[هذه المقالة مقتطف من ورقة بحثية شاركت بها الباحثة في "ندوة الهشاشة والبنية التحتية والنزوح" التي انعقدت في كلية لندن بين 12 و 13 حزيران 2019، وعرضتها في الحلقة الدراسية حول "الشبكات والدورات: النفايات والمياه والطاقة.]
لا يعول على الكهرباء في لبنان، وذلك على الرغم من الاستثمارات الكبيرة التي خصصت لمواجهة أزمة الكهرباء منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1991 - النزاع الذي أضعف البنية التحتية للبلاد. ولهذا أصبحت الحالات المتكررة لانقطاع التيار الكهربائي، سواء المجدولة أو المباغتة، هي القاعدة.[1] لا يقع ضرر هذه الانقطاعات على الجميع بالتساوي، إذ يستفيد سكان بيروت من 21 ساعة من الكهرباء، بينما تتراوح المدة التي يستفيد منها المستقرون خارج العاصمة بين 12 و 16 ساعة يومياً. يتضح ضعف التزويد بالطاقة أيضاً من خلال عجز شركة كهرباء لبنان عن استحصال الفواتير من عملائها. علاوة على ذلك، تفشل وكالتها القانونية في التصدي للسرقات وتحقيق إصلاحات جذرية، مما أسفر عن اللجوء المتزايد لتوفير الكهرباء بشكل غير رسمي في جميع أنحاء البلاد. يوفر أصحاب المولدات الكهربائية، التي يعمل معظمها بالديزل، اشتراكات شهرية مكلفة.[2] لذلك، يشيع استخدام مولدات الكهرباء المشتركة أكثر في المجمعات السكنية حيث يقطن ذوو الدخل المرتفع وفي الأحياء السكنية المسوّرة.
تُبرز أزمة الكهرباء هشاشة وضعية اللاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون في مخيمات لبنان المكتظة.[4] لم تصمم هذه المخيمات كي يتم الاستقرار فيها، فاحتياجات القاطنين بها لم تدخل في حسبان المصممين. كانت الظروف المعيشية في هذه المخيمات متردية منذ البداية، وقد أسفر تورطها في الحرب الأهلية اللبنانية بين عامي 1975 و 1991 في تعقيد موقعها داخل المشهد السياسي في البلاد.[5] عارضت الحكومة الجهود الرامية لإصلاح أوضاع المخيمات، بحجة أن أي شكل من أشكال الاستثمار في البنية التحتية قد يسهم فى تجنيس الفلسطينيين.[6] وقد زاد هذا من هشاشة أوضاع اللاجئين الذين يعيشون في المخيمات، خاصة في ما يتعلق بالخدمات الأساسية.
يتطلب فهم مدى هشاشة وضعية اللاجئين الفلسطينيين في ما يتصل بالكهرباء فهماً أفضل لشبكة إمدادات الكهرباء داخل المخيم وخارجه. يمكن للمرء أن يلاحظ بسهولة فوضى أسلاك الكهرباء التي تتشابك فوق سماء الأحياء الحضرية، إذ تتداخل مع كابلات الهاتف والإنترنت والتلفزيون. تحتوي مخيمات اللاجئين المكتظة بالسكان على كثير من الأسلاك الكهربائية المعلقة على مسافة أقرب إلى الأرض من باقي الأسلاك في مناطق أخرى من البلاد، وغالباً ما تتشابك هذه الأسلاك المتدلية، مما يصعب مهمة صيانتها.
أسلط الضوء في هذه الورقة البحثية على قصة شهداء الكهرباء في المخيمات الفلسطينية. أستكشف تجربة الفلسطينيين مع الكهرباء كجزء من سعيي لصناعة فيلم وتقديم بحث يرصد خدمات التزويد بالكهرباء في لبنان من زاوية الصراعات الدائرة في البلاد.[7] تحدثت مع حميد في مخيم شاتيلا،[8] وهو شاب في أوائل العشرينات من عمره. حميد عضو في مبادرة أطلقتها اللجنة الشعبية في المخيم (أسميها هنا "المجموعة"). تتألف المجموعة من شباب وظيفتهم الحفاظ على عمل شبكة الكهرباء في المخيم، وغالباً ما يُستدعون عندما تحدث مشاكل في الشبكة. مثل العديد من أعضاء المجموعة، لم يتلق حميد أي تدريبات رسمية في الهندسة الكهربائية، لكنه يرينا كيف تعمل شبكة الكهرباء الوطنية المتصلة بالمخيم، وكيف تدبر المجموعة باستمرار أسلاك الكهرباء المتشابكة في أحياء عديدة، وكيف تتشابك الأسلاك مرة أخرى عندما يعيد ساكني المخيمات توصيلها أو حين يوصلون أسلاك جديدة.
تزين شعارات الأحزاب السياسية وصور الشهداء والقادة أزقة المخيم. من بين كل هؤلاء، تأسرنا صورة فتى فلسطيني، صورة تختلف عن باقي صور الشهداء الأكبر سنا. تعود الصورة لكريم، وهو صبي نشيط ومتطوع في المجموعة، استدعي صباح أحد أيام نوفمبر لصيانة أسلاك كهربائية متدلية. كان المطر ينهمر بغزارة حتى امتلأت الأرض ببرك مائية، الأمر الذي عرض المارة لصدمات كهربائية مصدرها الأسلاك المكشوفة. قتلت الأسلاك كريم بينما كان يحاول إصلاحها، مما جعله "شهيد كهرباء" مات في خدمة شعبه.
لم يكن كريم الوحيد الذي واجه هذا المصير. أعرض هنا قصص شهداء الكهرباء التي تجسد الهشاشة التي يعاني منها اللاجئون الفلسطينيون في لبنان. يشير آدم رمضان إلى أن المخيمات تمثل للفلسطينيين "حقيقة دائمة ومؤقتة" أصبحت مع الوقت "مساحات نفي دائمة ومؤقتة".[9] لقد أصبحت مساحات تهيمن عليها الخدمات غير الرسمية التي تهدد حياة ساكني المخيمات. بدون صفة المواطنة الضرورية للاستفادة من خدمات المؤسسات الرسمية،[10] يعتمد اللاجئون في الغالب على خدمات غير رسمية وعلى المنظمات غير الحكومية.[11] أشارت دراسات أكاديمية عديدة إلى التشابه بين أوضاع المخيمات والأحياء الفقيرة في أنحاء متفرقة من العالم، وذلك من حيث اعتمادها على تنظيمات غير رسمية للتزود بخدمات الكهرباء والصيانة،[12] وهي "مبادرات ذاتية"[13]، تندرج تحتها طريقة التزود بالكهرباء في مخيم شاتيلا وكذلك العمل الذي تقوم به المجموعة.
لفهم سير خدمات البنية التحتية في المخيمات، تنطلق هذه الورقة من تعريف مجال المخيمات بوصفه مجالاً علائقياً، بمعنى أنه نتاج علاقات متبادلة.[14] يقع مفهوم الأنطولوجيا العلائقية في صميم هذا الاتجاه في التفكير؛[15] ويُبرز مفهوم التجميع الأهمية الاجتماعية والمادية لخدمات وبنى تحتية مثل الكهرباء. هذه التجميعات "ليست مجرد وحدات مجالية أو مخرجات مجالية أو تشكيلات مجالية ناتجة، ولكنها تدل أيضاً على الأداء والأحداث".[16] لا ينبغي أن نفهم المخيمات الفلسطينية بوصفها مجالات استثناء فقط،[17] بلا قانون أو نظام، بل يتعين النظر إليها بصفتها حصيلة للعلاقات المتبادلة والتفاعلات التي تجري داخلها ونتيجة للممارسات المختلفة للأفراد والأسر والمنظمات.[18] وهكذا، فإن عمليات الاستبعاد من الحصول على الخدمات العامة، إلى جانب سبل التزود بالكهرباء السائدة في المخيم، تعيد إنتاج الهشاشة بين النازحين الفلسطينيين في ما يخص التزود بالكهرباء.
يعتمد تنظيم المخيمات الفلسطينية في لبنان على اللجان، وذلك حسب ما نص عليه اتفاق القاهرة عام 1969.[19] هذه اللجان هياكل شبه رسمية، تتمتع بقدر من الشرعية وتنظم الخدمات في المخيمات، وهي بمثابة مراكز تنسيقية تعمل إلى جانب المنظمات غير الحكومية التي تقدم الخدمات والمساعدات للفلسطينيين. لا تخضع المخيمات لسيادة الدولة اللبنانية،[20] وكذلك الأمر بالنسبة للكهرباء. ينبغي أن نحلل تدبير الكهرباء في لبنان باعتباره شكلا من أشكال السيادة المختلطة للدولة على بناها التحتية،[21] ويجب أن نقارب أيضاً التزويد اليومي غير الرسمي بالكهرباء في ضوء هذه السيادة[22]. تلقي الرؤى حول القطاع غير الرسمي في المناطق الحضرية الضوء على كيفية استفادة الساكنة من الخدمات غير الرسمية،[23] لكن تظل الأسئلة مطروحة بخصوص هشاشة النازحين الفلسطينيين وكيف أن قصور البنى التحتية يعرضهم للعنف المؤسسي.
تزود شبكة توزيع الكهرباء، التابعة لشركة كهرباء لبنان، في محافظة جبل لبنان مخيم شاتيلا بالكهرباء على نحو متقطع. توفر الشركة خدمات الصيانة أحياناً، لكن هذه الخدمات تقتصر على إصلاح الخطوط الرئيسية للكهرباء، مما يفسح المجال أمام اللجنة الشعبية لصيانة وإدارة توزيع الكهرباء، في حين يتجلى دور المجموعة في ضمان توصيل الكهرباء إلى المنازل بأمان. بالإضافة إلى ذلك، يعتمد سكان المخيمات بشكل غير رسمي على أصحاب المولدات الكهربائية للحصول على الكهرباء. لكن، وبينما يخضع مثل هذا التوزيع للضبط والحماية القانونية خارج المخيم، فإن غيابها داخل المخيم يسهم في تأزم أوضاع اللاجئين. الاكتظاظ وانحصار المنازل والمباني داخل أراضي المخيم، فضلاً عن عجز (أو عدم رغبة) شركة كهرباء لبنان في تنظيم توصيل الكهرباء في المخيم، يعني أن معظم الأسلاك الكهربائية أصبحت خطيرة، إذ تظل معلقة على مقربة من الأرض وخارج المباني. ينتج عن الوضعية شبه القانونية للعديد من الممارسات في المخيم سرقة الكهرباء من الشبكات الرسمية وغير الرسمية على حد سواء، مما يؤدي إلى كشف الأسلاك وتدليها قريباً من الأرض. ولهذا تتدخل المجموعة باستمرار قصد "تنظيم" الأسلاك الكهربائية، ومع ذلك، تحد محدودية الموارد والنزاعات السياسية الداخلية من جهودها.
من خلال التقاطع بين ما سجلتُه عن طرق الإمداد بالكهرباء في المخيمات وبين قصة كريم في مخيم شاتيلا، أعتزم اعتبار عملية التزويد بالكهرباء سيرورةً وديناميةً مستمرة تُحول فضاء المخيمات من مجالات هجنة تخضع لسيطرة محلية (الفعالية) إلى حيز حافل بالموت والخطر (الخلل). من هذا المنطلق، يتسع مفهوم البنية التحتية ليشمل التزويد بالكهرباء وشبكة الإمداد به، ووصل الأسلاك الكهربائية وانقطاعها، وعمل المجموعة، وسلطة اللجنة الشعبية، وشهداء الكهرباء. يؤدي هذا إلى إبراز وضعية الهشاشة التي يعاني منها ساكنة المخيم ويحول دون اعتبار هذه المآسي حوادث معزولة. وهكذا نتمكن من إدراك هذه الحوادث بصفتها عنصراً يدخل في قوام وضعية الهشاشة والعنف التي تقتضيها حالة السيادة المختلطة. ينبغي أيضاً أن تحول فكرة التجميع دون قيامنا بعزل المخيمات عن المناطق المحيطة بها، وتدفعنا، بدلاً من ذلك، إلى التفكير في وضعية الهشاشة الكامنة في عملية الإمداد بالكهرباء، جنباً إلى جنب مع الحالة المتردية للحياة اليومية في لبنان. يدل هذا كذلك على السياسات التي تحكم تقديم الخدمات، في بلد تبرز فيه الدولة لاعباً رئيسياً في قطاع البنيات التحتية.[24]
في الختام، يؤدي تحليل مجال المخيم والخدمات المقدمة فيه بالاعتماد على مفهوم التجميع إلى إيضاح القوانين التي تسن بخصوص البنية التحتية للكهرباء وكيف تسن والجهات المسؤولة عن تمريرها. تصف الأطر المفاهيمية المعتمدة في تحليل قطاع الخدمات غير الرسمية عملية الإمداد بالكهرباء بدقة، لكنها لا تفلح دائماً في توضيح وضعية الهشاشة التي تنتجها هذه العملية. تعد هجانة البنية التحتية المزودة بالكهرباء في لبنان والترابطات الاجتماعية المادية المختلفة التي تتشكل داخل المخيم وخارجه تقاطعات مهمة ينبغي فهمها بشكل أفضل من أجل الخروج باستراتيجيات لمواجهتها ولتجنب حدوث المزيد من المآسي.
[ترجمة ادريس مجيش. نشر المقال على جدلية]
[1] Dana Abi Ghanem, “Electricity, the city and everyday life: Living with power outages in post-war Lebanon,” Energy Research and Social Science vol #, no. 36 (2018).
[2] Dana Abi Ghanem, “Electricity, the city and everyday life: Living with power outages in post-war Lebanon,” Energy Research and Social Science vol #, no. 36 (2018).
[3] E. Verdeil, “Beirut, Metropolis of Darkness and the Politics of Urban Electricity Grids,” in Geographies of the Electric City, ed. Andrés Luque-Ayala and Jonathan Silver (London: Routledge London, 2016).
[4] وصل الفلسطينيون المنفيون إلى لبنان ابتداء من عام 1948، بعد قيام دولة إسرائيل، وعاشوا في البداية في مخيمات غير رسمية منتشرة في جميع أنحاء البلاد، منها اثنا عشر مخيماً لا تزال قائمة حتى اليوم. R. Siklawi, “The Dynamics of Palestinian Political Endurance in Lebanon,” The Middle East Journal 64, no. 4 (2010
[5] R. Siklawi, “The Dynamics of Palestinian Political Endurance in Lebanon,” The Middle East Journal 64, no. 4 (2010).
[6] Daniel Meier "Al-Tawteen": The implantation problem as an idiom of the Palestinian presence in post-civil war Lebanon (1989-2012)”, Arab Studies Quarterly 32, no. 3 (2010).
[7] This research was supported by the UK’s Arts and Humanities Research Council, ref. AH/N00812X/1.
[8] غيرت الأسماء لحماية هوية المتحدثين.
[9] A. Ramadan, “Spatialising the refugee camp,” Transactions of the Institute of British Geographers 38 (2013).
[10] R. Sanyal, “Urbanizing Refuge: Interrogating Spaces of Displacement,” International Journal of Urban and Regional Research 38, no. 2 (2014).
[11] N. Yassin, N. Stel, and R. Rassi, “Organized Chaos: Informal Institution Building among Palestinian Refugees in the Maashouk Gathering in South Lebanon,” Journal of Refugee Studies 29, no. 3 (2016).
[12] R. Sanyal, “Urbanizing Refuge: Interrogating Spaces of Displacement,” International Journal of Urban and Regional Research 38, no. 2 (2014).
[13] A. Bayat, “Un-Civil Society: The Politics of the ‘Informal People’,” Third World Quarterly 18, no. 1 (1997).
[14] D. B. Massey For Space (London: Sage, 2005).
[15] Gilles Deleuze and Felix Guattari, A Thousand Plateaus: Capitalism and Schizophrenia, (London: Athlone Press, 1988).
[16] C. McFarlane, “The city as assemblage: dwelling and urban space,” Environment and Planning D: Society and Space 29 (2011).
[17] Giorgio Agamben, State of Exception (Chicago: University of Chicago Press, 2005)
[18] A. Ramadan, “Spatialising the refugee camp,” Transactions of the Institute of British Geographers 38 (2013).
[19] R. Siklawi, “The Dynamics of Palestinian Political Endurance in Lebanon,” The Middle East Journal 64, no. 4 (2010).
[20] S. Fregonese, “Beyond the ‘Weak State’: Hybrid Sovereignties in Beirut,” Environment and Planning D: Society and Space, 30 no. 4 (2012).
[21] Ibid.
Ziad Abu-Rish, Lawson, O., Nucho, J., Verdeil, E. and Dana Abi Ghanem, “Roundtable on the past and present of electricity in Lebanon (Part 2),” Jadaliyya, May 2019,.
[22] Dana Abi Ghanem, “Electricity, the city and everyday life: Living with power outages in post-war Lebanon,” Energy Research and Social Science vol #, no. 36 (2018).
[23] Bayat 1997.
[24] E. Verdeil, “Beirut, Metropolis of Darkness and the Politics of Urban Electricity Grids,” in Geographies of the Electric City, ed. Andrés Luque-Ayala and Jonathan Silver (London: Routledge London, 2016).