قلب ينبح وحيداً
يضع البائع السمكة في كيس الثلج.
يقول: طريقك طويل؛ أخاف أن تفسد السمكة.
أفتح الكيس،
أنتقي القطع الكبيرة،
أضعها في تجويف صدري.
طريقي طويل؛ أخاف أن يفسد قلبي.
منذ أن غدت المواصلات قليلةً، بل نادرة،
وأنا أشمُّ رائحة قلبي وهو يتعطن في المسافات الطويلة.
ينفر الأشخاص في الحافلة.
ينبهون السائق: حريق... ثمّة حريق.
ألفُّ قلبي بثوبي.
أقرّعه: فلتخمد ... فلتخمد
أهيل عليه التراب.
هل يستحق الأمر هذا العناء؟
أعليَّ أن أصحب قلبي أنّى ذهبتُ؟
سوف أربطه، مثل كلبٍ، على مدخل البيت.
سوف يحرس البيت؛
ينبح وحيداً في الظلام؛
يتلهّى بخيالات العابرين؛
يمضي شيخوخته هادئاً؛
يذبل مثل شجرة الغاردينيا التي امتنعتُ عن سقايتها؛
يذوي بانتظاري؛
ولا يحترق.
الحزن ضيف ثقيل
ضيف ثقيل هو الحزن.
يسعك أن تفكّر في الأمر على هذا النحو،
فتُضْطَرُّ أن تترك له السرير
وتنام على الكنبة.
تستيقظ مرغماً لتعدّ له القهوة
وتشاطره جلسات النميمة.
ثرثار هو الحزن، لا يكفّ عن الكلام.
هكذا، أغمض عينيَّ وأغلق أذنيَّ،
كما اعتدت حين كانت الممرضة تزرق الإبرة في العضل،
وتضحك من تصرفي الطفولي.
أقول لها: هكذا يخفّ الألم!
تقول: كما يغمض محكومٌ بالإعدام عينيه لحظة سحب الكرسي من تحت قدميه.
أو مثل مسافر في الباص ينشغل عن رؤية الدمار على جانبي الطريق بسماع أغنية عن الحبّ!
حسنٌ، كنا نتحدّث عن الحزن.
لا أعلم أين يأخذني هذا الحزن؟
البارحة مثلاً،
لم يستطع النوم.
أيقظني لأسهر معه في الشرفة.
كان الجوّ بارداً.
وضع شالي عليه.
لم يكتف بذلك،
دخّن سجائري أيضاً.
وبقيت بلا سجائر،
في مدينة غريبة.
هل أخبرتكَ كيف تعلمتُ التدخين؟
في البداية، كنت أدخن بقايا سجائر أختي الغاضبة.
رحتُ بعدها أختلس السجائر من إخوتي.
ولأنهم كانوا يرون حزنًا صغيراً يكبر في الرحم،
لم يوبخوني، كما جرت العادة.
ثمّة خلط بدأ يدبُّ في النصّ:
هل الحزن ضيف ثقيل عابر
أم أنّه الطفل المعوَّق الذي أنجبته من رحمي،
وما زلت موشومة به؟
أمشي في الشارع
فيهرب منّا الأطفال
أو يرموننا بالحجارة!
يا لهذا الطفل الشائه!
من غضبي،
أو لأقل من يأسي
وضعته في مشفى المجانين،
في بلد المجانين،
وأنكرت أمومتي،
أنا الأم العاق.
حين كبر أراد أن يتعرّف أمَّه البيولوجية؛
هكذا قيل لي.
بدأ يزورني على فترات متقاربة.
وعلى غفلة مني، نقل أشياءه وسكن معي.
تسلل من الكنبة إلى السرير.
ثم قال لي: أريد العودة إلى رحمك!
خمسة أشياء أفكر بها قبل النوم:
١: أشتهي أن أرقص، ربما لم أخبرك بتلك الرغبة قط!
كما أنني لم أخبرك بأي شيء أحبه،
أو لم تكن تسمعني.
٢: الاحتواء
أو تلك الكلمة التي كنت أحبها "حوشيني"
فأسرح في الحوش، وكأنني أسورك وأنت داخلي،
لكنك قفزت خارج الحوش،
وضفرت يدي بيد الغياب.
٣: التردد في تناول حبوب المنوم
كأن أسمع أم كلثوم " وانت معاي يصعب علي رمشة عيني ولو شوية ليغيب دلالك دلالك ويغيب جمالك…"
كم مرة لم أستطع النوم قربك،
كنت أحرس نومك….
وأخاف أن يخدشه منام سيء،
أو تلدغك بعوضة صغيرة.
٤: الزمن
أتلو وعودي التي قطعتها لنفسي،
أكررها أمام المرآة
وأحصي تجعيدة زائدة إزاء كل خيبة جديدة.
5: قص - لصق
لو كان العالم الواقعي مثل الافتراضي
أقصك من سريرك
وألصقك قربي.
تناذر الطرف الشبحي:
يحدث، في الليل، أن أمدَّ يدي إلى الطرف الأيسر من السرير،
مثل أعمى يتخبّط في الفراغ:
لستَ هنا!
أمد يدي إلى تجويف صدري الأيسر:
قلبي يحكّني!
أمس فحسب،
وأنا أحثّك على عبور الشارع،
أمسكت بيدك،
يدك السراب،
ثم انتبهت أنّ رجلاً يشبهك
يصرخ بي: أفلتي يدي!
حين وضعت الطعام على الطاولة،
وضعت صحنين،
شردتُ،
كنا اثنين!
في المكتبة الكبيرة في برلين،
أنقّل بصري بين الكتب
عين لك
وعين لي،
ثم لا أنتقي إلّا الكتب التي تحبها.
يقولون: الطرف الذي يوجعك، ابتريه!
حسنٌ، ما الذي لن أبتره؟
بترت كل طرف يذكرني بك،
فآلمني الفراغ.
***
كان سريري ضيقاً،
لذا حين أنام في سرير واسع فإنني أختار طرف السرير وأحاول أن أبقى في حيز صغير...
في المدن الضيقة نحلم كثيراً، فتتسع الشوارع.
حين منحوني مدينة كبيرة وشوارع فسيحة توقفت عن الأحلام...
في قريتي الصغيرة اعتدت أن أتناول الفواكه حسب المواسم،
هنا، المواسم كلها أمامك ولا فواكه طازجة،
في تلك المدينة البعيدة لم تكن بي حاجة لمعرفة أحوال الطقس على غوغل، كنت أعرف أن هناك موسماً لخروج الثياب الصيفية من الخزانة،
هنا تختلط علي الفصول في يوم واحد،
تقول لي: أنت ثنائية قطب، أضحك من الفكرة،
تارة تحبينني وأخرى تشتمينني،
لا تعرف أنني أخفي عنك فكرتي عن نفسي.
في الواقع، هذه المدينة صيرتني متعددة الأقطاب .
لنعد الآن إلى الواقع: كيف سأبدأ نهاري معك؟
وماذا سأرتدي؟
وأي فاكهة أختار؟
وأي حزن سوف ينصب الفخ لصباحي؟