(المنفى هوة قسرية لا تنجسر بالكائن البشري وموطنه الأصلي، بين النفس ووطنها الحقيقي، ولا يمكن التغلب عن الحزن الناجم عن هذا الانقطاع، أياً كانت إنجازات المنفى فإنها خاضعة على الدوام لإحساس الفقد)، (إن الشعور بالهوية مجموعة من التيارات، التيارات الجارية، أكثر منها في مكان محدد، أو مجموعة ثوابت ، ومن المؤكد أن ذلك ينطبق على تجربتي) اقتباسات من أقوال ادوارد سعيد استهلت بها علوية صبح روايتها السادسة "افرح يا قلبي"، الصادرة عن دار الآداب لعام 2023 كعتبات نصية متتالية تومئ فيها إلى المعنى التي تتوخى إيصاله للقارئ، المعنى الذي يبدو لأول وهلة مفارقًا للعنوان الراقص "افرح يا قلبي" في تلاعب واضح لبلبلة ترقب القارئ في تلقي الموضوع واستنفار تشويقه لفهم هذا الالتباس، فالعنوان الذي يحيل لأغنية شهيرة لأم كلثوم "افرح يا قلبي لك نصيب تبلغ مناك ويا الحبيب، يا فرحة القلب الحزين لو صادف الخل الأمين" يخلق إيحاء بقصة حب ملونة ليكون استدراجًا منها للتوغل في ثنايا العمل وإيجاد الرابط ما بين تلك العتبات والنص.
الذات المتشظية والهوية المختلطة موضوع أثير لدى علوية صبح سبق أن رصدته في أغلب أعمالها كانعكاسات الذات تجاه ما يضطرم به المحيط الذي تعيش به والظروف التي تهيمن على واقعها من كوارث وحروب وقهر ومعاناة، إذ يتناوب السرد بين الراوي العليم وبين خطاب الشخصية المحورية "غسان" لتصور لنا مقدمات الاقتتال بين الأخوة والحرب الأهلية التي عصفت بالوطن عبر نماذج وشرائح عكستها مجتمعة في أسرة غسان، إذ رأينا العابث؛ واللاهي؛ والمتحول جنسيًا؛ والمتشدد دينيًا؛ والفنان الموسيقي؛ والمصور الغرافيتي؛ غزلتها كلها وقدمتها في توليفة من خلال أسرة تعج بالمتناقضات مجسدة الواقع بشكل عام بكل شرائحه.
لنترقب منذ البداية ونتساءل عما حدث بالبيت وما هي المأساة التي عصفت به، لنصل للصورة العامة في البلد، وللمشهد الذي يقتل فيه الأخ أخاه ويضيع في المجتمع أمانه واستقراره، لأن الجهل والقوة والسلاح تسيدوا مساحة المكان، الأمر الذي يقود إلى ردود أفعال متطرفة، فغسان الذي شهد مصرع أخيه "جمال"، المثال والقدوة على يد أخيه الآخر المتشدد "عفيف" العالق في العتمة، عتمة الأفكار الماضوية التي تريد فرض فهمها وتفكيرها وأسلوب حياتها على المجتمع بأسره بالقوة والسلاح تحت ستار الشرع بقناعات دينية ليس فيها باب للرحمة والمحبة، فالعلاقات الخالية من الحب تنعكس حالة عدوانية على الآخرين وهذا ما كان. مما جعله يكفر بكل معاني الانتماء للأسرة والوطن، ويسرع هاربًا من كل ما يذكره بما حصل، ولذا نراه يحاول في منفاه الاختياري أن يرفض كل ما له علاقة بهويته السابقة حتى الموسيقا التي ربي عليها وتنامى وعيه الفني على ألحانها، وكانت غرامه الأول رفضها كلية كي يبدأ في عالم جديد وشخصية مختلفة، ولكنها كانت قشرة صغيرة ما لبثت أن أعادته إلى النقيض، إلى التعصب للموسيقا والشخصية الشرقية وتداعى ذلك العالم الذي حسب أنه انتمى إليه بشكل مبهم، فالماضي والبيئة التي خرج منها تطل من لا وعيه، حتى تراه يتمثل بعض صفات أبيه التي رفضها، فالإنسان ابن بيئته مهما نأى عنها، ورغم اعتراضه على سلوك أبيه العنيف مع أمه، وعلى خنوع أمه واستسلامها، نراه يتقمص شخصية أبيه بعد موته بزواجه الثاني من امرأة ربيت على طاعة الزوج وتنفيذ رغباته، والغريب أنه مع رفضه لذلك الانصياع شعر بإعجاب ولذة خفيين في قرارة نفسه، وهكذا تصل بنا علوية صبح إلى عمق الشخصية في تحليل نوازعها وتبيان الأزمة الخانقة التي يحيا فيها البطل نتيجة تقلبه بين عالمين وازدواجية التناقض بين الموروث التقليدي والقناعات الحداثية المكتسبة.
يغتني النص بلغة الحواس التي يحملها لشخوصه الأثيرة، فكل منها يلتقط مفردات الوجود وفق ملكة أو ميل يخلق معه، فواحد مال للصوت وآخر للصورة وكل اشتغل على تطوير ذاته تجاه الموهبة التي أحب، فغسان تلمس ميوله الفنية واستمد طاقته الموسيقية من جده العاشق لترانيم الألحان في تعبيراته التي يحس فيها بالموسيقى والأصوات إذ يحس بأن تكرار المقطع الموسيقي لمدة ساعتين يبدو وكأنه ذبذبة الأبدية وأن الصوت آخر ما يذهب من المرء عند لحظة الموت، ورغم ما مر به بقيت الموسيقى هي الهوية التي يتصالح فيها مع العالم. ومن إحساسه برهافة الصوت انتقل الى صوت أبيه الغاضب ليصور وحشيته الذكورية وصياحه الغاضب، ذلك الصياح الذي لم يألفه يوماً.
ولأن الفن لا يمكن أن يكون حيادياً أو بلا معنى فأخوه "طارق" المصور الفنان الذي برع في التقاط أهم صور الأحداث الساخنة في بلده وفي دول الجوار فقد احتشدت ذاكرته التصويرية بكل ما في آلة الحرب الجهنمية من صور القتلى والأشلاء والدمار لدرجة أصابته بالاكتئاب القهري الذي أرخى ظلالاً قاتمة اللون على حياته، فلم تعد تعنيه الوفرة المالية التي يتيحها عمله مقابل خيالات الموت ومشاهد الرعب التي احتلت ذاكرته، وتساؤله حول حيرته البالغة في ماهية الصور هل تسلب الحياة من الشخص يا ترى؟ أم تمنحه حياة أخرى ووجوداً آخر؟
للمهمشين حضور لافت في الرواية، فهناك ضياع آخر تصوره صاحبة "اسمه الغرام" لأحد أفراد الأسرة وهو "سليم" الشخصية الملتبسة في هويتها الجندرية في مجتمع لا يستوعب أي ميول أو انتماء خارج أعرافه السائدة ولا يسمح بقبول المختلف عن نواميسه. هناك أيضاً تنويعات عدة لحضور المرأة في النص إذ تتوزع بين عالمين المرأة الشرقية المضطهدة والمستسلمة لواقعها والتي تعتبر الزواج حصنها المنيع مهما عانت من تجبر الزوج وقسوته، لأن الأمومة هي اليافطة التي يضحك بها المجتمع على المرأة ومن خلالها تسحق أنوثتها وإنسانيتها معاً، ليكون النموذج الآخر "كريستين" المرأة الأميركية الواعية لذاتها والمستقلة والتي يخشى فقدانها، وشعوره الدائم بالدونية أمامها الأمر الذي يعكس علاقته بالمكان كذلك، وفي نموذج صديقه هي أيضاً أمريكا التي رفضته بعدما أحبها وأراد أن يقتلها في كل علاقة جسدية تربطه مع امرأة أخرى فهو شهريار آخر، وهو ذاته الشرقي الذي يفرق بين الجنس والحب بين الاشتهاء للروح أم للجسد، وهو "مصطفى سعيد" بطل رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" في تناص مع رواية الطيب صالح التي أـرخت ظلالها على شخوص النص، حيث علاقة الفرد بالمرأة تعكس رؤيته للواقع والعلاقات والانتماء.
ورغم أن ضياع الهوية بين انتماءات سابقة وانتماءات حديثة جعلت البعض يحن لأيام الاستعمار التركي أو الفرنسي، هذا التشرذم بالانتماءات الناجم عن عدم ثبات القناعات الجديدة الطارئة على حياتهم، فإن إحساسه بالهوية المحلية أشبه بالقيد ولكنه قيد وجودي لاطمئنان الكائن لانتمائه إلى ثقافة ومجتمع محدد وجغرافيا وتاريخ، هي وهمه بحصانة القطيع في جو موبوء ومحتدم بالأخطار، هي أشبه بفخ وجودي وفق تعبير الكاتبة، فالهوية الضائعة بين انتماءات عدة تضيق تدريجياً وتكبر المسافات بين أبناء الوطن الواحد ليزداد اغترابه في كل مكان، في وطنه وفي المنفى معًا.