إذا وضعنا التعمق جانباً، بوسعنا القول إن ما نشهده وما شهدناه في سوريا منذ اندلاع الانتفاضة في آذار\مارس 2011 يتمحور حول ما أطلقتُ عليه في عام 2012 "الاقتصاد السياسي للألم"، وهو الطريقة التي يمنح فيها البعض الأولوية لمعارضة الاستبداد المحلي، بينما يُعطيها آخرون لمعارضة الإمبريالية، وما يُسببه كلاهما من معاناة. تُرجِم هذا إلى ورشات عمل مغلقة سنعمل على إحيائها قريباً. وفي معظم الحالات، لا يغيب عن أحد الطرفين إدراك وجهة نظر الآخر بالكامل، ولكن زاوية الآخر تتوارى في كثير من التحليلات أو التعليقات أو المواقف. وهذا أقرب ما يكون إلى تفسيرٍ للانقسام العميق الذي نعيشه، خاصة بالنسبة للأشخاص الذين يعيشون في سوريا. بالطبع، هناك زوايا واعتبارات أخرى لا تقل أهمية.
أما أولئك الذين يعارضون بشكل نشط، وليس فقط نظرياً أو تحليلياً، كلًا من القمع الداخلي والإمبريالية، فغالباً ما يُساء فهمهم من جميع الأطراف. وتختلف ردود الفعل بحسب الجزء الذي يطّلع عليه الآخرون من تعليقاتهم أو مواقفهم في لحظة معينة. لقد اتُّهِمتُ من كلا الجانبين بالتذبذب (لتخفيف التعبير هنا)، بسبب معارضتي الثابتة لكلّ من القمع الداخلي والتدخل الخارجي. ولا شك أن هذا الموقف قد يبدو متناقضاً، أو غير واقعي في اللحظات الحرجة، مما يجعلك تبدو ساذجاً، أو حتى انتهازياً، إذا كانت معارضتك لكليهما مجرد موقف فكري أو أخلاقي، لأنه قد يُعتبر تهرباً من المسؤولية. إذن، ما الذي ينبغي فعله؟ بماذا يجب أن نفكر؟ وما الذي يجب ألا نتجاهله؟ كيف نقيس الألم (الجماعي أو الفردي) عبر المكان والزمان؟ وكيف يمكننا صياغة موقف ثري متعدد الطبقات يُترجم إلى واقع عملي دون أن يبدو معادياً للإنسانية؟
لطالما وجدتُ إجابات غير مكتملة، لكنها تعكس قناعاتي الخاصة، قناعات تطورت من منظور سياسي-اقتصادي يستند إلى العدالة الاجتماعية القائمة على الطبقة. هذا المنظور يرى الجناة في دوائر متداخلة وهرمية: لا شك أن الطغاة المحليين وحشيون وقمعيون، ويتسببون في ألم لا يوصف عبر المكان والزمان. ورغم صحة هذا، إلا أن هناك جناة خارجيين أكبر يجب تحميلهم المسؤولية عن صناعة هذا الواقع المرير، وهو واقع يتجذر في المكان والزمان، وغالباً ما يكون تأثيرهم أوسع نطاقاً، بما يشمل مقاييس عالمية للقوة السياسية والاقتصادية، بدءاً من الرأسمالية العالمية والقوة المالية، وصولاً إلى الاستعمار ومفاهيم التفوق، سواء كانت عنصرية أم غير ذلك.
لقد عشتُ في سوريا وكنت أزور عائلتي سنوياً إلى أن مُنعت بعد عام 2011. أعرف جيداً كيف يرتجف الناس العاديون المحترمون، رجالاً ونساءً، (أو يتبولون في سراويلهم) عند زيارة فرع مخابرات أو تلقي اتصال من عنصر مخابرات. درستُ نظام السجن السوري المروع مع سجناء سياسيين كانوا أكثر ميلاً للمقاومة ومعارضة الإمبريالية من النظام نفسه. لا أقلل من حجم هذا الألم. إنه يُدمّرني. لكنني أيضًا أرى هذه الأنظمة الدكتاتورية ضمن سياق عالمي يشمل الاستعمار والاستعباد وسرقة الأراضي والموارد، وتواطؤ الطبقات الحاكمة (في الأطراف)، والحروب والغزوات والإبادة الجماعية التي تدمّر شعوباً بأكملها (فلسطين، العراق، أفغانستان، سوريا، اليمن، السودان، الصومال، وليبيا - في المنطقة وحدها) وتعيدهم عقوداً أو قرونًا إلى الوراء لتحقيق أو توسيع الهيمنة السياسية والاقتصادية العالمية. لذلك، رغم احتقاري العميق للدكتاتورية على المستوى الإنساني، لا يمكنني أن أغفل التأثير البنيوي، المباشر وغير المباشر، للقوى الإمبريالية والاستعمارية الأكبر التي تُشكل هذا الواقع.
من هذا المنطلق، أشعر بسعادة غامرة لإطلاق سراح سجناء الرأي الذين عانوا من التعذيب لسنوات وعقود، ولكل من عانى بشدة في سوريا، بمن فيهم الأصدقاء والعائلة. ومع ذلك، وبعيداً عن هذه اللحظات، أظل أكثر حذراً من تزايد نفوذ القوى الإمبريالية وحلفائها المحليين، الذين يُقوضون أي إمكانية لتقرير المصير، خصوصاً مع التدهور الواضح للمقاومة ضد الهيمنة الأمريكية وأعوانها في المنطقة. لقد تدخلت الولايات المتحدة، وإسرائيل، والأنظمة الملكية العربية المحافظة، وتركيا في سوريا بشكل قذر، وأضعفت قدرة الشعوب على تقرير مصيرها لسنوات قادمة. وكانت سوريا آخر محطة في سلسلة هذه التدخلات. احفظوا هذه الكلمات. ويجب أن أشير إلى أن إيران وسوريا وحزب الله ليسوا بلا أخطاء في هذه المعادلة.
ورغم امتياز إمكانية التعبير عن رأيي من بعيد، فعلينا جميعاً، وغالباً ما نفعل، أن نجد توازناً ما. ورغم أنني ألفتُ كتباً ومقالات على مدى أكثر من عقدين عن القمع الوحشي للنظام والتدمير النيوليبرالي لسوريا والسوريين، إلا أنني لا أجد حرجاً في إعطاء الأولوية لمعارضة الجناة الأكبر، بينما أستشرف مستقبل سوريا والمنطقة وما بعدها، في ظل إبادة جماعية تُنفذها نفس القوى التي استفادت أكثر اليوم. لا يمكننا إلا أن ننتظر ونرى، ولكن علينا أن نتابع مسار رأس المال.
[سلسلة تغريدات كتبت على منصة X. ترجمة أسامة إسبر].