[ ترجمة يوسف حداد. نشرت هذه المقالة في مجلة "الميدل ايست ريبورت" الصادرة باللغة الانكليزية عدد رقم 239]
تتمحور الطروحات السائدة المتعلقة بالثورة المصرية عام 2011، والتي ما زالت قائمة، حول "أزمة الدولة". من بين ركائز هذه الأزمة الفشل الكلي في تحقيق الإصلاح السياسي من رأس الهرم إلى أسفله، كما أظهرته بجلاء الانتخابات التشريعية عام 2010 والتي تم التلاعب بنتائجها بشكل فاضح، وتنامي الفساد والقمع، وبروز فرص للعمل الجماعي التي وفرتها مواقع الانترنت كفايسبوك وتويتر، وتبني السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي أدت إلى تكبيل قدرة الدولة على أداء واجباتها التقليدية، كتقديم الخدمات الإجتماعية، والدعم الحكومي، وضبط الأسعار، وخلق فرص العمل للخريجين الجامعيين. هناك شبه إجماع على أن الثورة -- على الأقل في جزء منها-- جاءت ردا ً على النظام الإقتصادي الإقصائي الذي فرضه جمال مبارك إبن الرئيس المخلوع وشركاؤه خلال العقد المنصرم. غير أنه ما زال من غير الواضح ما إذا ستنجح مصر ما بعد مبارك بمعالجة الأزمة الإقتصادية والإجتماعية التي ساهمت بإطلاق شرارة ثورة 25 يناير.
الخطاب السائد لدى النخبة المصرية وأصحاب القرار ينبىء بأن الجواب هو بالنفي. الخطاب الضبابي، إن لم نقل العدائي، الموجه ضد الأصوات المطالبة بظروف معيشية أكثر إنسانية تشير إلى إحتمال إستمرار النظام الإقتصادي غير المتوازن. ورغم أن الأغلبية تستبعد إحتمال العودة إلى النظام السياسي الذي كان قائماً ما قبل 25 يناير، حتى وإن كانت مصر ما بعد مبارك غير ديموقراطية بالكامل، فإن تهميش القوة العاملة الذي خلفته السياسات الإقتصادية الليبرالية للنظام السابق قد يستمر.
فلندع العجلة تدور
بعد إستقالة حسني مبارك في 11 فبراير، سرعان ما شهدت مصر تزايداً في ما وصفته السلطات المصرية والإعلام المحلي ب"الإحتجاجات الفئوية" أو التظاهرات المحدودة. "فئة" تعني مجموعة، ولكنها إكتسبت دلالة سلبية شبيهة بتلك التي تستخدم في الولايات المتحدة للإشارة إلى "ذوي المصالح الخاصة". المسؤولون الرسميون في مصر ما بعد مبارك إستخدموا تعبير "الفئوية" لوصف أي تظاهرة، أو إضراب، أو إعتصام يطالب بإعادة توزيع الثروات، حتى وإن كان المحتجون من الطبقة العاملة الميسورة أو المتوسطة، أو للمطالبة برفع الرواتب، أو بمستحقات أفضل، أو بظروف عمل أفضل، أو بتغيير موظفين إداريين فاسدين. ويبدو أن إستخدام هذا المصطلح بات يشمل القطاعين الخاص والعام ويطبق على تحرك جماعي أكان إحتجاجا ً محدودا ً لعمال شركة تملكها الدولة أو إضرابا ً عاما ً تدعو إليه نقابة عمالية مهمشة.
خلال الشهرين الماضيين خلق المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والمسؤولون الحكوميون، وآخرون من النخبة المصرية -- قد يكون بشكل متعمد أم لا -- خلقوا إجماعا ً حول مقولة تدين هذا النوع من العمل السياسي وتصنفه على أنه يمثل تهديدا ً للأمن والإستقرار المصري. بعد ثلاثة أيام على إستقالة مبارك، أصدر المجلس الأعلى بيانه رقم خمسة الذي حذر فيه من تداعيات التظاهرات على الإقتصاد، ودعا فيه النقابة العمالية والحرفية للمساعدة على العودة إلى الحال الطبيعية للحياة اليومية (1). بعد أيام معدودة أصدر الجيش بيانا ً إعتبر فيه أن "المطالب الفئوية" غير شرعية، وتعهد بمواجهة المخلين بالأمن بالطرق القانونية تحت شعار "حماية أمن الوطن والمواطنين." وفي 23 مارس، أقرت حكومة رئيس الوزراء عصام شرف قانونا ً يمنع التظاهرات، والتجمعات، والإضرابات التي تعيق عمل الشركات الخاصة والعامة، يعاقب عليه مرتكبوه بالسجن لمدة تصول إلى سنة وبغرامة مالية تناهز النصف مليون جنيه مصري.
كذلك علت أصوات مصرية من خارج السلطة لتندد بالتحركات العمالية. فبعد مرور يومين على صدور البيان رقم خمسة، إتهم المتحدث بإسم الإخوان المسلمين عصام العريان المتظاهرين الفئويين بتقويض الإجماع الوطني وأبدى "تفهما ً" إزاء وجهة نظر الجيش (2). أسامة هيكل، رئيس تحرير صحيفة حزب الوفد الليبرالي، حذر من أن التظاهرات قد "تدمر" المكتسبات التي حققتها الثورة. وفي شهر مارس، أعلنت مجموعة من المراسلين الصحافيين في الفيوم رفضهم تغطية التظاهرات الفئوية لأنها وبالرغم من مشروعيتها فأن توقيتها سيء (3) وفي شهر ابريل، ذهب مفتي الديار المصرية علي جمعة إلى حد القول بأن "مشعلو المظاهرات الفئوية يخالفون سنن الله." (4)
يقال إن مخاطر المطالب الفئوية ثلاثة. الأولى هي أن العمال الذين ينادون بهذه المطالب يسعون لإستغلال الثورة بغية تحقيق مكاسب مالية. وحيد عبد المجيد الباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية سوّق وجهة النظر هذه في عدد من البرامج التلفزيونية، ملقيا ً باللائمة على العمال المتظاهرين لإلتزامهم الصمت لمدة ثلاثين عاما ً وإختيارهم الأزمة الراهنة للمطالبة بمعالجة شكواهم. التصوير العام لهذه التظاهرات كان أيضا ً من خلال إعتبارها نقيضا ً لإحتجاجات ميدان التحرير التي أفضت إلى سقوط مبارك، فدوافع محتجو التحرير كانت غير ذاتية في حين أن مطالب الفئويين تضع أجندتهم فوق المصلحة العامة. وبحسب الصحافي خالد منتصر فإن " مظاهرات التحرير رفعت شعاراً سياسياً وهو «الشعب يريد إسقاط النظام»، الشعارات كلها والمطالب كانت تدور حول معنى الحرية، طرح المتظاهرون مطالبهم الفئوية جانباً وخرجوا يطالبون بنسيم الحرية، لم يطالبوا بالعلاوة أو المكافأة، نظروا إلى الإطار الأكبر، إلى الوطن ككل، لم تنتقل عدوى النظر البانورامي وهذا المعنى المجرد إلى من هم فى مظاهرات فئوية متواصلة وهستيرية..." (5)
ثانيا ً، المطالب المعيشية تصور على أنها تمثل تحديا ً لإزدهار الإقتصاد المصري وبذلك للأمن الوطني أيضا ً. وزير المالية سمير رضوان زعم أن التظاهرات الفئوية كلفت الخزينة سبعة مليارات جنيه مصري وقطاع السياحة 13.5 مليار -- مما يجعل هذه التظاهرات السبب الرئيس وراء العجز المالي وتراجع الإستثمارات الأجنبية. المنتقدون يرددون دوما ً "بأن عجلة الإنتاج يجب أن تدور" وذلك للقول للمتظاهرين أن عليهم العودة لعملهم. رئيس المجلس الأعلى المشير حسين طنطاوي ردد هذه المقولة بنفسه في إحدى إطلالاته الإعلامية القليلة. كذلك، وبعد مرور أسبوع على إستقالة مبارك، إستخدم الداعية السلفي محمد حسن التعبير عينه للدعوة إلى وضع حد ٍ للإضرابات والإحتجاجات. حتى صانعو القرار ممن يدعون التعاطف مع المطالب العمالية تبنوا إجماع النخبة في هذا السياق. وتقول الصحافية والإعلامية لميس الحديدي إنه "وعلى الرغم من مشروعية هذه المطالب، فلا أظن الآن هو وقت الحساب أو وقت التفكير فى الذات. الآن يجب أن تأتى مصر أولا وليس ذلك شعارا.. الآن العجلة يجب أن تسير." (6) ومن المثير للإهتمام أن أولئك الذين دعوا إلى التصويت لصالح التعديلات الدستورية في استفتاء 19 مارس برروا دعوتهم هذه بضرورة "دفع عجلة الإنتاج" وذلك بغية إعادة إقتصاد البلاد إلى حالته الطبيعية.
ثالثا ً، المتظاهرون الفئويون، بحسب هذه المقولة، يأخذون أوامرهم من فلول النظام السابق وهو الحزب الوطني الديموقراطي وذلك لإثارة الإضطربات في البلاد بغية تقويض مكاسب الثورة. بعد استقالة مبارك بثمانية أيام، "مصادر مطلعة" لم تكشف عن هويتها قالت لصحيفة "المصري اليوم" إن ثلاثة مسؤولين سابقين في الحزب الحاكم يقفون خلف "التظاهرات الفئوية" في القطاع العام (7). وفي الأسبوع ذاته، ذكر الموقع الرسمي للأخوان المسلمين أن أعضاء في الحزب الوطني الديموقراطي يحرضون على الإضطربات العمالية، ونقلت عن مصدر لم تكشف عن هويته أن أحد أطباء الأسنان الذي كان يتبؤ منصبا ً رفيعا ً في الحزب الحاكم السابق كان يدعوا زملاءه للإنخراط في هذه التظاهرات. مسؤولون حكوميون عززوا هذه الإتهامات بتورط أعضاء في الحزب الحاكم السابق، غير أنهم لم يقدموا دلائل حسية تثبت مزاعمهم. وفي شهر مارس، قال وزير العدل محمد الجندي إن التظاهرات العمالية ليست عفوية لكنها إحدى تجليات "الثورة المضادة" التي يسعى إليها فلول النظام القديم. ومع أفول فصل الربيع وبروز الإنقسامات الطائفية التي سيطرت على النقاش السياسي في البلاد، ذهب المحللون السياسيون والمعلقون على شاشات التلفزة إلى حد وضع التظاهرات الفئوية والصراع الطائفي في خانة واحدة على أنهما يمثلان سعي القوى الظلامية لتقويض ثورة 25 يناير.
إغفالات ملائمة
الملفت في المقولة السائدة حول التظاهرات الفئوية هي في ما تخفيه وليس في ما تكشف عنه. ففي حين تتبنى وسائل الإعلام فرضية أن "التظاهرات الفئوية" نشتأت بعد سقوط نظام مبارك، فالجديد هو المصطلح وليس الظاهرة. ففي العقد المنصرم شهدت مصر تزايدا ً ملحوظا ً في عدد الإضرابات العمالية، والتظاهرات، والإحتجاجات. فوفق مركز الأرض لحقوق الإنسان، إرتفع عدد التظاهرات العمالية في مصر من 222 عام 2006 إلى 756 عام 2007 وتخطى ال 700 عام 2009. إذا فإن ضحايا الليبرالية الإقتصادية من العمال وموظفي القطاع العام كانوا يعبرون عن المظالم التي يتعرضون لها قبل 25 يناير 2011 بمدة طويلة، وكان يحدث ذلك مرارا ً في أماكن بارزة كمبنى البرلمان في وسط القاهرة. كما وأن نهاية عام 2010 شهدت عددا ً كبيرا ً من التظاهرات الحاشدة التي تشبه تلك التي باتت تسمى بالفئوية، لكن مصطلح فئوي السلبي لم يكن متداولا ً آنذاك. وأبرز مثال ٍ على ذلك، إضراب سائقي الشاحنات في شهر ديسمبر 2010 والذي دام لأسابيع عدة، وسبق سقوط مبارك بشهرين فقط. حينها توقف السائقون عن العمل إحتجاجا ً على زيادة الضرائب، والغرامات القاسية بحق من يتخطى الحد الأقصى المسموح لحمولة الشاحنة، من بين أمور أخرى. وتكبدت الحكومة وعدد من الشركات خسائر فادحة جراء الإضراب وذلك لأن معظم الصناعات تعتمد على سائقي الشاحنات لنقل المواد الأولية والبضائع، الأمر الذي دفعها إلى التهديد برفع أسعار السلع الغذائية الأساسية ومواد البناء والمنتوجات الزراعية. وبحسب إتحاد النقل العام فإن الإضراب أدى إلى خسائر بلغت حوالي النصف مليار جنيه مصري يوميا ً. وكذلك لم تكن الكلفة بسيطة على القطاعات الإقتصادية الأساسية، سيما وأن الإضراب شل حركة التصدير والإستيراد، حيث توقفت عملية نقل البضائع التي تعتمد عليها الشركات من وإلى المرافق العامة. ورغم هذه التداعيات الخطيرة على الإقتصاد، لم يكن هناك حديث بين النخبة المعارضة عن ضرورة "تحريك عجلة الإنتاج" أو مطالبة سائقي الشاحنات بوضع مطالبهم جانبا ً لخدمة الإستقرار الإقتصادي، عوضا ً عن ذلك، ألقي اللوم بالكامل على عاتق حكومة رئيس الوزراء السابق أحمد نظيف التي فشلت في التعامل مع هذه الأزمة. فعلى سبيل المثال، إنتقد نائب عن الأخوان المسلمين الحكومة لتعاملها "العشوائي" مع سائقي الشاحنات، رغم إقراره بالأثر البالغ الذي خلفه الإضراب. أكثر من ذلك، فقد وصل الحد ببعض نواب الحزب الوطني الديموقراطي بإلقاء اللائمة على الحكومة علنا ً ودعموا مطالب المحتجين (8).
قبل خمسة أسابيع من إنطلاق ثورة 25 يناير، وصفت الحملة الشعبية لدعم محمد البرادعي، الحائز على جائزة نوبل والمعارض السياسي، وصفت الإضراب "بالدرس الملهم" الذي يظهر "كيف أنه بإمكان المصريين تغيير واقعهم إذا أرادوا ذلك." كما وأن الإجماع الوطني كان يدعم مطالب المحتجين بحيث إشتكى رجل الإعمال الذائع الصيت أحمد عز والقيادي في الحزب الحاكم آنذاك، إشتكى من التعاطف غير العقلاني تجاه سائقي الشاحنات الذين قال إنهم يرفضون الإمتثال للقانون (9).
غياب التوجه النقدي وإن كان بحده الأدنى لهذه الإضرابات، رغم التحديات التي طرحتها على الإقتصاد المصري، يكشف أبعادا ً كثيرة. فبالرغم من أن التحركات العمالية كانت جزءا ً من التجاذب السياسي في مصر قبل 25 يناير، لم يتم التشهير بها على أنها فئوية. قبل إصدار الجيش بيانه الرقم خمسة، كان الإعلام يستخدم مصطلاحات "إحتجاجات مطلبية" أو "إعتصامات عمالية" أو غيرها للإشارة إلى التحركات العمالية. لكن الإنتشار المفاجىء والسريع لمصطلح "المطالب الفئوية" في مصر ما بعد مبارك بدأ يخفي طبيعة هذه الأزمة المزمنة. ردة الفعل هذه أثارت ريبة المدون البارز علاء سيف الإسلام الذي كتب في يوم عيد العمال: "مع أن الإضرابات العمالية ومظاهرات الموظفين فى تزايد من أيام 2006 ولم تتوقف، ومع أن العمال لعبوا دوراً مهماً فى إسقاط مبارك، لقينا كلمة (فئوية) بتتقال كأنها شتيمة وفجأة صورت لنا مطالب الأجر العادل وظروف العمل الكريمة وكأنها مطالب أنانية... ووصل الأمر لتصوير إضرابات عمال وموظفى مصر على أنها جزء من الثورة المضادة ومؤامرة من الحزب الوطنى." (10)
وهم المصالح الضيقة
من خلال ترسيخ الإنطباع بأن مطالبة العمال المغبونين بظروف عمل أكثر إنسانية وأجر أفضل هي نتاج خلاف ضيق الأفق بين الموظف وإدارته داخل أروقة المصانع والمكاتب، يؤدي مصطلح "فئوي" دورا ً أكثر من مجرد شيطنة هذه المطالب ووضعها خارج إطارها التاريخي. فتصوير جميع المطالب المتنوعة التي تمثل مصالح فردية على أنها فئوية تخفي الأزمة الإقتصادية الوطنية العميقة التي تبرزها هذه التظاهرات والإعتصامات.
وهم الاعتبارات الضيقة ربما ينشأ من أسلوب التحرك العمالي الذي يبدو وكأنه غوغائي، مقسم، وغير مرتبط بأي مشروع سياسي وطني. غير أن هذه الجهود المبعثرة لا تعبر عن مصالح ضيقة بل هي تعكس غيابا ً طال أجله لعمل جاد دفاعا ً عن حقوق العمال. لعقود مضت، إحتكرالاتحاد العام لنقابات عمال مصرالتي تتحكم به السلطة حق تمثيل العمال وسعى لكبح مطالب من يمثلهم أكثر من الدفاع عن مصالحهم. وعلى مستوى طبقة النخبة في عهد مبارك، كانت الفرص ضئيلة للتعبير عن حاجات العمال المصريين في إطار مشروع متكامل وذلك لأن الأحزاب المعارضة المرخص لها بالعمل والتي إدعت التكلم بإسم العمال، كحزب التجمع، كانت خاضعة لسيطرة حلفاء النظام الذين سعوا إلى إسكات العمال.
وفي مواجهة هذا التحدي تم إحراز تقدم من خلال إنشاء اتحاد العمال المصريين المستقل شهر يناير وتشكيل أحزاب جديدة أعلنت إلتزامها بحقوق العمال، لكن ما زالت هذه الجهود قيد التطوير.
في غضون ذلك، يبقى أن تفكك التظاهرات والاعتصامات العمالية لا يجعل من المشكلة القائمة مجرد محاولات فردية لتحقيق مكاسب خاصة. الأزمة في المقام الأول هي وطنية بإمتياز ناتجة عن فشل الدولة في التعامل مع ارتفاع أسعار السلع الأساسية، الأمر الذي يدفع بشريحة كبيرة من المجتمع المصري إلى الكدح من أجل تحصيل لقمة العيش. ومع تسجيل، خلال الأعوام الأخيرة، معدلات تضخم غير مسبوقة منذ مطلع التسعينات وحوالي 40 بالمئة من المصريين يعيشون على أقل من دولارين باليوم، فأن تجليات الأزمة الإجتماعية والإقتصادية، التي تجسدها بامتياز "التظاهرات الفئوية"، لا تفاجىء أحدا ً. في الواقع، إن التحركات العمالية ليست التعبير الوحيد عن المعاناة: عام 2008 وقعت أعمال شغب بسبب إنقطاع الخبز المدعوم من الحكومة، وإرتفع سعر الرغيف الذي يباع في المخابز الخاصة خمسة أضعاف مما جعله مستحيل المنال.
التردي المستمر في نوعية وكمية الخدمات الإجتماعية التي تقدمها الدولة دفعت بالعديد من العائلات إلى إنفاق جزء يسير من رواتبهم على الخدمات التي كانوا يحصلون عليها مجانا ً كالرعاية الطبية والتعليم. على سبيل المثال، تنفق العائلات المصرية بحسب التقديرات بين 10 و15 مليار جنيه مصري سنويا ً على الدروس الخصوصية وذلك للتعويض عن ضعف قطاع التعليم في المدارس العامة والخاصة (11). كما تشير التقديرات إلى أن ثلثي الطلاب المصريين يلجأون إلى الدروس الخصوصية، وأن 60 بالمئة من عائلات هؤلاء الطلاب ينفقون ثلث مدخولهم على هذه الدروس الخصوصية (12). لذا من غير المفاجىء أن تتكرر حالات التعبير عن الغضب التي تتمحور حول الرواتب غير الكافية والتي لا تتناسب مع إرتفاع الأسعار وغلاء المعيشة. وما يزيد من حدة هذه الأزمة هي التقارير الدورية حول الفوارق الشاسعة في المدخول بين المسؤولين الإداريين والموظفيين داخل الشركة الواحدة، لا سيما في القطاع المصرفي، حيث أعلن عدد من الموظفين الغاضبين عن رفضهم لهذا الواقع (13). تسويق مصطلح فئوي وما يخبأه من إفتراضات يبعد الأنظار عن الحاجة لحوار شامل لحل المشاكل الإقتصادية الملحة التي تؤثر في حياة الناس يوميا. المقاربة غير النقدية التي يوليها صانعو القرار لمقولة "عجلة الإنتاج" ساهمت في تهميش هذه المطالب الملحة حتى في وقت تدهس فيه هذه العجلة ملايين المصريين.
برز الكاتب وائل جمال كصوت يغرد خارج السرب. ففي مقال بعنوان "الشعب يريد عجلة إنتاج أخرى" صدر في صحيفة الشروق يقول: "لقد ثار المصريون من أجل تغيير عجلة الإنتاج القديمة لأنها قمعية وتخلق الفقر والجهل والمرض." (14)
بكلام آخر، إن تنامي الإحتجاجات العمالية بعد سقوط نظام مبارك يظهر مدى تدهور حقوق العمال خلال السنوات السابقة التي تميزت بالرأسمالية الزبائنية. أعداد كبيرة من الموظفين تم طردهم بشكل تعسفي، آخرون إقتطعت رواتبهم ومستحقاتهم وذلك بعد عام 2004 عندما هرعت حكومة نظيف نحو الليبرالية الإقتصادية، سيما في إطار خصخصة القطاع العام. وتدريجيا ً أصبح المزيد والمزيد من العمال مؤقتين: يقدر بأنه عام 2010 ثلاثة ملايين مصري عملوا وفق عقود تسمح لمشغيليهم بطردهم تعسفيا ً. وفي هذا الصدد كانت إحدى "الممارسات المعتمدة" إلزام الموظفين الجدد بتوقيع "طلب إستقالة" قبل بدء عملهم. غياب المستحقات كالتأمين في العقود تلك يثر مخاوف عدة، لأن التوظيف المؤقت يتركز في قطاعات العمل التي تشمل أخطار جسدية كالزراعة والبناء والتنقيب 15. خلال السنوات إن لم نقل العقود المنصرمة، وافق العديد من المصريين على التعاقد وفق شروط غير مرضية في القطاع العام وتقاضي مرتبات شهرية لا تتجاوز المئة جنيه مصري على أمل أن يتم تعيينهم بمناصب حكومية دائمة لاحقا ً مما يؤمن لهم أجورا ً أعلى، ومستحقات أفضل، و-- ربما يوما ً – معاش. وفي حين أعلنت الحكومة إتخاذها خطوات لمنح الموظفين المؤقتين حقوق في وكالات الدولة، ما زال هناك الكثير لمعالجة المشاكل التي يعاني منها الملايين من الموظفين المصريين بسبب إزدواجية الدولة. الأزمة التي يعاني منها الموظفون المؤقتون ليست سوى نموذجا ً عن مشكلة أعمق وهي أن غالبية المؤسسات في مختلف القطاعات الأقتصادية لا تطالها القوانين المتعلقة بحقوق العمال. على سبيل المثال، قرار الحكومة عام 2010 برفع الحد الأدنى للأجور الذي يعود إلى عام 1984 من 35 جنيه مصري إلى 400 جنيه، وهو يتعدى خط الفقر بفارق بسيط، لم يترك أي أثر على حياة سبعة ملايين مصري (من ضمنهم 50 بالمئة من عدد النساء العاملات) ممن يعملون ضمن الإقتصاد الموازي بعيدا ً عن تدقيق الحكومة.
وفي المقال المذكور آنفا ً في يوم العمل، تم ذكر بعض النماذج من الذين يعيشون ظروفا ً حياتية قاسية: "مهندس كبير يحمل شهادة ماجستير" أجبر على توقيع ورقة إستقالته في يوم عمله الأول، أستاذ رياضيات منذ 18 سنة ما زال "يتنقل على دراجة نارية" وهو مهدد "بالموت من الجوع" في حال توقف مدخوله الإضافي من الدروس الخصوصية، مساعد مدير في مطعم كنتاكي يعمل من التاسعة صباحا ً حتى العاشرة مساء ً كل يوم، طبيب في وزارة الصحة لم يتجاوز مرتب نهاية خدمته المئتي دولار بعد ثلاثين عاما ً من العمل، ونساء يحصلن على ثلاثة أشهر فقط من إجازة الأمومة. هؤلاء العمال ليسوا البتة كالذين يصورهم الأعلام على أنهم من ذوي المصالح الضيقة، مع العلم بأن معظم "المتظاهرين الفئويين" مهمشين بدرجة أكبر من ذلك.
أخيرا ً، إن القول الرائج بأن الإضطربات العمالية هي وراء الأزمة الإقتصادية التي تمر بها مصر بعد سقوط نظام مبارك، وهو غالبا ً ما يزعمه المسؤولون الحكوميون، غير مقنع بأقل تقدير. المزاعم الرسمية بأن وضع حد للتظاهرات الفئوية سيعيد فورا ً تدفق الإستثمارات الأجنبية والسياح يتجاهل واقع غياب القانون الذي تلا إختفاء الشرطة من الشوارع خلال ثورة 25 يناير، والمجهول الذي يتخبط به مستقبل مصر السياسي، والعنف الطائفي، والتحذير من السفر إلى مصر الذي تصدره الحكومات الأجنبية، والمضايقات التي يتعرض لها الأفراد جراء حظر التجول والقانون العسكري.
إعادة كتابة التاريخ
يبدو أن صانعي القرار ممن أشاعوا مصطلح "المطالب الفئوية" يشاركون في صياغة إنتقائية لوقائع ثورة 25 يناير التاريخية التي لم تنته بعد.
وردا ً على التنديد الشعبي بقرار الحكومة منع التظاهر والإضراب، أعلن رئيس الوزراء شرف للصحافيين في مارس أن هدف هذا القانون الجديد هو حماية الثورة من التظاهرات الفئوية. بعد أسبوع، قال ناشط سياسي لإحدى الصحف إن شرف أكد لتحالف شباب الثورة أن القانون الجديد لن يطال حقهم في الدعوة إلى التظاهر في ميدان التحرير كما جرت العادة كل يوم جمعة تقريبا ً (16). ما تعنيه مقاربة الحكومة ضمنا ً أن تظاهرات ميدان التحرير هي إمتداد للثورة، في حين أن الإحتجاجات العمالية، التي توصف بالفئوية، تؤازر الثورة المضادة. الثنائية التي تطرحها الحكومة تهدف إذا ً لترسيخ القناعة بأن مطلب إعادة توزيع الثروات لعب دورا ً محدودا ً في سقوط نظام مبارك. هذا الطرح، رغم شيوعه، غير صحيح لثلاثة أسباب رئيسية.
أولا ً، قبيل إنطلاق الثورة في شهر يناير، تكثفت التظاهرات العمالية والإضرابات. إحتمال أن هذه الإحتجاجات شكلت المحفز الرئيسي للمشاركة الواسعة في الثورة هو أمر يحتاج إلى دراسة معمقة، لكن في أقل تقدير تظهر تلك التحركات أن الإستياء الشعبي قبيل الثورة -- إن لم نكن قبلها بسنوات -- تمحور حول مطالب إعادة توزيع الثروات. أمثلة عن هذه الحركات الإحتجاجية تتضمن: إعتصام لحوالي 1500 موظف في مستشفى جامعة المنصورة للمطالبة بتعيين دائم بعد عملهم لأكثر من 15 سنة وفق عقد مؤقت، إضراب 300 عامل في مصنع للخشب في دشنة إحتجاجا ً على عدم دفع رواتبهم، إضراب نحو عشرين بالمئة من عمال مصانع سكك الحديد في القاهرة، إضراب نفذه قرابة المئتي ممرض وممرضة وتقنيين في التصوير الشعاعي في مستشفى أشمون إحتجاجا ً على إقتطاع مستحقاتهم، وإعتصام لعمال شركة الكركات في الإسماعيلية وبور سعيد ضد التفاوت في ساعات العمل بين الموظفين (17).
ثانيا ً، المدن التي تقطنها أغلبية ساحقة من الطبقة العاملة كالمحلة والسويس شهدت إضطربات عمالية كبيرة وتظاهرات بالآلاف خلال ثورة 25 يناير، وهذا دون ذكر المواجهات الحادة مع رجال الأمن. هذا الواقع يشير إلى أن مطالب توزيع الثروات، والتي تم تصويرها لاحقا ً على أنها مطالب فئوية، لعبت دورا ً محوريا ً في تحريك الجموع دعما ً للثورة. كما وأن العمال شاركوا في الثورة كأفراد وليس كمنظمات عمالية وفق ما يبينه مؤرخ الحركات العمالية جويل باينن وغيره (18). ورغم إستحالة التحقق بدقة من الدور الذي لعبته مطالب توزيع الثروات، فإن المسافة التي يضعها بعض صانعي القرار بين هذه المطالب والثورة تبدو إلى حد كبير مبالغ فيها. القول بأن المتظاهرين وضعوا جانبا ً مطالبهم الإجتماعية والإقتصادية من أجل توحيد الرسالة الداعية إلى سقوط مبارك لا يعني أبدا ً أن الأوضاع الإقتصادية الرديئة لم تلعب دورا ً في نزول هؤلاء الناس إلى الشارع.
ثالثا ً، إن التركيز الإعلامي على أحداث ميدان التحرير والوحدة ما بين الطبقات الإجتماعية المختلفة هناك لا ينبغي أن يبعد الأنظار عن أهمية الإحتجاجات العمالية التي شهدتها البلاد خارج هذه الساحات الكبرى خلال أيام مبارك الأخيرة. فعلى سبيل المثال، حين أعادة الشركات فتح أبوابها في السابع من فبراير للمرة الأولى منذ 28 يناير، عادت الإضرابات والتظاهرات العمالية لتنتشر في أرجاء المحافظات المصرية. مطالب المحتجين أولئك لا تختلف عن "المطالب الفئوية" التي سارع البعض إلى التنديد بها بعيد 11 فبراير. مؤشرات الإضطربات العمالية التي بدت واضحة قبل يوم من إصدار الجلس الأعلى بيانه الأول، تتضمن: تظاهرات بالآلاف للعمال في حلوان، كفر الدوار، وكفر الزيات، تظاهرة للموظفين المؤقتين أمام مقر الهيئة العامة للتأمين الصحي في القاهرة للمطالبة بعقود دائمة، تظاهرة لأكثر من 500 موظف لدى الهلال الأحمر دعما ً للموظفين الذين يعملون وفقا ً لعقود مؤقتة منذ أكثر من عشرين عاما ً، مسيرة بالآلاف لعمال تنظيف الشوارع في شارع السودان في حي المهندسين في العاصمة للمطالبة بتحسين ظروف العمل ورفع أجورهم (19).
بعض المراقبين، كالمدون والناشط حسام الحملاوي يعتقدون أن الإضرابات خلال الأسبوع الأخير قبل الثورة شكلت لحظة فاصلة في إجبار مبارك على الإستقالة (20). لا يوجد حتى الآن تقرير مفصل حول تسلسل الأحداث التي دفعت مبارك للإستقالة. غير أن الواقع هو أن الأمر الأول الذي سعى إليه المجلس الأعلى بعد تسلمه مقاليد السلطة هو وضع حد للإضرابات، الأمر الذي يظهر مدى القلق الذي شعر به الجنرالات حول مبارك جراء الشلل في حركة العمل. إذا ً القول بأن هذه الإحتجاجات ساعدت في سقوط مبارك هو أمر منطقي.
ترويج مصطلح "فئوي" بغية وصف مطالب العمال المصريين، ووضعهم في خانة ذوي المصالح الضيقة، إضافة إلى إتهامهم بخدمة الثورة المضادة يمثل ليس فقط إنكارا ً لحقهم في حياة أفضل، بل إن المشكلة تتعدى عبثية المرتكزات التي يبنى عليها هذا المصطلح.
الاستخدام الشائع لهذا المصطلح يشير إلى أن ثمة إجماع بين النخبة المصرية لإعادة كتابة تاريخ الثورة، معناها وأهدافها – وذلك بهدف تهميش المشاكل الإجتماعية والإقتصادية الملحة والملايين من المصريين الذين يعانون منها. وفي حين يعتبر العديد أن المصريين ثاروا بسبب تردي الأوضاع المعيشية، السرعة التي نجحت فيها الوجوه النافذة من ترويج المصطلح "فئوي" يشير إلى أن معالجة هذه المظالم في مصر ما بعد مبارك -- حتى إدراجها ضمن أجندة سياسية وطنية -- لن يكون سهلا ً كما كان يعتقد البعض.
وتبقى الأنظار معلقة لمعرفة ما إذا كان نشوء أحزاب جديدة ونقابات عمالية جديدة ستمنح العمال وحلفاءهم من بين دعاة إعادة توزيع الثروات فرصة لمواجهة هذا النوع من النخبوية اللامبالية. وفي أي حال التوجه القائم ينبيء بأن ما ينتظره العمال المصريون بعد نهاية عقود من الغزل السيء مع نظام مبارك المستبد لن يكون نهاية سعيدة بل تحديات جديدة ومجهول أحلك.
الهوامش:
1- التصريح متوفر في الموقع الالكتروني: http://www.sis.gov.eg/Ar/Story.aspx?sid=44125
2- المصري اليوم، 16 فبراير 2011.
3- الوفد، 9 مارس 2011.
4- اليوم السابع، 1 ابريل 2011.
5- خالد منتصر، "عدوى التحرير" في المصري اليوم، 4 مارس 2011.
6- لميس الحديدي، "صباح الفل يا بلد" في المصري اليوم، 15 فبراير 2011.
7- المصري اليوم، 20 فبراير 2011.
8- اليوم السابع، 11 يناير 2011 .
9- المصري اليوم، 29 ديسمبر 2010.
10- في مقالة بلال فضل، "متى ينتصر العمال؟" في المصري اليوم، 1 مايو 2011.
11- أحمد زويل، "تأملات حول النهضة العربية" في مجلة Cairo Review of Global Affair ربيع 2011
12- الأهرام، 21 سبتمبر 2010
13- الأهرام، 28 ابريل 2011
14- وائل جمال، "الشعب يريد عجلة إنتاج أخرى" في الشروق، 26 ابريل 2011
15- المصري اليوم، 22 اوكتوبر 2010
16- الدستور الأصلي، 6 ابريل 2011
17- لمراجعة اللائحة الكاملة بالتظاهرات العمالية في مصر منذ ديسمبر 2010 الإطلاع على الموقع الالكتروني: http://www.id3m.com
18- جويل باينن، "عمال مصر ينتفضون" في مجلة The Nation، 7 مارس 2011
19- اللائحة الكاملة في كتاب ثورة مصر: 18 يوما ً هزت العالم (القاهرة: دار أخبار اليوم) للكاتب حسين عبد الواحد، ص. 50 - 54
20- مقابلة مع حسام الحملاوي، موقع جدلية في 9 ابريل 2011