال بحاجة للاهتمام والتغذية. وبما أنها أول محاولة لي في كتابة نص روائي باللغة العربية كان لا بد من نظرة عيون عارفة. استعنت ببعض الأصدقاء ذوي الباع في الكتابة والقراءة وتلقيت منهم بعض الملاحظات المفيدة. في هذه المرحلة كنت بحاجة للعودة إلى النص والعمل عليه بتأنٍ، وهنا كان التحدي. كنت على يقين أن الأمور تتسارع من حولي والوقت يمر، والمال الذي اقترضته ينفد، والسنة التي حددتها للكتابة شارفت على نهايتها.
عند بداية فصل الخريف عام ٢٠١٩ كان بين يدي نص بحاجة للمزيد من العمل والتركيز والتفرغ. في ليلة وضحاها بدأ العالم يتدهور من حولي: فحدث السقوط الاقتصادي في لبنان، وامتلأت الشوارع بالمظاهرات، وفي خضم هذه المعمعة انتشرت الكورونا وأطاحت بكل شيء. حتمت علي هذه الأحداث إعادة ترتيب أولوياتي المعيشية والالتفات الى مسؤوليتي باتجاه أهلي. عند نهاية سنة ٢٠٢٠ وبعد انفجار مرفأ بيروت الكارثي اتضح لي أن العالم كله وصل عند تقاطع تاريخي ودخلنا لحظة انعطاف كونية ستؤدي إلى تغييرات جذرية. عند هذا الواقع قررت العودة إلى الرواية، وإعادة كتابتها تحت وطأة المتغيرات، في عزلة كورونية مفيدة. حين وصل ربيع ٢٠٢١ كنت على وشك النهاية من الكتابة وهنا شعرت بنضوج في النص لم التمسه في المحاولة الأولى. بل إني التمست نوعاً من النضوج الفكري واللغوي يتشكلان داخلي وأنا منكب في الكتابة. حدث هذا الإدراك حين قررت أن أكون في هذه المحاولة في صدق تام مع نفسي وخشوع صافٍ مع النص إخلاصا لفكرة الرواية. وعندما كنت على وشك أن أضع اللمسات الأخيرة انفجرت معركة سيف القدس. بدى مشهد انتشار الشعب على كامل التراب الفلسطيني بينما صواريخ غزة تنهمر على المدن المحتلة إنذاراً للطوفان الآتي الأعظم وإشارة بأن العودة باتت قاب قوسين أو أدنى. كنت قد انتهيت من الكتابة مع نهاية معركة سيف القدس وهنا ابتدأت رحلة البحث عن دار نشر.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية، ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(م. ع. ن.): تنطلق الرواية من وجهة نظر شاب لبناني يعمل في الصحافة وجد حياته في بيروت قد وصلت به إلى مفترق طرق، وإذ به يستيقظ يوما ما وسط حدث غير مألوف كان مفعوله بمثابة خضة وجودية. تدور أحداث ذئاب الجليل في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في مدينة صيدا. وتتمحور أحداث الرواية حول مجموعة شبابية من المخيم يحاولون إيجاد سبيل للعودة إلى فلسطين. تذهب الرواية بالقارئ إلى مكان خارج المكان في بيئة جغرافية معزولة عن محيطها لتصور مغامرة جيل جديد من فلسطينيي الشتات التقوا حول فكرة شكلت نهجا.
(ج): كتابُك عبارة عن رواية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًا بذاته تأثير فيما تريد أن تقول، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(م. ع. ن.): لا شك أن نموذج الرواية التاريخية، ورواية الخيال العلمي، كان لهما أثر على نمو الإطار الفني أو الابداعي حول جوهر الفكرة. استعنت بأسلوب سرد دائري حيث تبدأ الرواية في مكان وزمان معين في الفصل الأول ثم تعود إلى الماضي في الفصل الثاني ويستمر السرد إلى أن تقفل الدائرة مع نهاية الفصل الثالث. حاولت حياكة الحكاية مستعينا بخيوط معرفية تمزج التاريخ بالواقع والخرافة. أردت فتح مساحة ذهنية عبر الخيال لتتمكن شخصيات الرواية بتجاوز القيود المادية التي تفرضها ظروف المخيمات الصعبة. لذلك افتتحت الرواية بهذه الجمل: في لحظة الحاضر تكمن حولنا عدة خيارات ومقومات وسبل نستطيع استخدامها لرسم خريطة المستقبل. وما المستقبل سوى مجرد امتداد وتطور للحظة التي نحن فيها. وإذا استطعنا الصمود من غير أن نخسر أنفسنا تحت وطأة وحشية الظروف الراهنة تأتي أحيانا، في خضم الكرب الضارب، فكرة تشعل الحماس في وعي الإنسان وتنعكس نورا على محيطه.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(م. ع. ن.): كان التحدي الأكبر خلال مرحلة الكتابة الأولية هو الالتزام بخطة الكتابة لحظة بلحظة وتجنب القفز نحو المستقبل. وبكل صراحة وجدت أن فعل الكتابة الطويلة يحتاج لتهذيب الأنا المتحكمة بالذات. هذه الأنا تلح دوما وتريد نتائج بسرعة خارقة، تريد القفز نحو المستقبل والانغماس في ملذات الهوى وتعمل على تشتيت الطاقة الفكرية التي تحاول التركيز على اجتراح نص صادق. والخلاصة هي إن أردت العمل على نص ملتزم، أعني غير تجاري، فإن الموضوع بحاجة إلى بعض التواضع وكثير من الصبر والمثابرة.
الصعوبات الأخرى كانت تكمن في عسر توفر ترف التفرغ والانعزال التام من غير التفكير في متطلبات الحياة اليومية. العامل المادي كان التحدي الأكبر. في البداية كنت أفكر بالحصول على منحة مالية من إحدى المؤسسات الأجنبية غير الحكومية في لبنان. كان هذا في سنة ٢٠١٨ حيث وجدت أن العديد من الكتاب والصحفيين والمؤثرين والممثلين والفنانين على أنواعهم يُموّلون بمبالغ محترمة مكنتهم من التفرغ لإنجاز أعمالهم. في هذه الضوضاء الثقافية البيروتية كنت أسمع كثيرا عن مؤسسة ألمانية بدت وكأنها توزع التمويل كالبسكوت براحة الحلقوم. وكيفما برمت وجهي أصابني كلام المستفيدين وهم يتحدثون عن سهولة الحصول على المنح المالية من هذه الأن جي أو. قلت لنفسي لمَ لا أطرق باب هذه المؤسسة وأحصل على منحة تمكنني من التفرغ للكتابة. وبعد الاستفسار عن طريقة الحصول على منحة حصلت حادثة كانت بمثابة الرادع الأخلاقي. كانت ذكرى النكبة تقترب فطلبت مني مؤسسة روزا لوكسمبورغ كتابة مقال ضمن ملف يعدونه للنشر في ذكرى النكبة. هنا قلت لنفسي ها قد وصلت لحظة الامتحان السياسي/الأخلاقي لهذه المنظمة. ذهبت إلى المخيم وتحدثت مع الناس وكتبت مقالا صحفيا بالإنجليزية، كانت ثيمته الأساسية حق العودة إلى فلسطين. بعثت لهم بالنص بحوالي أسبوعين قبل ذكرى النكبة؛ ومرت الأيام، ومر يوم النكبة، وانتهى شهر أيار، ولم ينشروا المقال ولم يعلموني عن أي تطورات. حين رحت للاستعلام منهم عما حصل قالوا: "ألم يخبرك أحد أن المؤسسة لم توافق على نشر المقال؟" تفاجأت قليلا من غير خيبة، ولم انصدم لأن مؤسسة ألمانية تدعي الحرية والتحرر لم توافق على نشر مقال بعنوان العودة. ولكني انصدمت حين علمت أن لهم مكتباً في تل أبيب قام بمراجعة النص واعترض على نشره لأنه "مقال متطرف" ولأن حق "العودة موضوع إشكالي غير مقبول طرحه." كانت هذه تجربة من النوع الذي تلخصه آية: "وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم". هكذا اتضح لي أن مال الأن نجي أويات في بيروت كلفته تعني مساومة سياسية وأخلاقية لصالح العدو. أما العمل مع مؤسسة لديها مكتب في تل أبيب؛ فهذا تطبيع مخفي لم أكن أعلم به لولا تجربتي، وخط أحمر عريض لا يمكن تجاوزه. عند هذا الواقع كان لا بد من إعداد خطة والاتكال على القدرة الذاتية. وحين حسمت أمري وقررت التفرغ لكتابة الرواية اقترضت مبلغا من المال وبمساعدة ليلى (زوجتي) استطعت أن أشرع بالكتابة بنفس مطمئنة.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(م. ع. ن.): رواية ذئاب الجليل هي الجزء الأول من سلسلة سيكون لها جزء ثان وثالث. هي بداية رحلة جديدة في سبيل الكتابة الروائية بعد سنوات من العمل في الكتابة الصحفية. عساها أن تكون مسيرة إبداعية تواكب التحولات التاريخية التي نشهدها اليوم. أصبحنا اليوم في زمن طوفان الأقصى وبعد قراءة ذئاب الجليل سيجد القارئ أن الرواية تنتهي عند بداية الطوفان.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(م. ع. ن.): قرأت العديد من المؤلفات والنصوص خلال مرحلة الكتابة. كان يوما سعيدا حين استعرت رواية أرض السواد من مقهى شامية في لندن. ووجدت في أسلوب عبد الرحمن منيف تأثيراً خاصاً جذبني بطريقة وصفه المكان وطبيعته وحكايات أهله وناسه وطريقة عيشهم في مرحلة تاريخية مفصلية. أما الكتاب الذي رافقني طوال فترة الكتابة كان مؤلفات الشهيد باسل الأعرج "وجدت أجوبتي". وجدت على صفحات هذا الكتاب زخما معرفيا يتعلق بكل تفاصيل القضية الفلسطينية؛ طبيعة الأرض، تاريخ الاحتلال، طبائع وعادات الشعب، وتاريخ النضال. دراسات باسل الأعرج كان لها تأثير مهم في التصويب السياسي في لحظة بدت فلسطين ضحية تشرذمات عشرية النار التي مرت بها منطقة بلاد الشام. فكان بمثابة مرجع سياسي أخلاقي معرفي خلال رحلة الكتابة.
(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(م. ع. ن.): طوال فترة الكتابة كنت أنظر بعين عقلي إلى الشباب والشابات في المخيمات الفلسطينية. فمنذ البداية قررت أن أهالي المخيمات في الشتات هم جمهور هذه الرواية، تحديدا الفئة العمرية المراهقة. هذا الدافع كان ينبع من التزام مهني أخلاقي يحثني على الكتابة لهم بعد أن كتبت عن أحوالهم باللغة الإنجليزية لعدة سنوات. وهي حكاية لكل قارئ عربي مهتم بأحوال فلسطيني الشتات المنتشرين حول فلسطين. اليوم بعد طوفان الأقصى أشعر بأن رواية ذئاب الجليل هي لكل الشباب والشابات في الوطن العربي الذين تفتحت عندهم رغبات تحريرية جياشة وهم يتألمون للمجزرة ويتشكل في عمق كينونتهم وعي جديد أسسه فعل المقاومة الأسطوري في غزة وصمود أهلها.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(م. ع. ن.): أول ما أن تسنح لي الفرصة أود البدء بكتابة "تثبيت الأقدام"، الجزء الثاني من رواية ذئاب الجليل. أما في اللحظة الحالية فأنا منكب في متابعة وأرشفة الأحداث اليومية لمعركة طوفان الأقصى. لا أعلم ما الذي سأفعله بهذه الكمية من المعلومات، لكنني على يقين أننا نعيش لحظات تاريخية تؤسس لما بعدها وسوف نحتاج للعودة إلى هذه الأيام في المستقبل.
مقتطف من الرواية
تـم في وقـت مـا بـين نهايـة سـنة ٢٠١٨ وبدايـة سـنة ٢٠١٩ تنظيـم جمعيــة عامــة حضرهــا عــدد مــن الأعضــاء الممثلــين لمجموعــات العـودة. تحـت ضـوء أصفـر خافـت في إحـدى زوايـا قاعـة المؤتمرات في مخيـم مـار اليـاس جلـس كل مـن مالـك وسـميرة وماجـد حـول صنـدوق بيبـسي، بلاسـتيك، أزرق، فـارغ، وضـع فوقـه عـدة أكـواب قهـوة ومنفضـة طافـت بأعقـاب السـجائر. وتـم خـلال هـذه الخلوة الثلاثيـة صياغـة ورقـة الاقـتراح الأخيرة لتأسـيس قـوة سـبرانية ضاربة بقيـادة مجموعـة مـن الهاكـرز في المخيـمات. والورقـة كانـت بمثابـة دعـوة للبـدء بوضـع خطـة عمـل المـؤازرة الإلكترونيـة للمجموعـات.
وبينــما كانــوا يضعــون اللمســات الأخــيرة حــول طريقــة عــرض المبـادرة لاحظـت سـميرة شـابة كانـت تقـف عـلى بعـد خطـوات منهـم وتحـاول اسـتراق السـمع لمـا كانـوا يخططـون لـه. وكانـت قـد لمحتهـا قبـل ذلـك بقليـل وهـي تـروح وتجـيء وتحـوم حولهـم. وأثـار إعجابهـا مظهـر هـذه المتطفلـة التـي تشـبه شـخصيات الــ cyber punk مــن مسلســلات رســوم الأنيمــي اليابانيــة: شــعرها المجعــد القصــير تجمــع عــلى جهــة واحــدة مــن رأســها وحلقــت الجهـة الأخـرى عـلى درجـة الصفـر (ع الجلـدة)، وشـكت في أذنيهـا العديـد مـن أقـراط الحلـق بعـدة ألـوان لاحظـت سـميرة مـن بينهـا الفـضي، والأخـضر، والأسـود. وكانـت ترتـدي بلـوزة سـوداء طبـع في وسـطها جمجمـة بيضـاء وكتـب تحتهـا Riot Girl. وتحـت البلـوزة ارتــدت جينــزاً أســود ضيقــاً ممزقــاً عنــد الركبتــين أدخلتــه عنــد الكاحــل في بــوط عســكري جلــد أخــضر لم تــر ســميرة مثلــه مــن قبــل. لكــن الــشيء الــذي لفــت نظــر ســميرة وشــدها الى ســتايل هـذه المتطفلـة هـو المسـدس البلاسـتيك البرتقـالي الفاقـع المدسـوس في خصرهــا وظهــر منــه نصفــه الأعــلى: القبضــة والزنــد. لكــزت سـميرة بقدمهـا رجـل مالـك وسـألته بصـوت خافـت: »ليـك، مـين هالبنـت؟ صارلهـا سـاعة بتحـور وتـدور. وعـم تكـب دينـة وتسـمع وتســترق نظــرات«؟ التفــت مالــك إلى يمينــه وابتســم عــلى الفــور ثـم نهـض مـن كرسـيه بعجـل وخـرج ارتباكـه مـع صوتـه حـين راح ينـادي: »ييـي، كيـف مـا شـفتك؟! أهلـين، أهلـين! مايـا! إنـت هـون! واللـه مـا انتبهـت لـك، أهلـين وسـهلين. شـوفي مـافي؟ أخبـارك؟ ليـش واقفـة عـلى جنـب؟ تعـالي أعرفـك«.
تقدمـت مايـا بخطـوات بطيئـة غـير مباليـة، ومـن خلـف نظارتهـا بعدسـاتها الصفـراء كانـت عيناهـا مثبتتـين عـلى سـميرة تتفحـص وجههـا وتحـدق في خصلـة الشـيب الفضيـة تقصـم رأسـها وتنتهي في كعكـة مربوطـة. »تعـالي، لازم أعرفـك ع مجموعتـي المصغـرة، هـادا ماجـد بتعرفيـه. وهـاي. هـاي زميلتنـا البنـت تبـع عـين الحلـوة«. هنـا نـسي مالـك اسـم سـميرة وراح يتخبـط تحـت الحـرج: »شـو اســمها يــا اللــه؟ البنــت الــلي خبرتــك عنهــا مــن يومــين«. هــزت راســها وقالــت بصــوت خافــت كأنهــا تكلــم نفســها: »ااااه، هــاي هـي سـميرة«؟
«آه صـح، سـميرة! هـاي سـميرة مـن مجموعـة عـين الحلـوة الـلي كنـت بخـبرك عنهـا.« ثـم التفـت نحـو سـميرة وقـال بنـبرة الاعتـذار: »واللـه مـا نسـيت اسـمك. لا تواخذينـا يـا سـميرة، صايـرة حالـة فقـدان الذاكـرة عـلى المـدى القصـير عـم تزيـد معـي. مخـي مـا عـاد يلحـق«. تطلـع إليـه ماجـد وابتسـم عـلى إثـر هـذه الملاحظـة.
وتابـع مالــك تقديـم مايـا بحــماس مفـرط، حيـث صـار جسـمه يتراقـص عـلى إيقـاع وتـيرة إعجابـه بهـا وتطايـرت يـداه تشـوبران في جميـع الاتجاهـات وتقـودان أوركسـترا مشـاعره. وشـكرها كثـيرا وهـو يثنـي عـلى مبادرتهـا في تأمـين قاعـة الاجتـماع والجهـد الـذي قامـت بـه مـع مجموعتهـا في تنظيـم المـكان وإمـدادات الجمعيـة العامـة. وشـدد حـين قـال إنهـا أحـد الأعضـاء المؤسسـين لمجموعـة مخيــم ماراليــاس. قاطعتــه ســميرة ونظــرت نحــو مايــا موجهــة ابتسـامة عريضـة، ضربـت كفـاً بكـف وقالـت معلنـة: »أيـوا هـلأ عرفتــك.« ثــم نهضــت ومــدت يدهــا للســلام: »أهلــين، تشرفنــا! إنـت اسـمك مايـا اليـاس عـلى مجموعـة التلغـرام صـح؟« هـزت مايـا رأسـها مـن غـير أن تقـول أي شيء ومـدت يـدا بـاردة رخـوة ارتابـت منهـا سـميرة. وحـين عـادت لتجلـس قـرب ماجـد الـذي كان يراقـب المشـهد بصمـت ملتزمـا ابتسـامة فيهـا الكثـير مـن التقريـع. لمحـت سـميرة وجهـه وفهمـت كل شيء فنظـرت نحو مايا وقالـت بنـبرة سـاخرة: »واللـه نيالكـم ع هالمخيـم! شـو هالنظافـة والـرواق؟ هـادا مخيـم كلاس، تعـالي كـم يـوم لعنـا ع عـين الحلـوة وغـيري جـو«. وقهقهـت سـميرة لسـخرية القـدر. لكـن مايـا بقيـت تقــف مكانهــا بوجــه ناشــف غــير مباليــة بمحــاولات التعــارف ولم تبـادل أحـداً أي نـوع مـن الخـوش بوشـية التـي بادرتهـا بهـا سـميرة في محاولـة لكـسر لـوح الجليـد الـذي تمترسـت خلفـه مـا أدى إلى إحــداث انطبــاع أولي في مــخ ســميرة أنهــا: »بنــت شــايفة حالهــا كتـير، ووجهـا أنشـف مـن المنشـفة«. ثـم سـألتها بتهكـم عندمـا لم تسـتطع احتـواء حشريتهـا: »إيـش هـادا الـلي داحشـتيه بخـصرك، فـرد مـي؟ كنـك بتحبـي تلعبـي مـع الأولاد بالحـي«؟ لكـن سرعـان مـا كـشرت مايـا عـن أنيابهـا وسـحبت فردهـا البلاسـتيكي وصوبتـه نحـو رأس سـميرة وقالـت لهـا بنـبرة لـؤم وتحـدي: »شـكلك ع بالـك تبـوردي، شـو رأيـك أرشـك بفـرد المـي تبـع الأولاد«؟ هنـا دب الهلـع في وجـه مالـك واسـتدرك الأمـر بسرعـة حـين قفـز ووقـف بـين مايـا وسـميرة ووضـع يـده فـوق الفـرد البرتقـالي وأنـزل يدهـا: »لاه لاه طـولي بالـك. لحظـة شـوي«. ثـم توجـه إلى سـميرة بصـوت جـدي وواضـح ليسـمع مايـا: »إصحـك تفكـري إنهـا شـايفة حالهـا! ممكـن تكــون مغــرورة بنفســها، وصراحــة بيطلعلهــا. وإنتــو أصــلا كان لازم تتعرفـوا ع بعـض مـن زمـان. هـاي مايـا أنضـف الأدمغـة بـين مجموعــات العــودة! وهــاي الهاكــر الــلي قدامــك مهكــرة مواقــع وحسـابات ضخمـة! ومـش عـم أبالـغ لمـا إحـكي أنهـا مـن أقـوى الــترولات الفلســطينية عالنــت وقاهــرة جيــوش بوتــات الحســبرة الصهيونيـة ع تويتـير عالفايـس عانسـتا عويكيبيديـا والـدارك ويـب و و و! وهـادا يـا كبـيرة مـش فـرد مـي. هـادا فـرد حقيقـي مـش لعبـة، ومطبـوع ع مكنـة 3D برنـتر. بطـخ عـادي بطلقـات مصنوعـة مـن نفـس المـادة وبيقتـل مـن مسـافة بعيـدة.« ثـم توجـه إلى مايـا بنـبرة وديـة: »مايـا، شريـك خـلاص روقيهـا عـاد! فـش حـدا هـون بيســترجي يغلــط معــك! تعــالي اقعــدي معنــا واشرحــي لســميرة كيـف صممتـي الملـف الرقمـي للمسـدس وكيـف قـدرتي طبـع كل قطعـة بمطبعـة لحـد مـا جمعتـي الفـرد. وصراحـة هسـا أحسـن وقـت لنشـوف كيـف فينـا ندبـر 3D برنـتر للمجموعـات ونعيـد اختراعهـا ونـدرب النـاس عـلى اسـتخدامها بصناعـات ذكيـة موجهـة. وهــاي المكنــة رايحــة تكــون أســاس الصناعــة الذكيــة إذا ناويــن نـروح بالمـشروع للآخـر! هـادا هـو المفتـاح لامتـلاك وسـائل الإنتـاج بـكل إشي. وخلـص روقوهـا شـوي مـا عـد في وقـت الاجتـماع صـار قريـب تبلـش لازم نخلـص مراجعـة الورقـة.«
انقلـب وجـه سـميرة وتزيـن بعلامـات الدهشـة وبقـي الحاجبـان معلقـين في وضعيـة التعجـب في أعـلى جبهتهـا. وحـين كانت تسـتمع لـكلام مالـك عـن مايـا صـار يـزداد إعجابهـا بهـذا الاخـتراع المطبـوع وصاحبــة الاخــتراع. راحــت تحــدق بالفــرد البلاســتيكي ثــم تنقــل نظرهــا إلى وجــه مايــا وتعيــد نظرهــا في هــذا الاخــتراع: معقــول! مسـدس مطبـوع طبـع! وفي المقابـل كانـت مايـا تقـف فـوق أعـلى قمـم الغرور وقـد فردتهـا وارتسـمت عـلى وجههـا ابتسـامة النـصر والكثـير مـن علامـات اللـذة بالاعـتراف. فاقـترح مالـك بعجـل ضـم مايـا فـورا إلى مجموعتهـم المصغـرة لتكـون هـذه المجموعـة هنـا والآن نـواة لإنشـاء جيـش إلكـتروني عـلى مسـتوى مخيـمات الشـتات في لبنـان.