(التابع وسليمان: عن الحُب والجسد والمنفى، مرفأ للثقافة والنشر، بيروت، 2025).
[أحمد عبد الحليم، كاتب وباحث مصري].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النص، ما هي منابعه وروافده ومراحل تطوّره؟
أحمد عبد الحليم (أ. ع.): ولدت الفكرة، كما دائما تولد أي فكرة لكتاب آخر قد نشرته من قبل. من الذاتية، والتفكير (الكلام) المستمر مع نفسي. في عام 2020، كتبت رواية قصيرة بعنوان "أجساد راقصة"، سردت فيها حركة جسدي داخل السجن من خلال سرد فلسفي لأكثر المشاهد التي مررت بها أو بمعنى أدق، مورست عليَّ، وقد حفظتها ذاكرتي، بسبب أثرها الكبير على ذاتي وجسدي. أما نص "التابع وسُليمان: عن الحب والجسد والمنفى" فقد ولدت فكرته من خلال مرور أول عام لي في المنفى، بيروت، بعد أن خرجت من مصر، مُضطرا، بسبب خوفي من إعادة اعتقالي مرة أُخرى. حينها، وكنت أحاول قدر المستطاع استكشاف عالم الأدب والفنون، والابتعاد شيئا فشيئا عن النظرية والبحث وتعقيدات الفهم والكتابة والمنهجية. من هنا، فكرت في كتابة نص أدبي، أسرد فيه بعض المفاهيم التي مررت بها في حياتي، بشكل أدبي، بعيدًا عن النظرية والبحث والتحليل الجامد. وقلت، مع نفسي، "يا واد يا أحمد" يا ابن الورش والحواري، جرّب. اكتب. غالبية الأدباء والفنانين الذين قرأت عنهم وأقرأ لهم الآن، صنعوا سرديات مُبدعة لا تُنسى، من ذاتيّتهم. حكوا الكثير. احكِ أنتَ، حول ذاتك، طفولتك، مراهقتك، أسرتك، فقكر، سجنك، جسدك.الحب والجنس والاغتراب الذي كان في يمشي خطواته الأولى على طريق نهْشِه روحي وجسدي.
أخذ النص مراحل متطورة، ومتتالية. أساساً هو نص روائي، لكنه في الوقت نفسه ذاتي. فكانت مراحل تطوّره، ترجع إلى ذاتيتي، وتطور سرد الحكاية، والرؤى لديَّ، من خلال خوض تجارب ثقافية ومشاعريّة مختلفة، بدورها، كانت تزيدني معرفة أعمق بالحياة، أو هكذا أدَّعي، ولا أقصد الحياة بشكلها العام، بل حياتي الخاصة، كيف كانت وكيف أصبحت، ولماذا آلت إلى ما هي عليه.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية، ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(أ. ع.): الثيمة الأساسية للنص هو مجموعة من المشاعر والمفاهيم المختلفة والمُختلطة: الغضب، الحزن، الحب، الخوف، والتيه. كلها تنضوي تحت سؤال الوجود الإنساني. وعن العوالم، فربما يأخذ النص القارئ، ويأخذني معه، إلى عوالم مختلفة ومتناقضة جدًا، العوالم الإنسانية المهمّشة (التابعين). لذا، الاسم الأول من العنوان الرئيسي، هو التابع، بوصف غرامشي. نشأتُ بين هؤلاء التابعين لأي سُلطة (سُليمان هو رمز لهذه السُلطة) وأي سردية سياسية ومجتمعية ودينية. فمن خلال حياة التابعين، نستكشف عوالم الفقر والنقص وكثيراً من الرؤى والممارسات التي يعيشها التابع، في الطفولة والمراهقة وما بعدهما. إلى عوالم السياسة والسُلطة ومؤسساتها شديدة الدّقة والتحكم، مثل السجون، وكيف ينظر التابعون إليها، بل وكيف حين يشتبكون معها، تتجلى لهم أفكار وممارسات أخرى. أيضا، يأخذنا النص إلى المنفى. حاولت من خلال النص، استعادة شيء من نصوص المنفى في القرن الماضي، حين كان المنفى يخرّج أدبا عظيما، كما يؤرخ بدوره الحياة السياسية والنفسية والاجتماعية لتلك الحقب. نصوص وروايات بهاء طاهر ورؤوف مسعد وصنع الله إبراهيم ووجيه غالي، وغيرهم ممن تعرضوا لتجربة القمع والمنفى، في مصر. نحن المصريين، نشهد الآن مرحلة جديدة من المنفى، لم أرَ محاولات جادة لتأريخها، في أي بعد من أبعادها. لذا، قلت لم لا! ويكون النص شاهدا على المنفى المصري، بشكله وتعقيداته الحالية.
(ج): كتابُك الأخير عبارة عن رواية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًا بذاته تأثير فيما تريد أن تقول، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(أ. ع.): الكتاب هو رواية. نعم. اخترت الرواية، لأني نويت أن أحكي الكثير، وأتذكر، وأسأل عن مفاهيم كثيرة من حولنا. لذا، كان النص الروائي هو الأنسب لما أريد كتابته وقراءته، واختباره.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(أ. ع.): التحديات كانت ذاتية بالأساس. لدرجة كبيرة لم أكن أتخيلها تماما. حين بدأت كتابة النص، إذ جرّني، دون دراية، عن الكتابة حيال مشاعري، صفاتي ومواقفي، طفولتي ومراهقتي، بما تحمل من طيبات وخبائث، بل امتد النص ليشمل عائلتي، فوجدت نفسي أكتب عن والدي، بكل شفافية، حول فقرِه، طبائعه، وممارساته السيئة، وعن أسرتي وجهلها بالأشياء، معدوميّة ثقافتها وعدم مثاليّتها، كما أكتب عن وجودهم ونشأتهم وأفكارهم، عن بيتنا المتواضع، وغير ذلك. كنت أول مرة أختبر نفسي حين أكتب، عن أختي وأخي، حياتهما، نفسي، تجاربي الفاشلة، في الحب مثلا. هذا ما وترني، وجعلني أفكر، مستقبلًا، كيف ستقرأ عائلتي، وأصدقائي ما أكتبه الآن، وبعدها، كيف سينظرون إليّ؟ لكني، قررت أن هذه الحياة البسيطة وتجاربها الإنسانية المعقّدة، حياتي، كشاب مصري عادي، ربما يجب أن يؤرشفَ جزء منها، وجه من وجوهها، وجهي، قبل أن ألتحق بالموت، المفهوم الذي مؤخرا ـ لا سيما بعد بدء حرب الإبادة في غزة - بات يقتحم وجداني، يجتاحه، ويحتلّه، على نحو غير اعتيادي.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(أ. ع.): تعد الرواية هي الكتاب السادس المنشور لي، فقد نشرتُ من قبل خمسة كتب، وهي: مجموعة قصصية بعنوان "الحارة العربية"، دار فاصلة، القاهرة 2019. رواية قصيرة بعنوان "أجساد راقصة" عن أمم للتوثيق والأبحاث، بيروت 2021. كتاب "من يمتلك حقّ الجسد: قراءة في الحياة السجنية"، عن أُمَم للتوثيق والأبحاث، بيروت 2022. وقد صدرت الترجمة الإنجليزية للكتاب عن مؤسسة نساء من أجل العدالة، كندا، 2024. كتاب "تمثلات المجتمع المصري: في الذات والجسد والهُوية" عن رياض الريس للكتب والنشر، بيروت 2023. كتاب "الجسد في مصر: من السياسة إلى الاستهلاك"، جسور للترجمة والنشر، بيروت، 2024. كل هذه النصوص الأدبية منها والبحثية، تمحورت حول حكايات الناس والسُلطة، حتى النصوص البحثية منها، فقد كُتبت وفق فلسفة سردية تحكي التاريخ من أسفل بلسان من مُورست على أجسادهم أفعال السُلطة، سواء سُلطة سياسية، اجتماعية، دينية، اقتصادية (نيوليبرالية). وكما وُجد الجسد في مركز النصوص السابقة، موضعته أيضا في "التابع وسُليمان"، ليكون شاهدًا أدبيًا على وجوده وتمثلاته. إذ إن تركيزي لا يحيد عن الجسد، محاولا الكتابة عنه بأشكال وطرق مختلفة من حيث اللغة والسردية والفلسفة والتحليل.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(أ. ع.): نعم. خلال عامين من كتابتي الرواية، ركّزت على قراءة وإعادة قراءة الأدب العربي، الذاتي الروائي والخيالي. قرأتُ كثيرا. ما أتذكره الآن أني أعدتُ قراءة جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف ومحمد شكري وحسين البرغوثي، وعلى الرغم من اختلاف هذا الرباعي من حيث اللغة والأسلوب وقصصهم ورؤاهم للحياة والأدب والفلسفة، فضلا عن تجاربهم الحياتية والمهنية المختلفة، إلّا أني دائم العودة لهم، ولسردهم، خاصة جبرا والبرغوثي. فسردهم شاعري واقعي لا حالم، ولا عنيف مثل شكري ومنيف. أيضا كانت من ضمن قراءاتي، تجارب السيرة الذاتية والاغتراب والمنفى، مثل فاطمة قنديل في روايتها "أقفاص فارغة"، ورواية "عراقي في باريس" و"محاولة عيش" للعراقي والمغربي صموئيل شمعون ومحمد زفزاف. كما اطلعت على أعمال أمل جراح وحنّا مينا، من سوريا، وعلوية صُبح من لبنان، وإدوار خرّاط وحكاياته عن مصر وحاراتها في القرن الماضي، وغير ذلك من أدب المخرج الإيطالي ذي الحس العبثي باولو سورنّتينو، ومعه والروائي الإسباني اللذيذ جدا في كوميديّته السوداء خوسّيه ميّاس. أيضا، كنت منذ أعوام بسيطة اكتشفت الكاتب والشاعر والمخرج العراقي اللاجئ في فنلندا حسن بلاسم، وأحببتُ جدا سردياته العنيفة حتى في خيالاته عن الحب والجسد والجنس والوطن واللجوء. تعلمت من بلاسم الكثير، كيف تصنع عنفا غير مبتذل. كل هؤلاء وغيرهم قد تأثرت بهم، وكنت حين أكتب جزءا من الرواية، أنظر إليه، وأحاول تحديد هوية الكاتب الذي تأثرت به في هذا الجزء تحديدا، فلا أجد أثرا ملحوظا ومحددا بروائي بعينه، لا في السرد ولا في فلسفة الحكاية، ما يزيد من طمأنينتي بشكل أو بآخر. أني في طريقي لصناعة نص أدبي روائي ذاتي خاص بي، لا مقتبس أو مقلّدٍ. نص استفاد من كل ما مرّ به. هكذا ببساطة.
(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(أ. ع.): القارئ العادي. خلال الكتابة، تمنّيت أن يصل النص إليه، وأظن أن أسلوب السرد مناسب لجميع فئات القراء، حتى البائعين وعمال المصانع وصنايعيّة الورش وسائقي التكاتك. أن يكون النص مقروءاً فحسب يكفيني. هكذا أظن. كما أن القارئ صاحب التجربة السياسية والسجنّية، وتجربة المنفى، سيجد قصصًا تُشبهه، ومشاعر يفهمها جيدا. لكن، أحببت أن يُقرأ النص من أصحاب تلك التجارب غير العاملين في مجالات الصحافة والكتابة والبحث وحقوق الإنسان والفنون، لأنهم بطبيعتهم، يستطيعون التعبير عن تجربتهم، لكني قصدت من لا يستطيع التعبير، فيجد نفسه، تجربته ومشاعره وقصصه في هذا النص.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(أ. ع.): في الوقت الحالي، ليس لدي مشروع واضح. لدي أفكار شبه مكتملة، ربما أقبل على كتابتها أو تقديمها، مثل تأليف كتاب أو (تقديم بودكاست) يتناول تاريخية وتمثلات "الجسد" في السينما المصرية، أو كتابة رواية (لا أعرف عنوانها) لكنها تتناول تقاطعات مفاهيم مثل السياسة واللاهوت والجنس. وربما لا، بسبب عدم توفر واستدامة الحالة الحياتية والنفسية الجيدة من أجل التفرغ والعمل والإبداع.
مقتطف من الرواية
مدينة دمياط، قبل أن ينكح الدولارُ الجنيهَ، كانت قلب صناعة الأثاث في مصر. الطبيب والمهندس فيها لا يجهل كواليس العمل، لأنه حتى في صغره، إن لم يعمل في الورش، فلابد أن أقاربه من الدرجات المُختلفة عملوا بها. بالنسبة لي، ولا في أي ثانية من الزمن المفقود، أحببتُ العمل في الورش، لكن بدأت العمل وأنا عيّل ابن ثماني سنوات، يستكشف الناس، الحواري، الأخلاق، الفقر. وقتها كان عملي مُقتصرًا على شراء مشروبات ومأكولات الصنايعية من المقاهي ومحلات الأطعمة، ملء زجاجات وجَراكل المياه، تنظيف الورشة، وكنس المساحة التي أمامها.
وهي المساحة التي يملكها عمّ سعد، صاحب البيت الذي تتموقع الورشة في أسفله. أيامها كان رجلا ستينيًّا، الآن ربما مات، الله يرحمه أو يُعامله بالعدل أو يُعذّبه، أو من الأساس لا توجد آخرة، لا يعنيني، أو يعنيني. رجاءًا يا ألله، إن جئت إليكَ، ونارك كانت مُشتعلة، لا تقذفني فيها، حتى إن قلت، أنه كان رجلًا جاهلًا غليظًا أقرع سمينًا، هذا وصف فيه مبالغة من المدح. لم أحبّه لحظة من اللحظات.
«يا واد، أنتَ يا زفت»، هكذا كل صباحٍ كان يصيح.
كنت أكره من يناديني بغير اسمي. ما هذه الإهانة، كرامتي مسحت الأرض بعد أن كنستْها يدي. الأقرع كان بالأمر، يطلب مني، كنسَ الرصيف الذي يجلس عليه. لستُ ملزمًا بهذا الكنس. الكنس في حدود عملي، كان رصيف الورشة، لا رصيف البيت كلّه.
ذات صباح أغبَر، بينما كنت أكنس، اقتحم أذني صوت الأقرع صائحا، «اكنس كويّس يا واد، اكنِس يا خول»، وأخذ يُكرر مسبَّتي، حتى دمِعت عيني. كيف لا يناديني باسمي؟ بل ويسبّني، لست خولا، على الأقل أيامها. غضبتُ وتركتُ الورشة فارغة إلَّا من الشياطين، ومنويات بائتة على الأرض، آخر الليل، طردها أحد الصنايعية من زبِّهِ.
بعدها بساعات قليلة، معلّم الورشة جاءني البيت، راضاني، وعقد معي اتفاق من بندٍ واحد، نصّه، أنه سيخبر هذا الغليظ الأقرع الفاضي السمين أن يتركني وشأني.
«مرة أُخرى لو نادى عليك، ردَّ عليه، وأخبره، أني قلت لكَ، ألَّا تَكنس سوى الورشة ورصيفها»، هكذا حفّظني، بعدما نصحني، خوفا من السرقة، بعدم ترك الورشة مرةً أُخرى وحيدة.
هذه هي أعمالي الرسمية، أما غير الرسمية كانت تتمثل في كوني ساعي بريد السلام، الحب، والجنس. أو بمعنى رمزي، كُنت زبًّا بديلا، من خلاله يرسل خيالاته إلى بنات الحارة. اسمه أحمد وشهرته «القنّ». وقتها عرفت لماذا سُمّيَ القنّ، كما ما هو معنى القنّ. الآن نسيت. لكن، على ما أظن، أُفتي، كان اسم يدلُّ على الجدعنة والشقاوة.
«القنّ» هو صنايعي في الورشة، وأخ أصغر لمعلِّم الورشة، وهو، صاحب شعر أسود قصير مُكتكتْ، يملك عينَين سوداوَين ثاقبتَين، وقلبًا جريئًا، يحترف اللعب بالسلاح الأبيض، تحديدا «المَطاوي». بعمق سنتيمترات قليلة جدًّا، يخبط، يُعلِّم على الأجساد. يخاف الكثير من شباب الحارة من دبِّ أي خناقة معه. القنّ طيب، كريم، قصير جدًّا، رومانسي، وعاشق لأجساد بنات الحارة التي أقصر واحدة فيهنَّ ضعف طوله.
كان يرسل معي ورقة، جوابا عاطفيًّا، وجنسيًّا، مع زجاجة مياه فارغة، ويُعطيني التعليمات التي نصّها: «اطلع هذا البيت، الطابق الثاني، خبّط على الشقة التي ستصبح في وجهك، وانتظرْ. ستفتح لك امرأة شابة، قل لها، عمو أحمد يطلب منك أن تملئي هذه الزجاجة مياهًا ساقعة، ثم، دون أن يراك أحد، أعطِها هذه الورقة».
على غفلة من عيين أُمِّها، سريعا، كانت البنت تخطفُ الورقة. بعدها أنزل حاملا المياه التي تُنشِّط ريق الصنايعية من كسَل الحرِّ. ثم يبدأ هو في استجوابي، ليعرف ماذا حدث! هل ابتسمتْ، بالجواب، هل فرحتْ؟ هل قرأتُه أمامي؟ هل أوصتْني بتبليغ أي رسالة له؟ وكل مرّة يستفسر مني عمَّا كانت ترتديه. وبدوري، أخبره تفصيلًا بالصوت والصورة. كُنت ذكيًّا، لمّاحًا، ومُدقِّقًا في أجساد النساء. من هنا، جاء اهتمامي بالجسد ودراساته.
أخبره بخجل بسيط، ضحكتْ، بتسلّم عليك، كانت ترتدي قميص نوم أبيض شفافًا النّهدَين. ويسألني عمَّا وراء قميصها الرقيق، الخفيف.
«آه.. بزازها حلوة، كبيرة، وجميلة»، في تردد أُجاوب، ونضحك. وأُتابع الوصف، بخجل أبسط، في مرة أُخرى، أسود كاشِف نصف الفخذين، وأُعيد، بزّاها، هاتان العنبتان الكبيرتان، كانا يترجرجان أمامي. كنت أسرد، وأسرد، بينما هو في فنتازيّته الغرامية والجنسية يسرح.
ومرة ضمن اُخريات، كنتُ كالكلوت الباهت من شدَّة الحرج، ذات صباح صيفي حار، حين أرسلني القنّ إلى الطابق الأخير في عمارة سكنية بها ستة طوابق، تتموقع أمام الورشة، وبدقة كبيرة وحتى لا أتوه، وصف الشقَّة التي سَأطرق بَابها. لم يرسل معي أي جوابات، زجاجة مياه فارغة لا أكثر. بشدة مع تكرار، أوصاني حين تفتح المرأة الباب، أن أقول لها بالحرف: «عمو أحمد، الذي يعمل في الورشة، يستأذنك، في ملئ هذه الزجاجة مياهًا ساقعة» ولا من نفْسي أو نَفسي أُعطي أي تنهيدة زائدة.
حفظتُ، طلعتُ، ركزتُ وخبطتُ. من وراء الباب همسَ صوت أنثوي خائف. في ترقب قالت، «من يخبّط؟». جاوبت، «أنا». «من أنت؟»، في ارتياب ردت. «أعمل في الورشة»، بصوت طفل مؤدب أجبتُ، ونطقتُ اسمي.
فتحتْ لي شابّة، جسدها أبيض ناعم مُغطى بروب أسودٍ، وحين تمطَّعت أمامي، رأيت من تحته قميص نوم لا أتذكر لونه. حين وقعت عيناها على جسد طفل صغير لم يبلغ، أظهرت كامل جسدها الهيَّاج، المُولع، لخيالات الصنايعيّة. تذكرت، كان لونه ورديًّا، أقصد قميص النوم.
بشيء من الاستغراب، ابتسمتْ. «ماذا تريد يا حلو؟»، في لطف سألتني. وحين سمَّعت ما حفْظتُه طيلة صعودي السلّم.
«من أحمد هذا؟! أخبره أنه لا توجد مياه هنا، وألَّا يرسلك مرة أُخرى! مفهوم! مفهوم!». هكذا أخبرتْني، متنرفزة، ترفع سبَّابتها، بعد انقلاب ملامح وجهها، رازعةً الباب في وجهي.
من أمام باب شقتها، نزلت فارغا الزجاجة، تاركًا كرامتي على عتبات منزلها، وحكيت له ما حدث. كعادته استَجوبني، وأكدتُ له أني قلت ما حفَّظه لي. كانت عروسًا جديدةً تسكُن في الحارة، والصنايعية يحسدون زوجها على حقِّه في جسدها. لكن القنّ دائمًا ما يقول، أنا. أنا من امتلك حق الجسد، أو على الأقل نيْكه، أو مغازلته، أو أي نوع من علاقات الحارات.
علاقات الحارات، آه منها، ومن عجائبها. دائما ما كنت أرى أزواجَ وأخواتِ وآباءَ الشاباتِ اليافعات أجسادهنّ، حين يعرفوا بمحاولات أشقياء الحارة اصطيادهنَّ، يحتاروا، كيف يذهبون للخناق مع شباب صيَّع يرقُصون بالسكاكين والمطاوي والخرطوش. وحين يُغلَبون أمام ذكورتِهم المُهانة، يذهبون إلى أجساد البنات، لضربهنّ، سبِّهن، حبسهنَّ أو حتى قتلهنَّ. هذه هي الحيلة الأكثر ضمانا لهم في استرجاع شيء من فحولتهم المَجروحة. ترد عليهم البنات المُضطهدات، على رأي المثل: «أنت سِبت الحُمار وجاي تتشطّر على البردعة».