[فديو نشره الصليب الأحمر على تويتر بمناسبة اعترف الدولة الخمسين بمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية مما يسمح بجعلها قانونية في كانون الثاني ٢٠٢١]
ومن الواضح أن الفيديوهات تهدف إلى استحضار فظائع قصف هيروشيما وناغازاكي في آب\أغسطس 1945، حين ألقت الولايات المتحدة قنابل نووية على المدينتين اليابانيتين-في ما يعرف عموما بأنها المرة الوحيدة التي استخدمت خلالها قنابل نووية في نزاع مسلح حتى يومنا هذا. إلا أن وضعا مغايرا يخطر على بالي: العراق، والدمار الصحيّ الذي خبره العراقيون بعد عشرات السنين من الغزو الذي قادته الولايات المتحدة، والاحتلال الذي بدأ في 2003. وعلى وجه الخصوص، ومخاوف نقل التسمم الشعاعي إلى الأجيال المقبلة التي تحمل إلى الأذهان الحالات المرعبة من السرطانات والولادات المشوهة في العراق.
لم يحدث انفجار واحد يضيء كالبرق بضوء أبيض يسبب العمى في العراق، حيث الإشباع بالسموم يمتد عبر السنوات عوضا عن نسبه لحدث واحد. ومع ذلك، يُعتقد منذ أعوام إن نسبة معدل الأطفال الذين ولدوا بتشوهات في الفلّوجة، بات يفوق معدل التشوهات الخلقية في هيروشيما بعد العام 1945. ومع ذلك، فإن مسار التلوّث السام البطيء، والخطير، والمستمر في العراق (كما يوثّق باحثون من أمثال عمر ديوچي وكالي الربيعي) عتّمت عليه رواية الولايات المتحدة لغزو العام 2003 على أنه، في أسوأ الأحوال "خطأ فادح"، كما يشير سنان أنطون. وهذا وصف خطير يطمس الروابط الواضحة بين حرب العراق وبين الدمار الصحي الذي يعيشه العراقيون، حيث تولد أعداد لا تحصى من الأطفال مصابة بأنواع كارثية وغالبا مميتة من السرطانات، أو بتشوهات، أو بفشل في أعضائها الحيوية.
العراقيون ليسوا ضحايا مجرد "خطأ فادح"، أو "ومض مضيء" يمكن التعرف عليه بسهولة. – بل ضحايا نوع من الظلم البيئي خطير يحرق ببطء، وتحوّل إلى واقع في سياق الغزو والاحتلال.
التشبّع السام: "من لحظة تكوينهم للحظة مماتهم"
لفهم أثر كل من حفر الحرق واليورانيوم المنضّب، من المفيد النظر في تعريفين.
حفر الحرق: "في العراق وأفغانستان ومناطق أخرى من مسارح العمليات العسكرية جنوبي غربي آسيا، كان حرق النفايات في الهواء الطلق وأنواع أخرى من المخلفات في حفر للحرق ممارسة شائعة" (كان يتم إلقاء وحرق مجموعة متنوعة من المخلّفات في حفر للحرق، تشمل الكيميائيات، والنفايات الطبيّة، والمخلّفات البشرية، وعلب الألومينيوم، والذخائر، والمنتجات والنفطيّة، والبلاستيك، والمطاط، والخشب، ومخلفات الطعام.)
اليورانيوم المنضب: "هو نتيجة جانبية لعملية تخصيب اليورانيوم حيث يتم "إثراء" (أو تخصيب) اليورانيوم الطبيعي المستخرج من قشرة الأرض بنظائر يورانيوم ذات طاقة أعلى لإنتاج يورانيوم ملائم للاستخدام في المفاعل النوويّة. ثم يتم تنضيب اليورانيوم المتبقي من نحو أربعين في المئة من نشاطه الإشعاعي، لكنّه يحتفظ بدرجة السميّة ذاتها التي في اليورانيوم الطبيعي...... اليورانيوم المنضّب هو خطر صحيّ محتمل إذا دخل إلى الجسد، كأجزاء راسخة، أو داخل جراح ملوّثة، أو عبر الاستنشاق أو الابتلاع."
يأتي هذان التعريفان، اللذان يشددان بوضوح على خطر حفر الحرق وأسلحة اليورانيوم المنضب، من دائرة قدامى المحاربين في وزارة الخارجية الأميركية..
في ضوء وجود أدلّة تثبت بوضوح مخاطر حفر الحرق واليورانيوم المنضب، لماذا لم تتخذ الحكومة الأميركية أي خطوة كبرى لتنظيف النفايات السامة في العراق؟ ومخاطر اليورانيوم المنضب في العراق معروفة منذ حرب الخليج على الأقلّ، وهو ما عرّفت عنه الفيزيائية هيلين كالديكوت بالقول أنه "الحرب النووية الثانية" في التاريخ. إن اليورانيوم المنضب "مكثف للغاية وقادر على التغلغل في مركبات مدرّعة بشدّة" و"يحترق تلقائيا لدى الاصطدام (بجسم ما)"، مخلّفا جزئيات متناهية الصغر تنتشر على شكل رذاذ "وهي صغيرة لدرجة انه يمكن استنشاقها" كما أنها "تسافر مسافات طويلة عندما يحملها الهواء". (2) ويكتب جون كاتالينوتو أن اليورانيوم المنضب "يستخدم في صنع القذائف التي تخترق والدروع الحامية في آن".(3) وكما يشرح "برنامج الأمم المتحدة للبيئة" (يونب) فإن الكثافة العالية لليورانيوم المخضب تعني أنه يمكن استخدامه لصناعة المدرعات المصفحة من جهة، ولاختراق المدرعات المصفحة من جهة ثانية.
ونقلت صحيفة "غارديان" ما وثّقته مجموعة السلام الهولنديّة "باكس" من أنّه في العام 1991 يعتقد أنه تم إطلاق حوالي 782 ألفا و414 جولة قصف من اليورانيوم المنضب، أساسا من قبل القوات الأميركية. وفي العام 2003، يُعتقد أن أكثر من ثلاثمئة ألف جولة قصف من اليورانيوم المنضب قد أطلقت، أيضا بشكل أساسي من قبل الولايات المتحدة (وكان للملكة المتحدة حصة أصغر).
ووجدت دراسة أصدرتها في العام 2019 مجلة "التلوث البيئي"، أن القرب السكاني من قاعدة طليل الجوية، وهي قاعدة عسكرية أميركية بالقرب من الناصرية، المدينة التي تبعد نحو 225 ميلا جنوبي شرقي بغداد، مرتبط بارتفاع احتمالات التشوهات لدى الولادة بين الرضّع والأطفال. وكما تشير الدراسة:
- في العراق، فإن التلوث الحربي هو نتيجة لبقايا القنابل، والرصاص، وتفجير الأسلحة الكيميائية والتقليدية، وانبعاثات حفر الحرق من قبل القواعد الأميركية. إن الثوريوم هو تركيبة مشعّة تنتج مباشرة عن تحلل اليورانيوم المنضب. والمواد المشعّة، بما فيها اليورانيوم المنضب، تخزّن دوريا في القواعد الأميركية وقد تبيّن أنها تتسرّب في البيئة.
ولقد ركّزت الدراسة على رضّع يعانون من حالات تشمل عيوب في الأنبوب العصبي (مثل شلل الحبل الشوكي وانعدام الدماغ وتضخم الدماغ والفتق السحائي)، وأمراض القلب الخلقية، وتشوهات أمراض جهاز الهيكل العظمي (بما فيها تشوهات الأطراف السفلى، وعدم وجود اليد اليمنى، وأقدام مشوهة مشلولة بالإضافة إلى الشفة المشقوقة). هذه أوضاع جسيمة، تغيّر مجرى الحياة، وغالبا ما تكون مميتة. فانعدام الدماغ مثلا، هو حين يولد الطفل بدماغ ناقص النمو وجمجمة غير مكتملة. تضخّم الدماغ يتضمن تكّون سائل يضغط على الدماغ ويؤدي إلى تضخم حجم الرأس. وتشمل العوارض ألم في الرأس وإعاقة في الرؤية، وصعوبات ذهنية وفقدان التنسيق والسلس. أما الفتق السحائي فيؤدي إلى نمو متقطع للنخاع الشوكي.

[صورة طفل عراقي من دراسة عن التلوث البيئي: «يرتبط العيش قرب قاعة عسكرية أمريكية في العراق بنسب أعلى من التشوهات الولادية لدى الرضع والأطفال"]
ويهدف مشروع قانون الكونغرس الذي قُدم في أيلول 2020، بعنوان "المستحقات المفترضة لجنود الحروب الذين تعرّضوا لحفر الحرق وغيرها من السموم تشريع 2020"، إلى تخويل المحاربين القدامى الذين خدموا في أيّ من أربعة وثلاثين بلدا مسجلا، بما فيها العراق، للحصول على مستحقات مرتبطة بقائمة من الأمراض المتعلّقة بالخدمة (العسكرية) تمتد من السرطانات من كل الأنواع، مرورا بالانتفاخ الرئوي والربو وصولا إلى الأمراض اللمفاوية والتليّف الرئوي وغيرها بعد.
ومشروع القانون الذي يهدف إلى "تنسيق عمليّة الحصول على مستحقات دائرة (مديرية) المحاربين القدامى عن حفر الحرق وعمليات التعرض الأخرى للسموم"، يأتي بعد أعوام من حملات الدعم للضغط على الحكومة الأميركية للاعتراف بالأمراض التي أصيب بها الجنود الذين خدموا في الحروب الخارجية العديدة على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة.
منذ السبعينيات، حين بدأت دائرة المحاربين القدامى برفض مزاعم الجنود الذين مرضوا بسبب "العامل البرتقالي" خلال حرب فيتنام، قام ناشطون معارضون للحرب، ومدافعون عن حقوق الجنود القدامى، بانتقاد شرس لإهمال الحكومة الأميركية لمحاربيها القدامى، وإنكارها لوجود علاقة بين التعرض للسموم خلال الخدمة العسكرية وبين العديد من الأمراض الكارثية والمميتة.
ويعمل مشروع القانون على تعديل الباب 38 من قانون الولايات المتّحدة، الذي يحدد مستحقات الجنود القدامى، كما أنّه يعمل تحديدا على تعديل "الفصل ذاته الذي خُصص لقدامى المحاربين في فيتنام الذين تعرّضوا للعامل البرتقالي".
تحدثت مع الدكتورة موزهغان سافابيأصفهاني، وهي عالمة سموم بيئية وإحدى كاتبي دراسة "التلوث البيئي" عن التشوهات الخلقية لدى الرضع والأطفال في العراق. وقد شرحت لي الهشاشة البالغة للأطفال العراقيين والنساء الحوامل اللواتي تعرّضن لحفر الحرق ومخلّفات الأسلحة.
يعتبر الأطفال الصغار في السّن، والأجنّة النامية، والأمهات الحوامل أكثر حساسيّة بمرات متعدّدة إزاء التلوث مقارنة بالقوات العسكرية الأميركية، وأفرادها (غالبا) هم رجال ناضجون في الثلاثينيات والأربعينيات من العمر. ومن المعروف جيدا أن الأجنّة هي في غاية الحساسيّة إزاء التعرّض للملوثات. إذ لدى شخص في الثلاثين ... حماية أكبر بكثير مما لدى طفل ينمو. (5)
وكما أظهر عمر الديوچي، فإن تأثيرات عقود من العقوبات على العراق، ومن غزوه، بقيادة الولايات المتحدة، "تظهر جليّة أكثر من أي مجال آخر في انهيار القطاع الصحيّ في البلاد وخسارة الأرواح في محيط المستشفيات".(4) وساهم هذا الانهيار في بروز وضع طبي يفتقر إلى وجود العناية اللازمة للأطفال الذين يعانون من إصابات خطيرة.
في العراق، وبالإضافة إلى حفر الحرق واليورانيوم المنضّب، "هناك دبابات وشاحنات وعتاد عسكري مهجورة في مدافن ضخمة وهي تشكّل أيضا مصدرا للتلوث الإشعاعي والمعدني. وتشدد سافابيأصفهاني على خطورة معاناة العراقيين، وعلى الضرورة الملحّة لإزالة (الملوثات) لوقف المزيد من الأمراض والإعاقات:
إن (الولايات المتحدة) تقوم فعلا بمعاقبة شعب العراق بالعيش بلا أي خيار، بالعيش مع هذه المواد السامة بشكل لا يعقل منذ لحظة تكوينهم إلى لحظة مماتهم.... إذا لم نُرغم الولايات المتحدة على تنظيف الفوضى التي خلّفتها في العراق، فإنّنا بذلك نحكم على الشعب العرقي بالعيش مع هذا التلوث الهائل، والعملاق والأبدي منذ ما قبل ولادتهم وحتى يموتوا- إذا تمكنوا من البقاء على قيد الحياة لكي يولدوا فعلا.
[دبابة مارينز في الناصرية، العراق، في ٢٠٠٣]
ما الذي يمكن أن نتعلّمه من أنماط مماثلة من الإهمال التي حصلت من قبل-معاناة طويلة الأمد لضحايا الحرب المتروكين مشبعين بالسموم بعد انتهاء ذروة الصراع بكثير، أو بعد انسحاب غالبية القوات الأميركية؟
تاريخ يتكرر
في فيتنام، حيث مازال المدنيون يتعاملون مع مضاعفات "العامل البرتقالي" بعد مرور أكثر من خمسة وأربعين عاما على انتهاء الحرب، وفي اليابان، حيث تعامل المدنيون مع أجيال من الأمراض الناتجة عن قصف كل من هيروشيما وناغازاكي، نموذجان من أكثر النماذج خطورة عن الأذى الذي لا يمحى للإشباع السام في إطار الحرب.
خلال نقاشنا، شدّدت موزهغان سافابيأصفهاني على ما كان يتعين على الولايات المتحدة أن تتعلّمه من فيتنام في سبيل تفادي الوضع في العراق. وتقول أنه يتعين محاسبة الحكومة الأميركية. فهي لا توّد "رؤية عراق آخر في المستقبل".
وكما شرحت لي سافابيأصفهاني، فإن الأبحاث الحاليّة أثبتت وجود رابط واضح في العراق بين أمراض المدنيين وبين سميّة الحرب. وقد شدّدت على أنها، نموذجيا، ومن دون أي قيود زمنية أو مالية أو على فرص الوصول إلى مصادر المعلومات، فإنها توّد أن تجري بحثا طويل المدى، واسع النطاق عن العراق. ولكن، هناك ما يكفي من المعلومات اليوم، لمعرفة أنّه يجب التحرّك وأنه على الولايات المتحدة تنظيف الضرر. وإذا خُيرت بين إجراء المزيد من الأبحاث أو التنظيف "فهي تفضّل انفاق (الإعتمادات المخصصات) على التنظيف.
تشير سافابيأ صفهاني باستمرار إلى سابقة: الدمّار الذّي خلّفه الديوكسين في فيتنام، وهو المكّون الكيميائي لـ "العامل البرتقالي" والعديد من المبيدات الأخرى التي استُخدمت للقضاء على غابات فيتنام، والتنظيف الذي تأخّر انتظاره كثيرا لأجزاء صغيرة من البلاد.
[مروحية أمريكية ترش مواد كيمياوية أثناء حرب فييتنام، ١٩٦٩]
في مقالة نشرت العام 2017 في صحيفة "نيويورك تايمز"، يصف الروائي الفيتنامي الذي خدم في جيش فيتنام الشمالي بين العامين 1969 و1975، باو نينه "الكابوس المروّع للديوكسين":
في ربيع العام 1917، حين كنّا متمركزين غربي كون توم، كانوا يرشوننا باستمرار بالعامل البرتقالي ... فهمنا جيدا جدا قدرته التدميرية الرهيبة. ما إن كانت مقاتلات "كاريبو" تمرّ من فوقنا، حتى كانت السماء تصبح مظلمة بالتزامن مع مطر غريب وكثيف وحليبي. كانت أشجار الأدغال تتحطم، متقرّحة، وتقع على الأرض. أوراق الشجر، الأزهار، الفاكهة، حتى الأغصان كانت كلّها تسقط بصمت. كانت أوراق الشجر الخضراء تتحول إلى سوداء، متجعّدة. كان العشب يذبل ويموت. لقد كنت شاهدا على العديد من مشاهد الحرب القاسية، ولكن تلك المجزرة الوحشيّة للطبيعة هو أكثر ما أتذكّره ويقض نومي.
بسبب الطبيعة المستعصية والطويلة لمعركة الاهتمام بالجنود الأميركيين القدامى الذين تأثّروا بالديوكسين، وحفر الحرق واليورانيوم المنضّب، فإن الصراع من أجل العدالة للعراقيين يبدو حافلا بانكار متواصل. هل يمكن لمعركة العدالة أن تكسب زخما إضافيا مع بداية رئاسة جو بايدن؟
وقد تحدث بايدن علنا عن علاقة ممكنة بين سرطانات قدامي المحاربين الأميركيين وبين تعرّضهم لحفر الحرق. وفي تعليقه على كتاب "حفر الحرق: تسميم الجنود الأميركيين" الصادر العام 2016 للجندي السابق جوزف هيكمان (والّذي يكرّس فصلا كاملا لابن بايدن، بو، الذي مات بسبب سرطان الدماغ في 2015) يقول بايدن، في مقابلة سنة 2018 مع برنامج "نيوزآور" عبر محطّة "بي بي إس"، أن "هناك فصل كامل عن إبني بو (في الكتاب)، الأمر الذي أذهلني. لم أكن أعرف ذلك." (6) ويصف بايدن كيف قام هيكمان "بالعودة والنظر إلى فترة ولاية ابني كمدني في مكتب النائب العام الأميركي (في كوسوفو) ومن ثم العام الذي أمضاه في العراق. وفي المرتين كان مقرّه بالقرب من تلك الحفر الحارقة." وعلق بايدن أيضا قائلا أن "العلم اعترف بوجود بعض المواد المسرطنة حين يتعرّض الناس (لحفر الحرق) و"بحسب كميتها وحجمها في الماء والهواء، يمكن لها أن يكون لها تأثير سرطاني على الجسم."
وعدّل بايدن كلامه، معتبرا أنه "هناك الكثير من العمل الذي يُنجز" ولكن ليس هناك بعد "دليلا علميا مباشرا" على وجود رابط بين حفر الحرق والسرطان، وذلك على الرغم من أنه قارن الوضع مع وقائع معترف بها من الظلم البيئي، مشيرا إلى أنه "بتنا نعرف الآن أنك لا تريد العيش تحت مدخنة ينبعث منها موادا مسرطنة."
إن العراقيين بحاجة ماسّة للاعتراف (بوضعهم) وللاهتمام الطبي-لا يوجد مجال لمثالية متعالية أو تكهنات حول ما يمكن للحكومة الأميركية أن تفعله. هل يمكن للانتباه الجديد المُولى لتأثيرات حفر الحرق على صحة الجنود القدامى أن يقدّم فرصة جديدة للضغط على البيت الأبيض للتحرك لتلبية حاجات المدنيين العراقيين؟
دعوات ملحّة للتنظيف
لا يمكن الاستمرار في التعتيم على الوضع الملح في العراق من خلال مزاعم بأنّه لم يتم بعد إرساء علاقة مباشرة بين التشوهات في الولادات وبين التلوث السام. وكما تصف موزهغان سافابيأصفهاني، فإن هناك خطرا هائلا في قضاء سنوات سعيا لتحديد الملوثات والمواد المسرطنة ذاتها التي تجعل العراقيين يمرضون، في حين أن هناك وضعا بحاجة للانتباه الفوري يستمر في التردي. وتشير إلى أنه لو أنفقت الحكومة الأميركية "عُشر" حجم التمويل الذي أنفقته على غزو العراق لتنظيفه، كان من الممكن أن يكون ذلك مساهمة أساسية في سبيل تصحيح الظلم الذي مازال العراقيون يعانون منه.
(باعتبار أن كلفة حرب العراق على دافعي الضرائب الأميركيين تقدّر بنحو ترليونيّ دولار، فإن عُشر ذلك هو مئتي مليار (بليون) دولار-وهي بالتأكيد كافية لإحراز تقدّم).
وكما يُبيّن كل من ساره فلاوندرز وجون كاتالينوتو في كتاب "معدن العار، اليورانيوم المنضب: كيف أطلق البنتاغون الإشعاعات على الجنود والمدنيين بأسلحة اليورانيوم المنضب"، فإن أي انخفاض في أعداد الإصابات بين الجنود المشاركين في حرب الخليج، اعتُبر من قبل المؤسسة العسكرية الأميركية حاسما في تأمين "مقاومة مدنيّة أخفّ وطأة إزاء الصراعات المستقبلية" (7). وعبر السعي إلى قطع الرابط بين الانتشار في العراق وبين الوفيات المحتملة للمحاربين القدامى بسبب المرض بعد أشهر أو سنوات لاحقة، فإن الحكومة الأميركية حافظت على صورة الالتزام بحرب بتأثير متدن- إذا تم احتساب التأثير حصرا بمعيار فقدان الأرواح العسكرية، من دون احتساب الوفيات والأمراض بين المدنيين. بالإضافة إلى ذلك، وكما يجادل توبي سي. جونز، فغالبا ما يتم "التعتيم عمدا" على استخدام أسلحة اليورانيوم المنضب.
هناك أيضا، طبعا، العامل الاقتصادي. "كيف يمكن (للقطاع العسكري الأميركي) أن يقاوم، على الرغم من نسبة الخطر، مادّة خام متوفرة بلا أي كلفة؟"، كما تكتب فلاوندرز. ولوقت طويل، اعتبر الضرر غير القابل للإصلاح الذي أُلحق بالبيئة العراقية، والأمراض والوفيات بين الجنود وملايين المدنيين العراقيين، "ثمنا مقبولا" (8). فاليورانيوم المنضب، وهو منتج من مخلّفات الصناعة النووية، اختُرع خلال انتاج كل من الأسلحة والطاقة النوويتين، هو "بشكل أو بآخر، مجاني".
تقدّر كلفة جهود حديثة لتنظيف مناطق فيتناميّة من "العامل البرتقالي" بين إثنين وثمانين مليون دولار وبين مليار (بليون) وأربعمئة مليون دولار. هكذا، تصبح كلفة الإصلاح شاحبة مقارنة بكلفة إلحاق الضرر أساسا. وتشرح سافابيأصفهاني الضرورة الملحة للتنظيف قائلة:
أرغب في رؤية الولايات المتحدة مرغمة على تنظيف كل قطعة من بقايا ما خلفّته في العراق، لأن كل ذلك يتحول إلى ملوثات للتربة والهواء والنباتات.
وقد أظهرت لنا الدراسات التي أجريتها أن (العراق ملوّث) بنوع من السموم العصبية والمواد المشعة وكل هذا يشبه حساءً قذرا يتعين تنظيفه. الآن، كم منه التأثير ناجم عن اليورانيوم المنضب وكم منه ناجم عن الزئبق؟ هذه أمور من الممكن أن تكون مهمة ..... بالنسبة إلي، الشيء المهم هو أنني أظهرت مدى الخراب. لقد أقمت رابطا بين الصحة وبين مجاورة (المواقع الملوثة)، وأريد أن أرى ذلك نظيفا.
[صورة من فديو من وزارة شؤون المحاربين توفر معلومات عن حفر الحرق]
كيف يتعين تماما على الحكومة الأميركية أن تقوم "بتنظيف العراق"، وماذا عن التعويضات للضحايا الذين تضررت صحتهم وحياتهم بدرجة لا يمكن إصلاحها بسبب الإشباع السام؟ كيف ستتعامل حكومة الولايات المتحدة مع الأذى المستمر في التفشي فيما يتم تأجيل عملية التنظيف؟ وإذا كانت فيتنام مؤشرا لما ينتظر العراق، فيمكن للضغط السياسي المكثف ولإعلاء المصلحة العامة أن تكون الاحتمال الأفضل لإرغام المشرّعين على التحرك في الأشهر والسنوات المقبلة.
هل يقدم القانون الدولي سبلا إضافية أو ملائمة أكثر لتحقيق العدالة؟
"حرب متواصلة على الحياة"
شهد القانون الدولي تطورا في الفترة التي تلت حرب فيتنام. وكما تفيد "المنظمة الدولية للصليب الأحمر" في إصدارها الجديد (أيلول\سبتمبر 2020) " إرشادات لحماية البيئة الطبيعية في النزاعات المسلحة":
الجهد الدولي لحماية أفضل للبيئة الطبيعية في الصراعات المسلحة وجد زخما في البداية في السبعينيات، حين أثار الضرر الخطير الناجم عن الاستخدام المكثّف للمبيدات مثل "العامل البرتقالي" خلال حرب فيتنام، ضجة دولية وأبرز الحاجة إلى حماية محسّنة ومحدّدة للبيئة الطبيعية في حالات مشابهة. وقد حفّز ذلك تبني، في العام 1976، " اتفاقية حظر استخدام تقنيات التغيير في البيئة لأغراض عسكرية أو لأية أغراض عدائية أخرى". (معاهدة انمود).
ومن الجدير الذكر أنه فيما تشمل إرشادات المنظمة الدولية للصليب الأحمر كل من حرب الخليج وتحويل "داعش" الماء إلى سلاح حربي في العراق، إلا أنّها لا تشمل بشكل صريح أسلحة اليورانيوم المنضب أو حفر النار. في أعقاب حرب فيتنام وقبل اجتياح العراق في العام 2003، تمّ تدعيم القانون الإنساني الدولي المتعلق بالبيئة عبر عدد من التطورات مثل المادة 55 من البروتوكول الإضافي 1 لمعاهدة جنيف (1977)، والتي تحظر إحداث "ضرر واسع النطاق، طويل الأجل، وخطير" بالبيئة الطبيعية بالإضافة إلى "استخدام أساليب ووسائل حربية تهدف إلى أو من المتوقع أن تسبب هذا النوع من الضرر للبيئة الطبيعية وبالتالي تعرّض صحة وحياة الناس للخطر." ولكن وجود هذه القوانين لم تمنع الوضع الحالي في العراق.
وكما تساءل الباحث القانوني انتوني أنغي "ماذا يعني القول أن القانون الدولي يحكم الدول المستقلة"؟ و "ما هي التأثيرات المستمرّة التي تتبع هذا الإقصاء؟" (9)
ويشرح أنغي أنه لا داعي لإسقاط السيادة قانونيا عن أي مجتمع، في الحاضر، لكي يعاني من أنواع الأذى والاستثناء. فموروثات الاستعمار مستمرة، حتى لو كانت المجتمعات التي خضعت سابقا لظلم الاستعمار قد مُنحت لاحقا صفة قانونية. ماذا يمكن أن يعني الاعتراف والصفة القانونيان لشعب مشبع في ظروف سامة غير قابلة للحياة؟ وكما شرح لي سنان أنطون، أنه نظرا لتاريخ الولايات المتحدة في التدخلات والغزوات غير القانونيّة في الخارج، "علينا دائما استخدام منظور العرق والامبراطورية لفهم" الوضع في العراق، وأوضاع كثيرة أخرى حول العالم.
ولدى النظر إلى غزو الولايات المتحدة للعراق، وخرقها للسيادة العراقية، يصبح واضحا أن القانون الدولي ليس بموقع تأدية دور غير معقد وقادر على التحسين إزاء الإشباع السام في العراق فحسب، بل هو أيضا متورّط في انتاج نظام دولي يمكّن احتلال العراق وتدميره، وتهجير العراقيين بأعداد كبيرة وتركهم في شرك ظروف الإشباع السام.
في كتابه الشهير "خطاب عن الإستعمار"، الذي يرسم الوحشيّة الكامنة في كل المشاريع الاستعمارية، يكتب إيميه سيزير "لا أحد يستعمر ببراءة" و "لا أحد يستعمر بدون الإفلات من العقاب أيضا.... فالأمة التي تَستعمر ... والحضارة التي تبرر الاستعمار-وبالتالي القوة- هي أصلا أمة مريضة" (10) هل يمكن للقوانين الدوليّة التي نشأت بإشكاليّة ضمن إطار المشاريع الاستعمارية أن تتطور لتصبح جزء من تحقيق عدالة بيئية حقيقية؟ هل يمكن للقانون الدولي أن يقدّم علاجات للكوارث السامة كما في العراق؟ إن سابقة فيتنام تظهر أن دور القانون الدولي في تحقيق عدالة عملية وملموسة يمكن أن يكون محدودا، وأن الضغط على الحكومة الأميركية هو الطريق الأمثل نحو تنظيف بيئي وتعويضات للمدنيين في المستقبل القريب.
ويرتبط الإشباع السام بشكل وثيق بالإطار الأوسع للحروب في العراق وظلم الغزو والاستعمار. وفي قصيدة سنان أنطون "إلى جنين عراقي" يسأل طفلا إذا كان يعرف أن "غدك بلا غد"، وأن "دمك حبر للخرائط الجديدة" وأنهم يقتاتون على حليب أمهاتهم المشبع باليورانيوم المنضب". (11)
في عملها الشهير عن التلوث السام في الولايات المتحدة، "الربيع الصامت"، كتبت العالمة والكاتبة راشيل كارسن "السؤال هو هل تستطيع أي حضارة أن تشن حربا بلا هوادة على الحياة من دون أن تدّمر نفسها، ومن دون أن تخسر حق أن تصنّف متحضّرة"؟ (12). إذا طبّقنا معايير كارسن كمقياس لتقييم أفعال الولايات المتحدة في العراق، فما هو تصنيف خلق الولايات المتحدة للإشباع السام، ورفضها الاعتراف أو التصرف بشكل مناسب مع التشبّع، وخلق جيل كامل دمه استخدم "كحبر لرسم الخرائط الجديدة"؟
وتقلب كارسن المفهوم الاستعماري والاستشراقي لـ "الحضارة" رأسا على عقب هنا-فاصلة استخدام الكيميائيات عن أفكار النمو، والتطور التجاري، والحضارة المتقدّمة، وعوضا عن ذلك فإنها تعرّف استخدام هذه الكيميائيات على أنه همجي ومدمّر للذات.
ولدى تطبيقه على الحالة العراقية، فإن تحليل كارسن يستنتج أن أفعال الولايات المتحدة في العراق ليست مجحفة فحسب، بل هو يشكك، مرّة أخرى، كما في فيتنام، وعلى طريقة سيزير، "صحة" أي حكومة تنتج وتطيل ظروف إشباع سام ظالم من هذا النوع. وكما أخبرني سنان أنطون "ما يؤرقني هو تدمير المستقبل، وليس تدمير الحاضر فحسب."
(هذا هو الجزء الأول من سلسلة كتبتها كارلي كراكو عن الإشباع السام في العراق.)
شكر: إنني ممتنة لموزهغان سافابيأصفهاني لمشاركتها الكريمة للمعلومات حول بحثها. وأنا مدينة بأخلص تقديري لسنان أنطون الذي حاورته من أجل هذه المقالة، وقدّم أفكاره العميقة عن العراق، وقام مشكورا بمراجعة نسخة سابقة من هذا العمل. أرغب في شكر هوما غوبتا لتعليقاتها المتعمقة والمفيدة على نسخة سابقة. وأشكر زملائي المنظمين والمشاركين في تشرين الأول\اكتوبر في الطاولة المستديرة بعنوان "العدالة البيئية في الشرق الأوسط: الحراك المدني، المقاومة وانهاء الاستعمار" حيث قدّمت بعض أوجه هذا التحليل.
(1) سنان أنطون، مقابلة مع الكاتبة، في السابع من كانون الثاني\يناير 2020. كل الاقتباسات اللاحقة لسنان أنطون تعود إلى مقابلة كانون الثاني\يناير 2020 ذاتها إلا في حال ذكر ذلك.
(2) هيلين كالديكوت "نوع جديد من الحرب النووية" من كتاب "معدن العار، اليورانيوم المنضب: كيف أطلق البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) الإشعاعات على الجنود والمدنيين بأسلحة اليورانيوم المنضب"، محرر، جون كاتالينوتو وساره فلاوندرز ضمن مشروع تثقيفي اليورانيوم المنضب (نيويورك: مركز العمل الدولي، 1999)، ص 18-20.
(3) جون كاتالينوتو "قصة متلازمتين: فيتنام وحرب الخليج" في كتاب "معدن العار، اليورانيوم المنضب: كيف أطلق البنتاغون الإشعاعات على الجنود والمدنيين بأسلحة اليورانيوم المنضب"، محرر، جون كاتالينوتو وساره فلاوندرز ضمن مشروع تثقيفي اليورانيوم المنضب (نيويورك: مركز العمل الدولي، 1999)، ص 56.
(4) عمر ديوچي "حياة غير قابلة للحكم" (جامعة ستانفورد للنشر، 2017 )
(5) موزهغان سافابيأصفهاني ، في مقابلة مع الكاتبة، 1 حزيران\يونيو 2020. وكل المقتبسات اللاحقة لموزهغان سافابيأصفهاني من المقابلة ذاتها إلا في حال ذكر ذلك.
(6) جوزف هكمان "حفر الحرق: تسميم جنود أميركا" (2016 ، طبعة جديدة، نيويورك: سايهورس للنشر، 2020 )
(7) سارة فلاوندرز، "النضال من أجل تحقيق نزيه" في كتاب "اليورانيوم المنضب، معدن العار: كيف أطلق البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) الإشعاعات على الجنود والمدنيين بأسلحة اليورانيوم المنضب"، محرر، جون كاتالينوتو وساره فلاوندرز ضمن مشروع تثقيفي اليورانيوم المنضب (نيويورك: مركز العمل الدولي، 1999)، ص 7. انظر أيضا إلى كاتالينوتو "قصة متلازمتين: فيتنام وحرب الخليج" في كتاب "معدن العار، اليورانيوم المنضب: كيف أطلق البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) الإشعاعات على الجنود والمدنيين بأسلحة اليورانيوم المنضب"، ص 55-66.
(8) فلاوندرز، "النضال من أجل تحقيق نزيه" في كتاب "اليورانيوم المنضب، معدن العار: كيف أطلق البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) الإشعاعات على الجنود والمدنيين بأسلحة اليورانيوم المنضب"، 9
(9) أنتوني أنغي "الإمبريالية، السيادة وصناعة القانون الدولي" (كامبردج، جامعة كامبردج للنشر، 2007)، 7
(10)إيميه سيزير "خطاب عن الاستعمار" (1995، طبعة جديدة، نيويورك: مانثلي ريفيو للنشر، 2000)، 39
(11) سنان أنطون، "إلى جنين عراقي" في «ليل واحد في كل المدن» (بيروت. منشورات الجمل، ٢٠١٠).
(12) راشيل كارسن :"الربيع الصامت" (1962، طبعة جديدة، نيويورك، مارنر بوكس للنشر، 2002)، 99
[نشرت المقالة على «جدلية» بالانكليزية. ترجمة هنادي سلمان]