يعتبر الدكتور جابر عصفور القصة القصيرة فناً صعباً "لا يبرع فيه سوى الأكفياء من الكتاب القادرين على اقتناص اللحظات العابرة قبل انزلاقها على سطح الذاكرة، وتثبّتها للتأمل الذي يكشف عن كثافتها الشاعرية بقدر ما يكشف عن دلالتها المشعة في أكثر من اتجاه".
ويؤكد هنري جيمس إن "القصة القصيرة وليست الرواية هي الأكثر ملاءمة لوصف حياة القرن العشرين"، وإذا ما كانت القصة القصيرة تغطي مرحلة من مراحل حياة الشخص، ولا يمكن أن تخوض في حياته كاملة منذ الولادة، وترصد التغيرات التي طرأت على حياته وأماكنه وجماعته، فإن القصة القصيرة يمكن أن تكون، أيضاً، الأكثر ملاءمة للقرن الواحد والعشرين، لا سيما بعد ثورات الربيع العربي عام 2011.
وإذا تأملنا المشهد السوري في القرن الحالي، فإن عدد الذين يكتبون القصة القصيرة قليل إذا ما قورن بعدد الشعراء والروائيين، وقلة منهم من يبرع فيها. وأظن أن القصة القصيرة في سوريا لم تنل الاهتمام الكافي من النقاد كغيرها من الأجناس الأدبية.
والحال، إن ما حدث في سوريا، وعلى وجه الخصوص، بعد عام 2011، قد تمّ تناوله بكثرة شعراً ورواية، وبشكل أقل قصة قصيرة، وقد برز نور دكرلي كقاص متفرد وقناص في اصطياد المشاهد اليومية وتحويلها إلى قصة حدثت وتحدث مع أغلب السوريين.
حين قرأت عنوان مجموعة نور دكرلي "نظرة أخيرة على أشجار الكرز"، الصادرة عن دار مرفأ في بيروت وبدعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون، ودون أن أعرف ماهية قصص المجموعة، لا أدري لم خطر في ذهني الروائي وكاتب القصة القصيرة الياباني يوكيو ميشيما وعلاقته بأشجار الكرز "الساكورا" وأبطال الساموراي. ميشيما الذي شغلته فكرة الحياة القصيرة المليئة بالبطولات شأنها شأن أزهار الكرز ذات العمر القصير التي ما إن تتوهج حتى تسقط. تساءلت ما قصة أشجار الكرز ونور دكرلي؟ كانت أشجار الكرز هي آخر ما رآه بطل القصة عند هروبه من سوريا، تلك الأشجار التي تستوطن قمم الجبال الفاصلة بين سوريا ولبنان، قصة شباب سوريا العالق بين الموت والهروب، شباب أينعوا وسقطوا باكراً في لجج الموت والضياع شأنهم شأن أزهار الكرز.
لا يجمع قصص المجموعة مكان واحد، بل تنتقل من سوريا إلى لبنان إلى المنفى شأنها شأن السوري بعد عام 2011، مطارد وضحية وربما ناجٍ ولاجئ. كما أن الزمن يتداخل في القصص، ويتداخل المتخيل بالواقعي في كولاج يجمع مشاهد من حياة السوريين ليرسم لوحة بانورامية لسوريا الحالية.
يبدأ نور دكرلي مجموعته بقصة "هل أنت إيونا باتابوف؟"، وإيونا باتابوف هو بطل قصة تشيخوف "لمن أشكو أحزاني؟"، حوذي يموت ابنه نتيجة إصابته بالحمى وتهجره زوجته ويتمنى أن يجد من يشكو إليه حزنه، فينهره الزبائن ويضجرون منه. أما بطل نور فهو سائق التاكسي والزبون، فكلاهما فقد ابنه وكلاهما بحاجة لمن يصغي إليهما، هما تجسيد لكل سوري فقد عزيزاً في هذه المقتلة ويحتاج أن يشكو أحزانه.
يتفرد نور بامتلاك تجربته الخاصة التي تنعكس في قصصه، وهي بالعمق، تجربة تخص السوريين على اختلاف مواقفهم، وهذا ما يبدو جلياً في قصة "نظرة أخيرة على أشجار الكرز". تفترق المصائر في المقتلة السورية فينجو الراوي ليقص علينا قصة "أبو الليل" الطالب الجامعي الذي يكتب الشعر ويدخن ويشرب ويتسكع، وينتهي مقاتلاً في إحدى الجماعات الإسلامية. "أبو الليل" الذي لا يعرف اسمه الحقيقي حتى أصدقاءه المقربين، هو نموذج للشاب الطموح اليائس الذي لم يجد لأفكاره صدى فالتحق بمجموعة إسلامية، ألا يشبه كثيراً من الشباب ضحايا هذه المقتلة؟ ألا يشبه أزهار الكرز التي لا تعمر سوى أسبوعين، والراوي نفسه الذي هرب من ملاحقة النظام وانتهت أحلامه، أليس هو الآخر ضحية تحاول النجاة لكنها تخسر أحلامها. تتأمل قصة "نظرة أخيرة على أشجار الكرز" مصائر الشباب الذين انتفضوا في عام 2011 ومآلاتهم. و"أبو الليل" لم يكن إسلامياً لكنه إزاء القمع والوحشية الشديدين غدا متطرفاً وانتهى الأمر فيه قتيلاً.
أما في قصة "مخبر النادي السينمائي" التي تذكرنا إلى حد ما بالفيلم الألماني "حياة الآخرين"، فبطل القصة ليس مخبراً بل شاءته ظروف حياته من فشل دراسي وفقر كي يعمل مخبراً وبدلاً من كتابة التقارير يقع في غرام الأفلام ويقدم تحليلاً لها فيفقد وظيفته. ينظر القاص بعين الشفقة والحزن لمآلات هؤلاء، كان يمكن أن يكونوا أفضل لولا ظروفهم البائسة تلك.
تتوالى القصص لتروي لنا المشهد السوري بعد عام 2011، وخراب المؤسسات التعليمية، وتعيين الموالين للنظام بدل الأكفياء. كذلك يسلط الضوء على الأسرة السورية التي تشرذمت في أصقاع الأرض، والتفكك الذي ألمّ بها يعكس حال البلد. فقد هاجر أو قُتل شبابها، وبقي الوالدان وحيدين يخشى أحدهما أن يموت قبل الآخر. وفي قصة أخرى يصور لنا حال الأم المريضة التي ترغب في كتابة رسالة طويلة لابنها في الغربة لكنها تعجز لكونها لا تجيد الكتابة. يبدو هذا حال كثير من الأمهات السوريات الوحيدات. هل هي حكاية الأم السورية أم حكاية سوريا الثكلى التي تُركت لتموت وحيدة وقد فقدت أبناءها بالموت والتهجير؟
ينتقل القاص ليخبرنا قصص التهجير والنزوح، فالأم التي دفنت أجنتها في حوض الزريعة وزرعت في المكان نفسه ياسمينة تأبى مغادرة المكان من دون تلك الياسمينة، كأنها تخشى أن تُقتل أجنتها مرة ثانية، كأنها سوريا التي أجهضت أحلامها وتريد أن تحمل رفات أحلامها معها لتزرعها في أرض جديدة.
يتتبع القاص قصص السوريين في لبنان والصعوبات التي يواجهونها، صعوبة تأقلمهم في المكان الجديد، وشعورهم بأنهم أدنى طبقياً من اللبنانيين، وانتظارهم لأخبار عن أبنائهم الذين فُقدوا في الحرب، الحنين الذي يكابدهم لمدنهم، الضياع الذي يعانونه، الخوف من اختفاء الأمكنة التي نحب، اختفاء الذاكرة، بل واختفاء الشخص نفسه. هي قصة سيزيف السوري في بقائه وهروبه من الموت، يحاول النجاة ولا ينجو، قصة خوفه من الضياع والتلاشي.
لا يكتفي نور بسرد قصص اللجوء السوري في لبنان، بل يلحق بها إلى بلاد المنافي، وهنا "فرنسا"، وإذ يبدو أن البلد المضيف غاية في اللطف، غير أنه لا يخفي دهشته أمام هذا السوري المثقف المتحضر، وهذا ما يحصل مع أغلب اللاجئين، إذ يعتقد الأوربيون أننا متخلفون ودخلاء على الحضارة، بل إنهم كثيراً ما يندهشون إزاء معرفتنا بكتّابهم ومفكّريهم. غير أن كثيراً من السوريين اللاجئين يعانون متاعب شتى، ويقعون فريسة الاكتئاب والأمراض النفسية نتيجة رواسب عالقة في الذاكرة تعاود الظهور أو نتيجة الوحدة التي يكابدونها في المنفى وصعوبة البدء في حياة جديدة، وهذا ما يسلط الضوء عليه نور.
الأمر الجيد في قصص نور أنها استطاعت من خلال رصد مشاهد يومية من حياة أشخاص متفرقين تجميع فرانكشتاين السوري، وكأنها سهم موجه جيداً نحو هدفه، يعرف القاص نور متى يطلق هذا ويصيب القارئ. هي مرثية بوجوه شتى لما حصل ويحصل للشباب السوري في الأعوام الأخيرة.