ما قبل النص.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"ممكن أبوس رجلك. أكون خدامك. كلبك. عبدك؟"، هذه الرسائل التي تأتي إلى صديقتي. "اضحك ولا أهتم"، هكذا تخبرني عن ردّة فعلها. لكنها ليست مثل بسمة، فلا تستغلّها. من بسمة؟ هي امرأة مصرية ثلاثينية حدّثتها منذ بضعة سنوات، حول كواليس عملها في الجنس، لا على أي نمط جنسي متعارف عليه، بل كساديةٍ تهاتف مازوخيّيها، بل وتقابل البعض منهم في شقّتها. تواصلت مع بسمة، رفقة كثيرات غيرها، خلال عملي على مقال صحفي حول الجنس التجاري. وقد شرحتْ لي، غير مرة، كواليس كلّ ما مرّت به. وبعدما جمعتنا الصداقة، أخبرتني عن حياتها وما أوصلها ماديا ونفسيا إلى مكانتها التي عليها، كعاملة جنس. دوّنت ما قالته لي في نص روائي نشرته بعنوان "التابع وسُليمان". لكنني، أقتبس منه فيما هو قادم ما يلائمه أو يزيده من فلسفةٍ وترابط.
تنشر العديد من النساء رسائل الخضوع التي يستقبلنها من حين لآخر، حين يتفاجأن من رجال يطلبون هذا. ربما يضحكن بعدها، وإن نشرنها للعامة، يضحك الناس، ويفوت الأمر. لكن مثل هذه الرسالة وأخواتها، تتعدى طابعها الفيتيشي الجنسي الذاتي القريب إلى ما هو أبعد من ذلك. فهي خليط من النفس والاجتماع والسياسة واللاهوت. هنا، عن نفسي، لا أعتبر ما سأكتبه تأملا في كل تجربة نفسية فرادنيّة، تخص الذوات الجنسية على النمط السادومازوخي، سواء تناولت المازوخي/ة أو السادي/ة، رغم رئيسيّة الطابع الذاتي في الظاهرة، فكل ذات تختلف وتتعقّد عن أختها، من حيث البناء الذاتي/ الاجتماعي للجندرة. لكنني أحاول التفكّر في الحالة الجماعية لهذه الظاهرة في عالمنا العربي، فيما يخص التشابكات العميقة، في الوجود والغياب، بين تقاطعات ثلاثيّ الجنس والسياسة واللاهوت.
السياسات الجنسانيّة للجسد
ثمّة شواهد تاريخية كثيرة تدل على استخدام القضيب كرمزية سياسية للمُنتصر في الحروب مع الأسرى، السوفييت والصرب مع الألمانيات والبوسنيّات مَثلا. والتحقيقات مع السجناء في سوريا والعراق ومصر مثالا آخر. إذ يعمل القضيب على انتهاك واغتصاب الجسد الآخر، كي يقول له، أنا المُنتصر، أو حتى في حال لم يتم تفعيل قضيب المُنتصر، يُعَطّل قضيب الآخر، المهزوم. يتعذّب القضيب، بالضرب والحرق والكهرباء حدَّ إخصائِه. وكأن القوي، من موقع آخر، يقول، لم أفّعل قضيبي تجاه جسدك، لكنني عطَّلتُ قضيبك.
سينمائيًا، في فيلم "ليلة سقوط بغداد" (2005)، جُسِّدت هذه الرمزية في غير مشهد، فحين كان يخسر طارق (أحمد عيد) رهانه مع المخابرات الأمريكية حول اختراع سلاح ردع لطائراتِهم الحربية، كان يذهب إلى المرحاض، ويَضع صورة الجندي الأمريكي "جاك"، ويجلس أمامه، كأنَّ جاك يُضاجعه. فالمُنتصر، بعد الجولة، هو الذي امتلك حق المُضاجعة. هنا، الهزيمة النفسية/السياسية لا تخص أجسادا جنسية فردانية، بل امتدت إلى أن كوّنت ظاهرة شبه جماعية، إذ إن العجز الجنسي عند طارق، لم يكن يخصّه وحده، بل عجز "عروبي"، طال رجال الحارة كلّها. مع تجسيد آخر، في فيلم "النوم في العسل" (1996)، انتقل تعطيل القضيب إلى الظاهرة الجماعية لفئة ما، إذ أصبح سُكان القاهرة، بسبب ما يعيشونه من قهر وإحباط سياسي/اجتماعي/نفسي عاجزين جنسيا، نتاجا لوجود سلطة كاذبة ومُستبدة تحكمهم تسببت في خلق بناء اجتماعي مفرغ من السياسة، أي غيّبت وعطّلتْ مشاركة الناس في صنع السياسة، وساهمتْ في انفصالهم التام عن السُلطة، ما أدى إلى غيابهم جنسيّا. أي، أنت غائب في صناعة السياسة، غائب في صناعة الجنس. فستصبّح السياسة كأنّها "الجسد"، إن لم تستطع اقتحامها، ستُخضعك لها.
هنا، ليس ضروريا أن تحوّل العَطَلة صاحبها إلى مازوخي نفسي أمام الآخر، بل ربما تحوّله إلى ساديّ يضرب ويعذب ويقتل هذا الآخر، كما حدث في الفيلم، فقد كثرت حوادث قتل الأزواج لزوجاتهم، لأن وجود الآخر، المتمثَّل في جسد المرأة، تسبّب في تبيان عجزه. ولأن المقهور سياسيا، ذاب، كما يراه مصطفى حجازي "في عالم المُتسلط"، من خلال تقرّبه من "أسلوبه الحياتي، وتبنى قيمه ومثله العليا، وهو يرى من خلال هذا التقرب والتبني، حلّا لمأزقه الوجودي، وارتقاء لكيانه إلى مرتبة تُرضيه، وتبث في نفسه الكبرياء"[1]. تحوّل هنا "جسد" المرأة إلى رمز متكامل للسُلطة السياسية، التي لا يستطيع الرجل العاجز، سياسيًا، التأثير فيها أو قتلها (خلعِها من الحكم)، فيقتل من يمثّلها في علاقة أُخرى، يتداخل فيها الجنسي بالسياسي، بسردية لا واعية، أي غير مباشرة.
أما في الأدب، خاصة العربي الحديث، صُوّرت الشخصيات، وهيى قليلة جدًا، التي تُحب أن تتَمازخ جنسيّا مع الآخر، السادي، كأنَّها ذوات مقموعة، تعيش تحت قمع سياسي واجتماعي. تُعتبر رواية "إيثاكا" للكاتب المصري رؤوف مُسعد مثالا ليس ببعيد حول تقاطع ذاتيات السياسة والجنس معًا، إذ قال: "إن قسماً من العمل من كل عمل كتبته فيه سيرة ذاتية. أي قسم؟ هذا غير مهم للقراء أو حتى لي شخصياً". مُنعت الرواية بسبب موضوعها "التابوهي" في العالم العربي، وبعد أن اكتسب كاتبها صيت المازوخية من جرّائها، فقال، ساخرا، في إحدى حواراته "أنا مهتم بالفتشية والسادومازوخية. قرأت الكثير فيهما، ولأني أعيش في الغرب، فهذه الأشياء متاحة بالنقود لمن يريد أن يشاهد فقط من دون ممارسة، أو للممارسة مع محترفين وفي النوادي والأمكنة المخصصة لذلك. أو بشكل شخصي مع شركاء وشريكاتٍ. وأنا لكي أريحك وأريح المتسائلين، قد مارست كل هذه الأشياء في كافة مجالاتها، ولا أشعر بحرج من التصريح بها". لذا، لم يكن لدى مسعد أي حرج في كتابة ذاتيّته (الروائية)، التي تعرّضت، وتحررت من القمع، عن الجنس بأنماطه المُحرَّمة، سُلطويّا، في المجتمعات العربية.
كما في نصّه الأدبي، وبشكل مُختلف، أعطى غسان كنفاني رمزيّة للقضيب ومدى فعّاليته لدى إحدى "رجاله في الشمس"، حيث أُصيب أبو الخيزران، حين كان فدائيًا، بقنبلةٍ في قضيبه، فأصبح بعد ذلك، لا فاقدا لفعّالية مواطنته فحسب، بل للفعالية الجنسية أيضًا، وبشكل مباشر، لا رمزيّ أو نفسانيّ. من وقتها، عاش أبو الخيزران، حائرا، في علاقته المعقّدة بين النفس (الذات) والجسد، كما يصفها الفرنسيّ ميشيل فوكو[2]، حيث أكمل حياته، متألّما، إذ عطّله الاستعمار عن وطنيّته ووجوديّته، إذ بات اقتحام أبو الخيزران للوطن مثل اقتحامه للجسد، معطّلًا. أما الروائي المصري صنع الله إبراهيم، وهو سجين الحقبة الناصرية، فقد أعطى الإخصاء رمزيّة تمتزج بين ثلاثي النفس والجنس والسياسة، إذ موضعه كنتاجٍ للقمع السياسي، في روايته "شرف"، حيث انتهى الحال ببطل الرواية (شرف)، المقموع سُلطويا، إلى الإخصاء الحياتي بما تشمله من جوانب متعددة.
وجود الطرف الآخر، السادي الجنسي، لا يعني أن ذاته قامعة غير مقموعة، بل على العكس، إذ عاشت النساء العربيات، حتى وهنَّ ساديّات، تحت بيئات نفسية واجتماعية وسياسية شديدة القمع، وهذا ما كوّن، أحيانا، دافعا أساسيًا في ولادة السادية الجنسية لديهنّ، إذ إن بسمة، والتي كانت تحكي عن معاناتها من استبداد والدها وأخيها الأكبر، اللذان سبّاها وضرباها، فكانت تقول وتُكرر: "كس أم الرجالة، انتصاري عليهم، إما بشوفهم خاضعين وخدامين عندي، و(قُضبانهم) الواقفة دي لازم أكسرها". يتماهى ما كانت تقوله، بمضمونه النفسي، مع ما كتبه الشاعر السوري ممدوح عدوان، أن "هناك مقولة تكرر الأيام إثبات صحتها، وهي أن مجتمعات القمع، القامعة والمقموعة، تولِّد في نفس كل فرد من أفرادها ديكتاتورًا، ومن ثم فإن كل فرد فيها، ومهمَّا شكا من الاضطهاد، يكون مهيًّأ سلفًا لأن يمارس هذا القمع ذاته الذي يشكو منه، وربما ما هو أقسى وأكثر عنفًا"[3]. هذا ما وُجد ويتجدد داخل المُجتمع المقهور، فلم يعد غريبا أن نطالع خبر مقتل رجل على يد زوجته خلال ممارستهما العلاقة الجنسية.
كانت سامية (رحاب الجمل)، مثل بسمة وغيرهنّ، والتي قامت بدور امرأة الحيّ الشعبي في فيلم بنت من دار السلام (2014)، وهي، حقيقةً، بنت بيئة القمع السياسي بما أنها تعيش في مصر، والاجتماعي لانتمائها إلى طبقة متوسطة أو أقل، مُكبّلة بقوانين الذكورة الأسرية والعرفية (المناطقية). لكنْ، حين هيّأ لها القدر أن تمارس السادية تجاه رجل ذي حفاظٍ ديني، رجل تقيّ تقليدي، كان هذا الرجل يكتب عقد طاعته، لا الدينيّة إلى إلهه ونصّه المُقدس، بل النفسية/الجنسية لها، أي جسدها الذي يتشوّقه ويرغب به، لولا المنع الديني. فكأنه، وهو ضعيف أمام جسدها، يردد في سرّه، ما قاله الشاعر اللبناني رشيد الخوري، "ولو لم يستجب فيما بعد مزاجي الناري إلى إغراء المرأة - وهي أقوى منافس لله في قلوب الأتقياء - لما كانت لي عنده خطيئة"[4]. بعدها، يتحيّر أياً منهما سيُطيع ويختار، أو بالأحرى يقتسم الطاعة بينهما في هذا السبَاق الرغبوي دنيويّا، وأخرويّا. هل يختار الجسد أم الإله؟ سؤال صعب. الإله الذي خلق أجسادا تشاركه وتنافسه، تاريخيا، مثل إيزيس وعشتار وأثينا وفينوس وغيرهنَّ، على أحقيّة العبادة. لذا، ربما أملى عليه، أي جسد المرأة، ألَّا يتعرّى، ويخبئ إغوائه، حتى لا يُشاركه أو يُعبَد، مِن دونه، حق العبادة.
أما في فيلم "درب الهوى" (1983)، المأخوذ عن نص روائي للكاتب المصري إسماعيل ولي الدين، كان التقاطع مختلفا، فإحدَى الشخصيات كان مسؤولا حكوميا، وهو عبد الحفيظ باشا، تميل ذاته إلى الإذلال والخضوع في الجنسَنة. ورغم عدم تعرّضه للقمع، على الأقل بشكل مباشر، لكنه لم يكن الذكر السُلطوي الأوحد، وكانت الحكومة المصرية تحت الاحتلال البريطاني، ما يعني أنّه مقموع، بدرجة ما. فالذكر السُلطوي (السياسي) الأعلى في مصر تمثَّل في المستعمِر، المندوب السامي البريطاني، حتى قبل الملك المصري، إذ كانت "قضيبيّته" السياسيّة هي الأكثر فعاليّةً. إذ يرى المستعمِر أن له السُلطة السياسية العليا، وأنه الذكر (القضيبيّ) الأقوى على كل ما هو ملوّن (مستعمَر).
كذلك، ترثُ المرأة البيضاء (رمزيًا) من الرجل الأبيض ماهيّة الإخصاء المباشر، وغير المباشر، في بضعة مشاهد تاريخية، منها حين تورّطت المجنّدات الأمريكيات في ممارسات التعذيب الجنسي تجاه الرجال العراقيين في سجن أبو غريب. انتقل هذا الواقع المؤسف إلى عالم المخيلة، حيث وقع (طارق) في "ليلة سقوط بغداد"، تحت سيطرة جسَد كونداليزا رايس، ليس بصفتها وزيرة خارجية للإمبريالية التي تُهدد وتُقرّر المصير السياسي للشعوب العربية، بل امرأة مُغوية تتحكم في شهواتهم (حرياتهم)، ولو بشكلٍ رمزي، ولحظي. هنا، تأتي ممارسة المازوخية الجنسية تجاه جسدٍ سياسي إمبريالي، كامتزاجٍ لكلٍ من الانهزام السياسي والجنسي تجاه جسدٍ واحد، أميركا وجسدها الأنثوي (الإمبريالي الجنسي) متمثّلا في كونداليزا رايس قديما أو حتى إيفانكا ترامب، الجسد المثالي بمعايير السوق النيوليبرالية، والسياسي الاستعماري، التي ذهبت لافتتاح السفارة الأمريكية في القدس، قبل أن تذهب إلى المغرب، وتُقبَّل يديها من قبل امرأة مغربية، فضلا عن جولاتها المُتعالية تجاه حكّام (رجال) عرب آخرين. والآن في لبنان، والحديث عن مدى هيمنة الجسد الاستشراقي متمثلا في نائبة المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط، مورغان أورتاغوس، التي جاءت، بقوامها، ووقاحتها معًا، كي تعبر عن مدى شُكرها إسرائيل حيال هزيمة حزب الله.
هنا، تُفهم ممارسة "السادية" كأنها استشراق جنسي، بامتياز، - جنساني سياسي عربي أصيل، لا جنساني شرقي مستورد بقوّة الخطاب، من الغرب، كما يراه جوزيف مسعد في حديثه المُطوّل عن "اشتهاء العرب" - والعكس تماما، يمكننا طرحه دون تسميات مباشرة بين من هو المستعمِر والمستعمَر، إذ إن ممارسة جنس ساديّ بواسطة مستعمَر تجاه مستعمِر (استشراق جنسي مَعكوس)، يمكّنه من التعالي السياسي، لا الجنسي وحده. عنف فانونيّ[5] مجرّد، و"مُطلق"، يُعيد من خلاله للذات المهدورة من قبل المستعمِر، وإن كان في شكل جنساني، حقّ وجودها الإنساني الكامل. أو بشكل كوميدي مصري، كما قال الضابط (هشام سليم) في فيلم "الأولة في الغرام"، حين كان يُحقق مع مواطن مصري (هاني سلامة) بعد القبض عليه وهو يمارس الجنس مع مواطنة أمريكية، تحت ظلال الأهرامات، فضحك معه بافتخار أنه جعل، لأوّل مرة، عبر ممارسته الجنسية "مصر فوق وأمريكا تحت". هكذا ضاحكه. لكنه، صُدِمَ حين أجابه أمين الشرطة الذي قبض عليه، فأخبره أن المواطنة الأمريكية هي التي كانت تعتليه. فردَّ الضابط "هي أمريكا حتى في الحاجة دي فوق".
السياسي كإله وحيد
في بعض السُلطويات القمعية، يُقدِّس الحاكم ذاته، ويُقدِّسُه الآخر، حتى يصل إلى درجة من النبوة والتألّه، ومن خلال خلطه مخيّلات السياسة بالجنس، يكون الحاكم "الذكر الوحيد المعترف به دون كل الناس، حيث يرفض هذا الأخير بدوره أنْ يكون هناك ذكور غيره في مخدع السلطة الخاص والعام". اتّخذ حُكم بشار الأسد الساقط والهارب من سوريا صورة إلهية فظيعة، عبر التعامل الوحشي مع المعارضين والثوار في مقرّات التحقيقات والاحتجاز، وحتى في الفضاءات العامة، إذ كان يُجبرُ الناس على السجود لصورة الأسد أو حتى النطق بألوهيّته بمقولات مثل "لا إله إلّا بشار". هذا فضلا عن الممارسات التعذيبية التي تبدأ بـالتحقيق وتصل إلى الإبادة (دفن الناس أحياء بحدِّ ذاته، هي ممارسة تعذيبية إلهية، لأن الجسد طالما بقيّ حيًّا لا يُدفن)، فوصلت سياسات التوحش إلى حد النيكرونية (Necropolitics)، حسب وصف الكاتب الكاميروني أشيل مبيمبي، أي التحكم في كيفيّة إحياء وإماتة الجسد. لم تخلُ غالبية هذه الممارسات من طابع جنسي إذلالي، وإباديّ، بتعذيب قُضبان الرجال وإخصائها، وكأن الخصاء، كما يصفه أستاذ الفلسفة المصري سامي عبد العال، في مقاله حول السياسة والجنس، هو "عمل سياسي بالمقام الأول لا بيولوجي ولا غيره". فالحاكم يسلب قدرات الذكور، في إشارةٍ إلى "أنَّ كل من يقترب نحو دائرة التأثير سيكون مصيره فقدان ذكورته". بالإضافة إلى اغتصاب النساء، بكثرة وعنفٍ، بفحولة قُضبان رجال السُلطة، وهى قُضبان صغيرة في رمزيّتها، لكنّها تعزز قضيب السُلطة السياسي الأكبر، الأسد.
أدّى الاستبداد السياسي، وغياب الإله الذي انتظِرَ منه أن ينقذ أجساد عبيده، بما أنه خلقها وله حق امتلاكها، وفقا لما يعتقده البعض، وكما يُملي في نصوصه اللاهوتية، إلى ترك المجال للمالك الجديد لها، اللاهوت السياسي. لكن ما وجده الإنسان أنّ الثاني تركها إلى الأول، يعبث بها ويعاقبها، يقطّعها، يُحييها ويميتها، وهي وظيفة الثاني الذي انتزعها منه الأول، فيجد الثالث، أي الإنسان، ألا مفر له من الخضوع، بعد أن أصبح مازوخيًا، كافرًا بكل سُلطة وأي قيمة، يسعى إلى استبدال الحاكم السياسي والإله، بعد أن فقدا قيمة وجودهما الحقيقية في مخياله، واستحضار إيمان آخر، تعبد آخر، حتى إن لم يكن كاملاً في وجوديّته، لأن جسد المرأة، جماله وغوايته، يكبر ويفنى، لكنه يتجدد عبر أُخرى، مثل السياسي. حينذاك، يحلّ الجسد كإلهٍ أخير، والإله كجسدٍ مجرّد. لكن الفرق هنا، أن العبادة طوعيّة، اختارها العبد بكامل إرادته، بل ووثَّق قانونا جديدًا لها.
يتحوّل مالك الجسد الجديد في أوقاتٍ ليصبح ديمقراطيا اشتراكيا، ويسطّر قانون علاقته مع خاضِعه الذي سيحكُمه. مثلا، تقول بسمة كأي حاكم مستبد يتظاهر ب مدى ديمقراطيته، إنها تسأل حين تلقّيها المال من خاضِعيها تحديداً: "وقتها، أسألهم. ماذا يريدون أن يُفعل بهم، ونتفق على كل شيء. مسبّات مُحددة، طرق تعذيب مُحددة. وفي الآخر، لهم حق الموافقة أو الرفض". لكن في حالة عدم دفع الأموال، يُنتزع منهم حق الاعتراض، وتفعل بهم ما يشتهي كيفها. في هذه الحالة، تكون العبودية خاصة جدًا، لا تمثل الفضاءات العامة، التي حُرم منها، وقُمِع فيها. وهى أيضا عبودية طوعية غير إجبارية، كما يصفها دولوز في حواره مع فوكو، أنه، أي المازوخي، "يعمل على إعادة توجيه القانون بشكل فريد. إنه يضع العقوبة أولاً، ويتصرف بعد ذلك كما لو أن القانون يسمح له أو حتى يطلب منه تجربة الملذات المحرمة"[6]. هنا، يختار "السوري"، أو أي مهدورٍ آخر، قانونه الخاص الذي يلزم به نفسه بما لا يلزم، كما حدث في تجاربه السياسية واللاهوتيّة التي مُحيت من وجدانه بسبب القمع والغياب، ولم يتبق له، في مخيّلته، سوى قانون عبوديّة واحد، يراه في جسد مثير مرغوب، وممنوع، يمتلك الغواية والسرّ، ومن خلالهما، يتحكّم ويتألّه على جسد، يحب أن يكون مفارقاً لذاته، معجسدآخر "هو الشحم الدسم للممارسةِ السياسة"، وأحيانا اللاهوتية. من هنا، يُطيعه كما يطيع أحكام السياسة، ويعبده كما يعبد الإله، لكن ما يمتاز به، أنه سهل المنال، يمكن الوصول إليه بالأموال أو التراضي أو الحب أو غير ذلك من الاتفاقات التي تحدّد شكل ونوعية العلاقة.
الجسد كنصٍ مُقدّس
من المُلاحظ في العلاقة الجنسية، والوجودية في جنسنَتها، عقد نصٍ موثَّق بين طرفيّها. تمثَّل هذا في النص الشهير الذي جمع زاخر مازوخ وحبيبته فاندا، الذي عرض عليها بكل طواعية، بل وترجَّاها بكل ما امتلك من لسانيات وسيمائيات، أن تكون ربّته، لمدة زمنية مُحددة. وافقت فاندا، وطلبت منه تنفيذ كل البنود المكتوبة في عقد عبوديته لها، الذي ورد في روايته فينوس في الفراء. سمّى نفسه في الرواية (سيفرين)، وسمّى فاندا (فينوس) ربَّته، وربّة الجمال، التي كتبتْ له في عقد العبودية، فلسفة حياته الجديدة التي تنصُّ على، كما قالتْ "أن تتخلّى كليّاً عن ذاتك، لا إرادة لك إلاّ إرادتي. أنت بين يديّ أداة عمياء تنصاع لأوامري دون نقاش. وفي حال نسيت أنّك عبدي ولم تخضع لي كلياً فتأكّد أنني أمتلك حقّ مُعاقبتك وتأديبك مثلما أشتهي وأريد، دون أن تتجرّأ على التذمّر.كلّ ما أمنحك إيّاه من لحظات سعيدة هي منة مني تحمدني من أجلها وتشكرني. ولستُ مُطالبة بأيّ واجبات تجاهك. لن تكون ولداً ولا أخاً ولا صديقاً، أنت مُجرّد عبد يتمرّغ في التراب".
عند التأمّل في هذا العقد يمكننا اعتباره امتدادًا للعقد الاجتماعي المتعارف عليه، بين المواطنين والدولة، أي الدستور، الذي يُكتب بالاتفاق ويصوّت عليه الشعب، أو نواب في البرلمان أو غير ذلك من طرق توافقية، أو حتى غير توافقية. هنا، أصبحت الرمزية مجرّدة من حيث وجود النص ذاته. لم يعد النص امتدادًا للدستور السياسي فحسب، بل شمل الدستور الديني أيضًا. الكتاب المقدّس، الذي يعد عقدا إجباريا لا توافقيا بين الإله وعباده، من مختلف الديانات، النص الذي يجب على العباد تنفيذه دون نقاشٍ نقدي، إن ارتضوه. هنا مازوخ، جعل من نفسه نبيا آخر، لا يتبع نصّا لاهوتيًّا قديما أو حديث العهد، بل اختار، بطواعيّته، ووحيه الجنساني الخاص في فلسفته، أن يعبد امرأة، نصّها المقدس هو جسدها، الذي تعدُّ كل تفصيلة فيه، معجزة، قانونا، وحيًّا، آية، وغاية تعبّدية في حد ذاتها. الشَعر، الوجه، العينان، النهدان، الردفان، الساقان، الأقدام. كل لحم وعظم واسم.
أصبح جسد الرجل مِلكًا ليس للمرأة بوصفها امرأة، بل بوصفها جسدًا. أصبح الجسد عبدًا للجسد. وبسمة كما كانت تتذكّر، عن إحدى خاضعيها، "المتعلّم وابن الناس"، حسب وصفها، أنه "كان يركع عاريا أمامي، ويضع رأسه على الأرض، ويطلب مني وضع قدمي عليها، كأنه يسجد لي، وهو يردد أنّه يعبدني". هنا، أصبح خاضعُها عبدها، رغما عنها، فلم تكن تستلذ، لأنها تخاف مشاركة الإله تعبّده، "فكنت، "أرفض، أمنعه، أسبَّه، وأضربه. حرام"، توضّح. لكنه كان يستلذ السجود لها. ولم يكن يتمزّج، بأي ممارسات للخضوع، دون أن تصل إلى درجات تعبّديّة، يضع من خلالها، في مخياله وممارسته، بسمة، وجسدها الفاتن، مكان الإله. هذا الإله الذي لم يعد ملموسًا لديه، واقعيًا، والذي ربما، في لاوعيه، أحب مُكايدته، والتمرّد عليه، لأنه غائب عن وجوده، وإدراكه، في حياةٍ باتت فارغة من السياسة والقيم، وتقدّس الاستهلاك والأجساد المعروضة.
بالتوازري، ومع انتقال العقد (النص) من السياسي واللاهوتي إلى الجنسي، تصاحب ذلك مع انتقال الجسد إلى وطأة العقد الجنسي. لو استطاع الجسد الإفلات من امتلاك السُلطة السياسية والدينية له، أي اختبأ من القمع والتعذيب والسجن والإخفاء والإخضاع، وحتى الإبادة، كما حدث مع الجسد السوري، ومع السُلطة اللاهوتيّة، التي هي أيضا، من خلال دستورها النصّي، تمتلك حق الجسد، إحيائه وقتله، تمثّله وتمَظهره، بل وتُملي عليه سيمائيات دينية واجتماعية مُحددة في الفضاءات العامة، والخاصة، والحميمية (الجنسية) حتى، وبعد هذا الانفلات من السياسي واللاهوتي، فإنه يقع عبدًا للعقد الجنسي، للإله الجديد المتمثل في جسد المرأة، بما يرمز من جمال وقوة، وربما استبدادٍ أيضا، يُشبه الاستبدادين السابقين. إذ إن ما تُفضي إليه ثلاثيات الاستعباد في النهاية، هو التعرية، بمعناها الروحي والماديّ، تعرية الجسد تمامًا. السياسي يعرّي يوم السجن (عند التعذيب)، الإله يعرّي يوم القيامة (عند الحساب)، المرأة تعرّي يوم الجنس (عند العلاقة).
حتى تمثلات وصور الامتلاك، التعذيبية، فلا اختلاف فيها بين الثلاثي على نحو كبير. مثلا، تقول فينوس (فاندا): "مثلما جسدُك ينتمي لي، روحك أيضا ملكي. حتّى وإن تألمّت كثيرا يجب أن تُخضع كلّ مشاعرك وأحاسيسك لي. أمتلك حقّ ممارسة كلّ أشكال الفظاعة والوحشيّة على جسدك، وحتّى لو شوّهتك، تحمّل ذلك دون شكوى. ستعمل من أجلي، كعبد، وستقبّل الأرجل التي تدوسك". يتضح هذا حين ترى أن العبد الجديد وهبَ جسده لربّته، فتأمُره بـسيمائيات مُحددة، فَيفعل. يكتب ويرسم على جسده، ما تشاء ربّته من كلمات وأشكال، كما كانت تحكي وتتفاخر، بسمة، فقد كانت، وربما ما زالت، تأمر خاضعها بكتابة اسمها، وأي تبجّيلات لها أو مسبّات له، على جسده، فَيطيع ويفعل. هذه الكتابة التي تصل حد الوشم، في رمزيّة شبه كاملة، تعني انتقال الجسد من ملكية إلى أخرى، من اللاهوت الديني ومثيله السياسي إلى ثالثهما الجمالي (الجنسي). ورمزية أُخرى، بالنسبة للعبد، تعني أنه وهب جسده، أغلى ما يملك بمعناه الوجوديّ، إلى مالكه الجديد.
يكمن الفرق هنا في أن الملكية طوعية، يذهب العبد بكامل إرادته كي ينالها، لكنّه للمفارقة التي لا يجب إهمالها، في حالات كثيرة، يشترطُ الحب. إذ قبل أن يوقع مازوخ (سيفرين) عقد عبوديّته، حدَّث فاندا (فينوس)، كعادته، متوسّلا لها، فطلب "ألّا تنفصلي تماما عنّي، وألَّا تجعليني أبدا تحت رحمة أحد من معجبيك"، هكذا قال[7].وبمقولته، حرص سيفرين على الحب الموصول بينهما، فلم يرتضِ الألم المجرّد من الحب، كما حدث له مع السياسي والديني. دفاعا عن المازوخيّة، وجنونها، سيفرين يعترض يتمرد، ويطلب مقابل خضوعه، الحب وعدم الفقد، لأن أناه مصابة بـ"الميلانخوليا"، وبالخوف من التخلّي، ذلك التخلّي التي تشرّحه جوديث بتلر، فيبدو كأنّه «مرفوضًا، ولأنه مرفوض فقد استُدمِج. بهذا المعنى يقتضي رفضُ الفقد أن يصبح المرء ذاته الفقد. إذا لم تستطع الأنا قبول فَقْدِ الآخر، فإن الفقد الذي يمثله الآخر يصبح الفقد الذي يميز الأنا: تصبح الأنا محتاجة وفقيرة. إن الفقد المتكبَّد في العالم يصبح النقص المميّز في الأنا»[8]. هنا، كأن سيفرين بذاته "الوجوديّة في أجساد اُخرى" إلى الآن، تعلّم من الدرس، ولا يريد ألمًا دون حب، كما حدث له، ولغيره، إذ لم يختر "العبد" العقد بينه وبين إلهه السياسي والديني. يولد الإنسان، فيجد العقدين جاهزين، دون الحاجة إلى توقيعه حتى، بل يُؤمر، بكل قسوة، بالخضوع إلى ما تمليه النصوص، وإن امتنع أو تمرد عن التنفيذ، فالعقاب جاهز، دنيويّا وأخرويًا، بالتعذيبِ والسجن والقتل والخلود في النار.
الإعلان والتخلي والثورة
بمجرد البحث عما يسمّى بـظاهرة "الاستكلاب" (Human pups)، ستجد تقارير مكتوبة ومرئية، تُريكَ أن هناك امرأة تجرّ كلبًا بشريًا، أي إنسانا يمشي على يديه وقدميه، تماما مثل الكلب. ستجده إما يرتدي ملابس بشرية عاديّة أو حتى يرتدي لباسا آخر، غريب. أما وجهه، فَيغطيه إما بقناعٍ عادي أو قناع كلبٍ أو يتركه بلا قناع. هنا، يطرأ سؤال ما ورائيّ، يعود بنا إلى عالمنا العربي، وهو، لماذا يخرج الإنسان بتحوّله الكلبي إلى الفضاء العام؟ إذ يستطيع أن يكون كلبا لسيدته، في البيت، يفعل ويرتدي ويتمَظهر ويتجنسَن كيفما شاء. لكن فلسفة هذه الظاهرة هي "الإعلان"، أي أن الإنسان "المُستكلب" أراد أن يُرى في الفضاء العام، أمام الجميع، أنه لم يعد إنسانا، بعدما تخلّص من ذاته الإنسانية، جرّدها تماما، وحوّلها إلى ذات حيوانية أو أقل (تخفي وجهها الإنساني، وتستبدله بوجه حيواني)، لا تسأل عن مفاهيم الإيمان الذي يتساءَلها الإنسان العادي، مفاهيم السياسة والإله والخير والشر وغير ذلك. بمعنى آخر، تخلَّص من ذاته الإنسانية، التي عليها أن تتفاعل مع السياسة والإله (الميتافيزيقا). هذا، دون أي قمع مباشر، فالتخلّي لم يتولّد نتاجا للقمع السياسي أو الديني، ربما نتيجة لقمع وجوديّ. كما أنه، أي القمع، لا يُعفى من مسؤوليته كمتسببٍ للتخلّي في حالات أُخرى. في المقابل، تكون السيّدة التي تجرّ كلبها الإنساني، امرأة تملك نوعا جديدًا من الجسد، جسد إنساني بذات -تحاول أن تصبح- حيوانيّة. وهنا، تصبح المرأة أكثر من إنسان عادي، إنسان أعلى، استغنى عن السياسة والدين، إذ حل كنصف إله أو إله كامل، حسب ما يراه كلبها/عبدها، وترى هي نفسها، وكما يوثّق عقدهما، إن وُجد. إذ من خلال تدني مكانة شخص ما من إنسان إلى حيوان، ترتفع مكانة الآخر، المالك، إذ هي جدلية طردية، تجمع بين إنسان سيد وآخر عبد، عظيم مكتمل وحقير مُنتقص.
في عالمنا العربي، يصعب أن يجرؤ أحد على إعلان عبوديّته أو تحوّله اللاإنساني أمام مرأى من الناس، أي في الفضاء العام، بسبب محظورات القوانين الدستورية والعُرفية. لكن، وجد هذا الإعلان في العالم الافتراضي وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، ملاذا آمنا له. فحينما تبحث (وقد بحثت حينما كنت أحدّث بسمة، منذ بضعة سنوات. وتعمّقت في البحث، خلال كتابة هذا النص)، وتفاجئتُ، حين وجدت الكثير من الحسابات والصفحات العربية المهتمة بالعلاقات السادومازوخية، على تويتر وانستغرام وفيسبوك، والتي تنشر باستمرار المحتوى الجنسي، إذ يتعرف أصحاب الأنماط الجنسية على بعضهم، من أجل ممارسة العلاقة، افتراضيا وواقعيا، دون مقابل أو بشكل مدفوع، كما كانت تتعامل بسمة. لكن ما هو مثير للاهتمام، وجود إعلان عام للعبودية الجديدة. فتجد مقاطع مُصوّرة، يعلن فيها المازوخي خضوعه، النفسي والجسدي، لملكته الجميلة، والمسيطرة، التي تظهر معه كأنها تمثل فيلما سينمائيا أو تعرض منتجا جديدا، حيث تصل مفردات هذا الإعلان حدَّ العبادة الإلهية، أو تجد مقطع فيديو آخر، يحوي مشاهد جنسية مباشرة، كدليل تسويقي للمرأة، كيف أنها مثيرة، قوية، وتُمتّع خاضعيها، بهدف جلب المزيد من المريدين لهذا النمط الجنسي.
لا يعدّ تصوير وبث المقاطع دليلا تسويقيًا تجاريًا فحسب، بل هو إعلان عام للميثاق الجديد، الذي اختاره الإنسان، سواء الخاضع، باختلاف مسمّى خضوعه، أو السادية، باختلاف درجات تملّكها. مثلا، تجد صفحة باسم "العربية المسيطرة" على موقع إكس (تويتر)، وهي ليست مُجرّد صفحة شهوانية تعرض الممارسات الجنّسية، بل صفحة لها "مانفيستو"، دعوة، وداعية (المستريس) التي تعتقد بتفوق المرأة العربية على الرجل العربي، العبد، كما تسمّيه. صفحة تدعو من خلال ما تشاركه من منشورات إلى انضمام من يرغب في تبنّي هذه الأيديولوجيا، إذ لديها مجلّة دورية، على غرار العديد من الصحف والمجلات المرموقة، تنشر المفاهيم والقصص والصور والبيانات للأعضاء المشتركين حصرا. وما تنشره الصفحة يجد تفاعلا جيدا، ومن حين لآخر، تُنشر مقاطع تصوّر الأعضاء الجدد، السيدات مع خاضعيهِم، بهدف ترويج أيديولوجيتهنّ الجديدة، والمثيرة، خيارهن الحياتي الجديد.
خيار جديد خرج من الفضاء الجنسي الخاص إلى العام، لكن العام المصرّح به، العام الافتراضي فحسب، إذ يصعب على المجتمع العربي، وسُلطويته السياسية، أن تسمح برواج هذا النمط الاستعبادي الحياتي، والجنسي جزء ركيزيّ منه، كما يُسمح في بعض من المُجتمعات الغربية. إذ إن الذكر، لا يُعتبر ذكرا فردا يمثّل ذاته وأهوائه ومعتقداته فحسب، بل هو جزء من منظومة، يجب عليه الامتثال لمفاهيمها وممارساتها. تعتقد السُلطة أنه حين يفقد أي ذكر ذكورته، تفقد هي أيضا قدرتها على التحكّم بذكورة الذكر وامتياز منحها له أو حجبها عنه. فحين تحلّ محلّها المرأة، تضيع ذكورة السُلطة، وسيطرتها على الأجساد، ما يعني أنه إعلان انتهاء شكلها الحالي، بل وحلول المرأة (الجسد) مكانها. أي بدلا من أنها، أي السُلطة، تتحكّم ولها حقّ امتلاك الأجساد، جاءت سُلطة اُخرى، جسد آخر مرئي، ليس إلهيًا ما ورائي، وأخذ حق هذا الامتلاك.
لكن قد يطرأ سؤال آخر. هل للجسد المثالي كلُّ هذه السُلطة؟ في هذا العصر، نعم. لأن المنظومة الاستهلاكية التي تروّج لما تبيعه للجمهور، أصابته بالهوس، هوس بالذات والآخر، وصل حدَّ العبادة، عبر الأفلام والبرامج ووسائل التواصل الاجتماعي وغير ذلك، كي تبيع، أيّا كان ما تبيعه، من معلومات ومنتجات وأفلام. لكن ليس أي جسد، بل جسد مثالي، مُثير، بمعايير السوق الحالية. تجد ذلك في تعليقات الرجال على أجساد عارضات الأزياء والفنانات على مواقع التواصل الاجتماعي. مثلا، تقرأ في التعليقات على انستغرام، فتجد خضوعا يصل إلى تأليه كل تفصيلةٍ للجسد، وخاصة الأقدام، بما أنها الجزء السفلي للجسد الذي يسجد له الجزء العلوي من الجسد الآخر (الرأس، الوجه تحديدًا، كبرياء الذات). مثلا، على حساب امرأة عربية تعمل موديل، بينما كانت تعرض صورها في شوارع بكين، قرأتُ تعليقا لرجل ينصح أو يدعو فيه الصينيين، فكتب، "يجب على الشعب الصيني أن يسجد لك ويقبّل قدميك إجلالا وتعظيما لك ولجبروتك". ولم تقتصر كلمات الخضوع والعبادة على التعليقات فحسب، بل امتدت إلى تأسيس صفحات باسم فنانات أو إعلاميات لعرض أجسادهنَّ للجمهور. صفحات تمجدّهن، تعبدهنّ. هذه الأجساد المعروضة للجمهور، بحكم عملها على الشاشة، خرجت من حيّزها الفني والتسويقي، وأصبحت أجسادًا تعبّدية. إذ بواسطة الاستهلاك، وعروضه، تسلَّع الجسد "المثالي" للمرأة وتحوّل إلى مادةٍ للتعبّد الجنساني.
نظَّر النفساني فيلهلم رايش حول ما يخص العلاقات الجنسية، وأنماطها، وأثرها المُتداخل والمُتبادل بينها وبين السلطوي (السياسي). وأخذ يدلل، ومعه يسار ما بعد الفرويديّة، على أن التحرر السياسي مرتبط بالتحرر الجنسي[9]. ما يُضاف إلى هذا التبادل، في سياقات محددة، هو أن ما يتداخل مع الجنسي والسياسي هو الوجوديّ، حياة الإنسان ذاتها. يخرج الناس إلى الميدان، فتخرج الشهوات من الجسد -ليس الجسد الذكري فحسب-، ثم يخرج الجسد من الدنيا، إلى ما بعدها. هنا، أتذكر ما كانت تُخبرني به السيدة والمُعلّمة الحكيمة، بسمة، حيث كانت، تُكلبش أيدي خاضعِيها، من خلفهم، ضامنةً فصل قُضبانهم عن أيديهم، أي ضامنة سجن الشهوة، (المنويات). وبِمفاتن جسدها، التي كانت تتمزج، وهم ينظرون إليها، بضعف ولهفة، تُشعل الشهوة في أجسادهم، تُزيدهم خضوعا حد العبادة. وحين تكتفي من تمزّجها، وتملّ من سيطرتها، تسمح لهم بإخراج ما هو مكبوت بداخل أجسادهم. هنا حركة القضيب، الجسد، الإنسان، هي حركة ثورية وانفجاريّة، بامتياز، تُخرجه من كل خضوع للسُلطة، إذ يعد كل خروج تحرّرا من عبادة الجسد والسياسة والإله، وحتى إن كان تحرّرا مؤقتا، إذ مرةً أخرى، ربما بطبيعة النفس، يُخضَع الإنسان إلى كل ما تحرّر منه.
في المجتمعات العربية، ما تزال الجنسانية وكافة ممارساتها، محل نظر وتفسير معقّد للغاية، من حيث حالتها الجماعية، وتشكّلها وتطوّرها، كما تأثرها من قبل تاريخ طويل ومتراكم من السُلطويات الاجتماعية والسياسية واللاهوتية، لكنني، ومع محاولات التأمل، يمكنني اقتباس سؤال بسيط، ووجوديّ، يقول: "في حد ممكن يبقى مش قادر يعيش من غير ألم؟!"، في أغنيتها "خلتني أخاف"، تسأل شيرين عبد الوهاب.
الهوامش:
[1]: مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، المركــز الثقافـي العربــي، ط 9 المغــرب، 2005 ص 132.
[2]: ميشيل فوكو، تاريخ الجنسانيّة - الانشغال بالذات، ترجمة محمّد هشام، ط1 (المغرب: عمل إفريقيا الشرق، 2004)، ص 136.
[3]: ممدوح عدوان، حيونة الإنسان، دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، ط1 دمشق 2018، ص 234.
[4]: رشيد الخوري، الشاعر القروي، الأعمال الكاملة، دار جروس برس، ط1 طرابلس 1998، ص 31.
[5]: فرانز فانون، معذبو الأرض، ترجمة: سامي الدروبي وجمال الأتاسي، مدارات للأبحاث والنشر، ط1 القاهرة 2014، في العنف، ص 40.
[6]: جيل دولوز، عن المازوخيَّة + معدات السلطة، ترجمة حسام جابر، مؤمنون بلا حدود، نشر في 1 نوفمبر 2024.
[7]: زاخر مازوخ، فينوس في الفراء، ترجمة أسماء القناص، دار أثر للنشر والتوزيع، ط1 الرياض 2013، ص 71.
[8]: جوديث بتلر، الحياة النفسية للسلطة، نظريات في الإخضاع، ترجمة نور حريري، دار نينوى، ط1 دمشق 2021، ص 208.
[9]: بول أ. روبنسون، اليسار الفرويدي، ترجمة عبده الريّس، ط1 (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2005)، ص 29 - 79.