رحلت صبا محمود، أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، في 10 آذار، 2018 بعد صراع مع مرض السرطان. كانت الأستاذة محمود متخصصة في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، وباحثة في شؤون مصر الحديثة. ولدت في كويته، باكستان في العام 1962، ثم قدمت إلى الولايات المتحدة في العام 1981 لدراسة الهندسة المعمارية والتخطيط المديني في جامعة واشنطن في سياتل. حصلت على الدكتوراه في الأنثروبولوجيا من جامعة ستانفورد عام 1998، ثم درّست في جامعة شيكاغو قبل ذهابها إلى جامعة كاليفورنيا في بيركلي في العام 2004، حيث قامت بتدريس آخر حلقة بحث لها في خريف العام 2017. في بيركلي، وبالإضافة إلى دائرة الأنثروبولوجيا، كانت الأستاذة محمود عضواً في مركز دراسات الشرق الأوسط، وبرنامج النظرية النقدية، ومعهد دراسات جنوب آسيا (حيث لعبت دوراً أساسياً في إنشاء مبادرة الدراسات الباكستانية في بيركلي، وهي الأولى من نوعها في الولايات المتحدة).
لقد قدَّمت محمود مساهمات رائدة في السجالات المعاصرة حول العلمانية، فاتحةً آفاقاً بحثية جديدة لفهم دور ومكانة الدين في الحياة العامة، ومتحدية عدداً من الافتراضات السائدة حول الديني والعلماني. وفي مواجهة مساهمات أكاديمية حادَّة تندد بالمجتمعات الإسلامية، قامت محمود بتطوير فهم معمق ومطلع للإسلام في الجدل القائم حول: النظرية النسوية، والأخلاق، والسياسة. وقد ترددت أصداء منشوراتها ومحاضراتها في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية كافة، ولعبت دوراً مؤثراً في تشكيل المساهمات الأكاديمية لجيل جديد من الأكاديميين الباحثين عن تطوير مقاربة مطّلعة ونقدية للدين في عصر الحداثة. كباحثة ومعلمة، جسدت محمود المبادئ الأخلاقية والسياسية التي نادت بها، حيث قدمت تحليلات ثاقبة للسلطة الاستعمارية والرأسمالية في تناولها لحداثة العلمانية، وصاغت أطراً جديدة لفهم الذات النسوية، والذاتية العلائقية، والحرية الدينية، وإيذاء الشعور الديني، وحقوق الأقليات الدينية، والتحليل القانوني المقارن لقانون الأسرة الديني والعلماني، والتشريعات الجنسانية.
إلى جانب الأنثروبولوجيين طلال أسد وشارلز هيرشكيند، كشفت محمود عن العلمانية كتشكيل سياسي مركب ينتج التباينات بين التقاليد الدينية التي يسعى لتنظيمها. بكلماتها، "العلمانية السياسية هي السلطة السيادية للدولة الحديثة التي تسعى لإعادة تنظيم السمات الجوهرية للحياة الدينية، بما يشمل تحديد ما هو الدين أو ما يجب أن يكون عليه، وتعيين محتواه الصائب، وتعميم ما يصاحبه من ذاتيات وأطر أخلاقية وممارسات يومية مقترنة به". وقد حاججت محمود أنه لا انفكاك ما بين العلمانية وتاريخها الديني على الإطلاق، فهي لا تحقق استقلالاً عن التشكيلات الدينية التي تسعى لتنظيمها. في الواقع، إن التمييز المؤسس للمنطق العلماني بين الحياة العامة والحياة الخاصة، يستمد أصوله من الفهم المسيحي الحديث للعبادة كممارسة خاصة. إنَّ هذا الفهم الديني المسيحي، الذي يركز على الاعتقاد كممارسة روحانية، هو على تناقض حاد مع أديان مثل الإسلام، الذي تحتل فيه الممارسات الدينية المجسدة موقع الصدارة. واستناداً إلى ذلك، فقد جادلت محمود أن الإبستمولوجيات العلمانية عاجزة عن استيعاب الطريقة التي يعبّر بها الإسلام عن القيم الدينية، ما يؤدي إلى سوء فهم كل من الذات المسلمة والمعاني العامة لممارساتها الدينية.
في إطار مساهماتها المتعلقة بالنظرية النسوية، لفتت محمود قرَّاْها إلى أن المسلمات المتدينات اللواتي عملت معهن في القاهرة، خلال بحثها، لم يكنّ محض فاعلات ممتثلات بلا تفكير، بل كن منخرطات في مقاربات تأويلية مميزة لقراءة القرآن في المدارس الخاصة بهن، بما يساهم في ترسيخ الممارسة الدينية كشكل من أشكال السلوك الأخلاقي. وفي تحدٍّ للرؤى الموروثة عن الفلسفة الأخلاقية الغربية حول الحرية الذاتية، قدمت صبا محمود محاججة جريئة مفادها أنه من أجل فهم المسلمات المتدينات، على المرء أن يتصور ذاتاً معرفة بعلاقتها بالتمثيلات النصية والتصويرية للإلهي. فالنساء المنخرطات في ممارسة دينية من هذا النوع، كما جادلت محمود، يجب فهمهن على أنهن منخرطات في ممارسات أخلاقية لتشكيل الذات. ومع ذلك، فإن الذات الأخلاقية، في هذه الحالات، ليست طوعيةً، تفصل "الإرادة الحرة" عن الأعراف الاجتماعية والدينية التكوينية؛ بل بأكثر من ذلك، تأخذ الذات الأخلاقية، في الإسلام، شكل علاقة مجسّدة حية، وقيد الممارسة مع الإلهي، بما يتطلب فهماً بديلاً لتكوين الذات. وقد ظهرت إحدى نتائج هذه الرؤية واضحة في مداخلاتها ضمن مناظرات العام 2006 حول الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية التي تصور النبي محمد. فالذين زعموا أن هذه الرسومات كانت مسيئة فقط فاتتهم ماهية الأذى الناجم عنها. ففي الإسلام، كما تقول محمود، يعتبر الهجوم على الصورة الإلهية هجوماً على النفس الحيّة والمتجسّدة، لأن النفس تحلُّ في تلك العلاقة تحديداً.
في عملها الأخير، درست صبا محمود التمييز الواقع على المسيحيين الأقباط الأرثوذكس في ظل النظام العلماني المعاصر في مصر. وفي مواجهة النظرة التي تستدل بالتباينات القبلية والدينية على عدم اكتمال عملية العلمنة، أظهرت الراحلة أن التباينات القبلية والدينية، وما يصاحبها من نزاع، تفاقمت في ظل أنظمة السلطة العلمانية. فقد جادلت أن التمييز والعنف الذي يعانيه المسيحيون الأقباط ازداد مع قيام الدولة الحديثة باستكمال تنظيم الحياة الدينية وإدارتها، وفرض منطقها الخاص على النقاش حول العقيدة والممارسة الدينيتين. بعيداً عن تحقيق المثل العليا للمساواة المدنية والسياسية، سهلت الدولة العلمانية التفاوتات الدينية والعنف بين الأديان. كما تطرقت محمود إلى القيم والممارسات التي تطورت ضمن الإسلام لمفاوضة الاختلاف الديني، مظهرة كيف طغت أنظمة السلطة العلمانية على التقنيات الدينية للحوكمة المدنية.
ألفت محمود كتاب الاختلاف الديني في عصر علماني: تقرير حول الأقليات (ترجمه كريم محمد وصدر عن مركز نماء للدراسات والبحوث، 2015) وسياسة التقوى: الإحياء الإسلامي والشخصية النسوية (ترجمت أجزاء منه عبير العبيداء لمؤسسة مؤمنون بلا حدود، 2016) والذي فاز بجائزة فيكتوريا شاك من جمعية العلوم السياسية الأمريكية. كما شاركت في تأليف كتاب هل النقد علماني؟ (ترجمه إبراهيم الفريح وصدر عن دار جداول، 2017) وفي تحرير سياسات الحرية الدينية (جامعة شيكاغو، 2015)، وقد ترجمت أعمالها إلى العربية والفرنسية والفارسية والبرتغالية والإسبانية والتركية والبولندية. كما نشرت العديد من المقالات في حقول الأنثروبولوجيا والتاريخ والدراسات الدينية والعلوم السياسية والنظرية النقدية والنظرية النسوية والنقد الفني، وخدمت في العديد من مجالس الدوريات وكتبت للعديد من الصحف. حصلت الأستاذة محمود على العديد من الأوسمة والجوائز، بما في ذلك زمالة أكسل سبرينغر في الأكاديمية الأمريكية في برلين، وزمالتين في مركز الدراسات المتقدمة في العلوم السلوكية بجامعة ستانفورد ومعهد أبحاث العلوم الإنسانية بجامعة كاليفورنيا. وقد حصلت على منحة كبرى من مبادرة مؤسسة هنري لوس حول الدين والشؤون الدولية، فضلاً عن أكاديمية هارفارد للدراسات الدولية والمناطقية. كذلك حصلت على زمالة فريدريك بوركهارد من المجلس الأمريكي للجمعيات العلمية، بالإضافة إلى برنامج باحثي أندرو كارنيجي كباحثة شابة. أخيراً حصلت على الدكتوراه الفخرية من جامعة أوبسالا في السويد عام 2013.
كانت صبا محمود أكاديمية لامعة، وزميلة عزيزة، ومعلمة ومرشدة متفانية لطلاب الدراسات العليا. وإلى جانب حماسها السياسي المتواصل وتحليلها الحاد، كانت شغوفة بجمال البراري، وشعر غالب، وبهجة الطبخ ومشاركة الطعام الفائق الجودة. كانت تنمّي علاقاتها مع العائلة والأصدقاء باهتمام وفرح. كما قامت بإرشاد طلابها برعاية وانتباه مميزين، تطالبهم أن يقدموا أفضل ما لديهم، وتستمع إليهم وتستجيب لهم بكرم هائل، حاضرة في فكرها معهم دوماً، وداعية الآخرين للقيام بمثل ذلك. في الأشهر الأخيرة من حياتها، أكدت الراحلة على قيم الفكر والمحبة، تاركة إرثاً نابضاً بالحياة سيستمر ويزدهر بين كل من لمست حياتهم حياتها وأعمالها. رحلت صبا محمود وتركت وراءها زوجها شارلز هيرشكيند، وابنها نمير هيرشكيند، وأخويها خالد محمود وطارق محمود.
قسم الأنثروبولوجيا، جامعة بيركلي.