«بحثَ [إساف ونائلة] عن مكان يتّسع للشوق واللهفة، فوجدا كلَّ الأمكنة معاديةً أو ضيّقة». يمهِّد القزم، قبل أن يشرع بتعريف الجمهور بحكاية إساف ونائلة، بوصفهما تجسُّدَيْن، أو ربّما المنبعين اللذين منحا تجسُّدهما لنبيل وإيڨا، بطلَيْ مسرحيّة سعد الله ونّوس القصيرة «بلاد أضيق من الحب» (1996) التي كانت التّمهيد الأخير للوداع الذي اكتمل بآخر مسرحيّات ونّوس «الأيّام المخمورة» (1997). نُشرت «بلاد أضيق من الحب» ضمن كتاب «عن الذاكرة والموت»، وهو كتاب «هجين» جمع فيه ونّوس نصوصًا قديمة وجديدة، متباينة الأجناس. المسرحيّة، أيضًا، هجينة مثل الكتاب الذي ضمّها. موضوعها مطروق ومتداول، ويكاد يكون مكرورًا. ويمكن لنا تلخيصه بالعنوان فقط: بلاد أضيق من الحب؛ عن البلاد التي تقتل الحب والمحبّين، عن سقف البلاد الواطئ الذي يخنق العشّاق، يخنق الحياة. يتعاظم شعور الاستغراب حين يبدأ القارئ قراءة/مشاهدة المسرحيّة. ما الذي أراده ونّوس من هذه الحدّوتة المطروقة؟ مثقّف كهل يحبّ فتاةً تصغره سنًا بكثير. ولكنْ، شيئًا فشيئًا، يزول الاستغراب وتبدأ الدّهشة، حين تغرق المسرحيّة في غرائبيّة قريبة من السورياليّة. وفجأةً، تنتقل المسرحيّة إلى مستوى آخر حين يدخل إساف ونائلة إلى المسرحيّة. من بين جميع القصص التاريخيّة، انتقى ونّوس هذه الحكاية المنمنمة ليبني عليها مسرحيّته. ليس الاستلهام التاريخيّ غريبًا عن ونّوس، إلا أّنّه كان محصورًا في الجانب السياسيّ دومًا. غير أنّ هذا الاختيار في ذاته ليس بعيدًا من السياسة إلى هذا الحد. ليس السياسة بالمعنى المباشر بقدر ما هي «سياسة الإلغاء» أو «سياسة التّعمية» لو جاز التعبير؛ سياسة كتابة وإعادة كتابة التاريخ، تاريخ الأدب هذه المرة، تاريخ قصص الحب العربيّة.
تخبُّط. تخبُّط كليٌّ يسم تاريخ الحب في الميثولوجيا العربيّة. تخبُّط ومفارقات. ففي الوقت الذي نجد قصصًا تفصيليّة لمعظم شعراء الغزل الأمويّين ومن بعدهم، نصطدم بفراغٍ عجيب حين نودّ قراءة قصص الحب قبل الإسلام. تاريخ المرحلة التي سبقت الإسلام بأسرها ناقصٌ بدرجة كبيرة لا سبيل إلى رتقها إلا بقليل أو كثير من الخيال. يَردُّ مؤرّخو الأدب والثقافة سببَ ضآلة المعلومات المتوفرة لدينا عن المرحلة التي التصق بها اسم «الجاهليّة» (بحيث لم يعد هناك أمل أو جدوى من تغييره) إلى انعدام التّوثيق. هذا ما يتّفق عليه الجميع تقريبًا، غير أنّ الاختلاف يكمن في سبب ذلك الانعدام في المقام الأول، وإنْ كان الأرجح أنّ قدوم الإسلام كان يفترض بالضرورة نسفًا تامًا لكلّ ما ومن قبله، حرفيًا ومجازًا. وضمن هذا العماء شبه المطلق الذي نتخبّط فيه، تنتأ ثيمة الحب تحديدًا. ما من قصة حب جاهليّة وصلت إلينا بتفاصيل متّفق عليها: لا عبلة عنتر، ولا عنيزة امرئ القيس، ولا حتّى متجرّدة النّعمان، وإنْ كان سياق قصة المتجرّدة أقرب إلى التشبُّب منه إلى قصة حب بالمعنى المتداول. لا يُلام مرگوليوث، إذن، ولا طه حسين في إصرارهما على أنّ معظم قصص تلك المرحلة التاريخيّة قصص متخيَّلة لا أساس لها؛ إذ لا تفسير، ولا تبرير، لانعدام التفاصيل أو تخبّطها، إلا لو كانت القصص منحولة وخاضعة لأهواء الرواة. لم نظفر بتلك القصص، ولكنّنا ظفرنا - على الأقل - بنتائج تلك القصص. دُفنت القصص ونساؤها، أو ربّما أُعيد خلقهنّ ضمن صورة جديدة خُلِّدتْ من خلال القصائد، ولا سبيل أمامنا إلا نسف القصة كلّها، أو تصديق ما قاله الشعراء ورواتهم. وتزداد وعورة المسألة حين ننتقل إلى الميثولوجيا، إذ ما عُدنا أمام غياب توثيق وحسب، بل أمام تغييبٍ قصديّ. لا نعرف تاريخ أيّ إله من آلهة العرب، ولا نعرف تفاصيل دقيقة عن طقوس التعبُّد بالمقارنة مع ميثولوجيات الثقافات الأخرى، سيما وأنّ معظم الآلهة (الأصنام) في پانثيون عصر ماقبل الإسلام كنّ إناثًا. بمعنى من المعاني، وأدَ الإسلام ما لم تئده الجاهليّة. وما عاد لدينا إلا قصص غامضة، لا فوارق بينها إلا في مدى ذلك الغموض. ولعلّ قصة إساف ونائلة أكثرُ تلك القصص غموضًا. إذ لا تمنحنا الروايات الإسلاميّة عنهما إلا حكايةً شبه موحّدة، وغير مُقْنِعة: كان إساف ونائلة عاشقَيْن يبحثان عن مكان للوصال، فلم يجدا إلا الكعبة. وحين «فَجَرا» داخلها، مسخهما الله حجرين، ومن ثمّ عبدتْهُما العرب. الرواية مفكَّكة وبعيدةٌ من الإقناع، بمعزل عن الخوارقيّة المُقحَمة. لا (لن؟) نجد دراسةً شافية لهذه القصة، ولذا، مرةً أخرى، لا بدّ من الخيال لتكتمل الصورة.
لم يحاول ونّوس تبديد تخبُّط الحكاية، بل لعلّه نقلها محافظًا على التباسها، ولكنّه تناولها من زاوية المصائر المتعثّرة التي عايشها البطلان القديمان، ويعايشهما البطلان الحاليّان. تبدو حكاية نبيل وإيڨا حكاية عاشقين، أو هذا ما حاول ونّوس تبيانه، إلا أنّ القراءة الأعمق للمسرحيّة ستجعلنا ميّالين أكثر إلى الاقتناع بأنّها قصة حبّ متفاوتة. إيڨا هي الطرف الأقوى في العلاقة وفي الحب على السواء (وهنا لا يفترق ونّوس عن تيّار مسرحيّ راسخ تكون فيه المرأة هي الأقوى ابتداءً بأسخولوس ويورپيذيس، مرورًا بشيكسپير وإبسن وتشيكاماتسو، وليس انتهاءً بتشيخوف وتنسي وليمز)، بينما نبيل غير بعيد من مستوى الإيروس المباشر فقط. يبدو نبيل متعجّلًا - في بعض مفاصل المسرحيّة - إلى الجنس، ربّما تعويضًا عن حياة سابقة عاشها ولم تكفه أو تُرضِ إيروسه. يعاني نبيل من مرض قاتل، السرطان، ولعلّ هذا أحد أسباب تعجّله لحرق مراحل الحب وصولًا إلى الجنس. لا أعني وجوب إقصاء الإيروس من الحب، بل تبيان تفاوت طبيعة العاشقين، وقوة عشق كلٍّ منهما للآخر، أو على الأقل اختلاف طبيعة العشق بينهما. على أنّ إيڨا تباغتنا أحيانًا حين تقلب المعادلة وتصبح هي الساعية إلى الإيروس وإلى تعميق الجنس في العلاقة. ولكن - مرة أخرى - ضمن سياق الحب في ذاته، لا بوصفه أمرًا مستقلًا عن الحب. لا تتذكّر إيڨا الجنس، إلا بعد وصول العاشقين إلى مأوى شبه آمن، فيما تقضي باقي الوقت في لعب دور محور القلق الذي يمثّل العنصر الجوهريّ في العلاقة وفي المسرحيّة على السواء. نبيل أكثر ثقةً (طيشًا؟) في كلامه وتصرّفاته، بينما إيڨا أكثر تردّدًا. تستوقفنا هذه المفارقة لأنّ المنطقيّ هنا أن يكون نبيل هو الأكثر قلقًا لأنّه يعرف هذه البلاد أكثر، وعايش لحظات الخنق المتواصلة التي تُدمنِها البلاد وسُلطاتها المتعاقبة، وأن تكون إيڨا أكثر اندفاعًا بحكم السنّ وقلّة التجربة، وبحكم اختلاف الظروف بين جيلين. كانت التسعينيّات عقد التحرّر الذي شهد «نجاة» البلاد والناس من جحيم الثمانينيّات، وباتت الحريّة أكبر، في المستوى الشخصيّ على الأقل. يكفي أن تُقصي السياسة المباشرة من حياتك وأن تخرس كي تعيش في سوريا التسعينيّات، إلا أنّ واقع الحال يومئ إلى غير هذا. لم يقتصر تغوُّل السُّلطة (السياسيّة والاجتماعيّة في آن) على الفضاء العام، بل دخل إلى جميع تفاصيل الحياة اليوميّة. لا بدّ من درجة قلق ضروريّة كي تنجو، أو كي تؤجّل لحظة المواجهة والفناء في صراعٍ محسوم النّتائج مع السُّلطة. يبدو نبيل غافلًا عن هذه المعادلة البسيطة بالرغم من أنّه (وربّما لأنّه) مثقّف عايش عقودًا أقسى. لا يتوانى ونّوس عن النّقد الذاتيّ القاسي لشريحة المثقّفين التي ينتمي إليها هو أيضًا: مثقّفون غافلون عن الطبيعة البسيطة للأشياء، ويكتفون بالسطح الظاهريّ. تسلَّلَ التفاؤل الساذج إلى أعمال أدبيّة وفنيّة كثيرة في سوريا التّسعينيّات، ربّما ضمن وهم اختلاف هذا العقد عمّا سبقه من عقود. غير أنّ حساسيّة إيڨا الرهيفة تلتقط ما غفل عنه المثقفون المخضرمون: لا بدّ من قلق ضروريّ كي تنجو، لا بدّ من حذر في جميع تعاملاتك الشخصيّة والعموميّة لأنّ أطياف الماضي هي ذاتها أطياف الحاضر؛ وكذلك هي أطياف المستقبل كما عرفناها نحن، ولم يعرفها نبيل وإيڨا.
تبدو هيلينه آلڨنگ، في مسرحيّة «العائدون» (أو «الأطياف») لهنريك إبسن، مهجوسةً بالماضي وبأطياف ذنوب الماضي التي تدرك أنّها ستعاود ظهورها حتمًا. وتبدو إيڨا مهجوسةً بأطياف الحاضر التي تدرك أنّها أقسى من أطياف الماضي الذي لم تعرفه، وما من داعٍ لأن تعرفه لأنّها تعيش نتائجه المفجعة، وربّما هي مهجوسة أيضًا بأطياف مستقبل لن تعرفه، ولكنّها تدرك حقيقته قبل حدوثه. قلق إيڨا مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بالحواس: هي تسمع وترى ما لا يراه نبيل. تسمع وقع أقدام الحصار، وترى جوهر الأشياء والأشخاص فيما يكتفي نبيل بسطح الطمأنينة الهشّ. تتلمّس إيڨا مواطن الضعف والهشاشة بحساسيّة ثاقبة، وإنْ كانت تَرُدّ هذا الضعف إلى جانب شخصيّ يسم كينونتنا البشريّة بالضرورة، لا أن يكون محض نتيجة تسلُّط العسكر والقمع. الضعف سببٌ لا نتيجة، كما ترى إيڨا. تلفتنا عبارتها: «لو لم نكن مذنبين، لشعرنا أننا أخفّ، ولكان كلٌّ منّا كالأنبياء قادرًا على صنع المعجزات.» لا ينبغي لنا خلط موقف إيڨا مع الموقف التبسيطيّ الذي سادَ ويسود في بلاد السقف الواطئ: «كما تكونوا يُولَّى عليكم» وغيرها من العبارات التي تفترض أنّ وجود السُّلطة مرتبطٌ بالضرورة بذنوب ارتكبناها. موقف إيڨا مختلف لأنّه موقف وجوديّ صارم، غير مرتبط بصلاتٍ عابرة بسياقات قد تتشابه أو تختلف تبعًا لتغيُّر الأشخاص والظروف. تتحدّث إيڨا (وونّوس بالضّرورة، في معظم أعماله في التسعينيّات) عن شرخٍ يسم كينونتنا ولا سبيل إلى البراء منه. أن تكون بشريًا يعني أن تكون مذنبًا بالضرورة، لا بالمعنى الميتافيزيقيّ بل بمعنى وجودك في دنيا لم تكن باختيارك ولن تكون. أنت مرتبط بالماضي ولو لم تعشه، وبالحاضر ولو أقصيت نفسك عنه، وبالمستقبل ولو غفلتَ عن التفكير فيه. يبدو البشر محكومين بدوّامةٍ وجوديّة خانقة لا مهرب منها. تتحدّث إيڨا عن مَطْهَر مرتبط بظروف وجودها ضمن عائلة مفكَّكة، وتتساءل عن «الفردوس الذي ينتظرنا» وتُشكِّك في وجوده أصلًا. لا تتحدّث عن جحيم يسبق المطهر، لأنّ هذا المطهر هو الدوّامة الأزليّة التي التهمت الجحيم بحيث بات جزءًا لا يتجزأ منها. المطهر هو الجحيم وهو الفردوس، كما أنّ الحاضر هو الماضي وهو المستقبل. يحتضنها نبيل ويقول إنّ الحب والجنس هو الفردوس في هذه الدائرة الخانقة، إلا أنّ نبيل ليس الشخص المؤهَّل لإدراك جوهر هذا الفردوس وإنْ أدرك بداية الطريق إليه. قد يكون الفردوس عزلةً أو نأيًا أو غرقًا في فقاعة شخصيّة لا يربطها رابط بكلّ ما ومن يحيط بها، غير أنّ إيڨا تدرك استحالة بلوغ الفردوس لأنّ المطهر سيفرض سطوته حتّى لو حاولتَ تناسيه.
يلطمنا ونّوس بعد هذا الحوار القصير بمشهد قد يبدو غرائبيًا في التسعينيّات: «تظهر طلائع الموكب، يتقدّمه أمير الجماعة، وخلفه أرتال من الشباب الذين أطلقوا لحاهم، وحلقوا شواربهم، وهم يرتدون جلابيب قصيرة.» ينتمي المشهد إلى العقدين الأوَّلين من الألفيّة الثالثة، لا إلى التّسعينيّات. أو هذا ما كنّا نظنّه ونفترضه. التقط ونّوس بدقّة نبض الغول «الدينيّ» الجديد الذي سيُضاف إلى غول السُّلطة «العلمانيّة». لم نعد أمام سلطة سياسيّة تحتكر الطبيعة العسكريّة، بل بتنا أمام تسلُّل العسكر إلى السُّلطة الاجتماعيّة التي ولدت من رحم السُّلطة السياسيّة. عسكر في كل مكان، حتّى في عقد التّسعينيّات الجميل. عسكر يسعون هم أيضًا إلى تشييد فردوس هربًا من مطهر الحاضر، ولكنْ لا سبيل إلى تشييد هذه الفردوس المُفترَضة إلا بسحق كلّ ما ومن لا يؤمن بها. فردوس عسكر مرةً أخرى، قد يتوازى أو يتقاطع مع فردوس عسكر آخرين، وقد يتواجهان أو يتحالفان إلى حين، فيما رحاهما تطحن الجميع، حتّى من افترض إمكانيّة العزلة أو الفرار. هنا بالذات، يظهر القزم وحكايته عن إساف ونائلة. كلُّ ما يحيط بالقزم عجائبيّ: لغته، عالمه، معرفته، أهدافه. يأخذ القزم العاشقين إلى مأوى عجائبيّ يبدو أقرب إلى ماخور يضم شخصيّات عجائبيّة هي الأخرى وكأنّنا انتقلنا إلى عالمٍ موازٍ لا يمتّ للواقع بأدنى صلة. مكان بأطعمة وألبسة وحوارات غريبة. ومن رحم هذه الغرائبيّة تنبت قصة إساف ونائلة التي يرويها القزم بمشاركة نبيل وإيڨا في مسرحيّة-داخل-المسرحيّة. يبدو نبيل وإيڨا هنا وكأنّهما ما خُلقا، وما جُلبا إلى هذا العالم الغريب إلا كي يكونا وسيلةً لتسلية شخصيّات ذلك العالم، وموضوعًا للرّغبة. يغيّر ونّوس تفاصيل قليلة في قصة إساف ونائلة حين يصون الجانب الميثولوجيّ متعدّد-الآلهة، بحيث تبدو الآلهة قريبةً من پانثيون الآلهة الإغريقيّة، وجوّ المسرحيّة قريبًا من جوّ هوميروس، حيث تشارك الآلهة في «التّمثيل»، لتقرّر مصير العاشقين اللذين جرؤا على تدنيس الحرم المقدَّس. لا نجد مُناصرًا للعاشقين إلا العزّى التي تلعب هنا دورًا مماثلًا لدور أفرودايت، فيما تكون الغلَبة لصاحب السّطوة الأكبر: هُبل/زيوس، حين يمسخ العاشقين حجرين كي يكونا عِبرةً، بينما تبدو العزّى أذكى حين تؤكّد له أنّ تصنيمهما سيكون حرفيًا، إذ سيتحوّلان لا إلى عبرة بل إلى إلهين يُعبَدان. يصل نبيل وإيڨا في نهاية المطاف إلى بُغيتهما، حين توفَّر لهما مكانٌ للرغبة والوصال والجنس، قبل أن يباغتهما صوت العالم الواقعيّ ويعيدهما إلى مطهر السقف الخانق، بالرغم من تفاؤل نبيل السّاذج الذي ظنَّ أنّ العالم الغرائبيّ والخيال يكفيان للفرار، «فالعشّاق والأحرار لا يخشيان الآلهة»، فيما تُعمِّق إيڨا شعور القلق والهشاشة حين تردّ بحسمٍ حزين، يختزل جوهر مسرحيّة ونّوس: «إنّنا عشّاق، ولكن هل نحن أحرار؟» وهي ثيمةٌ أساسيّة في مسرحيّات ونّوس الأخيرة كلّها، أي المسرحيّات التي عاد فيها إلى الكتابة المسرحيّة في التّسعينيّات ليغيّر فيها خارطة أعماله هو، وخارطة المسرح السوريّ والعربيّ بقوّة.
لم يكن اختيار ونّوس لاسم إيڨا محض مصادفة، إذ انتقى الصيغة اللاتينيّة لاسم «حوّاء» في سعيه - في المسرحيّة وفي كتاب «عن الذاكرة والموت» - إلى تدوين سِفر تكوين جديد، يشترك مع «سِفر التكوين» الأصليّ في المنطلق، وإنْ افترق معه في النّهايات، حيث نجد صدًى موجعًا بين عبارة إيڨا عن العشق والحريّة، وبين عبارة ونّوس التي ختم فيها نصّه البديع «رحلة في مجاهل موت عابر»: «من الظلام جئت وإلى الظلام أعود». يتخلّى كلٌّ من نبيل وإيڨا عن مقاومتهما العبثيّة: يستسلم نبيل للسرطان الذي يأكل جسده، وتهرب إيڨا إلى عالم ماقبل-المطهر، إلى الدير الذي عاشت فيه طفولتها قبل أن تنكسر الأحلام، إلى الدير المحكوم بقوّة وحيدة هي قوة الله، قبل انتقالها إلى البشر، إلى الدير الذي لا يقبل وجود رجال بين الفتيات كيلا تشتعل جذوة عشق حارقة تهزّ المعتقدات الراسخة. على أنّ انتقال إيڨا إلى الدير ليس عودةً كاملة، إذ لا نجدها قد تخلَّت عن قلقها الذي يسم شخصيّتها بأسرها. بقيت مُعلَّقة بخيط المطهر حتّى حين هربت إلى فردوس مُتخيَّلة، بقيت مُعلَّقة بذكرى عائلتها المفكَّكة وبذكرى نبيل الذي أصرّ على البقاء عند باب الدير مستسلمًا للموت، فيما بدأت إيڨا تقضي أيّامها على الأرجوحة مع الذكريات. يختم ونّوس مسرحيّته مستعيرًا جوّ العالم الغرائبيّ الذي لن تزول معالمه بعد أن عاشها العاشقان: «تحوَّل الميت إلى صخرة تشبه الجنين أو فلقة القلب أو العناق. وفي ملاعب الطفولة كانت إيڨا تكبر وتشيخ. ترسم وتردّد بلا كلل: أمّي خطفت بصر أبي، وأنا أنتظر نبيل.» اكتفى ونّوس في ختام مسرحيّته بانتحار طرف واحد من طرفَيْ العشق، وترك الطرف الثاني يعيش حياةً قريبةً من الانتحار أو موازية له، على عكس التّقليد المسرحيّ الذي نجده في «روميو وجوليت» شيكسپير، وفي سلسلة مسرحيّات «الانتحار المزدوج» التي رسّخها اليابانيّ تشيكاماتسو مونزايمون في المسرح اليابانيّ والعالمي. كانت مسرحيّات تشيكاماتسو، أو انتحاراته بالأحرى، مصدر إقلاق للسُّلطة لأنّها باتت لهبًا انتشر في المسرح اليابانيّ كلّه، وإلى المجتمع في ذاته حين زادت حالات الانتحار. في مسرحيّات «الانتحار المزدوج» ينتحر العاشقان دومًا، بحيث يبدو الموت جزءًا جوهريًا من الحب الذي لا يحيا ربّما إلا بالموت. لا نعرف ما إذا كان ونّوس قد قرأ تشيكاماتسو، ولكنّه أدرك بحساسيّة عالية أنّ مصدر إقلاق السُّلطة ليس النّضال السياسيّ والعسكريّ بالضّرورة، بل في أن تبقى حيًا، أن تصون قلقك، أن تواصل تشييد فردوس مُتخيَّلة، أن تكتب عن الحب الذي سيبقى طريدة أزليّة للسُّلطات، وأن تكتب عن الموت الذي هو حياة من نوع آخر، تُقلِق وتزعج، ولذا هي مصدر خطر.