في حيثيات حصول الأديب المغربي عبد الفتاح كيليطو على جائزة الملك فيصل بن عبد العزيز العالمية في الأدب العربي، تثني لجنة التحكيم على "براعةِ كيليطو، الأستاذ بجامعة محمد الخامس في الرباط، في تأويل الأعمال السردية العربية القديمة، بدراساتٍ مكثفة أحاطت بها في شتى أنواعها، وتَمثُله المناهجِ النقديةِ الحديثة تمثلاً إيجابياً، وعملِه على تكييفها بما يناسب رؤيتَه التي اتصفت بالجدية والطرافة والإبداع، وتميزِه بالقدرة على تقديم السرد العربي للقارئ العام بأسلوب واضح ودقيق." والحقيقة أن هذا التوصيف يصف بدقة أثر المنجز الذي قدمه عبد الفتاح كيليطو لقارئ العربية. ولئن أردنا الاقتراب أكثر، ستدهشنا التفاصيل الثرية التي يحفل بها هذا المنجز، حتى نعرف من هو عبد الفتاح كيليطو التي تستعصى كتاباته على التصنيف؟
***
كان الأدب العربي بحاجة إليه، وكان هو على دراية بهذا النزوع القوي لديه، على عكس ما كانت تعده له الأيام. وهو الذي ذهب إلى جامعة السوربون لإعداد رسالة بالفرنسية فكتبها في موضوع عربي عن "السرد والأنساق الثقافية في مقامات الهمذاني والحريري" ؛ وهو الذي أنفق أربعين سنة في التدريس الأكاديمي للأدب بالفرنسية، فكان يمزق أوراق التحضير فور الانتهاء من الحصة، لأنه كان على اقتناعٍ بأنه لا يريد الكتابةَ مثل الآخر، ولا يريد لكتاباته أن تبقى حبيسة النهج الأكاديمي الجامد. كان يساوره شعورٌ ملازم بأن الأدب الفرنسي لا يحتاجه، وبأن الأدب العربي يحتاجه بقدر ما كان هو يستشعر الحاجة إلى الكتابة فيه وعنه.
اختار أن يتعلم الفرنسية كي يكتب بالعربية، هكذا يحب عبد الفتاح كيليطو أن يروي أسطورته الشخصية، لكنه، وإن كان قد مزق أوراق التحضير الفرنسية، لم يتخلّ يوماً عن المعرفة الوثيقة بالأدب الفرنسي وبالآداب الأوروبية، مخطئ من يظن أن ثمة قطيعة بين روافد ثقافته الموسوعية، بل هو كائن في الثقافتين، كمن يبحر بين ضفتي نهر لا يتوقف عن الجريان. إنها صورة "المثقف حمالاً" التي جعلها كيليطو عنواناً لأحد كتبه، والتي يستخدم بمقتضاها نصفي تجربته بُغيةَ تحقيق ما يسميه "تجسير الهوة : مد جسر يجعل من اللغةِ ترجمةً، ومن الهويةِ انتقالاً، بين تراثين وثقافتين، ومن المثقفِ حمالاً، يُوصِل ضفةً بأخرى."
هكذا يُعرِّف أديبنا دورَ المثقف، بكثير من التواضع، حمالاً بين ضفتين، فكيف لنا أن نُعرف عبد الفتاح كيليطو، في مسعاه النقدي المعروف بفرادة أدواته؟
القارئ
بداية، هو قارئ قبل كل شيء، قارئ من نوع استثنائي، هو القارئ الذي كان له حظٌ عظيمٌ من اسمه، إذ يلحظ الناطقون بالفرنسية أن اسم "كيليطو" يشكل بمقاطعه الصوتية الثلاثة عبارةً معناها "الذي يقرأ مبكراً" Qui lit tôt، لكنني أحب أن أحوِّر الطاء في اسمه تاءً ليكون معنى اسمِه "الذي يقرأ كل شيء" (Qui lit tout).
فهو الذي قرأ مبكراً وقرأ كل شيء تصل إليه يدُه الصغيرة، ولاحقاً سيقرأ كل شيء من معانٍ استدقت وراء السطور. ليكون للقراءة الدورُ الأكبرُ في توجيهِ دفتِه في الحياة، وهو القائل : "قد يؤدي الولعُ بالقراءة إلى رسم مصير الطفل وتحديد مستقبله الدراسي والمهني، من هذا المنظور كان من الطبيعي أن أمارس مهنة تدريس الأدب". ومع دراسة الأدب وتدريسه، اكتسبتْ قراءةُ كيليطو وجهَها النقدي التأويلي، لاسيما بعد أن تتلمذ لمدة عام كامل على يد الناقد والأديب الفرنسي رولان بارت في المغرب، ذلك الأديب الماتع الذي يقول عنه جون ستوروك إنه "محفزٌ لا مثيل له للعقل النقدي". سيقرأه كيليطو بتأنٍ، "والقلم في يده". وسيقرأ من تتلمذوا عليه مثل تزفيتان تودوروف وجيرار جينيت، اللذيْن سيدعوانَه لاحقاً ليلقي محاضراته في قراءة التراث العربي والإنساني في كلية فرنسا العريقة (كوليج دو فرانس) بعد أن شق في ميدان النقد طريقَه الخاصَ به دون سواه، ليكون النقد معه نوعاً أدبياً قائماً بذاته.
ولكن، لماذا يُمتِعنا كيليطو ناقداً؟
الناقد
يمتعنا كيليطو لأنه يَعرِضُ بالتفكيك لمسألة النقد ذاتها، فهو ينبذ النزعةَ التقليدية للنقد، حيث على الباحثِ -على حد قوله- أن "يختار مؤلِفاً معيناً، فيبدأ بالكلامِ عن العصر، ثم ينتقل إلى حياة المؤلف، مختتماً بآثاره. لقد طغى هذا النموذج على الدراسات الأدبية إلى حد أنه أصبح كالشيء الطبيعي وليس كظاهرة أدبية وُلدت في القرن الماضي." إن الناقد وفق هذا المنظور البالي واعظٌ أخلاقي، يلعب دور الموجه، وهو على حد تعبير كيليطو قد تحول إلى "صيرفي يميز القطعة الجيدة من المزيفة" و "الأنواع النبيلة عن الأنواع السوقية". وبعبارة عبد السلام بن عبد العالي، "يريد كيليطو أن ينظر إلى العمل الأدبي "فيما وراء الخير والشر (..) وهو يحاول إخراج النقد عن ميدان القيمة والنقود والصيرفة، ليجعل منه عملاً سندبادياً، يتجول في فضاءات مختلفة، فينقلنا من الألفة إلى الغرابة".
إننا نحب قراءة كيليطو لأنه أخرج النقد الأدبي من جموده الأكاديمي، وخلصه من استعلائه وتسلطه التقييمي والتقويمي، واكتشف به أرضاً غريبةً عنه وعنا، هي أرض الأدب العربي القديم. أضحى سبيلُه إلى التجديد هو الاغتراب في أكثر ميدان أدبي يُظَن أنه مألوفٌ لنا، ميدان التراث، وهو القائل: "إذا أراد المرء أن يتجدد فما عليه إلا أن يغترب، أن يبدل مقامه، أن يُغرب كما تفعل الشمس."
لكن كيليطو يأبى أن يستخدم كلمة "تراث"، فالتراث لفظة تحيلُ، على الرغم من هالة التكريم، إلى ركام من المعرفة، اكتظت به الخزائن، وما عاد مستعملاً في الحياة اليومية المتسارعة. فالتراث هو مادة بحثية ينطلق منها كيليطو لا لدراستها في ذاتها وإنما لنفي القطيعة معها ووصلها بمسارات الأدب الحديث. هكذا يستكشف كيليطو الأدبَ القديم، ويحوله إلى سرديات جديدة. معه نفهم الجاحظ كأحد معاصرينا، ونسمع مقامات الحريري كأنها تغريدةُ بجعة تنبئ بما سيكون من ركود في تاريخ أدبنا العربي من بعده. بفضل كيليطو سنكتشفُ المقامة، "تلك الزهرة التي لا يُدرى كيف تفتحت". وسنلتقي بثنائيات لا تجتمع عند سواه، مثل دانتي والمعري، وابنَ رشدٍ وبورخيس، وابنَ حزمٍ وبروست، والجاحظ ومونتني، والشدياق ونابليون الثالث. إن أجمل ما في نقديات كيليطو أنه "يحول عالم الحقيقة إلى حكاية" على حد تعبير نيتشه.
ولكن بأية لغة اختار كيليطو أن يسرِد عالمَه؟
المتكلمُ كل اللغات، ولكن بالعربية
في كتابه "في جو من الندم الفكري" يوصّف كيليطو حالة الانفصال بين اللسانين العربي والفرنسي في مجتمعه قائلاً: "منذ الصغر (..) وجدت نفسي دوماً في خضم جدالٍ بين اللغات، حربٍ شرسة، سجالٍ مع الآخر ومع نفسي طبَّع مختلف كتاباتي."(..) يسترسل شارحاً: "تمت دعوتي وبدون لف أو دوران إلى قطيعة مع الكتابة بالعربية وإلى التوجه لجمهور مغاير. جميل أن تدرس المتون التراثية ولكن افعل ذلك بالفرنسية لأن الخلاص بها. أما العربية، فاكتب عنها، لكن إياك أن تكتبَ بها، وإلا ستظلُ حبيسها ولن يلتفت إليك أحدٌ خارجها."
وفي حرب اللغات الشرسة تلك، اختار كيليطو بعد إنجاز مسودة كتاب الغائب بالفرنسية أن يعيد كتابته بالعربية، وبرر قراره ذلك بقوله : "ربما قمتُ بذلك دفاعاً عن لغة بدت لي مهضومة، ربما بالأحرى تضامناً مع مؤلفين أحببتهم في صغري، من أمثال توفيق الحكيم وطه حسين"(..)
"منذ ذلك الحين وموضوع اللغة يهيمن على تفكيري، لم أنفكُ أطرحه، بل إنه السؤال الأساس في كل ما كتبت. كان يلزم انتزاع حق الكتابة باللغة العربية وفرض نفسي ككاتب عربي يواجه رهاناً صعباً، مجنوناً، ألا يكتب كالأوروبيين، وأن يختلف في الآن عن المؤلفين العرب الذين اطلع على مصنفاتهم."
هكذا يسعى كيليطو أن يكون هو نفسه، باختصار.
لكن اختيار العربيةِ كلغةِ كتابة يترافق عنده مع اختيار الترجمة كجسر بين الثقافات؛ وكاتبنا يعلم ما كان من محنة الترجمة في بلاد العرب في حقبة الانحطاط الممتدة ما بين القرن الثاني عشر والتاسع عشر. إذ يصف الحالَ آنذاك قائلاً:
"لم يكتفِ القدماء بالاستهانة بالترجمة ونبذها من تفكيرهم، بل يخيل إلينا أنهم حرصوا عن غير عمد على جعل مؤلفاتهم غير قابلة للتحويل، فطوروا صياغات وطرقاً في التعبير وأساليب تستعصي على النقل. ولعل أحسن مثال على ذلك مقامات الحريري، فهو كتاب تقول كل عبارة من عباراته : لن يستطيع أحد ترجمتي! (..) فمن يا ترى سيُقدم على ترجمة رسالةٍ تُقرأ طرداً وعكساً دون أن يطرأ عليها تغيير، أو رسالة تقرأ من أولها بوجه ومن آخرها بوجه آخر؟"
الأدب العربي القديم إذن باكتفائه بنفسه وانكفائه على أسباب تفوقه في قديم الزمان وإعلائه لأسوار حِيله اللغوية كان كمثل من يقول للآخر وبوضوح لن أتكلم لغتك ولن تتكلم لغتي ! لن أترجمك ولن تترجمني.
في النهضتين التي شهدهما الأدب العربي في العصر الكلاسيكي وفي العصر الحديث، كانت قاطرة التجديد ومحرك الانفتاح هي الترجمة، تواكبها نظرةٌ نقدية تلقى على التراث، وعلى الذات.
فما الحل؟
"أتكلم جميع اللغات ولكن بالعربية"، بمعنى أقرأ كل اللغات ولكن بالعربية عبر الترجمة، ذلك هو الحل الذي يطرحه كيليطو. متمثلاً رد الفيلسوف الإيطالي أمبرتو إكو على سؤالعن اللغة التي تجمع الأوروبيين، حين أجاب إنها الترجمة. ويضيف كيليطو أن الترجمة هي التي تجمع قراء العالم بأسره. "فأن تترجَم هو أن يعترف بك الجميع. (..) كان إرنست رينان يقول :"العمل الذي لم يُترجَم لم يُنشر إلا نصف نشر"."
ومن الترجمةِ إلى الرواية، فلكاتبنا عالمُه الروائي.
الروائي
يبدأ كيليطو الكتابةَ انطلاقاً من صورة أو عبارة. لزمن طويل، علقت في ذاكرته قصة من كتاب ألف ليلة وليلة، جنيةٌ على السطح تستعد للتخلي عن عالم الأرض لتذهب إلى عالم الماء، فتنتظر استيقاظ زوجها لكي تودعه. ها هو كيليطو يجعل من صعوبة تذكر الصورة انطلاقة لروايته "والله إن هذه الحكاية لحكايتي". في هذه الرواية، يشتبك أديبنا مع نظرية نقدية أساسية لدى رولان بارت ألا وهي نظرية "موت المؤلف"، التي يعد النص بحسبها فضاءً متعدد الأبعاد، تمتزج فيه مجموعة متنوعة من الكتابات، لا يتمتع أي منها بالأصالة، لذا فالأحرى بالناقد أن يدرس النص وليس المؤلف. في رواية "والله إن هذه الحكاية حكايتي"، يُظهر لنا كيليطو هذه الفكرة باستعارة حكايات معروفة ليصنع منها نصه، فيستعير من ألف ليلة وليلة، ومن قصة ذو اللحية الزرقاء، بل ومن حكاية آدم والشجرة المحرمة، ليظهر لنا منذ البداية بصورة لا لبس فيها أن كل نص، مهما أقسم مؤلفه أنه صاحبه ما هو إلا استعادة واستعارة لنصوص سابقة. "فالقسم كما يكتب كيليطو اعتراف بالكذب. (..) حتى أنا نفسي، عندما أُضبَط على خطأ ، كنتُ أشهد الله على براءتي". فالكذب هو منطلق التخييل، واستعارة حكايات الآخر هو مبتدأ كل حكاية. هكذا ينطلق كيليطو من فكرة نقدية لإقامة بنيانه التخييلي، بمثل ما ينطلق في أعماله النقدية من نصوص تخييلية. وفي الحالتين هو أديب يحوّل النقد إلى نسق حكائي ممتع. في المحصلة، كما يقول كيليطو مستحضراً طيف رولان بارت: "كل مؤلف هو جامعٌ وظيفته جمع وثائق متناثرة."
لكن كيف يصنع المؤلف من وثائقه المتناثرة سبيكة متآلفة، تلك هي صنعة الأديب.
الأديب
أول ما يلفتنا في كتابة كيليطو هو براعته في رسم المشهد. المشهدية حاضرة بقوة في كتابته النقدية. حتى وهو ينبري لطرح قضايا لغوية، لا نراه يسلك مسلك علماء اللسانيات في عرضهم الأفكار على نحو مجرد. بل نراه يقدم سردية إبداعية يحضر فيها التصوير المشهدي بصورة تهز القارئ حتى الأعماق.
ها هو يبتغي طرح قضية اللغةِ الأولى، والقصيدة الأولى، فيقدم لنا في المبتدأ لوحة الحَيّة وخروج آدم وحواء من الجنة، ثم لوحةَ جريمة القتل الأولى، وحمل قابيل جثة أخيه هابيل طيلة عام كامل فوق ظهره، سحابةُ الغبار تغطي العالم، والأرض ترجف سبعة أيام بعدما شربت الدم، لتأتي قصيدة آدم في رثاء ابنه متممةً للوحة. تتوالى اللوحات في كتابات كيليطو، لا تكتمل فكرة بلبلة الألسنة وتفرق الشعوب إلا بلوحة برج بابل، وفزع الناس من عقاب الرب وحديثهم بثلاثٍ وسبعين لساناً وفق ما جاء به الثعلبي في قصص الأنبياء.
ثم ها هي لوحةُ ترحيل جثمان ابن رشد،من مراكش إلى قرطبة، في تابوت جُعل على أحد جانبي الدابة، وعلى الجانب الآخر، جُعلت مؤلفاتُ الفيلسوفِ ومخطوطاتُه التي نجت من الإتلاف، فوزنَته وعدلته على ظهر الدابة. أما الشاهد على الترحيل، فليس سوى ابنُ عربي الذي أبّد المشهدَ في الفتوحات المكية. يُظهره كيليطو مع صاحبين له وكأن ثلاثتهم يشكلون جَوقةَ تأبين في مأساة إغريقية، يعلقون على هذا الترحيلِ المرير لجثمانِ قاضي قرطبة وشارح أرسطو، ومعه ترحيلُ انتاجه العلمي، إلى أهل الشمال، فيما العربُ قد لفظوه ميتاً بعدما اضطهدوه حياً. وفي داخل اللوحةِ لوحات : لوحة النفيِ بعد العزة، لوحةُ حرقِ كتبِ الفلسفة، ولوحةُ العامة وهم يطردون ابنَ رشدٍ بوحشيةٍ من جامع قرطبة.
مشهدية تعلن نهاية حقبة بالنسبة للعرب، أو نهايةَ تاريخ، فيما تُبتدأ بفضل الرشدية، في الشمال، في أوروبا، نهضةٌ كبرى.
وبمثل ما يبرع كيليطو في رسم المشهد، يُبدع في رسم الملامح النفسية لأبطال سردياته النقدية، فنراه يصور حال ابن بطوطة في رحلته الطويلة خارجاً من طنجة معتمداً حج بيت الله الحرام،فيصف لنا أحواله النفسية في كل محطة من رحلته المحفوزةِ بلقاءِ أهل العلم والأولياء والزهاد، فإذا بها تتحول إلى رحلة في خدمة أصحاب السلطان. "لكن الرحلة كانت نزوعه الحقيقي" كما يقول لنا أديبنا سابراً أغوار نفس الرحالة. "كان ابن بطوطة منذوراً للسفر".
أيكون كيليطو صنوَ ابن بطوطة في ابتغائه سفراً مطولاً في آداب العالم شرقاً وغرباً مثلما سافر الرحالةُ المغربي بين مشارق الأرض ومغاربها؟ مع كيليطو، ثمة رحلة تسردها السطور: الرغبة في السفر لا تنفصل عن الرغبة في الكتابة، والحياة برمتها لا تكتسب معناها إلا إذا اعتُقل هذا المعنى بالكتابة، الكتابة تصنع المعنى لرحلة ابن بطوطة في مشارق الأرض ومغاربها، بمثل ما تصنع لبطولات دون كيخوتي وفروسيته معنى في نظره. لا قيمة لما لم يتحول إلى سرد يقرأه البشر. يقولها كيليطو بوضوح :"لا تكتسب الحياةُ معنى وقيمة، إلا باللحظات الفذة التي يمكن أن تكون موضوعاً للسرد. لا شيء يجدر بأن يعاش إلا ما هو جدير بأن يُسرد."
وفي رحلة السرد المحفوفة بالمثابرة على القراءة، يتعلم كيليطو ويعلمنا فلسفة التعامل مع الخطأ البشري. ولهذا نحتاج قفزة أخرى لإضاءة أخرى.
بين ابن رشد وبورخيس
يصدِّر كيليطو فصله عن شرح ابن رشد لكتاب أرسطو، "فن الشعر"، بعبارة لإرنست رينان الكاره للعرب، وهي عبارةٌ تحمل إدانةً دامغة يقول فيها الفيلسوف الفرنسي: "إن تاريخ الرشدية ليس سوى تاريخَ خطأ كبير." هكذا وبجرة قلم متعسفة يُلغَى تاريخُ ابن رشد العقلي وفضلُه على الفلسفة الغربية. وفي مطلعِ الفصلِ يذكرُ كيليطو واحداً آخر من كارهي العرب، الشاعر الإيطالي فرانشسكو بترارك، الذي كان يرفض العلاج بدواءٍ يحمل اسماً عربياً ويكتب بلا مواربة عن العرب:"إنني أكن الكراهية لهذه السلالة بكاملها.". ثم يرصد كيليطو أبعاد الخطأ الذي وقع فيه ابن رشد وهو يشرح كتاب أرسطو "فن الشعر"، ويحلل الأسباب الثقافية واللغوية التي أدت بابن رشد إلى هذا الإخفاق، بل ويرصد التناقض فيما ينقله عنه من عبارات ملتبسة متعارضة، ويظهر ما في عباراته من حيرةٍ وغموض. لقد أخفق ابن رشد في فهم كلمتي "تراجيديا وكوميديا" اللتين يدور حولهما كتاب أرسطو، وأخفق في تقديم شرح وافٍ له، لأن العرب لم يكونوا على دراية بأدب اليونان، ولأن الفكرة السائدة عند العرب آنذاك كانت تقول باستحالة ترجمة الشعر، ولأن كتاب "فن الشعر" لأرسطو قد وصل إليهم ناقصاً، ولأن فنَ المسرح الذي يدور حوله الكتابُ أساساً كان غائباً تماماً عن أفقهم. يحلل كيليطو منشأ الخطأ بصورة موضوعية. لكنه يختم تحليلَه بفقرة تنبئنا بمدى تواضعه وبمدى تفهمه لطبيعة الخطأ البشرية إذ يقول:
"وأنا أكتب هذه السطور أشعر بشيءٍ من الخجل، ذلك أنني، وبالرغم مني، أتحدثُ عن ابن رشد بنوع من الترفع. أشعر بالخجل لأنني أعرف ما كان يجهله! ثم من الذي يكون في مأمن من الخطأ عندما يُطنبُ في الحديث عن أخطاء من سبقوه؟ لهذا أجدني أرتاب من نفسي وأتساءل : تُرى ما هو الخطأ الشنيع الذي ارتكبتُه، بدون شعور مني، في الوقت الذي تحدثتُ فيه عن خطأ ابن رشد ؟ "
لعله الارتياب نفسه الذي راود بورخيس في نهاية قصته المشهورة "بحث ابن رشد" التي يصور فيها فيلسوف قرطبة وقاضي قضاتها، وهو حائر في البحث عن معنى كلمتي "تراجيديا" و"كوميديا" لشرح ماهية مسرح أرسطو الذي يجهل كل شيء عنه، فيما أطفال يتلهون تحت نافذته بتمثيل مشهد مؤذن ومصلين. إنه الارتياب الذي يجعله يستشعر الخجل لكونه يريد الحكم على خطأ ابن رشد دون أن تكون لديه مادةٌ عنه عدا ذلك النذر اليسير الموجود لدى المستشرقين من عينة إرنست رينان، وإدوارد لين وآسين بلاثيوس، وهم من لم يكونوا يوماً من المنصفين في حق العرب.
هكذا يبدو كيليطو، كصاحبه بورخيس، عقلاً موضوعياً يعتنق الشك الديكارتي، وضميراً أخلاقياً يرفض صولجان الناقد التقليدي الذي يؤسس مجده على محاكمة سابقيه، ونظرةً إنسانية تعي مقدارَ الخطأ وهامشَه المتسع في متن الاجتهاد البشري.
ليس ذلك فحسب، إذ أن كيليطو يوجه حاسته النقدية في اتجاه آخر وهو يتأمل حيرة ابن رشد عبر المنظار البورخيسي، ففي مواجهة بحث ابن رشد المستميت عن المعنى الضائع وبينما أخذ الأطفال يمثلون مشهد الصلاة في جواره، ينهي بورخيس قصته بابن رشد وقد تبادرت إلى ذهنه فكرةُ عابرة : "قال لنفسه إن ما نبحثُ عنه يكون غالباً في متناولنا". (2) الأطفال في الجوار يقدمون بمسرحيتهم الصغيرة إجابة على سؤال ابن رشد. إن ما نبحثُ عنه يكون غالباً في متناولنا"..
وهنا ينبري كيليطو لكشف تناص أدبي في تلك العبارة، فهو يرى طيف فرانتس كافكا وقد مر في المشهد خلسة المختلس عبر تلك العبارة، وكافكا هو من كتب في يومياته :"في معظم الأوقات، من نبحثُ عنه بعيداً، يقطن قربنا".
وبالقرب من كيليطو، كان دائماً الجاحظ.
مع الجاحظ
باقترابه النقدي من النص الجاحظي، يلقي كيليطو بحجر في بركة القراءات التقليدية لصاحب "البخلاء"، و"كتاب الحيوان"، و"البيان والتبيين"، ليظهر لنا تلاعب الجاحظ بفنون الخطاب. فقبل قرون من عرض رومان جاكوبسون لشروط التواصل الخطابي، كان الجاحظ يتلاعب بتلك الشروط كي يوقظ في قارئه ملكات العقل النقدي. نكتشف مع كيليطو أن ما يعرضه الجاحظ في كتاب الحيوان من آراء بشأن استحالة ترجمة الشعر ليست في واقع الأمر آراءَه. فهو لا يتكلم باسمه، وإنما ينسب الكلام إلى الغير، وهي طريقة عزيزة عليه، وكثيراً ما يلجأ إليها، في كل كتبه. فهو يورد بعض الآراء الصادمة على لسان أشخاص آخرين، كي يتيح مناقشتَها في كتبه مع قرائه، إذ يبدو أنه قد عرف مبكراً أن القارئ يكمل نصف المعنى وأن الكتابة الذكية تقتضي الابتعاد عن مباشرة اليقينيات ورسوخها.
يعيد كيليطو اكتشاف الجاحظ فيُظهر أن الحواراتَ والمناظرات في كتبه إنما هي في حقيقة الأمر للفصل بين منظومتين: منظومة الشعر أو الشفوي المروي غير القابل للترجمة ومنظومة الفلسفة أو المكتوب المدون القابل للترجمة.
"الكتابة عند الجاحظ هي حمل سلسلة من الأقنعة." ينتحل دقة المتكلمين ولغة علم الكلام ومناهجه الاستدلالية، لمناقشة توافه الأمور بصورة تهز يقينيات المجتمع. فالجاحظ يفضي بتناقضاته إلى عدم اليقين ونسبية القيم. فتقديم الرأي ونقيضه هو أوثق وسيلة لإخفاء الموقف الشخصي وأهمُ من ذلك، للتشكيك في شرعية المواقف المطلقة. كتاباته إذن هي محاكاةٌ ساخرة لعلماء الكلام وسبل تفكيرهم. انتقد ابن قتيبة الجاحظ لأنه يفعل الشيء وضده. لكن كيليطو يشرح لنا كيف أن الجاحظ قد جعل من التناقض فناً كتابياً فريداً. وهو هنا يتقارب مع بورخيس القائل بأن "الكتاب الذي لا يتضمن نقيضَه كتابٌ ناقص"!
وأخيراً: الكاتب بالقفز والوثب
لعلي لم أحملكم مشقةَ القفز والوثب بين شتى وجوه أديبنا. لكن الكتابة بالقفز والوثب تحديداً هي أقرب الطرق لوصف كتابة عبد الفتاح كيليطو، وهي طريقةٌ اتسمت بها كتابات الجاحظ، الذي ابتدع شعرية الاستطراد، خشية أن يمل القارئ، والقارئ كائنٌ ملولٌ بطبعه. هي الطريقة التي استلهمها أصحابُ المقامات، الهمذاني والحريري، وبها كُتبت حكايات ألف ليلة وليلة، وفي الغرب، اعتمدها مونتني صاحب المقالات في القرن السادس عشر، وبورخيس، من وُهب المكتبةَ والليل، باختصار أهم خلصاء كيليطو من الكتاب الذين قرأهم وتشبع بكتابتهم. فخصوصية الكتابة منوطةٌ بنوعية القراءة.وها أنا ذي أقلدهم في حديثي هذا، بالقفز والوثب بين دوائر كيليطو الأدبية !
يكتب عبد الفتاح كيليطو معتمداً أسلوب الاستطراد، فيلتقي كل من يريدُ من الأدباء والشعراء على صفحاته، وكأنه تجسيدٌ حي لشخصية ابن القارح في فردوسه في رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، الذي دعا الله أن يحفظ له في الآخرة كل المعارف الأدبية والشعرية التي حصّلها في حياته، فلا ينساها، وبالفعل نطالعه في الجنة يحاول أن يجد حلاً للمسائل اللغوية والأدبية التي كانت تشغله في حياته الأرضية. لا ينسى ابنُ القارحِ ما قرأ من أدب، وكذا كيليطو يقاوم النسيانَ بالأدب، حتى بات أديب النقاد، وناقد المتكلمين.