ذهب السودان بعد نفطه: لمن؟

[???? ?????? ?.?] [???? ?????? ?.?]

ذهب السودان بعد نفطه: لمن؟

By : Alsir Said Ahmad السر سيد أحمد

تتجه أنظار السودانيين الى فبراير/شباط المقبل لمعرفة امكانية تحقيق الوعود التي أطلقها وزير المعادن الشاب، أحمد الصادق الكاروري، ببدء الإنتاج الحكومي من الذهب بمشاركة روسية. ففي أواخر يوليو/تموز المنصرم، أعلن عن التوقيع على عقد بين الوزارة والشركة الروسية "سيبريا" بحضور الرئيس عمر البشير شخصياً، مما يشير إلى الأهمية التي أسبغت على المناسبة. وفي حفل التوقيع نفسه تحدث الوزير عن الاحتياطيات الضخمة المكتشفة من الذهب التي سيجري العمل للبدء في إنتاجها من موقعين في ولايتي نهر النيل والبحر الأحمر، حيث يمكن للموقع الأول أن ينتج ثمانية آلاف طن والثاني 36 ألفاً، ولو أن التوقيع مع شركة سيبريا الروسية أقتصر حتى الآن على الموقع الأول فقط. الوزير أوضح أن نسبة الحكومة من العائد ستصل إلى 75 في المئة وسيكون الباقي للشركة، كما أضاف في تصريحات لاحقة ان الشركة ستقوم بموجب العقد بتوفير مبلغ خمسة مليارات دولار في شكل قرض من مؤسسات التمويل العالمية، بضمان الذهب المنتَج.


موجودة أم شبحية؟

أثارت هذه الإعلانات العديد من علامات الاستفهام التي اشتعلت بها مواقع التواصل الاجتماعي، بل وشارك فيها وزير سابق للمعادن عبَّر عن حيرته بخصوص الأرقام الكبيرة التي أعلنها خلفه. بدأت حملة التساؤلات بملاحظة تجاهل وكالات الأنباء العالمية، وخاصة تلك المهتمة بالشأن الاقتصادي مثل رويترز وبلومبيرغ، وهي كلها لها مراسلون في الخرطوم، خبراً بهذا الحجم يمكن أن يكون له تأثيره في تجارة الذهب العالمية. الرواية السائدة ان مراسلي الوكالات الأجنبية بعثوا بالخبر الى رئاساتهم التي أستقصت عن اسم الشركة الروسية المعلن في الخرطوم.. فلم تجد لها أثراً في موسكو، وكان أن أهملت الخبر.

ردت الوزارة ومدير الشركة الروسية بأن القوانين السودانية تفرض تسجيل الشركة في السودان وقد تم ذلك بأسم مختلف عن أسم الشركة الأم في روسيا. على ان بعض الباحثين قاموا بالتنقيب عن سجل تلك الشركة الأم ووجدوا ان تاريخ تأسيسها يعود الى العام 1992، كما انها مرت بفترات من التعثر المالي أثر التحولات السياسية والاقتصادية التي شهدتها روسيا في تلك الفترة، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ثم سُجلت في لندن وكل ما عملت عليه في ميدان الذهب لا يتجاوزإنتاج طن ونصف الطن، وأهم من هذا ان الحكومة الروسية تملك نسبة 66 في المئة من أسهم هذه الشركة من خلال غازبروم بنك، وهي إحدى المؤسسات الاقتصادية الروسية الخاضعة للمقاطعة الغربية بسبب الصراع في أوكرانيا.

الوزارة ردت بأن للشركة سجلاً من النشاط التنقيبي عن الذهب في السودان يعود الى العام 2013 حيث استخدمت القمر الصناعي الروسي وتقنيات أخرى للمساعدة في الرصد المبدئي لحجم الاحتياطي ورسم الخرائط، وأتْبعت ذلك بعمل ميداني وحفر 600 حفرة في الموقع خلال هذه الفترة، وتجميع كل المعلومات وأخذ العينات وتحليلها ومن ثم الوصول الى التحديد الأولي لحجم الاحتياطي ووضع خطة للإنتاج تبدأ بعد ستة أشهر من التوقيع على العقد، ليبلغ 32 طناً بنهاية العام الأول ثم يرتفع الى 53 طناً في العامين التاليين.

إفادات الوزير لم تنجح في إشاعة الطمأنينة خاصة مع الارتباك الواضح في التعامل الإعلامي مع عدد الأسئلة المتفجرة حول الصفقة. وأخيراً اعتمد المسؤولون إستراتيجية تقول إن الدولة لن تخسر شيئاً لأن العقد لا يلقي عليها تبعات مالية. وفي وجه المقاطعة الاقتصادية الغربية بقيادة الولايات المتحدة، فإن خياراتها أصبحت محدودة، وبالتالي فيمكن الانتظار فترة الشهور الستة "والمية تكذِّب الغطاس" كما يقول التعبير الشائع. وهكذا أصبح استغلال ذهب السودان في انتظار الغطاس الروسي.

طوق نجاة اقتصادي

عُرِف السودان منذ آماد تاريخية سحيقة بأنه موطن لثروات معدنية عديدة من بينها الذهب. وفي مادة التاريخ التي يدرسها الطلاب في المدارس أن محمد علي باشا بعد أن أستقر له الأمر في مصر وخطط للتوسع، اتجهت أنظاره إلى السودان، حيث أرسل بعثات عسكرية جلباً للمال والرجال. والمال إشارة الى الذهب، لكنه لم يعثر على الكميات التي كان يأمل فيها. وحتى عندما عادت مصر لاستعمار السودان في شراكة مع بريطانيا في أواخر القرن التاسع عشر، وقع معظم العبء المالي للإدارة الاستعمارية على مصر.

لم يعد للذهب شأن يُذكر إلا قبل خمس سنوات عندما تصاعد نشاط التعدين الأهلي في مختلف مناطق البلاد، وقُدِّر عدد العاملين فيه في فترة من الفترات بأكثر من مليون شخص، نجح كثيرون منهم في تحسين أوضاعهم الاقتصادية. ويقدَّر أن ذلك الجهد وأنشطته المصاحبة أصبح يعود على الخزينة العامة بنحو ملياري دولار سنوياً. أكتسب هذا الوضع أهميته من ناحيتين: اذ تزامن تصاعد نشاط التعدين الأهلي عن الذهب مع الصدمة الاقتصادية الناجمة عن انفصال جنوب السودان في العام 2011، حاملا معه نحو 75 في المئة من الاحتياطيات النفطية المعروفة في البلاد، ومعها بالطبع عائداتها من العملات الصعبة وكانت تغطي نحو 90 في المئة من إيرادات البلاد من النقد الأجنبي، الى جانب نصف دخل الخزينة العامة. كذلك فقد تزامنت هذه الفترة مع اشتعال ثورات الربيع العربي. وفي تعقيب للنائب الأول لرئيس الجمهورية، بكري حسن صالح في مؤتمر صحافي له مؤخراً، أنه لولا التعدين الأهلي للحق السودان بركب الدول التي تعرضت الى تلك الانتفاضات.

وفي الواقع، فإنه وحتى قبل بدء عمل الشركة الروسية، فإن إنتاج الذهب شهد تصاعداً. وصرح وزير المعادن انه في الشهرين الأولين من 2015، بلغ الإنتاج من الذهب 17 طناً، ويتوقع له أن يبلغ 80 طناً بنهايته. وكان 74 طناً في العام الماضي، بل وتوقع أن يبلغ حجم الإنتاج 100 طن العام المقبل.

ويشير تقرير لصندوق النقد الدولي عن أداء الاقتصاد السوداني انه يتوقع نمواً له بحدود 2.9 في المئة هذا العام، وأن أحد أسباب هذا النمو هو النشاط التنقيبي في مجال الذهب، حيث أصبح يشكل 70 في المئة من الصادرات بعدما كان 10 في المئة خلال فترة السنوات الأربع الماضية. ويحتل السودان حالياً المرتبة الثالثة في إنتاج الذهب بعد جنوب أفريقيا وغانا، وإذا سارت عمليات الإنتاج بمعدلاتها الحالية، وأضيف اليها ما يمكن أن تنتجه الشركة الروسية، فمن المتوقع أن يحتل السودان المرتبة الأولى في إنتاج الذهب في غضون عامين أو ثلاثة.

أبعاد دولية

أدى ظهور نشاط عمليات البحث عن الذهب في إقليم دارفور المضطرب إلى لفت الأنظار، لدرجة أدت الى هجرات إليه من دول مجاورة مثل أثيوبيا وأريتريا وتشاد ومالي. كذلك أدى ظهور النشاط التنقيبي في دارفور الى تصاعد الاقتتال القبلي بين بعض المليشيات المحلية التي تنقلت بسلاحها بين الولاء للحكومة وللمتمردين عليها، بسبب شعور شائع بينها ان الزعامات التي كانت تقاتل الى جانبها حصلت على وظائف وامتيازات شخصية من الحكومة بينما لم ينعكس ذلك على الناس العاديين. أما مؤسسة "كفاية" الأميركية التي أسسها جون برندركاست، الذي قام مع نشطاء آخرين بدور رئيسي في دعم حركة التمرد في السودان، والمعاونة في انفصال جنوب السودان، فأصدرت تقريراً مطلع هذا العام يدعو الإدارة الأميركية الى قيادة حملة لتسليط الضوء على الذهب المنتَج من مناطق النزاعات مثل دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، واعتباره مساهماً في تأجيج الصراع. وأبلغ برندركاست إحدى لجان الكونغرس برأيه ذاك قبل بضعة شهور، ملمحاً إلى أنه بما ان هناك سيطرة من قبل بنك السودان المركزي على عمليات تجارة الذهب وعائداته تُستخدم في تمويل العنف الحكومي في تلك المناطق، فإن على الولايات المتحدة أن تقوم بالإجراءات اللازمة للإعلان عن الذهب السوداني والتعامل معه بصورة منفصلة في السوق العالمية، وإخضاعه الى تدابير إضافية. وأضاف أن قيام واشنطن بفرض غرامة باهظة على بنك باريبا الفرنسي (بلغت 8.9 مليارات دولار) لتعامله مع السودان وإيران وكوبا، أدت الى إحجام عدد من بنوك المنطقة عن التعامل المصرفي مع السودان.

كما أن إحدى القضايا التي لا تزال عالقة تخص ما إذا كان يمكن للسودان الاستفادة من تجربته في إنتاج النفط واستخلاص الدروس اللازمة في حال تصاعد إنتاجه من الذهب الذي يمكن أن يعود عليه بالمليارات كما يأمل المسؤولون. إذ تشير التقديرات في عقد الإنتاج النفطي إلى أن السودان حصل على قرابة 60 مليار دولار لم تذهب كلها إلى خزينة الدولة، وإنما ذهب جزء كبير منها إلى الشركات الأجنبية العاملة، وفق اتفاقية قسمة الإنتاج التي يخصص لها ما يُعرف بـ "زيت التكلفة"، لمقابلة ما قامت بإنفاقه في عمليات الاستكشاف والإنتاج والمعالجة والترحيل. ولهذا يُعتقد أن المبلغ الذي حصلت عليه حكومة السودان من العائدات النفطية يتراوح بين 30 أو 35 مليار دولار، وأن 12 ملياراً منها كانت من نصيب جنوب السودان بعد اتفاقية السلام مع المتمردين في العام 2005. وما تبقَّى أصبح أضخم مبلغ بالعملات الصعبة تحصل عليه أي حكومة سودانية، لكن لم يتم استثماره بصورة جيدة في قطاعات إنتاجية متجددة مثل الزراعة.

والذهب مثل النفط، ثروة ناضبة. وعليه أصبح السؤال المطروح بإلحاح يتعلق بالسياسات التي ستتخذها الحكومة للاستفادة من هذه العائدات المتوقعة، وإلى أي مدى يمكن للوجود الروسي في ميدان الذهب أن يماثل الدور الذي قامت به الصين في الميدان النفطي.

ومع تتالي طوفان الأسئلة المتعلقة بالذهب، لخص أحد المراقبين الوضع باستدعاء ما نُقل عن أحد شيوخ القبائل عندما ظهرت دعوة الثائر محمد أحمد في القرن التاسع عشر (الجد الكبير للزعيم الحالي الصادق المهدي)، معلناً أنه المهدي المنتظر، وعلى الناس مبايعته لتخليص البلاد من الظلم وإقامة العدل. وفي رده على أسئلة أحد أتباعه عن دعوة المهدية تلك، قال الشيخ بلغة سودانية دارجة: "إن كان مهدي جيد لينا، وإن طلع ما مهدي شين لينا"، أي اذا اتضح انه مهدي الله المنتظر فعلاً فهذا جيد لنا ومن حسن حظنا، واذا كان غير ذلك فليس لنا من الأمر شيء لنخسره!

[يعاد نشر المادة ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين "جدلية" و"السفير العربي"] 

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • السودان: «السياسي» و«الاقتصادي» متداخلان

      السودان: «السياسي» و«الاقتصادي» متداخلان
        في العشرين من أيلول/سبتمبر الماضي، أكملت بعثة صندوق النقد الدولي زيارتها إلى السودان، وفي الرابع والعشرين منه أعلنت الخرطوم بدء تطبيق حزمة إجراءات اقتصادية أبرز ملامحها رفع الدعم عن المحر

تنظيم المخلّ بالنظام؟ الباعة المتجولون والدولة التنمويّة

 عندما أصدر الرئيس مرسي في العشرين من تشرين الثاني (من العام الماضي) مرسومه المثير للجدل والذي يقع خارج صلاحياته الدستورية، والذي قام لاحقاً بإلغائه جزئياً جرّاء ضغط شعبي هائل، وعد باستعمال صلاحياته التشريعية الإستثنائية الممنوحة له فقط في حدود مقلصة للغاية. وعندما قام فعلياً بممارسة هذه الصلاحيات، قام بذلك سريعاً من أجل سنّ قانون رقم 105/2012 وذلك في خضم ما بات يوصف –دون مغالاة- باللحظات الأكثر حسماً في تاريخ مصر الحديث. حتى المحلل السياسي الأكثر تمرّساً يمكن أن يغفر له إذا ما افترض من باب السذاجة أن هذا القانون يتعلق بالاستفتاء الوشيك على مسودّة الدستور التي أدت الى استقطاب حاد البلاد، أو أنه يتعلق بدور الجيش في الاقتصاد. إلا أن ما يثير الاهتمام هو أن قانون 105/2012 كان قد صُمم من أجل زيادة الإجراءات العقابية ضد الباعة المتجولين، فقد رُفعت العقوبة على الإخلال المنصوص في القانون رقم 33/1957، والتي كانت، حتى ذلك الوقت، تنظم عمل ما يقدر بخمسة ملايين بائع متجول في مصر؛ من شهر واحد إلى ثلاثة أشهر سجن والى خمسة آلاف جنيه غرامة بدلاً من ألف جنيه. لكن، هل كانت هذه على ما يبدو واحدة من إخفاقات مرسي اللانهائية في الأسابيع الأخيرة التي تعكس عدم تواصله بتاتاً مع الحقائق السياسية؟ أم أن هناك المزيد مما يمكن قراءته في مثل هذا القرار من حيث طبيعة علاقات الدولة والمجتمع، الاقتصاد والحيز العام في المرحلة الثورية الحالية؟

إن ثورة 25 يناير، والثمانية عشر يوماً الصاخبة في ميدان التحرير والمسيرات والاحتجاجات العملاقة والاعتصامات التي تلتها والتي اجتاحت البلاد منذ ذلك الوقت، قد أدت الى أكثر من مجرد إسقاط حسني مبارك. فهي تطرح تحديات لهؤلاء الذين خلفوه. الثقافة السياسية الجديدة التي نشأت في صحوة هذه الثورة، كانت قد أبرزت في المقام الأول، الحسّ الفردي والجماعي للمطالبة بالحرية. وعليه فقد قامت بتغيير ممارسات وإدراكات حول الحيز العام. فقد قام النظام التقليدي للحفاظ على الأمن في الحيز المديني المصري، معززاً بكل من قانون الطوارئ المشهور وحضور بوليسي مكثف في الشارع والجدران العالية المنتشرة حول المجمعات السكنية المسوّرة ومراكز التسوق، بإرهاب المواطنين لوقت طويل وحدّ من قدرتهم على استملاك الحيز العام. سواء كانوا نشطاء يدفعون للتعبئة ضد النظام أو كانوا عشاقاّ يبحثون عن لحظات حميمية سريعة، أو فقراء يأملون بلحظات من الراحة من شقائهم اليومي الطاحنّ؛ فقد مُنع المصريون جسدياً من الوصول إلى الحيز العام. الإحساس بالقوة الكامنة الذي تم الحصول عليه أثناء الخروج الى الشوارع على مدى العاميّن الماضيين لم يتمكن من إلغاء حكم السيطرة بالكامل ولكنه بالتأكيد أدى الى ما بات يسميه الكثيرون "إعادة الاستيلاء" على الحيز العام. لا يمكن بعد اليوم تقييدالملايين التي اختبرت الحرية عبر الخروج الى الشوارع للتظاهر، للتناقش وتبادل الأفكار مع رفاقهم من المواطنين الذين لم تتح لهم فرصة التلاقي علناً من قبل، من قبل النظام القمعي ذاته، على الأقل ليس بشكل تام.

إلا أن إكتشاف فرص وموارد جديدة عادة ما يؤدي إلى معارك على الملكية والاستحقاق. لذلك فالمقدرة على إستعادة الحيز العام سرعان ما خلقت نقاشات حادة حول أحقية الوصول لهذا الحيز، من يتوجب إقصاؤه وما هي قواعد التواصل التي يجب اعتمادها بين المواطنين من ذات الدولة. الفئات السياسية المتحاربة قدمت مثالاً لهذه المعركة الجديدة في حملاتها للمطالبة بنسب مواقع تجمّع معينة لها، وعلى رأسها ميدان التحرير الذي بات موقعاً أيقونياً. وكان رسم كاريكاتوري تم تناقله بشكل واسع على الفايسبوك بعد الصدامات بين القوى المعارضة والمؤيدة لمرسوم مرسي الرئاسي حول استعمال ميدان التحرير كبؤرة الزلزال لحملاتهم الشعبية لتعبئة الجماهير، قد عكس هذا النزاع بشكل كبير. ويقترح الرسم الكاريكاتوري مجموعة من القواعد "لجدول ميدان التحرير"، حيث يتم حجز أيام السبت والإثنين والأربعاء لمؤيدي السلفيين والأخوان المسلمين، بينما تُحجز أيام الأحد والثلاثاء والخميس للثوار. وأخيراً فإن يوم الجمعة قد تم تحديده للصيانة والتنظيف وتبادل أسرى "الحرب". إلا أنه، ومنذ 25 يناير 2011، تعدّت المعارك حول ملكية واستحقاق الحيز العام إلى ما هو أكبر من الصراعات الدائرة بين القوى السياسية المتحاربة. الإمكانيات الجديدة لاستحقاق الحيز العام أحيت مخاوف مجتمعية متأصلة وخطوط تماس بين مجموعات اجتماعية وسياسية مختلفة. واحدة من الأمثلة الأكثر صلة بهذا التماس كان السؤال حول حضور المرأة في الحيز العام والمضايقات المتكررة التي عانت منها خلال وما بعد الثورة. الحالات الأخرى التي أثارت قلقاً متواصلاً تتعلق بمكان مجموعات مهمشة أخرى مثل "أولاد الشوارع" والباعة المتجولين.

\"\"

[الصورة من صفحة "منتديات الشاب كول" على الفيسبوك]

 

منذ الأيام الأولى للثورة، توافد الباعة المتجولون إلى ميدان التحرير حيث خلقوا إقتصاداً محلياً مزدهراً زود ملايين المحتجّين الذين ارتادوا ميدان التحرير لاحقاً بوجبات خفيفة ومشروبات بأسعار معقولة. سواء كانوا عائلات أو مجموعات من الأصدقاء الذين جاؤوا للانضمام للاحتجاج أو للتمتع بالإحساس بالحرية والتفاؤل الناضح من الميدان أو كانوا من المقاتلين المستميتين الذين جعلوا من ميدان التحرير بيتاً لهم، فإن كل هؤلاء اعتمدوا على الباعة المتجولين بدلاً من القهاوي والمطاعم المكلفة في وسط البلد في القاهرة. مع الوقت، إنضم اليهم المزيد من الباعة الذين يبيعون مختلف البضائع وسرعان ما تناثروا جميعهم على أرصفة وشوارع كامل منطقة وسط البلد.

فور سقوط مبارك، شرع الجيش والحكومات المتعاقبة في حملة لإخلاء ميدان التحرير، ليس فقط من المحتجين وإنما أيضاً من الباعة. كان الهدف من هذه المحاولات حفظ النظام العام في الشوارع والأهم من ذلك استعادة صورة الدولة القوية "ووقار" المجتمع المصري، الذي يعتبره هذا المنطق مهدداً نتيجة إحتلال الحيز العام. ونادرة هي الحالات التي لا تؤدي بها الإزالة القسرية إلى تصادم عنيف، يعتبر فيه الباعة و"البلطجية" (غالباً ما تم خلط/استعمال الاثنين بالتبادل) بكونهم الملامين على العنف. جهود سلطات الدولة لإخلاء الباعة من التحرير والشوارع المحيطة شكّلت جزءاً واحداً فقط من حملة شاملة طويلة الأمد تمتد لكافة أطراف البلاد لقمع الظاهرة، والتي يعزو إليها الناس مواطن الشر بما في ذلك الفوضى في الشوارع وأزمة المرور والإخلال بالقانون وعلاوة على كل هذا "تشويه" المظهر الحضاري المصري. يدعم أصحاب المحال التجارية والطبقة الوسطى من سكان المدينة مثل هذه الجهود. فبالنسبة لأصحاب المحال التجارية، من الواضح أن الباعة يشكلون مصدر تهديد لهم لأنهم يبيعون بضاعة بأسعار معقولةعند عتبات محالهم. بينما يرى سكان الحارات التي تقطنها الطبقة الوسطى في المدينة الباعة المتجولين كتهديد لأنهم يعيقون انسياب حركة السير ويسّدون الأرصفة مما يجعل تنقل المارة بسهولة أمراً مستحيلاً. وهناك أيضاً بُعد آخر "أخلاقي" متعلق بشعورهم بالقلق الذي يثيره الفقر وعدم النظام المتجسد بالباعة المتجولين. ومن نافل القول، أنه لا يمكنه عزو السبب الحقيقي للزحمة المرورية الخانقة في القاهرة وفوضى الشوارع وإلقاء اللوم في ذلك على الباعة المتجولين. وإنما نجد تلك الأسباب في غياب نظام ناجع ومعقول للمواصلات العامة، وفي شبكات الشوارع الرديئة، وفي أخطاء كبيرة في التخطيط المديني ونظام رأسمالية المحاسيب. على أية حال، فسكان المناطق المرفهة في مصر عازمون على القضاء على حضور الباعة المتجولين "غير الحضاري" والمهدد أخلاقياً، موظفين لذلك كل التبريرات. عليه، فهم يدعون الشرطة بشكل متكرر حيث يرونها حليفهم الطبيعي في حماسهم ضد الإخلال بالقانون وانعدام النظام، وذلك لقمع الباعة المتجولين ومنعهم من العمل في أحيائهم.

جاء قانون مرسي المذهل كخطوة يائسة في معركة طويلة الأمد للتخلص من الباعة المتجولين. فعلى سبيل المثال، في مارس/آذار 2011 قامت قوات من الجيش والحرس المدني بإخلاء باعة متجولين بالقوة من ميدان رمسيس وإعتقال الكثيرين منهم، فيما قُدِم بعض منهم للمحاكمة لاحقاً حيث حوكموا في المحاكم العسكرية. مؤخراً، وتحديداً في أوكتوبر/تشرين الأول 2012، لقي بائع فاكهة شاب يبلغ من العمر 22 عاماً حتفه في صدامات عنيفة خلال هجوم شنته قوات تابعة للشرطة في محاولة منها لتطهير دوار الجيزة من كل الباعة. الأمر الذي أدى الى احتجاج نظمه زملاؤه الباعة أمام مكتب المدعي العام مطالبين بالاقتصاص من المسؤول.

هذه المعركة المستمرة ليست بالجديدة أو الفريدة والخاصة بمصر وحدها. ولكنها شكلت جزءاً متكاملاً من بناء وعمل الدولة التنموية منذ الخمسينيات والستينيات في أغلب الدول النامية. روجت الدولة التنموية عند الأمم المستقلة حديثاً، والنظام الإقتصادي الذي دعمها في النصف الثاني من القرن العشرين لمشروع تحديث يعتمد على العقلانية والنجاعة والتكنولوجيا ووسائل الإدارة الغربية، بالإضافة إلى النظام. بناء على هذا، فقد اعتبروا الإقتصاد غير الرسمي والباعة المتجولين في صلبها كنقيض لمشروع الدولة ووجودها. الباعة المتجولون جسدوا كل ما هو مخالف للحداثة: عدم النجاعة، الفوضى، والطفيلية وعدم الانضباط. صورة المدن غربية الطراز الحداثية وحسنة التخطيط كانت مهددة بفعل ربطها بالفقر والإخلال بالقانون والفوضى التي يخلقها باعة تقليديو الملبس والعمل. الباعة تجولوا في الشوارع، ولم يكن لهم أماكن تجارة ثابتة ولم يتبعوا أي قانون، كما يقضي بذلك المجتمع المتحضر والحداثي.

وضع زاغموند باومن إصبعه على جوهر الحداثة بوصفه إياها بـ "النظام كهوس". لقد عمل النظام، قبل أي شيء، كمحرك جوهري في إعادة إنتاج نظام إقتصادي سائد. في نظام رأسمالي حداثي، فيما تعمل الشركات الكبرى وفقاً لأسس سلم الإقتصاد، فإن الشركة وحتى رجال الأعمال الصغار ولكن المنظمين- يُعترف بهم كشركاء وعملاء للحداثة لكونهم يتلائمون ضمن نموذج عماده تمركز الانتاج والتوزيع. أما الباعة المتجولون، فهم لا يدفعون الضرائب ولا يحفظون السّجلات كما ويستحيل إدراجهم في المؤشرات الاقتصادية العامة مثل مؤشر الناتج المحلي الإجمالي؛ عليه فهم مضّرون للتخطيط القومي الإقتصادي. والأكثر أهمية من ذلك، فإن الشركات والمؤسسات التجارية الكبرى تكرس الدوّر التنظيمي للدولة لإدارة علاقات الإنتاج، حيث تزود الدولة بكونها"رأسمالي جماعي مثالي" الشروط السياسية المسبقة لعملية تراكم صحية عبر السيطرة على علاقات رأس المال لصالح منافع رأسمالية.

على أية حال وبالرغم من جهود الدول المستقلة حديثاً لدمج الإقتصاد غير الرسمي في منظومة مرتبة والقضاء على البيع في الشوارع، إلا أن كلاهما، أي الإقتصاد غير الرسمي والباعة- قد تابعا الإزدهار بمعزل عن الدولة في البلدان النامية. إن الفشل في التنظيم المركزي، والقطاع الخاص غير المتطور وحقائق إقتصادية أخرى في هذه الدول عنت أن القطاعات الأكثر تقليدية مجبرة على تقديم الحلول والرد على احتياجات الملايين المقصيين من مشاريع الحداثة؛ الاحتياجيات التي فشلت الدولة التنموية ذاتها بتلبيتها. هذا صحيح الآن في القرن الواحد والعشرين كما كان صحيحاً في العقود الأولى للاستقلال. لكن القطاع غير الرسمي يستمر بتوفير الوظائف لهؤلاء الذين يدخلون سوق العمل في كل عام والذين تنعدم أمامهم فرص العثور على عمل في القطاع الرسمي.

تغير معنى التنمية إلى حد كبير على مر العقود، وتغيرت ومعه أيضاً تعريفاتها وتوجهاتها التي تم توظيفها من قبل الحكومات الوطنية. التحولات في معنى التنمية كانت قد واكبت دائماً الإحتياجات المتزايدة للنظام الإقتصادي العالمي. بناء على ذلك، فإن الكثير من الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي اضطرت الى تغيير افتراضاتها المبكرة عن التطور والسياسات المتبعة لتحقيق التمنية، وذلك بناء على تطور الإقتصاد العالمي. إلا أن التناقض الآن يكمن في أن الاحتياجات الأخيرة للنظام الرأسمالي العالمي أدت الى مأسسة عمليات من اللارسمية. فالتغييرات في هيئة منظومات التصنيع وفي قطاعات أخرى قد ولّدت منطقاً إنتاجياً جديداً. على سبيل المثال، يعتمد "خط الإنتاج العالمي"، على الإستعانة بشبكات من المصادر الخارجية، بالإضافة الى التعاقد الهرمي ومرونة سوق العمل. هذا النظام على أي حال، ينتج بشكل ثابت المزيد من الإستغلال في العمل، رواتب متدنية، شروط عمل غير آمنة والمزيد من عدم التوازن الوظيفي.

إن النقد المترتب عن هذا التطور وتأثيره على حياة الملايين من الفقراء على المستوى العالمي، حدا بالمؤسسات المالية الكبرى لابتكار سياسات تعزز فعلياً المزيد من أشكال "اللارسمية" من أجل تحسين نصيب هؤلاء العاملين ضمنها وذلك بمساعدة تدخل الدولة. السياسات النيوليبرالية المعززة من قبل "إجماع واشنطن" والمؤيدة بكل طاعة من قبل الجنوب العالمي، بما في ذلك مصر، تقوم، الآن –للمفارقة- بتعزيز مبادرات متواضعة عبر قروض صغيرة وغيرها من برامج التدريب والإقتراض باعتبارها حجر الزاوية المساند للاقتصاد. نتيجة لذلك فإن السياسات المنبثقة عن المؤسسات الإقتصادية إتجاه الإقتصاد غير الرسمي، تهدف إلى "تنظيم" القطاع ولكن ذلك بهدف تعزيزه وليس القضاء عليه.

في سياق مصر طالما اكتسب "التنظيم" دائماً معنى مختلفاً وذلك حسب من يتحدث عنه. ففي الوقت الذي يعتبر تشكيل نقابة للعمال بمثابة سلاح عظيم ضد الاستغلال، إلا أن الطريقة التي يفهم بها المسؤولون المصريون "التنظيم" تختلف بشكل كبير عن تلك التي يفهمها العمال. فبالنسبة لدولة مثل مصر، فإن تنظيم العمل لم يتعلق أبداً بلجم قوة التفاوض الجماعية للعمال، وإنما بتنظيمهم في هيئات قابلة للضبط. في حالة الباعة المتجولين، عنى ذلك تنظيم ظاهرة فوضوية ولكن أيضاً حتمية. وفقاً لهذا المنظور يتم التسامح مع الباعة المتجولين طالما يحتلون مكاناً محدداً، وعليه فيمكن موضعته، إقصاؤه والسيطرة عليه. مؤخراً، قامت كل من نقابة المهن التجارية سوية مع وزارة المالية والإتحاد العام لنقابات عمال مصر المعروف بفساده، بمسح لكافة الباعة المتجولين على صعيد وطني في محاولة منها لتنظيمهم. في الأسابيع الأخيرة، طالب إتحاد الغرف التجارية المصرية الحكومة بتخصيص سوق أسبوعية محددة في مناطق معينة وذلك من أجل "دمجهم في كيان الدولة الرسمي".

حاولت الحكومات المتعاقبة، بما في ذلك تلك التي كانت في فترة حكم مبارك، إبعاد الباعة المتجولين عن مركز القاهرة إلى مدن تابعة لها تقع على أطرافها مثل عبور، وستة أوكتوبر، والشيخ زايد وسلام. مع شبكة المواصلات العامة الضعيفة التي تربط هذه التجمعات السكانية الهانشية (مثال هائل على فشل التخطيط المديني)، فإن النقل يشكل حكم إعدام يحاول كل الباعة تجنبه.

من جهة أخرى، فإن الباعة المتجولين تواقون لتشكيل نقابة عمالية، وعلى الأقل تنظيم صفوفهم جماعياً ضد مضايقات الدولة، وفساد الشرطة والحماية من الاحتيال. وكان أحد باعة القاهرة المتجولين قد أخذ على عاتقه مبادرة للضغط لتشكيل إتحاد عمال مستقل، وتمكن من جمع أربعة آلاف توقيع من باعة من مختلف المحافظات. إلا أن إقامة إتحاد مستقل واجهت الكثير من التعقيدات من قبل وزارة العمل، ويأتي هذا كجزء من استراتيجية حكومات ما بعد مبارك لتوقيف تطور المئات من الاتحادات المستقلة، والتي ازدهرت في فترة ما بعد سقوط مبارك. أسوة بغالبية الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي، المسؤولون المصريون اضطروا للعمل وفقاً لإملاءات المؤسسات المالية العالمية والتي صممت سياستها بشكل يدعم مصالح نظام رأسمالي عالمي. ومع ذلك، فإن بيروقراطيات هذه الدول هي أقل مرونة من الرأسمال العالمي فمسؤولو الدولة يلاقون صعوبة في تعلم خدع جديدة والتخلي عن العادات القديمة. لذلك ما تزال الدولة المصرية ملتزمة باللقضاء على الباعة المتجولين الذين يمثلون تهديداً لحفظها للنظام، ذلك في الوقت الذي تصرح سياساتها الرسمية بدمجهم كشركاء في التطور. ومن نافل القول، أن أياً من توجهات الدولة بالنسبة للتعامل مع "مشكلة" الباعة المتجولين لن تكون ناجعة، ففي تجريم قطاع ما غاية في الأهمية لسوق العمل وللسياسيات الاقتصادية الحكومية الرسمية، بدون طرح بدائل، لن تكون هناك نجاعة ولا حكمة. وفي النفس الدرجة، فإن إحتواء وتنظيم الباعة المتجولين عبر ابعادهم عن قلب المدن وإعادة موضعتهم في الهوامش المدينية بأمل تحويلهم إلى غير مرئيين، يعمل بعكس الأسباب التي تقف وراء نجاح القطاع غير الرسمي، وتلك مرونته، لارسميته وقدرته الجسدية على التنقل. حاولت الدولة التحديثية التي تعتمد التنموية منهجاً، في مصر وفي أماكن أخرى، حاولت جاهدة ملائمة الواقع الإجتماعي في إطار متخيًّل؛ إطار أتقصى مواطنيه وهمشهم بشكل ممنهج. لم ينجح هذا في الماضي، ولن ينجح الآن أيضاً.

[نشر المقال على "جدلية" باللغة الإنكليزية وترجمته حنين نعامنة إلى العربية]