[أدناه، نص المحاضرة التي ألقاها الكاتب والصحافي الأمريكي كريس هيدجيز في نادي كايروس بلندن، في الحادي عشر من سبتمبر 2024. عمل هيدجيز مراسلًا لجريدة النيويورك تايمز في فلسطين المحتلة ومديرًا لمكتب الشرق الأوسط التابع للصحيفة ذاتها، وحاز على جائزة البوليتزر عام 2002. وعبّر في أكثر من مناسبة عن دعمه لحق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير].
يقول فريدريك نيتشه في كتابه "ما وراء الخير والشر" إن قلة قليلة من الناس لديها الجرأة الكافية للنظر في أوقات الشدة داخل ما يسمّيه "الفوهة المشتعلة" للواقع الإنساني، التي يتعمّد معظم البشر تجاهلها. ويرى نيتشه أن الفنانين والفلاسفة، الذين يتمتّعون بفضولٍ لا ينضب، يسعون جاهدين للبحث عن الحقيقة، وتدفعهم رغبة عميقة لاكتشاف المعنى. فهم يغامرون بالنزول داخل الفوهة المشتعلة ويقتربون قدر استطاعتهم، قبل أن تجبرهم الحرارة وألسنة اللهب على التراجع. إن هذا الصدق الفكري والأخلاقي، كما يؤكد نيتشه، لا يأتي دون ثمن، فالأشخاص الذين تحرقهم نار الواقع يصبحون "الأطفال المحترقين"، ويتامى أبديين في إمبراطوريات الوهم. لهذا السبب، تشنّ الحضارات المحتضرة حرباً على البحث الفكري المستقل، وعلى الفن والثقافة. فهي تريد أن تمنع الجماهير من النظر إلى الفوهة المشتعلة، وتحقّر "الأشخاص المحترقين"، وتذمّهم كما فعلت مع صديقي روجر هالام[١]، وتغذي إدمان البشر للوهم والسعادة والهوس بالأمل، وتروّج لوهم التقدم المادي الأبدي وعبادة الذات، وتصرّ، (وهذه حجة النيوليبرالية)، على أن القانون الطبيعي يقرّ الأيديولوجيا الحاكمة، التي تتسبب في الاستغلال المتواصل والتراكم المتزايد للثروة الذي يضخّ الأموال إلى أعلى، إلى أيدي طبقة أصحاب البلايين في العالم.
لم نستخدم كلمتي "متفائل" و"متشائم" أثناء الحرب. أولئك الذين شاركوا في الحرب ولم يتمكّنوا من تقييم العالم من حولهم بموضوعية، وعجزوا عن استيعاب الكآبة والخطر القاتل الذي واجهوه، وكان لديهم إيمان طفولي بخلودهم أو هوس بالأمل، لم يعيشوا طويلاً. وكما يقول كليف هاملتون[٢] في كتابه "قدّاس للأنواع: لماذا نقاوم الحقيقة حول التغير المناخي": "ثمة ارتياح غامض يأتي من قبول أن التغير المناخي الكارثي أمرٌ مؤكد تقريباً". ويضيف: "يتطلب التخلّص من الآمال الكاذبة معرفة فكرية ومعرفة عاطفية. إن المعرفة الفكريةيمكن التوصّل إليها، أما تحقيق المعرفة العاطفية فأشدّ صعوبةً لأنها تعني أن الذين نحبهم، بمن فيهم الأطفال، سيُحكم عليهم بانعدام الأمان والبؤس والمعاناة بعد بضعة عقود، إن لم يكن سنوات. يصعب علينا عاطفياً أن نستوعب كارثة وشيكة وأن نفهم سبب عدم تصرف النخبة العالمية القوية بعقلانية تجاه تدمير النظام البيئي، تماماً كما نجد صعوبة في تقبل فكرة موتنا. إن التحدي الوجودي الأكبر في زمننا هو إدراك هذه الحقيقة المؤلمة فكرياً وعاطفياً، وأن ننهض لمقاومة القوى التي تهدد وجودنا. لقد غطّيتُ الانتفاضات والثورات في أنحاء العالم لمدة عقدين، غطيتُ التمردات في أمريكا الوسطى والجزائر واليمن والسودان والبنجاب، والانتفاضتين الفلسطينيتين، والثورات التي نشبت في ١٩٨٩ في ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا، والمظاهرات التي أدت إلى سقوط سلوبودان ميلوسوفيتش في صربيا، واكتشفتُ أن الثورات والانتفاضات انفجارات عفوية، وأنه لا أحد، حتى الثوريون، الأطفال المحترقون، قادر على التنبؤ بها. كانت ثورة شباط\فبراير ١٩١٧ ثوراناًَ شعبياً غير متوقع، وغير مخطط له، على غرار اقتحام سجن الباستيل في فرنسا. وهذا ما قاله أليكسندر كيرينسكي[٣] عن الثورة الروسية: "حدثت من تلقاء ذاتها، لم يقم أحد بهندستها، وولدت في فوضى انهيار الحكم القيصري". كان فتيل الاشتعال واضحاً إلا أن ما أشعله بقي لغزاً. ذلك أن السكان يثورون ضد نظام مهترئ ليس بسبب وعيهم الثوري، بل لأنه لم يعد أمامهم خيار آخر كما تؤكد روزا لكسمبورغ. فما يؤدي إلى التمرد هو انسداد أفق النظام القديم، وليس عمل الثوريين. وكما قالت: "إن جميع الثورات إخفاقاتٌ بمعنى ما، إنها أحداث تُطلق عملية تحول اجتماعي، لكنها لا تصل إلى ذروتها". وعلّقت روزا لكسمبورغ على انتفاضة ١٩٠٥ في روسيا قائلة: "لم تكن هناك خطة محددة مسبقاً، أو عمل منظم، ولم تكن الأحزاب قادرة على مواكبة الانتفاضة العفوية للجماهير. ولم يكن لدى القادة الوقت الكافي لصياغة شعارات للجماهير المندفعة". وأضافت: "إن الثورات لا يمكن أن تحدث بأوامر، وهذه ليست مهمة الحزب على الإطلاق. إن واجبنا في جميع الأوقات هو أن نتحدث بوضوح، من دون خوف أو تردد، وأن نشرح للجماهير مهماتها بدقة في اللحظة التاريخية المحددة، وأن نعلن البرنامج السياسي للفعل، والشعارات التي تتولّد عن الموقف. يجب أن يُترك تحديد ما إذا كانت الحركة الجماهيرية الثورية ستتبنى هذه المبادئ ومتى ستتبناها لتقدير التاريخ. وعلى الرغم من أن الاشتراكية قد تبدو في البداية كصوتٍ صارخٍ في البرية، إلا أنها تؤسّس لنفسها موقفاً أخلاقياً وسياسياً سيثمر في المستقبل، عندما يحين وقت الإنجاز التاريخي، الأمر الذي سيؤدي إلى فوائد مضاعفة. لم يكن بإمكان أحد أن يتنبأ بأن الانتفاضة الأولى ستندلع في مخيم جباليا للاجئين في عام ١٩٨٧ بعد أن صدم سائقُ شاحنةٍ إسرائيلي سيارةً وقتل أربعة عمّال فلسطينيين. كما لم يكن أحد يتوقع أن قرار بائع الفاكهة التونسي المتجول، الذي صادر رجال الشرطة ميزانه بسبب عدم حصوله على ترخيص، وحرق نفسه احتجاجاً في ديسمبر ٢٠١٠، سيُشْعل شرارة الربيع العربي. تظلّ لحظة الثوران غامضة، لكن أصحاب الرؤى والمصلحين الطوباويين، كمثل دعاة إلغاء العبودية، هم الذين يُحْدثون التغيير الاجتماعي الحقيقي، لا السياسيون "العمليون". لقد أحبط دعاة إلغاء العبودية ما أطلق عليه المؤرخ إيريك فونر[٤] "مؤامرة الصمت"، التي سعت عن طريقها أحزاب سياسية وكنائس ومؤسسات أخرى إلى استبعاد موضوع العبودية من النقاش. كتب فونر: "في معظم خمسينيات القرن التاسع عشر والعامين الأولين من الحرب الأهلية دعم لينكولن، الذي عُدّ نموذجاً للسياسي البراغماتي، خطة لإنهاء العبودية تتضمن تحريراً للعبيد على مراحل، وتعويض مالكيهم، علاوة على إنشاء مستعمرات للسود المعتوقين خارج الولايات المتحدة. لم تكن هناك أي إمكانية لتنفيذ تلك الخطة غير المدروسة. وكان دعاة إلغاء العبودية، الذين ما يزال بعض المؤرخين يرونهم متعصبين غير مسؤولين، هم من قدّموا برنامجاً طالب بالإنهاء الفوري للعبودية دون تعويض، ومنح السود حقوق المواطنة الأمريكية، وهو ما تحقّق بالفعل (بدعم من لينكولن في نهاية المطاف، بالطبع).
اعتقد فونر أن "المتعصبين" هم الذين يصنعون التاريخ. وأكد فلاديمير لينين أن أشد الطرق فعالية لإضعاف عزم النخبة الحاكمة هي أن نقول لها تماماً ما تتوقعه. تثير هذه الجرأة انتباه أجهزة الأمن، لكنها تمنح الحركة مصداقية وتفرداً. وكتب لينين: "يجب على الثوري أن يطرح مطالب واضحة، فإذا تمت تلبيتها، ستؤدي إلى زوال البنية الحالية للسلطة".
قادت ثورات أوروبا الشرقية مجموعةٌ من المنشقين الذين ظلوا مهمشين حتى خريف عام ١٩٨٩، وكانت الدولة تعدّهم غير مؤثرين إلى أن فات الأوان. كانت السلطات ترسل دوريات أمنية لمضايقتهم وغالباً ما تتجاهلهم. ولا أظن أنه يمكن وصف هؤلاء المنشقين حتى بأنهم معارضة. كانوا يعيشون عزلة شديدة داخل مجتمعاتهم الخاصة، وحرمهم إعلام الدولة من التعبير عن صوتهم. ولم يكن لهم وضع قانوني، وأُبعدوا عن النظام السياسي، ووُضعوا على القائمة السوداء، وواجهوا صعوبات في تأمين قوت يومهم، ولكن عندما حانت لحظة الانهيار في أوروبا الشرقية، وفقدت الأيديولوجيا الشيوعية الحاكمة مصداقيتها، لم يعد لدى الجماهير أي شكوك بشأن من يمكنها الوثوق به. وكان المتظاهرون، الذين تدفقوا إلى الشوارع في برلين الشرقية وبراغ، يعرفون من سيبيعهم ومن لن يفعل ذلك. وثقوا بأشخاص مثل فاكلاف هافل، الذي كنت ألتقي به مع بعض الصحافيين كل ليلة في مسرح القنديل السحري في براغ أثناء الثورة. كان هافل واحداً من الذين كرسوا حياتهم للنضال من أجل مجتمع منفتح، وواجهوا التنديد والاتهامات والتشويه، وتعرضوا للسجن بسبب تحديهم للسلطة.
إن فرصتنا الوحيدة للإطاحة بسلطة الشركات، وإيقاف الإبادة البيئية الوشيكة، تأتي من أولئك الذين لن يستسلموا لهذه السلطة، والذين سيواصلون تبني موقف ثابت مهما كان الثمن، والذين يتحدون ليبرالية مفلسة ترفضهم وتهينهم. إنهم يكشفون إفلاس الطبقة الحاكمة ويجبرون الدولة على أن تستجيب كما تجلّى ذلك حين أعلن البرلمان حالة الطوارئ المناخية في أعقاب الاحتجاجات الجماهيرية التي نظّمتها حركة "تمرد ضد الانقراض"، وقرار المشرّعين الهولنديين بخفض دعم الوقود بعد إغلاق الطرق.
إن من يواجهون الأخطار، وأحكام السجن الطويلة، يخترقون وعي المجتمع الأوسع، وأجهزة الأمن التي تحميه. هذا الاختراق من الخارج، من المستحيل قياسه. لكنه يعرّي بثبات أسس القوة حتى أن ما يبدو صرحاً متيناً، كما رأيت في دولة شتازي في ألمانيا الشرقية، ودولة تشاوشيسكو في رومانيا، ينهار بين عشية وضحاها.
إن أنظمة الحوكمة المتحجرة التي تتجلى في الولايات المتحدة الأمريكية في انتخاباتنا التي تديرها الشركات، ونظامنا القائم على الرشوة القانونية، وصحافتنا التجارية، وقضائنا الأسير، الذي شرّع تقسيم الدوائر الانتخابية، وهي نسخة محدثة عن نظام "البلدة الفاسدة"[٥] في بريطانيا في القرن التاسع عشر، تبيّن أن الطبقة السياسية مجرد دمى في يد عصابة الشركات الحاكمة. إن الإصلاح مستحيل عن طريق هذه البنى. ومع ازدياد تحجّر النظام فإنه يمارس المزيد من القمع الوحشي القاسي.
إن إساءة استخدام السلطة، والسياسات الحكومية المخالفة للقانون، سواء أكانت جرائم الحرب في العراق وأفغانستان التي فضحها موقع ويكيليكس، أم حريق جرينفيل[٦]، أم رفض معالجة أزمة المناخ التي ستقود إلى موت جماعي وانهيار اجتماعي، كلها أمور يتم تجاهلها ومن ينتقدها يتعرض للاضطهاد. وبَرّرت عقوبةَ السجن لخمس سنوات التي صدرت ضد الناشط روجر هالام، ولأربع سنوات ضد ناشطين آخرين في منظمة "فقط أوقفوا النفط "، قوانين سنّتها صناعة الوقود الأحفوري مثل قانون "التآمر لانتهاك اللحمة الوطنية"، أو قانون "الإغلاق" الجديد الذي يمكن أن يحكم بموجبه على متظاهر يقيّد نفسه بجسم أو أرض أو شخص آخر بمادة لاصقة أو أصفاد بالسجن لمدة أربع سنوات ونصف. لقد حرمت جلسات استماع ومحاكمات ناشطي منظمة "فقط أوقفوا النفط " المتهمين من حق تقديم دليل موضوعي كما حدث مع جوليان أسانج. إن هذه المحاكمات الصورية هي مجرد مهزلة ديكنزية تسخر من مُثل الأحكام الشرعية البريطانية وتذكّرنا بالأيام الأسوأ للقمع في مبنى الكي جي بي لوبيانكا.
لم تتم إدانة الناشطين لمشاركتهم في الاحتجاجات، بل بتهمة التخطيط لها. وجاء الدليل الذي استُخدم في المحكمة لإدانتهم من اجتماعٍ على الإنترنت عن طريق تطبيق زووم، صوّرتْه سكارليت هاوز، وهي مراسلة تنكّرت في هيئة مؤيدة من صحيفة "ذا صن". لا شك أن بعض مؤسسات الأبحاث في مجال الوقود الأحفوري تتمنى منحها جائزة في الصحافة الآن. وكما تشير ليندا لابديت، المديرة القانونية لمنظمة حقوق المناخ الدولية، إن الأحكام على المشاركين في احتجاجات المناخ صارت أشد قسوة، وأطول من كثير من الأحكام التي صدرت بحق من انخرطوا في أفعال عنف أثناء أعمال الشغب العنصرية في ساوثبورت. ولم تكن مصادفة أن يتزامن زجّ ناشطي المناخ في السجن مع اعتقال صحافيين وناشطين حاولوا إيقاف المجزرة في غزة، بينهم سارة ويلكنسون وريتشارد بارنارد، المؤسسين لمنظمة "فلسطين أكشن"، اللذين عطّلا عمل مصانع الأسلحة المرتبطة بالإبادة التي تقوم بها إسرائيل، وشركة "أنظمة إلبيت للإلكترونيات". وتزامن زجّ الناشطين في السجن أيضاً مع اعتقال الصحافي البريطاني من أصل سوري ريتشارد ميدهرست، الذي اعترضتْ سيارات الشرطة طائرته على المدرج، واعتُقل قبل أن يصل إلى البوابة، ومع اعتقال سفير بريطاني سابق والصحافي كريج موري، الذي احتُجز بموجب أحكام "الجدول ٧"[٧] من قانون الإرهاب في المملكة المتحدة. و"الجدول ٧" هو من الأدوات الأورويلية الرئيسة التي تعرّف دولة الشركات، إذ تسمح أحكام هذا الجدول لرجال الشرطة ولموظفي الجمارك أن يوقفوا أي شخص في أي منفذ بحري أو بري أو مطار، والتحقيق معه لمدة ست ساعات دون أن يكون له الحق في رفض الإجابة على الأسئلة، أو بتوكيل محام. ويجب تقديم أي مستندات، أو أرقام تعريف شخصية، أو كلمات مرور عند الطلب. ويمكن أن تؤخذ بصمات الأصابع، وعيّنات الحمض النووي. إن أي شخص يُدان برفض ما تطلبه مادة "الجدول ٧" يمكن أن تُفْرض عليه غرامة قدرها ٢٥٠٠ جنيه، وحكم بالسجن يصل إلى ثلاثة أشهر. لقد استخدمت الحكومة البريطانية أحكام "الجدول ٧" للاستجواب وانتزاع المعلومات من مئات آلاف الأشخاص، وربما أكثر منذ ٢٠٠١. وتم توقيف ٤١٩٠٠٠ شخص بموجبه بين ٢٠٠٩ و٢٠١٩. ونشرت جامعة كامبردج تحليلاً في ٢٠١٤ توصّل إلى أن ٨٨٪ من الذين تم توقيفهم واستجوابهم (دون أي اشتباه بالجريمة) هم مسلمون. ورفضت الحكومة الإفراج عن معلومات حول عدد الذين تم توقيفهم بين ٢٠٠١ و٢٠٠٩. وتم اقتحام مراكز الجماعة واعتقال المتظاهرين واضطهادهم، وصودرت الأموال وتم ترهيب العائلات وتخويفها وتفكيكها. هذا هو التدخل الحكومي القاسي الذي يُمارس الآن على بقيتنا، وخاصة على نشطاء المناخ، ومن يدعمون المقاومة الفلسطينية، ويشجبون الفصل العنصري، والإبادة الجماعية للدولة الإسرائيلية، أو الذين يعارضون الناتو على مواقع الإعلام الاجتماعي. ويقوم تحالف أجهزة الاستخبارات "الأعين الخمس" (الذي يضم أجهزة الاستخبارات في أستراليا وكندا ونيوزلندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) بتصميم مخططات فين[٨] التي تهدف إلى الربط بين من يعارضون الصهيونية والنيوليبرالية والعسكرة والرقابة على الصحافة وحكم الشركات وصناعة الوقود الأحفوري.
ستسوء الأمور فحسب. فقد أمضت إدارات الجامعات في الولايات المتحدة الصيف وهي تعمل جنباً إلى جنب مع مستشارين أمنيين كثيرين منهم من تجمعه صلات بإسرائيل لتحديد أفضل الطرق لقمع الاحتجاجات هذا الخريف. وفرضت الإدارات حظراً شبه شامل على المخيمات والبنى المؤقتة ومكبرات الصوت والكتابة بالطباشير واللافتات المستقلة والمنشورات والعروض الخارجية وحتى الطاولات الخاصة بالمناسبات. ستؤدي أية همسة معارضة داخل أو خارج الفصول الدراسية إلى طرد أو اعتقال الطلاب وأعضاء هيئة التدريس المحتجين.
مرّ عقدٌ من الانتفاضات الشعبية من ٢٠١٠ إلى ٢٠٢٠، العام الذي حصلت فيه جائحة فيروس كورونا العالمية. هزت تلك الانتفاضات أسس النظام العالمي، وشجبت هيمنة الشركات، والتخفيضات التقشفية في إنفاق الحكومة، والفشل في معالجة أزمة المناخ، وطالبت بالعدالة الاقتصادية والحقوق المدنية. واندلعت احتجاجات شملت جميع المناطق في الولايات المتحدة الأمريكية تركزت حول مخيمات حركة "احتلوا وول ستريت"، التي استمرت ٥٩ يوماً. وحصلت انتفاضات شعبية في اليونان وإسبانيا وتونس ومصر والبحرين واليمن وسوريا وليبيا وتركيا والبرازيل وأوكرانيا وهونغ كونغ وتشيلي، واحتجاجات على ضوء الشموع في كوريا الجنوبية. وطُرد سياسيون فقدوا مصداقيتهم من مكاتبهم في اليونان وإسبانيا وأوكرانيا وكوريا الجنوبية ومصر وتشيلي وتونس. وهيمن الإصلاح، أو على الأقل الوعد به، على الخطاب العام. وبدا كأنه يبشّر بحقبة جديدة.ثم حصل رد الفعل العنيف. سُحقت تطلعات الحركات الشعبية. وبدلاً من أن تُحدّ سيطرة الدولة واللامساواة الاجتماعية، توسّعتا. لم يحدث تغيّر مهم. وفي معظم الحالات صارت الأمور أشد سوءاً وخرج اليمين المتطرف منتصراً.
ماذا جرى؟ كيف انتهى إلى فشل مهين عقدٌ من الاحتجاجات الجماهيرية التي بدت كأنها تمهد لانفتاح ديمقراطي وإنهاء القمع الحكومي وتراجع هيمنة الشركات العالمية والمؤسسات المالية؟ ما الخطأ الذي حصل؟ كيف تمكن المصرفيون والسياسيون المكروهون من استعادة زمام الأمور؟
قال فنسنت بيفنز[٩] في كتابه "إذا احترقنا: عقد الاحتجاج الجماهيري والثورة المفقودة": إن "المتفائلين بالتكنولوجيا"، الذي بشّرونا بأن الإعلام الرقمي الجديد يشكل ثورة وقوة لنشر الديمقراطية، لم يتنبؤوا أن الحكومات الاستبدادية والشركات وأجهزة الأمن الداخلية قادرة على تقييد هذه المنصات الرقمية وتحويلها كلها إلى آلات مراقبة ورقابة وأدوات للدعاية وتشويه المعلومات. إن منصات الإعلام الاجتماعي، التي جعلت الاحتجاجات الشعبية ممكنة، وُظِّفتْ ضدنا. كما أن كثيراً من الحركات الجماهيرية عجزت عن الدفاع عن نفسها لأنها فشلت في تأسيس بنى تنظيمية هرمية منظمة ومتماسكة. وفي الحالات القليلة التي وصلت فيها الحركات المنظمة إلى السلطة، كما في اليونان وهندوراس، تآمر الممولون الدوليون والشركات لاستعادة السلطة بلا رحمة. وفي معظم الحالات سدّت الطبقة الحاكمة بسرعة فراغ السلطة الناجم عن الاحتجاجات، وقدمت علامات تجارية جديدة لإعادة تغليف النظام القديم. هذا هو السبب الذي دفع مجلة "أدفرتايزينغ إيج" إلى تسمية حملة أوباما في ٢٠٠٨ "مسوّق العام". فقد فازت الحملة بأصوات مئات المسوقين ورؤساء الوكالات ومقدمي خدمات التسويق الذين اجتمعوا في المؤتمر السنوي لجمعية المعلنين الوطنيين. وتفوقت الحملة على الشركتين المنافستين آبل وزابوس دوت كوم. وعرف المحترفون أن العلامة التجارية أوباما كانت بمثابة حلم المسوقين. وأعادوا إنتاج الخدعة نفسها مع كامالا هاريس.
كانت الاحتجاجات في كثير من الأحيان أشبه بحشود تتجمع على نحو مفاجئ. وكان الناس يتدفقون إلى الأماكن العامة ويصنعون مشهداً إعلامياً بدلاً من أن ينخرطوا في مقاومة منظمة ومطولة للسلطة. ولقد عبّر المفكر الفرنسي غي ديبور[١٠] عن عبثية هذه المشاهد الاحتجاجية في كتابه "مجتمع المشهد"، قائلاً إن عصر المشهد يعني أن الأشخاص الذين تفتنهم صوره "يُصَاغون وفقاً لقوانينه". إن الفوضويين والمناهضين للفاشية، على غرار أعضاء الكتلة السوداء[١١]، غالباً ما هشّموا النوافذ، وقذفوا رجال الشرطة بالأحجار، وقلبوا أو أحرقوا السيارات. وبُررتْ أفعال العنف العشوائية والنهب والتخريب المتعمد للممتلكات العامة في لغة الحركة بوصفها من عناصر التمرد "الوحشي"، أو "العفوي". أسعدت هذه "الإباحية الشغبية" الإعلام، وكثيراً من الذين انخرطوا فيها، واستغلها رجال الشرطة لتبرير المزيد من القمع وشيطنة حركات الاحتجاج. وبسبب غياب النظرية السياسية لجأ الناشطون إلى استخدام الثقافة الشعبية مثل فيلم "في لفانديتا"[١٢] كمراجع يمكن الاعتماد عليها، وتجاهلوا الأدوات الأشد فعالية وتأثيراً، كمثل الحملات التعليمية الشعبية والإضرابات والمقاطعات، ربما لأنها أكثر جدية وأقل لفتاً للأنظار. فهم كارل ماركس الأمر جيداً ولهذا قال: "إن من لا يستطيعون تمثيل أنفسهم سيُمثّلون". لن تنقذنا سوى حركات تتمتع بتنظيم جيد، وتستند إلى تمثيل حقيقي ذكره الصحافي الاستقصائي المصري حسام بهجت حين قال لبيفنز في الكتاب: "كنا نظن أن التمثيل يقتصر على النخبة، لكنه في الحقيقة جوهر الديمقراطية". تحتاج جميع الحركات الثورية إلى أن تكون جزءاً لا يتجزأ من النضال العمالي، وإلا فإن أي فراغ في السلطة ستسده نخب الشركات التي تتمتع بتنظيم دقيق نظراً لطبيعتها.
كانت المشكلة هي أن المؤسسات وبُنى السيطرة ظلت قائمة أثناء فترة الاحتجاجات. ومن المحتمل، كما حدث في مصر، أنها انقلبت على رموز النظام القديم، لكنها أيضاً عملت على تقويض الحركات الشعبية والقادة الشعبويين، ما أفشل الجهود الرامية إلى انتزاع السلطة من الشركات العالمية والأوليغارشية. وتمت الإطاحة بالشعبويين من مناصبهم. فعلى سبيل المثال، قادَ أعضاءٌ من حزب العمال وشخصيات من شركات خاصة وصهيونية، والمعارضة المحافظة، ومعلقين معروفين، حملةً ماكرة ضد جيريمي كوربين وداعميه خلال مدة رئاسته للحزب في الانتخابات العامة في بريطانيا بين عامي ٢٠١٧ و٢٠١٩. وساهمت وسائل الإعلام في تضخيم عمليات التشهير والتشويه، وساهم في العملية ضباط من الجيش البريطاني وأجهزة الأمن. إن المنظمات السياسية المنضبطة وحدها لا تكفي كما أثبتت تجربة حكومة سيريزا اليسارية في اليونان. إذا لم تكن قيادة حزب مناهض للمؤسسة مستعدة للتحرر من بنى القوة السائدة ستتعرض للاستقطاب أو التدمير عندما ترفض مطالب مراكز السلطة المهيمنة. في النهاية أصبح سيريزا تابعاً للنظام المصرفي الدولي.
عالم الاجتماع الأمريكي من أصل إيراني آصف بيات، الذي عاصر الثورة الإيرانية في ١٩٧٩ في طهران وانتفاضة مصر في ٢٠١١ يميّز بين الظروف الذاتية والظروف الموضوعية لانتفاضات الربيع العربي التي نشبت في ٢٠١٠. قال: "ربما عارض المتظاهرون السياسات النيوليبرالية لكنهم صِيغوا من قبل ذاتية نيوليبرالية". وفي كتابه "ثورة بلا ثوار: كي نفهم الربيع العربي" يقول بيات": لقد افتقرت الثورات العربية إلى نوع الراديكالية الذي وسم معظم ثورات القرن العشرين. كان الثوار العرب، على النقيض من الثورات التي اندلعت في السبعينيات، وتبنت دافعاً قوياً نحو الاشتراكية، ومعاداة الرأسمالية، والعدالة الاجتماعية، أكثر انشغالاً بقضايا تتعلق بحقوق الإنسان والمساءلة السياسية والإصلاح القانوني. أما الأصوات السائدة، سواء أكانت علمانية أم إسلامية، فقد عدّت السوق الحرة وعلاقات الملكية والعقلانية النيوليبرالية من المسلمات، ما عكس رؤية غير نقدية لم تقدم سوى دعم لفظي للاهتمامات الحقيقية للجماهير بالعدالة الاجتماعية والتوزيع". وكما قال بيفنز: "إن جيلاً من الأفراد الذين نشأوا على النظر إلى كل شيء على أنه مشروع تجاري خفّ تطرفهم، وباتوا ينظرون إلى النظام العالمي على أنه طبيعي، ما جعلهم عاجزين عن تصور ما يتطلبه الأمر للقيام بثورة حقيقية."
إن الانتفاضات الشعبية، كما يقول بيفنز: "قامت بعمل جيد جداً وأحدثت ثغرات في الهياكل الاجتماعية وفراغات سياسية". لكن الجيش سدّ بسرعة فراغات السلطة في مصر، وفي البحرين سدّتها المملكة العربية السعودية ومجلس التعاون الخليجي، وفي كييف سدّتْها "مجموعة مختلفة من الأوليغارشيين والقوميين المتشددين المنظمين جيد". وفي تركيا سدّ الفراغ في النهاية رجب طيب أردوغان، وفي هونغ كونغ سدّتْه بكين. أضاف بيفنز: "إن حركة الاحتجاج الجماهيرية، التي تتسم باللامركزية، وبالتنسيق عن طريق الإعلام الرقمي، وغياب القيادة، هي جوهرياً مستغلقة، ولا يمكن فهمها. ولا تستطيع أن تمعن النظر فيها وتطرح أسئلة وتخرج بتأويل متماسك يستند إلى الدليل. تستطيع أن تجمع الحقائق، بل الملايين منها، لكنك لن تتمكن من استخدامها للقيام بقراءة موثوقة. هذا يعني أن مغزى هذه الأحداث سيُفرض عليها من خارج. كي تفهموا ما يمكن أن يحدث بعد نشوب أي احتجاج معين يجب ألا تنتبهوا فقط إلى من ينتظر في الأجنحة كي يسدّ فراغ السلطة. يجب أن تنتبهوا إلى من لديه القدرة على تعريف الانتفاضة نفسها". إن غياب البنى الهرمية في الحركات الجماهيرية الحديثة الذي يهدف إلى منع نشوء عبادة القيادة وضمان سماع جميع الأصوات، على الرغم من نبل نواياه، يجعل هذه الحركات فريسة سهلة. وعندما جاء مئات الأشخاص إلى حديقة زوكوتي لحضور الاجتماعات العامة، أدى تشتت الأصوات والآراء إلى الشلل، خاصةً بعد أن تم اختراق الحركة بشكل كبير من قبل الشرطة ومكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة الأمن الداخلي. يشير بيتر كروبوتكين[١٣] إلى هذه النقطة، حين يقول إن التوافق يعمل في مجموعات صغيرة (يحدد العدد بمائة وخمسين) لكنه يعوق عمل المنظمات الكبيرة.
تتطلب الثورات منظِّمين ماهرين منضبطين ذاتياً ورؤية أيديولوجية بديلة وفناً وتعليماً ثوريين. يجب أن تقوم بمضايقات متواصلة للسلطة وتحتاج إلى قادة يمثلون الحركة وهذا هو الأمر الأكثر أهمية. فالثورات مشاريع طويلة الأمد وصعبة وتستغرق أعواماً، وتأكل ببطء وبشكل غير محسوس أسس السلطة. يجب أن تكون الثورات التي نجحت في الماضي ومنظّروها دليلاً لنا، وليس الصور العابرة التي تفتننا في الإعلام الجماهيري. ليست الثورة في النهاية حساباً سياسياً، إنها حساب أخلاقي وتتأصل في رؤية لعالم آخر وطريقة أخرى في الوجود وتدفعها في النهاية حقيقة أخلاقية ملحة خاصة بما أن كثيراً من الذين يبدؤون ثورة لا يبقون على قيد الحياة كي يشاهدوها تتحقق. يعرف الثوريون أن الأمر كما عبّر عنه إيمانويل كانط: "إذا هلكت العدالة تفقد الحياة البشرية على الأرض معناها". وهذا يعني أننا يجب أن نصل إلى مرحلة نفضل فيها تحمل عواقب الخطأ بدلاً من أن نرتكب الخطأ نفسه كما فعل سقراط. ويجب أن نسعى لرؤية الأمور وفعلها واضعين في الحسبان أن فعل الرؤية يتطلب منا التغلب على اليأس ليس بالعقل فحسب بل بالإيمان أيضاً. لقد رأيتُ في الصراعات التي غطّيتُها قوة هذا الإيمان الذي لا علاقة له بأية عقيدة دينية أو فلسفية. دعا هافل هذا الإيمان في مقالته "قوة من هم بلا قوة" الحياةَ في الحقيقة. تفضح الحياة في الحقيقة فساد الدولة وأكاذيبها وخداعها وتجسّد رفضاً لأن تكون جزءاً من التمثيلية الهزلية. قال هافل: "أنتَ لا تصبح منشقاً لمجرد أنك تقرر يوماً ما أن تمتهن هذه المهنة غير العادية". أنت تُدفع إلى هذه المهنة بسبب شعورك الشخصي بالمسؤولية إلى جانب مجموعة معقدة من العوامل الخارجية. تُرمى خارج البنى القائمة، وتُوضع في موقف من الصراع معها. يبدأ الأمر كمحاولة للقيام بعملك جيداً، وينتهي بأن توسم بأنك عدو للمجتمع. لا يعمل المنشق في إطار السلطة الحقيقية على الإطلاق ولا يسعى إلى السلطة، ولا يرغب بمنصب أو بجمع الأصوات، ولا يحاول أن يسحر الجمهور. لا يقدم أي شيء ولا يعد بأي شيء. إن كان يستطيع أن يقدم أي شيء فهو جلده فحسب، ويقدمه لأنه ليست لديه طريقة أخرى لتأكيد الحقيقة التي يؤمن بها. إن أفعاله تعبّر ببساطة عن كرامته كمواطن، بصرف النظر عن التكلفة".
إن الطريق الطويل للتضحية والمعاناة الذي قاد إلى انهيار الأنظمة الشيوعية امتد لعقود من الزمن. كان الذين جعلوا التغيير ممكناً هم من تخلّوا عن المفاهيم العمليّة كلها. لم يحاولوا أن يُصلحوا الحزب الشيوعي، أو أن يعملوا داخل النظام. لم يعرفوا حتى ما يمكن أن تحققه احتجاجاتهم الصغيرة التي تجاهلها إعلام تسيطر عليه الدولة لكنهم تمسكوا طوال الطريق بواجباتهم الأخلاقية وفعلوا هذا لأن هذه القيم صحيحة وعادلة. لم ينتظروا مكافأة من أجل فضيلتهم، وفي الحقيقة لم يحصلوا على أي مكافأة. كانوا مهمشين ومضطهدين. ورغم ذلك انتصر هؤلاء المنشقون والشعراء والمسرحيون والممثلون والمطربون والكتاب في النهاية على الدولة وعلى السلطة العسكرية. جذبوا الخير إلى الخير. انتصروا، لأنه على الرغم من أن الجماهير حولهم بدت خائفة ومحطمة، فإن رسالتهم المليئة بالتحدي لم تعبر دون أن تُسْمع. لم تكن غير مرئية. إن قرع طبول التمرد المنتظم فضح باستمرار اليد الميتة للسلطة وعفن الدولة.
وقفتُ مع مئات الألوف من التشيكوسلوفاكيين المتمردين في ١٩٨٩ في ليلة شتوية باردة في ساحة وينسيلاس في براغ حين ظهرت المطربة مارتا كوبيسوفا على شرفة بناء ميلانتريك. كانت كوبيسوفا قد حُظرت في المحطات الإذاعية في ١٩٦٨ بعد الغزو السوفياتي بسبب أغنيتها المتحدية "صلاة لمارتا". صادرت الدولة كتالوج أغانيها الكاملة وأتلفته مع أكثر من ٢٠٠ من أغانيها الأخرى المتفرقة. غابت المغنية عن عين وسمع الجماهير لكن صوتها في تلك الليلة غمر الساحة فجأة. كانت تضغط حولي حشود طلاب لم يكن معظمهم قد ولدوا حين اختفت وبدأوا ينشدون كلمات أغنيتها والدموع تتحدر على خدودهم. أدركتُ في تلك اللحظة أن أي عمل تمردي مهما بدا سخيفاً لن يذهب سدى. وفي تلك اللحظة أدركتُ أن النظام الشيوعي قد انتهى. "إن الشعب سيقرر مصيره مرة أخرى"، هذا ما غناه الحشد مع كوبيسوفا. كانت تغطي جدران براغ في ذلك الشتاء البارد صور جان بالاش، الطالب الجامعي الذي أحرق نفسه في ساحة وينسيسلاس في السادس عشر من كانون الثاني ١٩٦٩ في منتصف النهار احتجاجاً على سحق الحركة الديمقراطية في البلاد. مات متأثراً بحروقه بعد ثلاثة أيام. حاولت الدولة أن تمحو ما فعله من الذاكرة الوطنية بسرعة. لم يُذكر الأمر في إعلام الدولة. وفرّق رجال الشرطة مسيرة جنازة قام بها طلاب الجامعة. إلا أن قبر بالاش تحوّل إلى مزار، فقامت السلطات الشيوعية باستخراج جثته وحرق بقاياه وإرسالها إلى والدته شرط عدم دفن رماده في مقبرة. لكن هذا كان بلا فائدة. فقد بقي تحديه صيحةَ تعبئةٍ وحثّت تضحيته الطلاب في شتاء ١٩٨٩ كي يعملوا. وبعد وقت قصير من سفري إلى بوخارست لتغطية الانتفاضة في رومانيا، سُمّيت ساحة الجيش الأحمر في براغ ساحة بالاش وذهب عشرة آلاف شخص إلى حفل التكريس.
لم نعد نمتلك أي آليات داخل الهياكل الرسمية للسلطة لحماية حقوقنا أو تعزيزها على غرار أولئك الذين عارضوا ليل الشيوعية الطويل. لقد شهدنا انقلاباً لم يقم به زعماء الحزب الشيوعي التقليديون ذوو الوجوه الجامدة، بل قامت به دولة الشركات. يمكن أن نشعر، في وجه التدمير الذي لا يرحم لأمتنا وثقافتنا ونظامنا البيئي الذي تقوم به الشركات، أننا بلا قوة وضعفاء. لكننا لسنا كذلك. فنحن نملك القوة التي ترعب دولة الشركات. إن أي فعل تمرد يُبْقي الجمار مشتعلة من أجل حركات أضخم تأتي بعدنا، ويغذي سردية أخرى، ويجذب أعداداً أكبر فأكبر فيما الدولة تستهلك نفسها. ربما لن يحدث هذا في مدة حياتنا لكننا إذا ثابرنا سنُبْقي هذا الاحتمال حياً. وإذا لم نفعل سيموت. دعا رينولد نيبور هذه القدرة على تحدي قوى القمع "الجنون السامي للروح". قال نيبور: "لا شيء إلا الجنون يحارب السلطة الشريرة والشر الروحي في الأمكنة العليا". هذا الجنون السامي، كما فهمه نيبور، خطير لكنه حيوي ومن دونه "تصبح الحقيقة غامضة". أدرك نيبور أيضاً أن الليبرالية التقليدية كانت قوة بلا فائدة في لحظات التطرف وعبّر عن ذلك حين قال: إن الليبرالية "تفتقر إلى روح الحماس، هذا إذا لم نقل التعصب، التي هي ضرورية جداً لتحريك العالم خارج مساراته المطروقة. إنها قوة فكرية جبارة لكنها قليلة العاطفة لهذا لا يمكنها أن تصير قوة فعالة في التاريخ".
كان الأنبياء في التوراة العبرية مصابين بهذا النوع من الجنون السامي. هذا ما أكده أبراهام هيسشيل[١٤] حين قال إن كلماتهم كانت "صرخة في الليل؛ وبينما كان العالم مسترخياً ونائماً شعر النبي بانفجار الحقيقة من السماء". كان النبي "مُجبراً على إعلان ما يتعارض مع توقعات قلبه لأنه شهد وواجه واقعاً غير مريح". إن هذا الجنون السامي ضروري؛ إنه قبول بأنّ من يقف مع المضطهدين يُعامل كما لو أنه منهم. وهو أيضاً قبول بأنه بالرغم من أن كل ما كافحنا من أجله في حياتنا قد يبدو أسوأ من الناحية التجريبية، فإن نضالنا يظل ذا قيمة ويثبت نفسه. وكما قالت حنا أرندت في كتابها "أصول الشمولية"": إن الأشخاص الذين يمكن الوثوق بهم أخلاقياً ليسوا من يقولون هذا خطأ، أو يجب ألا نفعل هذا، بل أولئك الذين يقولون: لا أستطيع". ويرى كارل بوبر في كتابه "المجتمع المفتوح وأعداؤه" أن السؤال ليس كيف نحصل على أناس جيدين ليحكموا، لأنه سؤال خاطئ. يقول: إن معظم من يسعون إلى السلطة "نادراً ما كانوا فوق المستوى العادي أخلاقياً أو فكرياً وغالباً ما كانوا دون ذلك". لذا فإن السؤال الحقيقي هو: كيف نعمل للحد من استبداد الأقوياء؟
هناك لحظة في مذكرات هنري كيسنجر - لا تشتروا هذا الكتاب - كان نيكسون وكيسنجر ينظران فيها إلى عشرات آلاف المحتجين المعارضين للحرب وهم يحاصرون البيت الأبيض. وضعت إدارة نيكسون حافلات المدينة الفارغة في حلقة حول البيت الأبيض لصد المتظاهرين. قال نيكسون: "سيقتحمون الحواجز ويصلون إلينا يا هنري".
هذا هو الموقف الذي نريد أن نضع رجال السلطة فيه. لهذا، رغم أن نيكسون لم يكن ليبرالياً، كان آخر رئيس ليبرالي لنا. كان خائفاً من حركات التمرد. وإذا لم نستطع أن نجعل النخب خائفة منا سنفشل. يجب أن نبني قوى منظمة من أجل التحدي العلني. قد يستغرق الأمر سنوات. ولكن من دون حضور مضاد قوي، من دون رؤية بديلة وبنى بديلة من الحكم الذاتي، ستضعف قوتنا بالتدريج. يجب أن نوضح في كل فعل نقوم به، وكل كلمة ننطقها، أننا نرفض المشاركة في استعبادنا ودمارنا. إن الشجاعة معدية. لقد بدأت الثورات، كما رأيتُ في ألمانيا الشرقية، ببضعة رجال دين لوثريين حملوا الشموع وساروا في شوارع لايبزغ، وانتهت بنصف مليون متظاهر في برلين الشرقية، وبانشقاق رجال الشرطة والجيش ووقوفهم إلى جانب المحتجين وانهيار دولة شتازي. لكن الثورات لا تحدث إلا حين يقرر بضعة منشقين أنهم سيتوقفون عن التعاون.
قد لا ننجح. هذا لا يهم. لكن على الأقل سيقول الذين يأتون بعدنا (وأنا أتحدث هنا كأب) إننا حاولنا. إن قوى الشركات التي تسلّط علينا الموت ستقضي على حياتنا، ستقضي على حياة أطفالي وأطفالكم وتدمّر النظام البيئي الذي يجعل الحياة ممكنة. ندين لأولئك لذين سيأتون بعدنا بأن لا نكون متواطئين في هذا الشر، بأن نرفض أن نكون ألماناً جيدين. فأنا لا أقاتل الفاشيين لأنني سأنتصر، بل أقاتلهم لأنهم فاشيون.
[ترجمة: أسامة إسبر، المصدر: كريس هيدجيز ريبورت].
هوامش المترجم:
١- روجر هالام هو أحد مؤسسي حركة "تمرد ضد الانقراض"، وهي حركة بيئية عالمية تركز على معالجة تغير المناخ والانهيار البيئي عن طريق العصيان المدني السلمي. يُعرف هالام بنشاطه ودعوته إلى اتخاذ إجراءات عاجلة بشأن قضايا المناخ.
٢- كلايف هاملتون أكاديمي وكاتب ومفكر أسترالي معروف بكتاباته في مجال تغير المناخ، والأخلاق البيئية، والسياسة العامة. يُعد من المدافعين البارزين عن ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة بشأن قضايا المناخ، وقد ألّف عدة كتب مؤثرة حول هذا الموضوع، بما في ذلك "مرثية للأنواع"، الذي يستكشف التحديات النفسية والثقافية المتعلقة بمواجهة تغير المناخ.
٣- كان ألكسندر كيرنسكي شخصية سياسية بارزة في روسيا خلال أوائل القرن العشرين، ويشتهر بشكل خاص بدوره في الثورة الروسية عام ١٩١٧. شغل منصب وزير العدل ولاحقاً رئيس الوزراء في الحكومة المؤقتة التي تم تشكيلها بعد تنازل القيصر نيقولا الثاني. كان كيرنسكي مدافعاً بارزاً عن الإصلاحات الديمقراطية وسعى للحفاظ على مشاركة روسيا في الحرب العالمية الأولى.
٤- إريك فونر مؤرخ وكاتب أمريكي، معروف بأعماله حول تاريخ الحرب الأهلية الأمريكية وإعادة الإعمار. كتب بشكل موسع حول مواضيع تتعلق بحقوق المواطنين، وإلغاء العبودية، والتاريخ السياسي الأمريكي.
٥- في القرن التاسع عشر في بريطانيا، كانت "البلدة الفاسدة" تشير إلى دائرة انتخابية برلمانية لها عدد قليل جداً من الناخبين لكنها لا تزال تحتفظ بحق انتخاب نائب في البرلمان. غالباً ما كانت هذه المناطق تعاني من انخفاض كبير في السكان بسبب عوامل مثل التصنيع والتحضر، ومع ذلك، كانت ما تزال تحتفظ بتمثيلها في البرلمان. سلط هذا المصطلح الضوء على عدم المساواة في النظام الانتخابي، حيث يمكن أن ترسل المناطق التي فيها عدد أقل من الناخبين نائباً إلى وستمنستر، بينما كانت المدن الصناعية المتنامية بسرعة وذات عدد السكان الكبير تفتقر إلى التمثيل. ساهمت هذه القضية في الدعوات للإصلاح الانتخابي.
٦- حريق برج جرينفيل كان حريقاً مدمراً حدث في١٤ حزيران\ يونيو ٢٠١٧، والبرج مبنى سكني يقع في شمال كنسينغتون بلندن. بدأ الحريق في شقة بالطابق الرابع وانتشر بسرعة في جميع أنحاء المبنى المؤلف من ٢٤ طابقاً، وذلك بسبب الكسوة القابلة للاشتعال التي تم تركيبها خلال عملية ترميم حديثة. أسفر الحادث عن وفاة ٧٢ شخصاً وأدى إلى إصابة عدد كبير من الآخرين. أثار الحريق مخاوف كبيرة بشأن لوائح سلامة الحريق ومواد البناء ومعاملة السكان في الإسكان الاجتماعي.
٧- "الجدول ٧" مادة في قانون الإرهاب البريطاني لعام ٢٠٠٠، تمنح الشرطة وموظفي الجمارك السلطة لإيقاف واستجواب وتفتيش الأفراد عند الموانئ والحدود. بموجب الجدول ٧، يمكن للضباط احتجاز الأفراد لمدة تصل إلى ست ساعات دون الحاجة إلى وجود اشتباه معقول في نشاط يتعلق بالإرهاب. لا توجد حقوق قانونية تتيح للأفراد رفض الإجابة على الأسئلة أو الحصول على تمثيل قانوني خلال هذا الاحتجاز. وغالباً ما يتم انتقاد هذا الحكم بسبب سلطاته الواسعة وإمكانية إساءة استخدامه.
٨- مخططات فين (Venn diagrams) تمثيلات بصرية تُستخدم لتوضيح العلاقات بين مجموعات مختلفة. تتكون من دوائر متداخلة، حيث تمثل كل دائرة مجموعة معينة. تُظهر المناطق التي تتداخل فيها الدوائر العناصر المشتركة بين المجموعات، بينما تُبرز المناطق غير المتداخلة العناصر الفريدة لكل مجموعة.
٩- فينسنت بيفينز صحافي وكاتب أمريكي مشهور بكتاباته حول الشؤون الدولية والتاريخ.
١٠- كان غي ديبور منظراً ماركسياً فرنسياً وصانع أفلام. من كتبه المشهورة "مجتمعالمشهد"، الذي نُشر عام ١٩٦٧، والذي ينتقد فيه الثقافة الاستهلاكية المعاصرة والطريقة التي تشكل بها وسائل الإعلام والصور الإدراكات والتجارب الاجتماعية.
١١- الكتلة السوداء، تكتيك يُستخدم غالباً في الاحتجاجات والمظاهرات، حيث يرتدي المشاركون ملابس سوداء بالكامل، وأقنعة، ونظارات واقية لإخفاء هوياتهم. يهدف هذا الأسلوب إلى عدم الكشف عن الهوية والتضامن بين المتظاهرين. ترتبط الكتلة السوداء بمجموعة من الحركات السياسية، خاصة الفوضوية ومناهضة الرأسمالية. تم استخدام هذا التكتيك في احتجاجات حول العالم، وغالباً ما يثير نقاشات حول استراتيجيات الاحتجاج والحد الفاصل بين التظاهر السلمي والتخريب.
١٢- V for Vendetta هو فيلم أكشن وخيال علمي تم إنتاجه عام ٢٠٠٥، من إخراج جيمس مكتيغ، ويستند إلى رواية مصورة تحمل نفس الاسم كتبها آلان مور وديفيد لويد. تدور أحداث الفيلم في مستقبل ديستوبى لبريطانيا تحت نظام سلطوي، حيث يسعى شخص مقنع يُعرف باسم V يلعب دوره هيو جاكمان للإطاحة بالحكومة القمعية التي يقودها المستشار سوتلر جون هيرت. يستكشف الفيلم موضوعات الحرية والفردية وعواقب الأنظمة السلطوية.
١٣- بيتر كروبوتكين كان فوضوياً وجغرافياً وفيلسوفاً روسياً وُلد عام١٨٤٢. يُعرف بشكل خاص بدعمه للفوضوية الشيوعية ونقده للرأسمالية والدولة. شارك في الحركات الثورية في عصره، وقضى معظم حياته في المنفى بسبب معتقداته السياسية. تركت أفكاره تأثيراً متواصلاً على نظرية الفوضوية والحركات اليسارية حول العالم. توفي عام ١٩٢١.
١٤- كان أبراهام جوشوا هيسشيل عالم دين يهودياً وفيلسوفاً وناشطاً في حقوق الإنسان وُلِد في بولندا عام ١٩٠٧وانتقل لاحقاً إلى الولايات المتحدة. يُعرف بكتاباته العميقة في الروحانية اليهودية والأخلاق والعدالة الاجتماعية. كان يرى أن الدين الحقيقي يرتكز على إحساس عميق بالدهشة والمسؤولية الأخلاقية. كان ناشطاً في حركة الحقوق المدنية، حيث سار مع مارتن لوثر كينغ الابن في سيلما عام ١٩٦٥، وعدّ النضال من أجل الحقوق المدنية واجباً أخلاقياً. توفي عام ١٩٧٢.