الكاتب/ة: أنس الأسعد
i.
يعدّ اسمُ المؤرخ الإيراني والأكاديمي الرصين فرهاد دفتري (1938،...) ملازماً لكل حديث أكاديمي حول التأريخ المعاصر للحركات الشيعية، فهو حصر مجمل حياته الفكرية للخوض والنقاش في موضوع تاريخي واحد تقريباً، محاولاً خلال رحلته الطويلة عدم الاقتصار على الإنتاجات المعرفية والمكتبة الضخمة، بل تعدّاها إلى العمل الوظيفي كمدير مساعد ورئيس قسم البحث والمطبوعات الأكاديمية في معهد الدراسات الإسماعيلية (لندن).
ما يلفت الانتباه في مسيرة دفتري بالإجمال هي قدرة التركيز على موضوعه وإشباعه بحثاً كل هذه السنوات، فمن "الإسماعيليون تاريخهم وعقائدهم"، كامبردج 1990، إلى "خرافات الحشاشين: أساطير الإسماعيليين"، لندن 1994. إلى "مختصر تاريخ الإسماعيليين"، إدنبرة 1998. ثم "الأدب الإسماعيلي"، لندن 2004 .كل هذه الأعمال صدرت عربياً عن دار الساقي وترجمها سيف الدين القصير، بيد أنّ ما يميز "معجم التاريخ الاسماعيلي" (الطبعة العربية الأولى 2016) هو الجمع بين أمرين: أولهما الاستمرارية في الاشتغال على ذات الموضوع التاريخي، والأمر الثاني ما يمكن تسميته بحُسُن تخلّص إلى تقنيات جديدة لمعالجة موضوعه الأثير. إذن التقنية، هذه المرة، هي الهمّ الرئيس الذي أسَّس عليه المؤرّخ كتابه.
ii.
يتأطّرُ عمل المؤرخ -أي مؤرخ – وفقاً لصيغة مدرسية كرونولوجية تَتْبَعُ آثار المادة المدروسة بجداولها الزمنية الثابتة، وتقاطعُها على أرضية تقاويم زمنية معتمدة، اللهم إلا بعض الاستثناءات التي لا تمس جوهرية هذه النظرة (التعاقبية) إلى التاريخ، فابن خلدون مثلاً لم يكن ليرى أنّ التاريخ خطٌّ مستقيم وكفى، بقدر ما رآه مدوّراً تنتابه قوى جاذبة لحركة العمران وأخرى طاردة لها، لكنها بالتأكيد لا تكرّر نفسها على الطريقة (التزامنية) العدمية التي فهم نيتشه بها التاريخ. فكرة ابن خلدون تلك ستنمو وتثبت صوابيتها عندما يتابعها أوربياً في القرن التاسع عشر الفيلسوف الألماني هيغل، وذلك بتأسيسه لما بات يعرف بفلسفة التاريخ، ومن بعد هيغل سيأتي الماركسيون بمفهومهم عن المادية التاريخية، حيث لا تقف الخطيّة كقراءة للتاريخ وحسب، بل تستحيلُ إلى مُعادِلاتٍ اجتماعية وسياسية سيتم التعارف عليها ب"التقدمية". ثم إلى آخر هذه التنويعات الفكرية التي يكمّل بعضها بعضاً.
لكنّ السؤال الذي يظهر بالمقابل، هو كيف يمكن للمؤرخ الاستغناء عن الكرونولوجيا؟، وأي تقنية بديلة سيعتمد؟. قد تكون الفيلولوجيا هي أشهر هذه البدائل، أو لنقل بصيغة أبسط: إنّ البحوث اللغوية والألسنية هي التقنية البديلة الأكثر شيوعاً؛ حيث تعزّزت بسبب رواج الأفكار البنيوية في أواسط القرن العشرين، والتي تنظرُ إلى التاريخ من زاوية التزامن وليس التعاقب، بل إنّ هذه النظرة لم تتمّ تنحيتها حتى مع بروز التيارات الناقدة للبنيوية، والمتناسلة منها في آن، كحفريات ميشيل فوكو، أو المُراوحة في الحواضن الدلالية للّغة، كتفكيكية جاك دريدا، وليس انتهاء بمفهوم التاريخ الجديد عند جاك لوغوف.
يتَّضحُ ممّا سبق أنّ تغييرَ التقنية لا يترتب عليه غرضٌ شكليٌّ لتصدير الكتاب، بل هو في صلب التناول الأيديولوجي الذي يوجّه الكاتب، وفي سياق مقارن يمكن الاستعانة بمثال بارز هو المؤرخ والمستشرق برنارد لويس، فمن حيث اهتمامه المنصبّ على موضوع الإسلاميات أيضاً، وتركيزه على الفيلولوجيا بشكل منقطع دون غيرها، (انظر عمله الأشهر في هذا الصدد: لغة السياسة في الإسلام) نستطيع أن نترسّم معالم المقارنة بينه وبين دفتري، مع أهمية التذكير بفوارق خطيرة إذ لا يُعرف عن دفتري أنه اشتغل لمصلحة دوائر سياسية من أوساط المحافظين الجدد كما يحفل بذلك التاريخ العنصري والمحافظ للويس.
iii.
يمكن بعد هذا عرضُ مضامين معجم دفتري الإسماعيلي، وبسط القول فيه. إذ يبدو العمل (365 صفحة) تتويجاً لمسيرة دفتري البحثية، ويقسَمُ إلى قسمين: فقبل الشروع بالمتن المعجمي (أي القسم الثاني والرئيس في الكتاب) هناك ثلاث مقدمات للمحرر أوّلاً، فالكاتب ثانياً، فالمترجم ثالثاً، بالإضافة إلى اختصارات ورموز، لنتفاجأ بعدها بأنّ مسرداً كرنولوجيّاً يستعين به الكاتب كعتبة تحدّدُ الإطار العام للفترة الزمنية التي يتحدث عنها الكتاب، وتمتدّ من مولد النبي محمّد 570م، أي ما يسمّى بعام الفيل، وينتهي بعام 2007!، أو بمناسبة اليوبيل الذهبي لإمامة الآغا خان الإسماعيلي الرابع!. وبالرغم من المشكلة الفادحة بالنظر إلى هذه الفترات الزمنية، والمحاولة الشاقة في بناء تسلسل بين مراحلها يعتمد على النّسب والوراثة العائلية ذات البعد الديني والغيبي الفج (حيث لا يسائل صاحب العمل أو يدقّق عقلانياً في هذه السُّلالات بقدر ما يعتمدُها كمحددات تاريخية)، تبقى الإشكالية التي لا تقلّ فداحة هي ما تقدّمُه هذه التوطئة الكرونولجية على مدار 16 صفحة، لعمل يعرّف عن نفسه على أنّه معجم!.
يبدأ المتن المعجمي عند الصفحة 63، وفقاً للترتيب الهجائي للحروف العربية من الألف إلى الياء، ولو أُخذ الحرف الأول (الألف) كنموذج، وتمّ التدقيق بمواده لاتّضح أنّ التقنية عرقلت بسط الموضوع، ودفتري متميّز في كتاباته السابقة بسلاسة أسلوبية وشموليّة تاريخية، لكنّه في معجمه هذا مرتبكٌ يضع العربة أمام الحصان بما لا يمكن نكرانه. بالعودة إلى التدقيق مع الحرف الأول من حروف معجمه المترجم إلى العربية، كي لا ننسى أثر الترجمة في نقل مواد من حروف إلى أخرى، فإننا نجد تراصفاً في المواد المعروضة، حيث الجغرافيا وما تتضمنه من أسماء لمناطق كأذربيجان وأفريقيا، تتجاور مع أسماء دعاة دينيين وقادة كابن عطاش والأفضل الجمالي، أو أسماء كتب مثل اتعاظ الحنفا، أو مفاهيم وطقوس كالإمامة والآمرية. هنا العامل الزمني الجامع قد تمّ تحييده لصالح عملية بحثية (متخيّلة) سوف تجري مُستقبلاً، خدمةً لها أو من أجل إنجازها بشكل مُيسّر وسريع صنع دفتري معجمه.
أخيراً، فإنه لا يمكن اعتبار العمل تطابقاً بحتاً مع المنهجية الفيلولوجية بحدودها الصارمة كما عند لويس، ولا هو استغناء تام عن الكرونولوجيا، إنما جاء ليسد ثغرة شكلانية في مسيرة دفتري الطويلة.