في مجموعتها الشعرية "رغبات صغيرة" الصادرة عن دار مرايا، تخوض رنوة العمصي رحلتها الشاقة في المهجر والحب متسلحة بذاكرة طفولة الرحم الأولى. وإذ يبدو أن موضوعي المهجر والمنفى مطروقان بشدة في الشعر العربي، إلا أنهما في القرن الواحد والعشرين قد اختلفا بوجود وسائل التواصل الاجتماعي، بيد أن الاغتراب المكاني بقي ذاته، وبقي الشاعر معلقاً بحبل السرة إلى وطنه، يتمنى أن يقطعه ليولد ثانية في أرض المهجر ويمضي في حياته، كأن الخيط لا ينقطع. في إشارة رمزية لما يحمله الوطن من صور أمومية، وما تمثله الأم من أمن وأمان. فالأم وفق جاستون باشلار: "العش الأليف، بيت الطفولة، مركز الأحلام الأولى، جدران الحماية والدخول الأول إلى العالم، وهذا ما تعبر عنه رنوة في قصيدتها "حبل سري":
أنا خائفة يا أمي...
الجو باردٌ هنا
ورحمك الذي بقيت أسبح في مائه الدافئ
تسعة وعشرين عاماً
دفعني إلى الخارج
مبللة بماء الذاكرة.
***
أركض خارجة منكِ
أهرب مثل بالونة يغريها الهواء فترتفع
وتصير تشدّ الخيط لتبتعد
قطعتُ حبلنا السري
وولدتُ أخيراً من دون قصد.
وإذ يبدو أن الولادة الثانية محفوفة بشتى المخاطر للمهاجر/ المنفي، إلا أن سعيه وراء حلمه وتحقيق ذاته يدفعه إلى قطع حبل السرة بينه وبين الأم/ الوطن.
تعترف رنوة العمصي في قصيدتي "هكذا" و"استثناءات طفيفة" أنها اختارت النجاة الفردية، لكنها دفعت ثمناً باهظاً لقاء اختيارها هذا. فقد أصبحت بعيدة عن عائلتها، وما تكتبه من شعر بالعربية لا أحد يفهمه أو يعيره انتباهه، تحاول أن توهم العائلة أنها بخير، بيد أن النجاة وهم ما يلبث أن يتحول إلى جرح يرشّ المهجر ملحه فوقه يوماً إثر يوم:
هكذا...
أصبح سريري على بعد قارّة
صدر أمي على بعد 7 ساعات طيران
حزن أبي على بعد ألف ألف دمع
أصدقائي على بعد ملايين الغرباء
وكتبي على بعد خمس لغات وأكثر.
***
هكذا..
دفعتهم واحداً واحداً للسقوط
لأنجو وحدي
تركتُ الماء يغمرهم، وصرتُ أجدّف باتجاه البعيد
كلما سمعتُ صرخة أمس، أو طفا واحدٌ من كتبي
أدير الرقم وأقول: "ألو.. النت سيء
أنا بخير، ألووو.."
وأغلقه، قبل أن أبكي.
يرى إدوارد سعيد أن المنفى حالة دائمة من الغربة والابتعاد والإقامة في الهامش، هو هجرة مستمرة لا يمكن عكسها، ومن ثم هو صيغة من صيغ الوجود، تولد شعوراً متواصلاً بالانشقاق عن السياق والحنين الدائم إلى ماضٍ وأرض وثقافة لم تعد كلها موجودة في المنفى، فهو الصدع الذي يصعب شفاؤه ويفصل بصورة قسرية بين المرء ومسقط رأسه؛ بين الذات وبيتها الحقيقي! إن الحزن الجوهري الذي يولّده لا يمكن التغلب عليه.
تتوزع قصائد رنوة على المهجر/ المنفى بتجلياته التي يصعب الشفاء منها. ثمة تفاصيل صغيرة تفتقدها رنوة، وكأنه تعود بذاكرتها إلى الطفولة لتتذكر الأعياد والعيدية التي كانت تتلقاها من أبيها، وتلك المخبوزات التي تخصها بها الأم. ما الذي يجعل المنفي/ المهاجر يتذكر بحرقة هذه التفاصيل العادية التي لم يكن يعيرها أدنى اهتمام وهو في الوطن؟ هل هو شعوره بالوحدة وافتقاده الاهتمام والحنان اللذين كانت العائلة تخصه بهما؟
لكن رنوة وعلى الرغم من قطعها الحبل السري والمضي وحيدة في عالم مجهول قاسٍ تحاول أن تنتزع الاعتراف من الأم بأنها كبرت، وصار بوسعها أن تسبر أغوار الحياة بمفردها. تحاول أن تقول لأمها: ما زلت تشككين بأهليتي وبقدرتي على الحياة وحيدة على الرغم من أني تجاوزت محناً كثيرة بمفردي، لقد كبرت ولكنني أفتقد البيت، أفتقد الحضن. غدا لي حياة خاصة لكنني تائهة في المنفى أتعثر بالحنين والذكريات كلما أوغلت في التقدم في حياتي، وهذا ما يفسر، ربما، النكوص الذي تعاني منه الشاعرة، إذ على الرغم من كل ما حققته، إلا أنها تريد العودة طفلة تخطئ وتُعاقب على خطئها. علاقة ملتبسة مع الأم، وهذا ما يبدو جلياً في نصّ "مبادلة":
هل قلتُ لكِ بأني كبرتُ يا أمي..
وإني صرتُ أعي وأفهم مثلكم؟
حسناً... لقد كنت مخطئة..
تعالي الآن... ادفعي عني كلّ هذا بكفّك
ثم اصفعيني به.. إن شئتِ...
***
تعالي ضعي عليّ مريول المدرسة ولن أعترض
مشطي لي شعري بفرق في منتصف فروة رأسي
ولن أبكي
هل قلت لكِ بأني متعبة فأطفئي الضوء وغادري
أنا أكذب
هل تبادلين...؟ برأسي وسادة ملونة؟
لم تكن الذكريات جميعها جميلة، فبعضها حفر أخاديد في روح الطفلة التي تأبى أن تكبر، ذكريات عن القمع الذي تواجهه الطفلة وإهمال الآباء لرغباتها الصغيرة، تلك الرغبات التي تتحول بمرور الأيام إلى غصات كلما طفت على سطح الذاكرة، ولا تني تنزّ كلما حاولت النجاة منها كما في نص "جيوب صغيرة":
تعرفين...؟
منذ أهمل والداي إصبع يدي الصغيرة، وتعلّق عينيّ بالأشياء
منذ تجاوزا بسيقانهما الطويلة قامة رغباتي الصغيرة
صرتُ نكاية بهما
كلما أوقفاني أمام فاترينة ملونة مضيئة
كآلهة توشك أن تهبَ
نظرتُ نحو قدميَّ
ضممتُ كتفيّ إلى رأسي حتى يلامسا خدّي
ثم وضعتُ يديّ في جيبي
وصمتُّ…
هذا الصمت الذي يتحول فيما بعد إلى غضب لا تستطيع تفريغه وندوب لا يمكن الشفاء منها.
أما في نصّ "عيد ميلاد" فتتحدث رنوة العمصي عن المنفى الداخلي الذي تحمله، أو بمعنى آخر الاغتراب، فهي تختلف عن أقرانها من النساء، وتختار أن تكون بعيدة عن صور النساء النمطية. ليس لديها أوهام الإنجاز، لا تسرع في طريقها نحو المستقبل، ولا تتقبل فكرة مرور الوقت عليها، فما زالت تحمل بداخلها طفلة وتريد الاستمتاع بتلك الطفولة التي يبدو أنها حُرمت من تحقيق رغبات كثيرة فيها، وعلى الرغم مما توحي به القصيدة من رفض للتقدم في السن، إلا أنها تعاود النكوص ثانية وتعترف بأنها كبرت ولا مجال للمواربة في ذلك:
صار عمري ثلاثين
وأنا خارج الزمن بإرادتي
أبطئ حتى تصير تدفعني أكتاف المستعجلين
أنسى المواعيد وأحفل بنسيانها
أتأخر وأزهو بتأخيري
أضع سوء علاقتي بالوقت شرطاً لحسن علاقتي بأحدهم
عليه أن يقبل به...
....
أراوغ الكون بحيلي الصغيرة
وأتوسّله لو ينخدع كما أحبّ
ورغم هذا...
صار عمري ثلاثين.
يبدو أنه ثمة التباس بعلاقة الشاعرة بالتقدم في السن وبالأم والعائلة والوطن في هذه النصوص، فكلما أرادت الهروب من هذه العلائق الشائكة، كلما عادت إليها بقوة.
يقول ييتس: "ينبغي أن يكون شعر الشاعر مباشراً وطبيعياً مثل كلام محكي". وإذ يبدو أن قصائد رنوة عن الحب واضحة ومباشرة مع أنها تنزع في قصائدها عن الحب إلى الاشتغال في منطقة محظورة في الأدب العربي. إذ أن المُخاطَب في قصائد رنوة هو "أنثى". اعتدنا في النصوص العربية أن نتقبل أن يكون المخاطَب ذكراً سواء كان الشاعر ذكراً أو أنثى، ولم يستهجن أحد منا أن يقول شاعر في نصوصه "يا حبيبي". تدمج رنوة النفس الأنثوي في نسيج اللغة الشعرية، ويتنوع في بعض النصوص بخفوته وخوفه وتردداته، وتطلق العنان لخيال القارئ في تلمس هذه العلاقة الشائكة التي لا تختلف لغوياً إلا بجنس المحبوب المخاطَب، لكنها في العمق تصفع القارئ بحقيقة قد لا يتقبلها ويستنكرها، لكن ذلك لن يخفف من شعريتها أو معاناتها في الحب، وهذا ما تعبّر عنه في نصيّ "من تلقاء نفسها"، و "دوار بحر":
وليس عليكِ
غير أن تتنفسي الهواء...
لتحدثَ كل الأشياء الجميلة
من تلقاء نفسها...
***
كأن تضحكي...
فيجد مئة إنسان عداي
ألف سبب للعيش
أو أن تدمع عيناكِ
فأجد أنا ألف أحجية
وحكاية
وحيلة
أمسح بها حزن قلبك.
هكذا يبدو تأنيث الحبيب واضحاً، وكما أوردتُ في فقرة سابقة عن تغير الحياة بوجود وسائط التواصل الاجتماعي، فالحب نفسه اختلف وطرائق التواصل اختلفت وليس على المحب أن يشحذ خياله في رسم صورة المحبوب في عالم الصوت والصورة، ولكن معاناة الفراق والهجر ولوعة الحب لم تتغير بسهولة التواصل بل بقيت على حالها متقدة كما في نصيّ "أبدد روحي في الأثير" و "صولو".
بعض نصوص رنوة ذكرتني بنصوص الشاعرة اليونانية سافو التي عاشت قبل الميلاد:
كانت واقفة بجوار سريري
بصندليها الذهبيين
والفجر في ذات
اللحظة أيقظني.
***
أسائل نفسي
ماذا. يا سافو، بمقدورك
أن تمنحي لمن تمتلك كل شيء
كأفروديت؟
إنها نصوص تروم الانعتاق من قيود الخوف وتمدّ جسوراً بين المرأة وذاتها وجسدها، كما في نص "تفاصيل صغيرة"، وثمة رثاء للذات تحديداً، وشعور بالعزلة والوحدة من دون المحبوب وخوف من الهجر في نص "مشهد فراق"، يذكرني بنص سافو الجميل عن الوحدة:
الليلة راقت
القمر والثريا يتساقطان
مضى الآن نصف الليل
الشباب يمضي
وأنا في الفراش وحدي.
نصوص رنوة العمصي ليست مرتبة وفق تسلسل موضوعي الكتاب. كان من الأفضل لو أنها اختارت تجميع نصوص المهجر/ المنفى ثم رتبت بعدها نصوصها عن الحب، إلا أن القارئ سوف يلمس الخيط الخفي الذي يربط النصوص ببعضها، فهي في نصوصها تركل الرحم الآمن وتحاول الخروج من مائه الدافئ، لكنها تعود إليه مثل كرة بينغ بونغ تدفعها بقوة بعيداً عنك فترتد في كل مرة لتحفر داخلك حفرة عميقة لا تستطيع الفكاك منها.
وسوف يسمع القارئ هذيان الكاتبة الداخلي ويفهم رؤيتها الأنثوية للعالم بما تنغلق عليه من إيحاء بالغموض والهشاشة وتحرير مفردات الجسد وتوق إلى الحياة لا ينضب خلف كل نكوص يعتور الشاعرة.