(دار ألكا للنشر، بروكسل؛ بغداد، 2024)
جدلية (ج): كيف تبلورت فكرة الكتاب، وما الذي قادك نحو الموضوع؟
يزن الحاج (ي. ح.): الكتاب في أصله مجموعة مقالات في الأدب المقارن سبق نشرها بصيغتها الأولى هنا في "جدلية" بين كانون الثاني/يناير 2020 وأيلول/سبتمبر 2021. وبطبيعة الحال، خضعت المقالات لتعديلات كثيرة، وإعادة كتابة في مواضع، ودمج بين مقالتين أو أكثر في مواضع أخرى. لا أعلم من قال إنّ علينا ألّا نكتب إلا ما يصلح فصلاً في كتاب؛ وبات هذا القول دليلي إلى الكتابة منذ سنوات، إذ ما عدتُ ميّالاً إلى المقالات القصيرة أو المراجعات العابرة إلا في ما ندر. أما سبب الكتابة فهو ببساطة ميل شخصيّ إلى قراءة الأدب والفن ضمن عدسة مقارنة على الدوام، وأشرتُ في المقدمة إلى أن الأدب والفن ولد مقارناً، إذ دوَّنَ الكتّاب الأوائل ما سمعوه فأحبّوه، أو ما سمعوه فكرهوه وقرّروا الردّ بالكتابة. القراءة، كما أفهمها، فعل كتابة وردّ بالكتابة. والقراءة أُيضاً فعل مقارن، إذ لا نقرأ عملاً أو شخصية إلا ونُرفقها على الدوام مع عمل آخر أو شخصية أخرى، تتقاطع معها أو توازيها أو تحاذيها أو قد تُناقِضها.
(ج): ما الأفكار والطروحات الأساسية التي يتضمنها الكتاب؟
(ي. ح.): ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام: الأول: نص طويل عن الحب والموت أتناول فيه تحوُّل ثيمتَيْ إيروس (الحب أو الجنس) وثناتوس (الموت) في ميثولوجيات عدة ولدى كتّاب متنوّعي المشارب والأساليب؛ والثالث: نص طويل أيضاً عن الفاجعة وتقلُّب مظاهرها مع صون جوهرها من گلگامش إلى أيامنا هذه حيث نكون الشّهود على الفواجع قبل أن تبتلعنا ليكون غيرنا شاهداً علينا؛ وبينهما قسم ثانٍ يضمّ تسع تأمّلات مقارنة في أعمال لكتّاب عديدين، معظمهم من كتّابي المفضّلين الذين أعود إليهم دائماً، ولذا سيجد القارئ تكراراً في بعض الأسماء، بخاصة إميل حبيبي وعبد الرحمن منيف وسعد الله ونّوس، ولكن ضمن سياقات مختلفة.
(ج): ما التحديات التي واجهتك أثناء البحث والكتابة؟
(ي. ح.): التحدّي الأكبر تنظيم الكتاب ضمن ثيمات محددة. صحيح أنّ كل مقالة كُتبت أصلاً كي تكون فصلاً في كتاب ما، إلا أنّ أيّ كتاب يستلزم ثيمة موحّدة كيلا يصبح محض تجميع لمقالات متناثرة لا يربطها رابط. وبالطبع، كان التحدي الآخر في إعادة القراءة، وإعادة الكتابة. ثمة تهمة تلاحقني بأنّي ذو ذائقة صعبة و"لا يعجبني العجب"، وهي تهمة لا أنفيها أبداً، بل أعتنقها بحبور. ولكن ما لا يعرفه الآخرون أنّي ناقد شرس لما أكتب أكثر بكثير من نقدي لما أقرأ، ولولا الفسحة الزمنية الضيقة التي اضطررت فيها لإنهاء الكتاب، ربما ما كان سيصدر. وفي نهاية المطاف، هذا الكتاب يعبّر عنّي في تاريخ كتابته فقط، وعلى الأرجح أنّي سأغيّر بعض أفكاري أو جلّها لو أُتيحت لي فرصة الكتابة مرة أخرى عن ثيمة موجودة في هذا الفصل أو ذاك من الكتاب.
(ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به، وكيف سيتفاعل معه؟
(ي. ح.): الكتاب مكوَّن من مقالات نقدية مقارنة، وهو جنس مُغيَّب بدرجة كبيرة عربياً، لو استثنينا الدراسات الأكاديمية التخصصية. ما أتوق إليه حقاً هو إعادة الاعتبار لجنس المقالة الذي تعرّض لإهانة وإذلال مديدين طوال عقود، بخاصة في العقدين الأخيرين اللذين شهدا تأسيس دكاكين إعلامية لا تنشر إلا مقالات قصيرة أو تلخيصاً لكتب، وشهدا انتشاراً مرعباً لفيديوهات يوتيوب وبودكاست هدفها الجوهريّ تدمير الأدب والفن والذائقة حين يُراد منها تجريف الوعي، وتسخيف جوهر القراءة. ولا بدّ لي هنا من تكرار جملة لا أملّ من تكرارها: إننا بحاجة إلى ورشات تعليم قراءة لا تعليم كتابة، إذ ثمة أمّيّة أفدح تتجاوز تعريف الأمّيّة القديم؛ ندعي أنّنا نقرأ، غير أنّ قراءاتنا منزوعة الدسم والوعي والتأمّل. وما أتمنّاه لهذا الكتاب هو أن يجد قارئاً يدرك معنى القراءة وجوهرها، كي يشتبك مع الأفكار حتّى لو كان الاشتباك يعني تخطئة أفكاري برمّتها. فالنّقد، كما أفهمه، فعلُ قراءةٍ يهدم ليبني، ويفكّك ليركّب، وليخلق وعياً جديداً مع كل قراءة جديدة.
(ج): ما موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والإبداعية؟
(ي. ح.): هو كتابي النقديّ الأول بعد قرابة عشرين عاماً من كتابة المقالات على اختلافها، وبعد ترجمة ما يزيد على عشرين كتاباً في الفكر والفلسفة والرواية. ليس لديّ مشروع في الترجمة، إذ هي عمل كأيّ عمل آخر يستلزم أمانة وحدّاً معقولاً من الجودة، أما القراءة والكتابة فهي جوهر حياتي ووجودي، وهي ما أودّ أن أُعرَّف به بعد موتي. لعلّ الكتاب تأخّر قليلاً، ولكنّه سيكون مُنطَلَقاً لمشاريع كتابة قادمة.
(ج): من الجمهور المفترض للكتاب، وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
(ي. ح.): القارئ المستهدَف هو ذلك الكائن الذي أوشك على الانقراض، الذي كان يُسمّى "القارئ العاديّ"، أي القارئ الذي يمتلك الرغبة في القراءة ووعي القراءة: وعي يخصّه هو وحده، ويتشارك وعي الآخرين في آن؛ هو القارئ الذي يغويه النّبش ولا يكتفي بتلقّي أفكار الآخرين؛ فعل القراءة لديه فعل جذب ونبذ باتجاهات مختلفة، وليس قارئاً يكتفي باتجاه واحد تفرضه عليه "سلطة نقدية" بصرف النظر عن أهميتها. أما فصول الكتاب فهي مقالات تقع في المسافة التي تفصل المقالات النافلة العابرة، وبين المقالات الأكاديمية التي تستهدف جمهوراً بعينه من المختصّين. وما أتمنّاه هو أن تجد فصول الكتاب قرّاءها الذين يودّون إزاحة الوجه الظاهريّ للنصوص الأدبية والأعمال الفنية، والحفر في معانيها الأعمق. والأهم، أن يثير الكتاب نقاشاً حيال الأفكار وحيال النصوص المنتقاة التي ستتجدّد مع كل إعادة قراءة.
(ج): ما مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(ي. ح.): ثمة أفكار عدة لكتب قادمة في النقد، وبذرة لمشروع روائيّ. أترك المشروع الروائيّ لوقته، أما الكتب النقدية فأنا منشغل بثلاثة مشاريع، الأول عن ملحمة گلگامش، والثاني عن إميل حبيبي، والثالث عن السرد المكتوب منذ عام 2001، أي "سرد الألفية".
مقتطف من الكتاب
اكتفى ونّوس في ختام مسرحيّته "بلاد أضيق من الحب" بانتحار طرف واحد من طرفَيْ العشق، وترك الطرف الثاني يعيش حياةً قريبةً من الانتحار أو موازية له. ثمة تقليد مسرحيّ أبعد لا يترك عاشقاً من العاشقين في دنيا الحسرة والتفجّع، بل يدمج إيروس وثناتوس في انتحار لكلا العاشقين. كان التقليد المسرحيّ اليابانيّ المعتمد على الدمى "بونراكو" أشهر تقليد مسرحيّ استثمر فكرة «الانتحار المزدوج»، وكان تشيكاماتسو مونزايمون أبرز كاتب رسَّخ هذا التقليد في المسرح اليابانيّ والعالمي. كانت مسرحيّات تشيكاماتسو، أو انتحاراته بالأحرى، مصدر إقلاق للسُّلطة لأنّها باتت لهباً انتشر في المسرح اليابانيّ كلّه، وإلى المجتمع في ذاته حين زادت حالات الانتحار. في مسرحيّات «الانتحار المزدوج» ينتحر العاشقان دوماً، إذ يكون حبّهما عصياً على التحقّق، بحيث يبدو الموت جزءاً جوهرياً من الحب الذي لا يحيا ربّما إلا بالموت. ولعلّ هذا يتبدّى في أقصى درجاته في أشهر وأعظم مسرحيات تشيكاماتسو انتحارا الحبّ في أميجيما، حيث استحالة العيش في الحب لا تترك فسحةً للعاشقين إلا بمحاولة عبثيّة للعيش معاً في الموت، للعيش والوصال في الموت ومن خلاله، إذ لا تبقى وسائل مقاومة إلا القفز في هوّة الموت.
ليس الانتحار هروباً هنا بقدر ما هو محاولة تمرُّد أخيرة على جميع قواعد المجتمع التي تطارد الحبّ في كل مكان، محاولة مقاومة أخيرة لإيروس كي يترسّخ في حالة دنيويّة بعد أن أقصاه اللاهوت، فلا يجد سبيلاً إلا الغرق في ثناتوس، بحيث يتّحدان معاً في دنيا أخرى بلا أسوار، ولا مطاردات:
أقسما في رسائلهما الأخيرة التي تبادلاها بأن يوم لقائهما، لو تمَّ، سيكون آخر أيامهما. ليلة إثر أخرى، يجرُّ جيهيي خطاه الثقيلة إلى الزّقاق، ذاهلاً، كما لو أنّ روحه غادرت جسداً التهمتْهُ نيران الحبّ.
لا نعرف ما إذا كان ونّوس قد قرأ تشيكاماتسو، ولكنّه أدرك بحساسيّة عالية أنّ مصدر إقلاق السُّلطة ليس النّضال السياسيّ والعسكريّ بالضّرورة، بل في أن تبقى حياً، أن تصون قلقك، أن تواصل تشييد فردوس مُتخيَّلة، أن تكتب عن الحب الذي سيبقى طريدة أزليّة للسُّلطات، وأن تكتب عن الموت، بل وأن تجعل الموت فرصة نجاة أخيرة، حيث يكون حياة من نوع آخر، تُقلِق وتزعج لأنّها كانت بإرادة الرعيّة لا السُّلطة، بإرادة الفرد لا الجماعة، ولذا كان إدراك السُّلطات على اختلاف أنواعها أنّ توحُّد الحب والموت وسيلة مقاومة لا بدّ من سحقها قبل التحقُّق.
ولكنّ السُّلطات لا تدرك أن جوهر الحبّ منذور للموت، لا بمعنى التبدُّد بل بمعنى ابتكار خلق جديد في اليباب، وكلُّ حبٍّ بهذا المعنى خلقٌ جديد. حين نحبُّ نظنّ بادئ الأمر أنّنا نبحث عمّن يُكمِّلُنا، عمّن يُتمِّم نقصاننا، غير أنّنا في واقع الحال نقتطع شيئاً من ذاتنا كي يُلائم الجزء الذي اقتطعه الآخر، المحبوب، بحيث نصير جزءاً منه ويصير جزءاً منا. يموت جزءٌ منا كي يحيا بجزءٍ من المحبوب، حين يعيد تشكيل عناصره مع عناصرنا في كيمياء وئام جديدة. يتّحد المعنيان الحرفيّ والمجازيّ للعبارة الدّارجة "بموت فيك"، فيصبح المعنى "أموت فيك لأحيا، لنحيا"، بحيث يصبح الموت فعلَ حياة. جدليّة حياة وموت، واكتمال ونقصان، ودائرة لانهائيّة من التضادّات التي تجد لها سبيلاً أوحد في الوئام حين يكتمل تناسب العناصر الأربعة التي تُكوِّن كلّاً منا. كلُّ حبٍّ بهذا المعنى تماهٍ مع الخالق حيث نحاول ضبط العجينة الكونيّة الأصغر التي نحاول تكوينها.
ينقل أرسطو في كتابه في النَّفْس أنّ البعض يقول "إنّ الكون يعجُّ بالنَّفْس، ولذا ربّما ظنَّ طاليس أنّ كلّ الأشياء ملأى بالآلهة". أي، بما أنّ كل شيء له نَفْس، فكلُّ شيء بالضرورة يحمل إلهه داخله، ويحمل قوّة خلقه داخله، ويحمل – بالتالي - جدليّة إيروس وثناتوس التي لا مفرّ منها، ثنائيّة الحب والموت التي لفظتها الأديان والتقطها الشّعراء. ما عادَ الموت، بعد ولادته الجديدة في الشعر، مرتبطاً وملتصقاً بالحب وحسب، بل مُلازِماً له وحده، حيث الحياة بهذا المعنى موت، والموت عشق، والعشق موت وحياة في آن، بل إنّ الحبّ صاحبُ أمر الموت وحده، كما يُنبِئنا المتنبّي:
وعَذَلْتُ أهل العشقِ حتّى ذُقْتُهُ فَعَجِبْتُ كيف يموتُ مَنْ لا يعشقُ