ثلاثة أسابيع على سقوط نظام بشار الأسد. ثلاثة أسابيع على رحيل الكابوس. هذا ما يتفق عليه الجميع، حتى من كان موالياً لذلك النظام خوفاً أو تزلّفاً أو حتى بسبب عدم استساغة الطرف الآخر. ولكنّ الطرف الآخر انتصر، وبدأ تكريس نظامه. سكرة الانتصار تُرخي غمامة ضبابية على المشهد السوريّ. وما من إجابة واضحة بعد ما إذا كان هذا الضباب سينقشع عن تحقُّق حلم أو عن كابوس آخر. لا تحظى جماعة المنتصرين بشعبيّة طاغية، بل لا تستسيغها شرائح غير قليلة من السوريين. صيحات الفرح غطّت على تنهّدات القلق والخوف. وسيُخطئ المنتصرون كثيراً لو ظنّوا أنّ المحتفين في الشوارع يحتفون بهم هم، لا برحيل الطاغية.
المنتصرون سلفيّون جهاديّون موضوعون على قائمة الإرهاب. ليسوا سلفيين جهاديين مثل تنظيم داعش أو جبهة النصرة، إلا أنهم خرجوا من رحم التنظيمين، بل إنّ قائد هيئة تحرير الشام التي تتسيّد المشهد اليوم، وتتسيّد الفصائل المنتصرة، تقلَّب في جماعات جهادية كثيرة قبل أن ينقلب على كلّ من والاه، داعش والنصرة، وحتى تنظيم القاعدة الذي منحه اسمه وقوته وتدريبه ومكانته. تلك التقلّبات محيّرة؛ تومئ من ناحية إلى دهاء بالغ وبراغماتية مرنة، وتومئ أيضاً – وفي الوقت ذاته – إلى روح تمرّد مرعبة.
لا يمكن لأحد أن يثق بأبي محمد الجولاني الذي انقلب حتى على اسمه الجهادي واعتنق اسمه الأساسيّ أحمد الشرع. ولا يعرف أحد بدقة ما إذا كان الجولاني قد تلاشى حقاً أم تخفّى وراء البزة المدنية التي كانت بزة عسكرية تماثل بزة كاسترو وغيفارا، وسبقتهما الثياب الجهادية، ثياب أسامة بن لادن، بكل ظلالها المُربِكة. ظِلُّ القائد المجاهد لم يتلاش بعد، وصورة السياسيّ المدنيّ لم تتكرّس بعد. الجديد، كلّ جديد وأيّ جديد، لم يولد بعد. سوريا اليوم في برزخ غامض، برزخ رمال متحركة كلّ خطوة فيها قد تعني الخلاص وقد تعني الغرق.
للمفارقة، آخر شخصية تماثل الشرع كان حافظ الأسد، المؤسِّس للنظام الذي سقط، الذي أسقطه الشرع، أو لعل من أسقطه كان بشار الأسد نفسه الذي لم يكن يمتلك دهاء الأب ولا دهاء الخصم، وأخفق في تقلّباته المكشوفة الحمقاء. حافظ الأسد أمر آخر، وطينة أخرى؛ هو الضابط العصامي الذي شقّ طريقه الوعرة من قرية القرداحة إلى القصر الرئاسيّ، وكذلك سيفعلها الشرع بعد 54 سنة من دمشق إلى العراق إلى إدلب قبل أن يشقّ طريقه الأخيرة إلى القصر الرئاسيّ ذاته الذي بات مسرحاً لمؤثّري تكتوك ويوتيوب المسبّحين بحمد وليّ النعمة الجديد.
ثمة أمر مشترك آخر بين القائدين يضاعف غموض الشرع: اكتمل ثالوث الرحلة إلى القصر الرئاسيّ بوحشيّة لا ترحم حين عمد الأسد إلى إقصاء رفاق الرحلة واحداً تلو الآخر. رحلة الشرع الإقصائية لم تكتمل بعد، أو ربما انتهت، أو لعله سينتقي طريقة أخرى للاستفراد بالحكم بين عشرات المنافسين من الرفاق والخصوم. لا أحد يعرف ما يدور في عقل هذا الشاب الأربعينيّ الذي دخل التاريخ. كان الإقصاء الأسديّ جسدياً في جميع المراحل، فبارانويا حافظ الأسد لا تحتاج إلى من يزيدها أكثر. الإقصاء الجولانيّ كان جسدياً تارة، وتمرداً تارة، وهروباً تارة، ومراوغة دوماً.
هل سنشهد انقلاباً داخلياً كما كانت حركة الأسد "التصحيحية" التي أقصى فيها الأسد آخر منافسيه ورفاقه القدامى وأمسك بكرسيّ السُّلطة وحده؟ تبدو الأمور متّجهة إلى هذا الاتجاه لدى الشرع، فهو أذكى وأسرع وأدهى من رفاقه ومن فصيله، ولكن لا نعلم ما إذا كان سيتحرّر من وطأة هيئة تحرير الشام وماضيها بالبزة المدنية أم العسكرية. هل سيفترق الرفاق بانقلاب أبيض متحضّر، أم إنّ مخالب الشرع ستمزّق القفّاز الحريريّ الذي لا يبدو لائقاً به بعد؟
الأمر الأكيد هو أنّ الهيئة تعيق طموح الشرع، ولم يُخفِ الرجل أنه في صدد تفكيكها. المسألة الغامضة هي ماهية هذا التفكيك وكيفيته. لا يستند الشرع إلى شرعية شعبية، ولا حتى إلى شرعية مطلقة داخل الفصائل. هو لا يخاطب الفصائل ولا السوريين، بل يواصل لعب الكشتبانات الخارجية، مستنداً إلى حلف يبدو قوياً للوهلة الأولى مع الأتراك، غير أن مفترق الطرق ليس بعيداً. سيكون على الشرع اختيار أن يكون سورياً أو تركياً.
الخيار الأسهل هو أن يكون تركياً ويمضي في مشوار إقصاء الأكراد في شمال شرق سوريا، أو إضعافهم على الأقل بالخيار العسكريّ. ولكنّه يدرك أن الخيار العسكريّ سيلوّث بزّته المدنية، ولذا فهو يواصل علناً طريق الحوار ولو بخطوات بطيئة متعثّرة وعينه على تركيا، بخاصة أن الأكراد منفتحون على الحوار من دون أن يتركوا لأحد أن ينسى أنهم أهل حرب. لا يخفى على أحد من السوريين اليوم أن مفتاح حلّ الغد سيكون في الشرق؛ إما أن يمضي الجميع إلى حوار سوري-سوري يصون البلاد وأهلها من ويلات الانزلاق إلى حرب أهلية طاحنة، أو سيكون لتركيا وفصائلها كلام آخر أقصاه تغليب كفّة الحرب، وأدناه تحريض بعض الفصائل، بخاصة الجيش الوطني السوريّ، على التمرد على سُلطة دمشق الجديدة. ويدرك الأتراك أن للتمرّد إغواؤه بين أهل الفصائل، بخاصة أن التفاهم بينهم ما يزال هشاً.
ولكنّ خيار حرب كبيرة أو تقاتل فصائل سيُرعب شرائح سورية كثيرة ما زالت غير مطمئنة للشرع ولا لرجاله. لم يُخفِ العلويون رعبهم وقلقهم، وخرجوا إلى الشوارع حين زاد منسوب "الإهانات الفردية" التي تجاهلوها بادئ الأمر لأنهم يدركون أنهم الطائفة الخاسرة في سوريا اليوم. ولكنّ خسارة اليوم لا تعني إقصاء كاملاً من المستقبل، فهم أكبر أقلية في البلاد إذ يقاربون 10 في المئة من السكان، مثلهم في ذلك مثل الأكراد، بخاصة بعد هجرة عدد كبير من المسيحيين، وبذا لن يقبلوا بأقل مما يقبله الأكراد، ولا يمكن لأحد تجاهلهم أو إقصاؤهم. ما يجمعهم أكثر بكثير مما يفرّقهم، بل لعلّ رحيل الأسد سيدفعهم إلى قرارات ومواقف أصلب وأكبر. لا تعوزهم الجرأة، ولا يعوزهم التنظيم لو اضطر الأمر ومضينا إلى كابوس صراع مسلّح، وهم يدركون قبل غيرهم ما يمكن للذلّ أن يفعل. ثمة أطراف كثيرة تتمنى هذا السيناريو، وهي مستعدة لحماية العلويين حتى لو اضطر الجميع للقبول بسيناريو الكانتونات المُقلِق.
الموحدون الدروز صامتون يراقبون الأوضاع بحذر، وينامون بعين واحدة. الشيخ حكمت الهجري، شيخ عقل الطائفة، يميل كعادته إلى تغليب العقل والحوار مع صون واضح لكرامة أهله وأرضه، ولا يُخفي الشيخ يحيى الحجّار، قائد رجال الكرامة، الخيار الآخر حين قال إنّهم يخفون السلاح كما يخفون القمح. هو موجود لوقت الحاجة. والحاجة يقرّرها ويحدّدها ويدفع إليها أولئك القادمون الجدد الغرباء في دمشق. ليست السويداء محض مدينة صغيرة مرميّة بين البازلت، بل باتت اليوم بوصلة أخرى للثورة، بخاصة أنهم قادوا الحراك المدنيّ في العامين المنصرمين وباتوا ممثّلين للسوريين كلهم بهذه الدرجة أو تلك. وكذلك، أغراهم نجاح تجربة الإدارة الذاتية الذي أتقنه الأكراد. وما ينجح في شمال الشرق، ينجح أيضاً في جنوب الغرب. ولم تعد عبارة "اللامركزية" محض كلمة متناثرة في المقالات الأكاديمية، بل باتت تُطرَح في المجالس والخلوات والحوارات، بخاصة أنّ ما يجمعهم بدرعا والقنيطرة وأهلها وفصائلها أكثر بكثير مما يجمعهم بأولئك القادمين من إدلب حتى لو قائدهم جولانياً. فالاحتلال الإسرائيليّ ما عاد شبحاً بعيداً بل بدأ طرق الأبواب، ووجد شريحة لا بأس بها تميل إليه أكثر من ميلهم إلى سوريا جديدة بمستقبل غامض. ويدرك الشيخ الهجري أن الحل الأوحد لطرد شبح إسرائيل هو في توحيد الطائفة حتى لو كان الأمر يعني ابتعاداً من السلطة المركزية في دمشق.
يحدث كل هذا بسبب قرار الهيئة الكارثي بحلّ جهاز الشرطة، وعناد الهيئة الغريب في الاستئثار بكل مفاصل السُّلطة مع أن الدلائل بدأت تتضح يومياً على فشل الهيئة وفشل حكومتها. لا أحد يسيطر على الفصائل، وتُتجاهَل الانتهاكات اليومية بحجّة أنها تصرفات فردية سيُعاقَب مرتكبوها، من دون أن نرى نتيجة فعلية. فالانتهاكات متواصلة ولم تعد تقتصر على عنف لفظي أو إهانات. لدينا فيديوهات كثيرة عن إعدامات ميدانية وعن انتهاكات واعتقالات بلا تهمة واضحة ودون أن نعرف الجهة التي أصدرت أمر الملاحقة أو الاعتقال أصلاً.
وإنْ كانت مهمة حكومة الإنقاذ أو الحكومة المؤقتة ضبط الأمن وتسيير الأوضاع المعيشية فقد أخفقت في الناحية الأولى إخفاقاً تاماً إلا لو كانت الهيئة وأنصارها يختزلون سوريا في بعض شوارع دمشق وحلب (كما اعتاد النظام أن يفعل)، ولا تبشّر الناحية الثانية بخير أيضاً في ظل عدم وجود خطة اقتصادية واضحة، وتلاعب بأسعار الصرف بهدف دغدغة مشاعر الناس. خلال عشرين يوماً تقلّبت أسعار الصرف تسع مرات أو عشراً ما أثّر سلباً على عمليات التحويل الخارجية التي يعيش عليها معظم السوريين، بينما يكتفي وزراء الهيئة بتصريحات ضبابية احتفائية كاذبة عن استقرار أسعار الصرف، ما سيعني انهياراً وشيكاً لليرة كما حدث عدة مرات بخاصة في السنوات الخمس الأخيرة.
وكذلك تتجاهل الحكومة المناطق ذاتها التي تجاهلها النظام. فالغاز والمازوت والخبز والكهرباء متوفرة في دمشق وحلب وحمص، بينما ما تزال باقي المناطق تعاني ما كانت تعانيه أيام الأسد. ولا تنفعنا هنا المقارنات العبثية بحكومات الأسد، أو التذرّع بأنّ الحكومة ما تزال في أيامها الأولى. كان خيار الاحتفاظ بحكومة الأسد الأخيرة خياراً مطروحاً بدا بأن الشرع فكّر فيه قبل أن ينسفه من جديد في إحدى تقلّباته، ويجلب حكومة الإنقاذ من إدلب التي لا تملك خبرة طويلة، ولا يمكن لها النهوض بشؤون سوريا كاملة. ما يحدث اليوم لا يعني إلا أمراً من اثنين. إما أن تعترف الحكومة بمسؤوليتها وتقرّ بعدم جدارتها وكفاءتها وتستقيل لصالح حكومة مؤقتة أخرى من التكنوقراط أصحاب الخبرة والكفاءة، أو لا بد من إنهاء عمل الحكومة والإسراع بتشكيل حكومة انتقالية موسعة تضم تكنوقراط للوزارات الخدمية، ووزراء من خارج هيئة تحرير الشام، إذ لا يبشّر أداء الحكومة بخير، ولن يختلف الأمر إذا صبرنا حتى بداية آذار/مارس القادم كما يودّ الشرع وحكومته.
لا تملك الهيئة، بوصفها سُلطة الأمر الواقع، جهة إعلامية رسمية واضحة، مع أنهم سيطروا على التلفزيون الرسمي وعلى وكالة الأنباء الرسمية منذ اليوم الأول. وما يزال الشرع يتصرف بعقلية المعارضة عبر اعتماده على قنوات المعارضة وعلى إعلامييها الذين وصل بهم الأمر أحياناً إلى مستويات تطبيل كادت تلامس مستوى التشبيح، بخاصة حين حاول أحدهم الالتفاف على خروج السوريين في يوم حداد وطني ليصوّره بأنه يوم احتفاء بالقيادة الجديدة، ما ذكّرنا بإعلام النظام وتشبيحه.
ربما كان الناس سيصبرون على الإقصاء السياسي اليوم، ولكنهم لن يصبروا على الوضع المعيشي السيئ، وبدأ التململ يظهر صراحة في مواقع التواصل، بخاصة أن تصريحات الوزراء متناقضة، في ظل غياب الشرع في القصر الرئاسي واختفاء رئيس الوزراء محمد البشير عن الساحة كلياً. وإذا أضفنا التصريحات الكارثية لبعض أركان هيئة تحرير الشام ووزرائها، ثم نفيها أو محاولة الالتفاف عليها من أعضاء آخرين في قيادة الهيئة، سندرك أننا أمام هيئة متخبّطة لا بد لقيادتها من ترتيب بيتها الداخلي. والأهم أن هذا الترتيب لا يعني السوريين في شيء، إذ لا ذنب للسوريين أن يواصلوا حياة متخبّطة بسبب تخبّط سُلطة ما تزال تتصرف بعقلية الميليشيا عسكرياً ومدنياً وخدمياً.
يتصرف الشرع ورفاقه بعقلية من سيحكم أبداً، بينما يصرّحون في الوقت ذاته بأنهم حكومة مؤقتة. يتحدث الشرع عن سنوات للتحضير للدستور ومن ثم انتخابات حرة. لا مشكلة من حيث المبدأ، فالانتخابات – على عكس ما يظن كثيرون – ليست إلا نتيجة لسيرورة طويلة من التحضير الدستوري والقانوني والحراك الشعبي، غير أن الكارثة هنا أننا لا نعرف شرعية السُّلطة التي تطلق هذه التصريحات، ولا آلية اختيار المشاركين في "مؤتمر وطني شامل" (عُقد "مؤتمر وطني تمهيدي" ضم أعيان القوميات والطوائف، كان منهم من هتف لـ "القيادة الحكيمة" وكأننا في مجلس الشعب الهزلي أيام بشار)، ولا آلية اختيار جمعية دستورية، فالحديث لم يدر إلا حول "لجنة دستورية" تختارها الهيئة "بالتشاور" مع أطراف أخرى.
ما ينساه الشرع والهيئة والحكومة، وما ينساه معظم السوريين أيضاً هو أن هذه السُّلطة لا تملك أدنى شرعية على الإطلاق. اللافت والعجيب انتشار مصطلح "الشرعية الثورية" حتى في خطاب مثقفين وناشطين يُفترَض بهم إدراك حد أدنى من ألفباء السياسة. ما من شيء اسمه شرعية ثورية، وليس لهيئة تحرير الشام أدنى سلطة على سوريا وسكّانها، إلا بحُكم وجود صمت شعبي يُفهَم منه ترك الأمور بيد الهيئة مؤقتاً، غير أن تخبّط عمل الحكومة، وتصريحات مسؤولي الهيئة، وتقلّبات الشرع التطمينية والمُقلِقة في آن تدفعنا إلى التفكير بخيارات أخرى.
ليس أمامنا إلا حلان معقدان. الحل الأول (الأسلم ولكن ضئيل الاحتمالية)، تشكيل تجمع وطنيّ مدنيّ يشمل ممثلين عن جميع السوريين وينتخب هيئة تفاوضية تحاور الشرع، وتطرح جميع المخاوف ويعملان معاً على تشكيل حكومة انتقالية موسعة وهيئة حُكم انتقالي تشمل الجميع، بحيث يُتاح للسوريين انتخاب جمعية وطنية تختار جمعية دستورية لكتابة دستور جديد للبلاد، في مرحلة انتقالية لا تقل عن عامين، يكون لهيئة الحُكم والحكومة فيها صلاحيات كاملة في ضبط الأمن ونزع سلاح الفصائل وتسيير أمور البلاد.
الحل الثاني الذي لا يتمنى أحد الركون إليه هو الالتفاف حول الهيئة وتشكيل تجمّع وطنيّ ينتخب هيئة تفاوضية تطلب تدخلاً أممياً صريحاً وقوات أممية تكون راعياً للمرحلة الانتقالية، مع مد علاقات مع المحيط العربي لقطع الطريق على تركيا وأحلامها في تشكيل نظام الملل العثماني الذي لا يمكن لها تحقيقه في تركيا، أو مد سيطرتها البرية والبحرية في قضم مناطق جديدة، بخاصة أنها تسعى اليوم إلى ترسيم حدود لا تملك هيئة تحرير الشام صلاحية توقيعه.
ينسى الشرع والهيئة أنهم ما يزالون على قائمة الإرهاب، وأن أميركا والدول الأوروبية تربط مسار شطبهم من قائمة الإرهاب بمسار رفع العقوبات الاقتصادية التي مدّدتها الولايات المتحدة خمس سنوات أخرى. اختيار حل من اثنين يرتبط بمدى قوى الهيئة التفاوضية الشعبية في الكلام الصريح مع الشرع ومع الجهات الدولية بوجوب فصل مسار قائمة الإرهاب عن مسار العقوبات الاقتصادية، فالعقوبات تخصّ السوريين كلهم، بينما قائمة الإرهاب تخص الهيئة وحدها، ولا يجب على السوريين الاهتمام أو حتى الاكتراث بوضع الهيئة دولياً إلا حين يختارونها ممثلاً شرعياً عنهم، وهذا لم يحدث حتى الآن.
ربما يعني اللجوء إلى الحل الثاني إشعالاً لاقتتال داخليّ أو إلى فوضى داخلية، ولكن من قال إنّ استمرار الهيئة في حُكم البلاد لن يدفع إلى هذا السيناريو أيضاً؟ من يضمن أن الحكومة المؤقتة ستكون مؤقتة فعلاً؟ ومن منح الشرع أصلاً شرعية تشكيل حكومة مؤقتة أو الدعوة إلى مؤتمر وطني يفصّله على هواه؟ لن يكترث أحد للانتخابات ولنتيجتها إنْ كان الدستور صريحاً في أن تكون سورية دولة مدنية ديمقراطية (كلمتا "مدنية" و"ديمقراطية" غائبتان بالمطلق عن قاموس الهيئة والشرع). فلينتخب الناس من يشاؤون حتى لو انتخبوا الحكومة الحالية ذاتها، إذ سيكون الدستور ضماناً في عدم تغوّل فريق سياسيّ ليحتكر البلاد كما تفعل الهيئة اليوم. المعركة القادمة معركة دستورية ومعركة شرعية. ليس لأحد شرعية اليوم في سوريا إلا للسوريين أنفسهم، للشعب وحده، وهو بيده إنقاذ سوريا بشرط وجود حراك مدني جديّ لا يكترث لصغائر الأمور والمماحكات التافهة التي أغرقتنا فيها مؤسسات المعارضة ومثقفوها طوال 14 عاماً.
إننا في برزخ رمال متحركة قد يفيدنا الصمت والاستسلام في الطفوّ المؤقت، ولكنه لن يُنجينا منها كلياً، إذ تكفي حركة خاطئة كي نغرق بلا أدنى أمل. وليس لشعار "من يحرّر يقرّر" الذي يتغنّى به أنصار الهيئة ومريدوها اليوم إلا معنى واحد: الشعب هو الذي حرّر وهو الذي سيقرّر. مئات آلاف الشهداء والمغيّبين قسراً، ممن تتجاهل الهيئة تنظيم ملفاتهم ووثائقهم، وملايين النازحين والمنفيين، هم من سيقررون مسار المرحلة الانتقالية إلى جانب من حارب ومن بقي في الداخل. ومن يظنّ أن الهيئة وحدها من حرّر، والهيئة وحدها من يحق لها أن تحكم، فليراجع نفسه، فهذا الكلام لا معنى له إلا أن الأسد سقط كي نعبد نظاماً جديداً، وهذا ما لن يكون أبداً.