العراق: حكومة التَبعيّة وسُلْطة المليشيات المسلّحة

[المصدر: موقع قناة الكوثر] [المصدر: موقع قناة الكوثر]

العراق: حكومة التَبعيّة وسُلْطة المليشيات المسلّحة

By : Wadood Hamad

كَم مِن الوقت تحتاج حكومة ما لكي تَثبت قدرتها على إدارة بَلَد ما، أو حتى مدينة ما؟ عام، إثنان، عشرة أعوام؟ العراق، اليوم، وكل مُدنه من الشمال إلى الجنوب ساحة مُباحة للإستثمارات الإستهلاكية والمشاريع الوهمية والسرقة والنهب لثروات البلد، وكذلك لسلطة المليشيات المسلحة وأصحاب القرار في الدول المجاورة، والقرار الحاسم في واشنطن.

 لم يكن إحتلال العراق من قِبل القوات الامريكية عفوياً، كما يحلو للبعض أن يُبرر. وآثار تدمير هيكلية الدولة العراقية وإرساء الطائفية مؤسساتياً على النطاقين الحكومي والإقتصادي بعد٢٠ آذار/مارس ٢٠٠٣ واضحة. انتقل العراق من نظام بعثي دكتاتوري شمولي إلى فوضى فوق أنقاض ثلاث حروب شرسة وحصار إقتصادي دمَّر النسيج الإجتماعي للبلد. وأُوليت إدارة الفوضى للإسلام السياسي الشيعي أساساً، شراكةً مع نظيره السنّي والقوميين الأكراد، وانعكست هذه الفوضى في الدستور وفي تركيبة "نظام" الحكم. النزاعات في اللعبة (و ليس العملية) السياسية تصب في حقلين. أولاً، وفوق كل شئ، مصلحة الولايات المتحدة في السيطرة على منابع الطاقة آنياً وعلى المدى البعيد. أهمية النفط الأساسية لا تَكْمن بكونه وسيلة لتوليد الطاقة، بل أهميته الكبرى في الصناعات الپتركيمياوية، ومستخلصات النفط تُستَخدم في كل شئ حولنا - من المواد الغذائية إلى الأدوية إلى مواد الرسم و الأصباغ إلى الملابس وإلى وسائل النقل والأجهزة الصناعية والتكنلوجية. أكثر من ٦٠٪ (ستين بالمئة) من إيرادات شركات الپترول العالمية مُستقاة من ٤٪ (أربعة بالمئة) من النفط المُستَخرج من الآبار (crude oil). و هنا تكمن الأهمية الإستراتيجية لآبار النفط في الشرق الأوسط: العالم الصناعي والتكنولوجي في القرن الواحد و العشرين سيبقى بأمس الحاجة للمواد الپتروكيمياوية، ولن تَقل الحاجة لها مهما تمكنا من إيجاد طُرق جديدة لتوليد الطاقة (الكهربائية، مثلاً، من الريح أو أشعة الشمس). والحقل الثاني لمَصب هذه النزاعات هو إقتصادي في الأساس بالرغم من التزويقات الأديولوجية والمذهبية، وهو الصراع الجيوسياسي بين إيران والمملكة السعودية. قُبيل ١٩٧٩ كان شاهنشاه إيران، رضا بهلوي، المسؤول الأول عن فرض السيطرة على منابع النفط في منطقة الخليج وكان المُمثل الوحيد لسياسة الولايات المتحدة الخارجية ولمصالحها في المنطقة. وكان حكام الخليج من مَكتوم دُبيّ الى آلِ سعود يَخرّون ساجدين ولاءً وطاعةً للشاه. و حتى البعث العراقي سلَّمَ نصف شط العرب، منفذ العراق البحري الوحيد وجزء من بلاد الرافدين منذ بداية التاريخ، ووقعَّ صدام حسين بنفسهِ إتفاقية الجزائر بين العراق و إيران في ٦ آذار ١٩٧٥. ولم تكن هناك مشكلة إطلاقاً أن يزور الشاه وحاشيته المراقد الشيعية في العراق أو يُسمَح للزوّار الإيرانيين بزيارة هذه المراقد طالما كان العراق و إيران حليفين عنيدين في قمع اليسار والحركات الثورية في المنطقة. تغيّر وكلاء المموّل الأمريكي، وتغيّرت الولاءات والنزاعات أيضاً.

مسرحية الإنتخابات البرلمانية 

بعد قرابة خمسة أشهر من التقاذف اللفظي والخطابات الرتيبة والإعلانات السمجة، قرّر حوالي ٤٥٪ من الناخبين العراقيين (البالغ عددهم حوالي ٢٤ مليون من بين ٣٨ مليون نسمة تسكن العراق) المشاركة في الإنتخابات البرلمانية الرابعة في ١٢ أيار/مايو ٢٠١٨ لانتخاب ٣٢٩ عضواً في مجلس النواب من بين ٧٣٦٧ مُرشحاً و مرشحة. و ينتمي هؤلاء المرشحون إلى ٣٢٠ حزباً سياسياً و إئتلافاً و قائمة إنتخابية. من الصعب أن يكون المرء جاداً في تصوير هذه الإنتخابات على أساس أنها فعّالة في خَلق ممارسات ديمقراطية في الوسط السياسي العراقي. وبالفعل فإن أغلبية العراقيين، ٥٥٪ على وجه التحديد، قاطعوا مسلسل الإنتخابات.

الفشل يُعيد نفسه بلباس جديد، دون أدنى تغيير في المحتوى. نوري المالكي، رئيس حزب الدعوة الإسلامية (الشيعي) ونائب رئيس الجمهورية و رئيس الوزراء الأسبق والمسؤول الفعلي عن سقوط الموصل، ثاني أكبر مدن العراق، بيد داعش، وصاحب أقوى خطاب طائفي في العراق أسسَّ تحالف "دولة القانون". و التحالف الثاني المستخلص من حزب الدعوة، ولكنه مُعارِض، أو بتعبيرٍ أدّق مُغاير، لنهج المالكي هو "تحالف النصر والإصلاح" بقيادة رئيس الوزراء حيدر العبادي. و شملَ تحالف النصر تكتلات سنيّة أبرزها "تحالف بيارق الخير" بزعامة وزير الدفاع السابق خالد العبيدي و"تحالف معاهدون" بزعامة رئيس الوقف السني (بالوكالة) عبد اللطيف الهميم و"تحالف الوفاء" بزعامة وزير الكهرباء قاسم الفهداوي. وأُعيدت غربلة نفس الشخصيات التي حكَمَت العراق خلال الخمسة عشر عاماً الأخيرة. فعمار الحكيم، زعيم المجلس الإسلامي الأعلى (الشيعي)، أسسَّ "تيار الحكمة". و تشكل إئتلاف جديد، هو "إئتلاف الفتح"، الذي يضمّ ١٨ كياناً من أجنحة سياسية لفصائل الحشد الشعبي، أبرزها "منظمة بدر" بقيادة هادي العامري و"عصائب أهل الحق" بزعامة قيس الخزعلي - و كلاهما قريبٌ جداً من جهاز بسيج المخابراتي الإيراني. ولم تقتصر التحالفات الممِلة على الإسلام السياسي الشيعي، إذ انضمَّ حوالي ٢٦ كيان سياسي سنيّ بارز، أبرزها "حزب التجمع المدني للإصلاح" بزعامة رئيس مجلس النواب سليم الجبوري و"الجبهة العربية للحوار" بزعامة صالح المطلگ و"حزب الوفاق الوطني العراقي" بزعامة نائب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء الأسبق أياد علاوي الى إئتلاف "الوطنية". 

الجديد كان تحالف الحزب الشيوعي العراقي، صاحب التاريخ النضالي في محاربة الإستعمار والدكتاتورية وقوى الظلام، مع تيار مقتدى الصدر الإسلامي و ثُلة من التكنوقراط في "تحالف سائرون". و للحزب الشيوعي العراقي تاريخٌ مرير من التحالفات المشؤومة، لا سيمّا بعد الضربة العنيفة التي تلقاها إثرَ إنقلاب ٨ شباط/فبراير ١٩٦٣ الدموي الذي قام به البعثيون والقوميون الناصريّون بدعم أمريكي (كما نُشِرَ في مذكرات وزير الداخلية الأمريكي أوائل ستينيات القرن السابق، روبرت مَكنامارا، وكذلك وثائق الداخلية الأمريكية للفترة ١٩٥٩-١٩٦٤ المودعة في مكتبة الكونغرس الأمريكي، والتي أطلّع عليها كاتب هذه السطور  بنفسهِ). وكان إنقلاب ١٩٦٣ وحمام الدم الذي تبعه زلزالاً هزّ تركيبة الحزب من أساسها وأجهضَ مشروعه الثوري للتغيير؛ ولم يتعافَ الحزب الشيوعي من تلك المرحلة إطلاقاً وظلَّ خاضعاً لقيادات يمينية منذ ذلك الوقت. في أوائل سبعينيات القرن العشرين تحالفَ الحزب الشيوعي مع حزب البعث بعدَ إستيلاء الأخير على دفة الحكم عقب إنقلاب ١٧ تموز/يوليو ١٩٦٨، وبعد أن تخلّص حزب البعث من القيادة المركزية للحزب الشيوعي التي أعلنت الكفاح المسلح من أهوار جنوب العراق عام ١٩٦٧، وأرّقتْ حكومة البعث الفتية ودول الجوار والحزب الشيوعي نفسه (جناح اللجنة المركزية) الذي تَبنَّى نهجاً يمينياً منذ كونفرنس الحزب عام ١٩٦٧ (وما عُرف عنه بخط آب). وهكذا أمنّ البعث الحاكم سيطرته المطلقة حين أعلنَ في ١٦ تموز ١٩٧٣ عن تأسيس "الجبهة الوطنية التقدمية" والتي تشكلت ظاهرياً في عام ١٩٧٤ في إطار برنامج عمل مشترك لإقامة تحالف بين حزب البعث والحزب الشيوعي والحزب الثوري الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني. ومع ذلك فقد استمرت المضايقات والإعتقالات ضد الشيوعيين و اليساريين ووصلت قمتها عام ١٩٧٨، ولم يُسمَح إطلاقاً بتدريس اللغة الكُردية في المدارس العراقية على كافة المستويات أو التداول بها في دوائر الدولة.  

"سائرون" الى أين؟

فازَ "سائرون" بزعامة رجل الدين مقتدى الصدر بـ ٥٤ مقعداً من أصل ٣٢٩، وتبَعه "الفتح" بزعامة هادي العامري بـ ٤٧ مقعداً ثم حلَّ "النصر" برئاسة حيدر العبادي بـ ٤٢ مقعداً. وحصلَ إئتلاف "دولة القانون" لنوري المالكي على ٢٦ مقعداً، والحزب الديمقراطي الكُردستاني بزعامة الرئيس السابق لإقليم كُردستان، مسعود البرزاني، على ٢٥ مقعداً، وإئتلاف "الوطنية" بزعامة أياد علاوي على ٢١ مقعداً. ولم يحصل "تيار الحكمة" لعمار الحكيم سوى ١٩ مقعداً، والإتحاد الوطني الكُردستاني، الذي يتناصف السيطرة على كُردستان العراق مع الحزب الديمقراطي للبرازاني، على ١٨ مقعداً، وتحالف "القرار العراقي" بزعامة محافظ نينوى السابق الذي احتلَت كل محافظته من قبل داعش وهو في القيادة، أُسامة النجيفي، على ١١ مقعداً. وحصلَت الأقليات على ٩ مقاعد ضمن نظام المحاصصة - خمسة مقاعد للـ "المكوِّن" المسيحي، ومقعد واحد لكل من الشبك والأزيدين والصابئة والفيلية. وشهدت مدينة الموصل، المُحررة من إرهابي داعش، أعلى نسبة للمشاركة في الإنتخابات البرلمانية آملين بتغير إيجابي لمدينتهم والبلد كله. وكانت البصرة التي تعاني من إهمال على كل المستويات، وهي أغنى مدينة في العراق، شبه مُقاطعة للإنتخابات البرلمانية إذ لم يُشارك سوى ٢٢٪ من ناخبي البصرة. وقد تكون من الغرائب لمن لا يعرف العراق جيداً، أن تفوز نائبة شيوعية، سهاد الخطيب (عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي) عن محافظة النجف (التي تضم أهم مراقد الشيعة المقدسة)، وفازت المناضلة الشيوعية هيفاء الأمين عن محافظة ذي قار (الناصرية). وعلى حد قول مظفر النواب، يحوي العراق على كل التضادات في كل المراحل بسبب الغِنى الفكري والمعرفي لساكني هذه الأرض. وفي الناصرية و النجف مجموعة من أقدم الأديرة في العالم،  إسم مدينة الناصرية نفسها مُشتق من كونها الحاضرة التي كان يسكنها و يؤمها أتباع الديانة المسيحية حتى منتصف القرن التاسع عشر وقبل مجئ الإستعمار البريطاني الذي سعى إلى تغيير، ومن ثمَّ محو، هوية المدينة التاريخية والسكانية. والناصرية أيضاً هي واحدة من أهم معاقل الفكر السياسي والثقافي والغنائي في العراق، فمنها ظهرَ صاحب الصوت الشجي داخل حسن والملحن طالب القره غولي، ومنها أسسَّ يوسف سلمان يوسف (فهد) منظمة مكافحة الصهيونية التي أصبحت نواة تأسيس الحزب الشيوعي العراقي عام ١٩٣٤. ومن الناصرية أيضاً تأسس حزب البعث العربي الإشتراكي وحركات قومية أخرى. و كان لحزب البعث ما يقل عن ألف عضو عام ١٩٥٨ (حسب الباحث الراحل الپروفيسور حنّا بطاطو)، جلَّهم من "شيعة" العراق. كانت الأحزاب في العراق فكرية سياسية بحتة، وكانت الطائفية حكراً على الأحزاب الإسلامية، السنيّة والشيعية، ولم تصبح الطائفية المؤساستية جزءاً من النظام السياسي حتى ٢٠٠٣.  

كتبَ البعض، لا سيّما الباحث فالح عبد الجبار قُبيل وفاته في شباط الفائت، بتفاؤل عن تحالف الشيوعيين والصدريين. على أساس أن كلاهما ينتمي الى نفس الجموع الكادحة والفقيرة، فالأبناء أصبحوا صدريين بينما كان آباؤهم شيوعيو الهوى. وفي هذه التفسيرات تبسيطات كثيرة، فالتيار الصدري ليس حزباً كلاسيكياً، بل خليط من المتزمتين دينياً ومذهبياً والكثير من ذوي الإمكانيات المادية البسيطة (أو الفقراء) يجمعهم ولائهم بكينونة إسمها العراق. وقد حاولَ مقتدى الصدر جاداً التقرب من الأحزاب الإسلامية السنيّة والسعي لخلق وحدة عراقية حسب تفسيره واعتقاده. يحاول مقتدى الصدرأن يُكمل خطى والده، محمد صادق الصدر، الذي برزَ نجمه أواخر تسعينيات القرن العشرين. و كانا محمد صادق الصدر يترنح ما بين محابات النظام واستشفاف سخط فقراء الشيعة في مناطق وسط وجنوب العراق التي أنهكها الحصار والحروب وقمع النظام. فاستفاد النظام من قابليته على 'ترويض' هذه الجموع البشرية وكان الصدر يخطب بجموع الفقراء على مرأى ومسمع قوى الأمن والمخابرات العراقية. و تمَّ التخلص منه بعدها خشية من استمرار نفوذه بالنمو خارج سيطرة الدولة. وهذا كان الدور الفعلي لمعظم رجال الدين الشيعة في أرياف وسط وجنوب العراق منذ أوائل القرن العشرين: احتواء غضب الجموع البشرية الفقيرة، والتقرب من، أو محابات، سلطة حكومة بغداد؛ وكذلك الإستفادة المادية أحياناً. لكن مقتدى الصدر يعيش في ظرف جيوسياسي مختلف، فترى تقربه حيناً الى إيران في فترةٍ ما، ومؤخراً الى المملكة السعودية والمنحى الأمريكي بشكل عام بعد أن كان مناصرو الصدر، جيش المهدي، يقومون بعمليات عسكرية ضد المحتل الأمريكي بُعيد ٢٠٠٤. وهنا يجب أن ندرك أن التيار الصدري ليس تيار الفقراء بقدر ما هو تيار يستخدم النفوذ المذهبي والنزعة الوطنية العراقية معاً لتسيير الجموع الغفيرة من الفقراء الشيعة الذين يزيد تعدادهم على عشرة ملايين نَسَمة عام ٢٠١٨. وبالتالي فهو يَسدّ فراغاً سياسياً و فكرياً نتيجة سني القمع البعثي ودكتاتورية صدام حسين و ١٣ عاماً من الحصار المدمِّر والحروب و الإحتلال. 

الإرهاب حليف السلطة 

قبل أسابيع معدودة من مغادرة حيدر العبادي منصبه أعلن وبصراحة في واحدٍ من مؤتمراتهِ الإسبوعية أن القتل والترهيب يُستخدمان كسلاحين فعالين من قبل بعض الكتل السياسية لإسكات أخرى. و أُنهما استخدما أيضاً لإسكات أصوات حرة تمشي عكس التيار، وإن كانت بعيدة عن السياسة والمناصب الحكومية. في العراق الآن عدد مُذهل من السلاح البسيط والمليشيات المرتزقة التي بدأت مع إحتلال القوات الأمريكية للعراق. ووتيرة الإغتيالات والقتل والترهيب تزداد بفعالية و نسبة كبيرة مع كل دورة إنتخابية أو ظرف محدد. ومن بين ضحايا الإغتيالات كانت الدكتورة رفيف الياسري، أخصائية تجميل وسفيرة النوايا الحسنة للمنظمة الفرنسية لحقوق الإنسان والسلام، و السيدة رشا الحسن، خبيرة التجميل، وكان لهما دور مهم في مساعدة منكوبي الإنفجارات الإرهابية وعمليات الإعتداء على النساء والمثليين. تلتهما في مسلس الإغتيالات السيدة سعاد العلي، المحامية والناشطة الحقوقية، في البصرة. وأغتيلت بالرصاص أيضاً في وضح النهار وفي مكان مزدحم في بغداد الفاشينستا الشابة تارة فارس. وآخرهم كان مقتل الشاب، إبن الخمسة عشر ربيعاً، حمودي المطيري، في إحدى مناطق بغداد الشعبية بسبب إهتمامه بملبسهِ وشكله خارج قيود المسموح دينياً. بالطبع لم ولن تقوم الدولة بإجراء أي تحريات لكشف هوية القتلة والجهة المسؤولة عنهم. 

لكل من الـ ٣٢٠ حزب و إئتلاف سياسي في العراق ميليشيات مسلحة، ربما بإستثناء الحزب الشيوعي. وهذه الميليشيات ليست متغلغلة في أروقة الدولة فحسب، بل لها كيانات مستقلة خارج الدولة و(مظاهر ممارسة) القانون. وهي تُمارِس العنف متى يحلو لها ومتى ما شعرت أن مصالحها تتعرض لأقل مساس. ما يربط جميع هذه الأحزاب هو المصالح المالية المشتركة، إذ استفاد كل حزب أو جهة سياسية و كل مَن إستوزرَ أو شغلَ منصباً مهماً في أروقة الدولة. و استفادت أيضاً، و بجشع قلَّ نضيره، عوائل ومُقربّي المسؤولين. وفي خضم المفاوضات واللقاءات في فنادق بغداد وعمّان بعد إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية، بلَغَت عملية شراء الذمم أوجّها لعقد الصفقات بخصوص "الكتلة الأكبر" لتشكيل الحكومة. وأعلن أحد "الشخصيات السنيّة" على إحدى القنوات الفضائية العراقية أنه أُعطيَ ستين مليون دولارا أمريكياً لكي يدخل في تحالف "دولة القانون" للمالكي! و كان هذا الشخص مستاءً لإنه توقعَ ضعف المبلغ... أولاد قُراد الخيل! لا يوجد أي وازع أخلاقي أمام أي "سياسي" عراقي،  الكل ينظر للعراق كأنه مِلكٌ له ولأقربائه. وقد يتباكون على الحسين أو يذمّوه، و لكن كلهم، ليبراليين وإسلاميين، سرّاق ومنافقون بدون إستثناء. 

البحث عن وطن وسط الخراب

في ٧ آب ٢٠١٨ انطلَقت مظاهرة في منطقة باهلة في قضاء المدينة في البصرة مطالبة بماء صالح للشرب ووظائف للشباب خريجي الجامعات والمعاهد. كانت مظاهرة سلمية ككل المظاهرات الإحتجاجية على مدى ثمانية سنوات أو أكثر، كل صيف في جنوب العراق البائس. وكان ردّ القوات الحكومية، أيضاً كما حصل في السنين السابقة، إطلاق الرصاص الحيّ ضد المتظاهرين السلميين. وهكذا قُتِلَ الشاب يوسف يعقوب المنصوري في ٨ آب، و كان مقتله وحالات التسمم بالمياه الملوثة التي فاقت الألفي شخص النقطتين الأساسيتين اللتين أججَّتا الشباب البصري لتنظيم مزيد من الإحتجاجات. 

واستمرت الإحتجاجات في البصرة دون إنقطاع، وخرج المساندون لها في الناصرية والعمارة والديوانية والكوت والنجف وكربلاء. وخرجت تظاهرات مساندة، خجولة نوعا ما، في بغداد، بينما ظلَّت بقية محافظات العراق تتفرج. وتناقلت وسائل التواصل الإجتماعي اللقطات والتسجيلات عن غضب الشباب ومطالبهم بأبسط الأمور الحياتية: الماء الصالح للشرب والكهرباء وتوفير فرص العمل. وتناقلت كالنار في الهشيم صرخة رجل خمسيني في الناصرية: "عمي، نريد وطن"! أين الوطن؟ لقد نهبَ سياسيو ٢٠٠٣ كل شئ من هذا الوطن، وسرقوا حتى القطع الأثرية من الموصل المحتلَّة من أوباش داعش وهربوها الى الأردن و قطر والإمارات، كما فعلوا قبلها بآثار بابل وأوروك و حتى القليل الموجود في المتحف العراقي. وما كان من الأشقاء العرب إلا أن يعرضوا تاريخ العراق المسروق على تجار القطع الأثرية في أورپا، أو يُتحفوا متاحف مدنهم بتراث العراق المنهوب. ومتحف اللوڤر-أبو ظبي يضمّ بعض المسروقات العراقية، لمَن يصبو التقصي، وكذلك متاحف و معارض الدوحة.

لم يكترث سياسيو المحاصصة الطائفية في بغداد يوماً لمذهبٍ أو مبدأ، وأحداث البصرة بالتحديد بيَّنَت ذلك بوضوح لا غُبار فيه. محافظ البصرة السابق، ماجد النصراوي، هربَ الى إيران وفي جعبته ميزانية المدينة بأكملها. والمحافظ الحالي، أسعد العيداني، الذي كان مديراً لمكتب أحمد الچلبي أيام "المؤتمر الوطني العراقي"، تركَ المحافظة وذهبَ الى بغداد. فالمسؤولية مفردة غريبة عن قاموس السياسيين العراقيين. الإهمال التي تعرضت له البصرة، وبقية مدن العراق، على مدى خمسة عشر عاماً، شئ لا يتخيله العقل. تبدو البصرة مدينة منكوبة وهي واحدة من أغنى مدن العالم. هذا الإهمال يضاف إلى أنقاض دمار القصف الجوي الإيراني منذ ١٩٨٢ الذي دمرَّ كثيراً من المنشآت الحكومية الصناعية والتقنية، وإجحاف حكومة صدام حسين على إثر إنتفاضة آذار ١٩٩١ التي أشعلها الجندي العراقي المهزوم من الموت والإذلال عقب هزيمة حرب ١٩٩١ التي شاركت فيها معظم الدول العربية من مصر وسوريا والسعودية والإمارات و بقية إمارات الخليج والمغرب لضرب العراق وشعبه ومنشآته وبنيته التحتية. البصرة المسؤولة عن ضخ ما يزيد عن ثلاثة ملايين برميل يومياً، بحسب إحصائيات منظمة أوپك (OPEC) لعام ٢٠١٧، وكانت إيرادات العراق للعام نفسه ٥٩,٧ بليون دولار أمريكي (أو ٥٩٧٣٠٠٠٠٠٠٠ دولاراً بالتحديد). أين مشاريع الإعمار و البناء؟ أين المستشفيات والمدارس والجامعات؟ أين وسائل النقل الحديثة؟ أين مكائن تحلية المياه؟ و إتضح لنا أن ما يزيد على ٧٠ مليون دولاراً صُرِفت لشراء أجهزة لتحلية المياه للبصرة، وبالفعل حضر رئيس الوزراء نوري المالكي حينها لإفتتاح مكائن التحلية وسط ضجة إعلامية حكومية، ولم يحصل أي شئ إطلاقاً بعدها لأن الجهابذة أكتشفوا أن المكائن لم تكن مناسبة لتحلية المياه! و هكذا ذهبت سبعين مليون دولاراً في مهب الريح، وسكان البصرة بدون ماء صالح للشرب.

أضحى الفساد في العراق سلعة للتفاخر. مَن يسرق الأكثر، ومَن يُهين الشعب أكثر. وبينما ينهمك السياسيون بالسرقة والنهب، تمارس مليشيات الأحزاب الإسلامية الضغوط على السكان العُزَّل وتحمي السرّاق أنفسهم. ولم تشهد البصرة أي تحديث لبنيتها التحتية (مستشفيات، مدارس، جامعات، مراكز ترفيهية، طرق ومواصلات، مراكز توليد الكهرباء وتحلية المياه، الخ)، بل تفاقمت فيها القذارة والإهمال واللاتخطيط و إضمحلت الآمال. هذه البصرة كانت تنتفض كل عام على مدى عقد أو نيف، وهذا العام وصلت ذروتها بعد أن وصلت البطالة نسبة تزيد على الأربعين بالمئة (كل أربعة شباب من بين عشرة عاطلون عن العمل). وأعربت الجموع عن غضبها بإحراق مكاتب الأحزاب الإسلامية الشيعية والقنصلية الإيرانية، وحطمت يافطة كبيرة تعلوها صورة الخميني في أهم شوارع المدينة. وذهبت جموع الشباب في غضب لحقول النفط التي تضخ الملايين لمنفعة الشركات العالمية. وحينئذ أرسلت الحكومة العراقية الجيش لحماية آبار النفط والمنشآت النفطية، واستخدٍمَ الرصاص الحي مرة أخرى ضد المتظاهرين. هل تُعتبَر أفعال الشباب المُحبَط تخريبية؟ بالتأكيد الجواب سيعتمد على وجهة نظر المتحدث/المتلقي. مَن المُخرِب، الشركات النفطية الأجنبية المستمرة بنهب خيرات البلد مقابل صفقات لسياسيين فاسدين، أم الشعب الجائع الذي لا يجد حتى ماءً صالحاً للشرب؟ وهذه الشركات نفسها تستورد الأيدي العاملة، دون أن تَفرض عليها حكومة بغداد تعيين أهل البلد. 

آخر الكلام... 

لخصَّ رجل عراقي بطريقة ساخرة، أُجريت معه مقابلة بالصدفة من قبل إحدى القنوات الفضائية العراقية في سوق السنك التجاري ببغداد، الوضع العراقي و رأي كثير من الشعب. "منذ خمسة عشر عاماً لم تُوفر الحكومة شيئاً غير اللطم وضرب الزنجيل والرز و مَرَق القيمة أيام المواكب الحسينية. لا خدمات ولا فرص عمل، وخريجو الجامعات عاطلون يجوبون الشوارع. مَن يُخالف هؤلاء الفاسدين سيُقتَل. لَن يتغير شيء في العراق طالما هذه النخبة الفاسدة في الحكم. وهم مأجورون من قبل السيّد الأمريكي، يًُجدِّد عَقْد هذا ويُنهي عقد ذاك، والأمريكي هو الحاكم الناهي."

و تأكد كلام هذا المواطن، إن كان هناك مجالاً للشك، إذ "وافقَ" البرلمان العراقي على إنتخاب محمد الحلبوسي (حزب الحل السنيّ المنضوي في تحالف "الوطنية" لأياد علاوي) رئيساً، وبرهم صالح (الإتحاد الوطني الكردستاني، وهو رئيس وزراء إقليم كردستان السابق ووزير التخطيط في حكومة إبراهيم الجعفري للفترة ٢٠٠٥-٢٠٠٦) رئيساً لجمهورية العراق، وعادل عبد المهدي ("مستقل" حالياً، وسابقاً قيادي في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وشغل منصب وزير المالية في حكومة أياد علاوي عام ٢٠٠٤ ثم نائب رئيس الجمهورية عام ٢٠٠٥ ثم وزير النفط للفترة ٢٠١٤-٢٠١٦). وعادل عبد المهدي، نجل واحدٍ من أكبر إقطاعيي الناصرية في العهد الملكي، كان بعثياً وشارك في إنقلاب ٨ شباط ١٩٦٣ الدموي، ثم إنتقلَ إلى الماويّة (نسبةً الى الزعيم الصيني ماو) في سبعينيات القرن الماضي، ثم الى الليبرالية وأخيراً، ربما، إلى الإسلام السياسي الشيعي إذ تبوأ منصباً قيادياً مع المجلس الأعلى للثورة الإسلامية. كل ذلك في حياةٍ واحدة! والشخصيات الثلاث المذكورة (الحلبوسي وصالح وعبد المهدي) معروفة بقربها من الجناح اليميني الأمريكي. 

قد يتسائل المرء عن دور المرجعية الشيعية في النجف، والسيستاني تحديداً. كان للمرجعية الشيعية ميزة مهمة هي عدم تدخلها في الأمور السياسية إطلاقاً، وكان هذا موقفها لقرون عدة. و لم يتناقض ذلك مع أن يكون لها دور إيجابي في التغييرات المجتمعية. فعلى سبيل المثال، سانَدتْ المرجعية، و بصورة فعّالة، ثورة العشرين ضد البريطانيين و أصدرتْ فتوى بوجوب مجابهة المُحتل. ومن نفس المنطلق، أصدرَ آية الله المرجع علي السيستاني، تحت تأثير الحكومة العراقية حينها، حسب رأي البعض، أو دون أي تأثير حسب رأي البعض الآخر، فتوى في ٤ أيلول ٢٠٠٢ تنص على وجوب محاربة الغزاة الأمريكان وأن التعاون معهم يُعتبَر من كبائر الذنوب (وقد نقلها حينها مراسل قناة الجزيرة ماجد عبد الهادي). وتعرّي هذه الفتوى، من ناحية، موقف السلفيين من كون الشيعة والمرجعية عملاء لأمريكا، ومن ناحية أخرى، تقف ضد خنوع الإسلام السياسي الشيعي للمُحتل. وفي ممناسبة أخرى، أصدرتْ المرجعية فتواها المعروفة بحمل السلاح ضد داعش التي احتلت ثُلث العراق في ظل حكم الإسلام الشيعي، وحزب الدعوة الإسلامية بالتحديد.  

و لكن الأمر تغيَّرَ مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام ١٩٧٩ واختراع آية الله الخميني مبدأ ولاية الفقيه، الذي لم يُقرَّهُ مُجمل مراجع النجف. واستمرت النجف في حيادها عن التدخل في السياسة، وانتُقِدَت من بعض المراجع، تأثراً بنهج الخميني، وعلى هذا الأساس أطلق محمد صادق الصدر مصطلح، وتبعه منشور، "الحوزة الناطقة" في تسعينيات القرن العشرين. ولم تكن "الحوزة الناطقة" تابعة لإيران أو مؤمنة بمنهج ولاية الفقيه، بل كان جلّ تركيزها على ربط الدين بالسياسة خلافاً لنهج المرجعية الأساسي في فصلهما عن بعض. لسنا هنا بصدد نقاش في أحكام الفقه الشيعي ونقاط ضعفه أو قوته، ولكن من النافل إدراك جَدلية العلاقة في موقف المرجعية من الأمور السياسية عموماً. و هذا يختلف جذرياً عن الدور الوضيع لأزلام الإسلام السياسي الشيعي في إقحام الدين، و المرجعية أيضاً، في كل صغيرة وكبيرة تخدم مصلحتهم. و ما يحتاجه المجتمع في العراق، هو إقصاء الفكر الديني من المعترك السياسي، أياً كان، ومن الإقتصاد والقضاء وقوانين الدولة والمجتمع. و نأمل أن تكون الخمسة عشر عاماً الأخيرة درساً مهماً في إعادة تقييم الفقه والممارسة من منطلقات عملية لها تأثيرها الملموس على حياة البشر، وإحياء مقولة، الدين لله والوطن للجميع، التي كانت ترددها الجماهير في مظاهرات عام ١٩٥٩ والثورة الفتيّة تجابه مخططات الخارج والإقطاع و آية الله محسن الحكيم (جدّ عمار الحكيم صاحب إئتلاف الحكمة و زعيم المجلس الإسلامي الأعلى) الذي أصدرَ فتوى تحريم الشيوعية. 

لن يزول الخراب من العراق قريباً ولن تَدب العافية في كيانه الذي أنهكته الحروب والحصار  الفساد، و لكن شابات و شباب العراق ضربوا عرضَ الحائط مساوامات آبائهم، وبهم نتفاءل. لقد أثبتت البصرة أن هذا الشباب لا يكترث للأعراف التي سببَّت له المجاعة والعوز، و يعي دور الأجنبي القادم لنهب ثروات البلد والسياسي العراقي الفاسد الذي فتحَ البلد للسرقة والقتل. وإن قتلت المليشيات الإسلامية تارة فارس وحمودي المطيري، فلن يتمكنوا من قتل الآلاف الأخرى.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬