الإشباع السام والدمار الصحي في العراق: أضرار الحرب التي لا يمكن محوها (الجزء الأول)

[ملصق من منظمة غير حكومية يحذّر العراقيين من المتفجّرات في بغداد في ٢٠٠٣ بعد الغزو الأمريكي. الصورة من الفلم الوثائقي: «حول بغداد»] [ملصق من منظمة غير حكومية يحذّر العراقيين من المتفجّرات في بغداد في ٢٠٠٣ بعد الغزو الأمريكي. الصورة من الفلم الوثائقي: «حول بغداد»]

الإشباع السام والدمار الصحي في العراق: أضرار الحرب التي لا يمكن محوها (الجزء الأول)

By : Carly A. Krakow

بعد أكثر من سبعة عشر عاما على غزو العراق واحتلاله في العام 2003، وبعد أكثر من ثلاثين عاما على بدء حرب الخليج في 1990-1991، قُدم مشروع قانون إلى الكونغرس الأميركي من الممكن أن يزيل "عبء الإثبات" من أجل "إرساء رابط مباشر" بين التعرّض لمواد سامة وبين الأعراض الصحيّة لدى المحاربين الأميركيين في عدد من الصراعات الخارجية، والذين يطالبون بإعانات من وزارة شؤون المحاربين القدامى. ويُمكن للجنود الّذين حاربوا في العراق، إما في إطار "الحرب على الإرهاب" أو خلال "حرب الخليج"، أن يصبحوا مؤهلين للحصول على مستحقات من دائرة قدامى المحاربين مخصصة لعدد من الأمراض المسجّلة.

ويبقى سؤال بديهي، مع أنه مهمَل: إذا تم أخيرا الاعتراف بمخاطر تعرض الجنود الأميركيين الذين حاربوا في العراق للسموم، فماذا عن المدنيين العراقيين، والذين لم يكن تعرضهم للمواد السامة جزء من انتشار مؤقت في الخارج، بل حقيقة يومية مستمرّة ومؤلمة؟

وتشمل الملوثات السامة التي أدخلها الجيش الأميركي إلى العراق أسلحة حرق الحفر واليورانيوم المنضّب. إن خطورة العيش السام في العراق لا توازي أي نطاق آخر قائم من التعرض للسموم- حتّى أن "التعرض" للسموم ليس تعبيرا كافيا. فالتعرض يعني تماس إجباري مع مواد سامّة. في العراق، الناس ليسوا معرضين فحسب، بل غارقين أو مشبعين على امتداد سنوات في ظروف احتجاز لا مفرّ منها حيث تبقى صحتّهم مُحاصرة.
مستخدمة مفهوما أعرّفه على أنّه "الإشباع السام"، أُبين في ما يلي الحاجة الملّحة لكي تقوم الحكومة الأميركية بالتعامل مع الظلم البيئي المستمر في العراق.

وحول هذا الموضوع، أخبرني سنان أنطون، وهو روائي وشاعر وباحث عراقي، أنه "في الولايات المتحدة، بتنا نحصل على المزيد من المعلومات حول الضرر الذي لحق بالأجساد العراقية، لمجرد أن أجساد الجنود باتت تحظى بالاهتمام". وهو يحذّر من خطر فهم الوضع الحالي في العراق فقط عبر منظار تأثير التعرض للسموم على الجنود. "هناك هرمية (تراتبية) للقيمة الإنسانية.... فحتّى حصولنا على المعلومات عن حياة وموت الآخرين يجب أن يمر عبر الأجساد الأكثر أهميّة لمن هم ليسوا مدنيين". (1)

ماذا عن التنقية (من السموم) والتعويض للمدنيين العراقيين الذي تم إشباعهم بالسموم أثناء الحرب، وليس فقط تعريضهم لها؟ ماذا عن العدالة للمدنيين العراقيين، الّذين تعرّضوا لإشباع من السموم بلا توقف ولا مفرّ منه-هم الذين أُرغموا على العيش في حاضر مدمّر، وحُرموا من الأمل بمستقبل أكثر عدالة؟

لا خطأ فادحا ولا برق مضيئا

مؤخرا، نشرت الجنة الدولية للصليب الأحمر على مواقع التواصل الاجتماعي مجموعة من الفيديوهات، في الأشهر التي سبقت دخول "معاهدة حظر الأسلحة النووية" حيز التنفيذ في كانون الثاني\ يناير 2021. (وعلى الرغم من أن المعاهدة اعتبرت خطوة رئيسية لوصم امتلاك أسلحة نووية، إلا أن أيا من الدول المعروفة بأنها تمتلك أسلحة نووية فعلا، بما فيها الولايات المتحدة، لم توقّع عليها).

وتم تداول فيديو في مطلعه كتب "لا توجد خطّة. لن يأتي فريق من الأبطال لإنقاذكم. نحن ببساطة لن نتمكن من التأقلم في حال استخدمت القنبلة النووية مجددا". ويمضي الفيديو ليعرض تصورا متخيلا، لما يمكن لضربة نووية أن تبدو عليه: كارثة، موت، جراح. انقطاع في الماء والكهرباء. سيارات إسعاف مدمّرة ومستشفيات عاجزة عن مساعدة من بقي على قيد الحياة. خرائط لا جدوى منها لأن الحدود والتخوم التي تحدّد الأحياء والمدن، مسحت آثارها. بالإضافة إلى المعضلة الأخلاقية المتعلقة بكيفية إرسال مختصين طبيين وفرق لمساعدة الأحياء، فيما التعرّض للإشعاعات حتمي لكل من يدخل المناطق المتضرّرة.

يُظهر فيديو آخر أيضا الآثار الفورية-ضوء أبيض معمي يحجب الرؤية وسخونة هائلة-ولكنه يقفز بعدها مباشرة إلى المستقبل. في خلال أسبوع واحد، يقول، تفقد المستشفيات قدرتها الاستيعابية ويموت الناس من أمراض إشعاعية حادة. وفي خلال سنة واحدة، تصل الإشعاعات بسرعة إلى المياه والتربة وتصبح الإمدادات الغذائية ملوّثة. ثم في خلال عشر سنوات يموت الكثيرون من سرطان الدم وأنواع أخرى من السرطانات التي انتشرت. وفي خلال ثلاثين سنة، يخشى الّذين تمكنوا من البقاء على قيد الحياة، من أن ينقلوا تأثيرات التعرض للإشعاعات إلى أبنائهم وأحفادهم ومن سيأتي بعدهم.

يُعتقد منذ أعوام إن نسبة معدل الأطفال الذين ولدوا بتشوهات في الفلّوجة، بات يفوق معدل التشوهات الخلقية في هيروشيما بعد العام 1945.

ويعمل مشروع القانون على تعديل الباب 38 من قانون الولايات المتّحدة، الذي يحدد مستحقات الجنود القدامى، كما أنّه يعمل تحديدا على تعديل "الفصل ذاته الذي خُصص لقدامى المحاربين في فيتنام الذين تعرّضوا للعامل البرتقالي".        

تحدثت مع الدكتورة موزهغان سافابيأصفهاني، وهي عالمة سموم بيئية وإحدى كاتبي دراسة "التلوث البيئي" عن التشوهات الخلقية لدى الرضع والأطفال في العراق. وقد شرحت لي الهشاشة البالغة للأطفال العراقيين والنساء الحوامل اللواتي تعرّضن لحفر الحرق ومخلّفات الأسلحة.

يعتبر الأطفال الصغار في السّن، والأجنّة النامية، والأمهات الحوامل أكثر حساسيّة بمرات متعدّدة إزاء التلوث مقارنة بالقوات العسكرية الأميركية، وأفرادها (غالبا) هم رجال ناضجون في الثلاثينيات والأربعينيات من العمر. ومن المعروف جيدا أن الأجنّة هي في غاية الحساسيّة إزاء التعرّض للملوثات. إذ لدى شخص في الثلاثين ... حماية أكبر بكثير مما لدى طفل ينمو. (5)

وكما أظهر عمر الديوچي، فإن تأثيرات عقود من العقوبات على العراق، ومن غزوه، بقيادة الولايات المتحدة، "تظهر جليّة أكثر من أي مجال آخر في انهيار القطاع الصحيّ في البلاد وخسارة الأرواح في محيط المستشفيات".(4) وساهم هذا الانهيار في بروز وضع طبي يفتقر إلى وجود العناية اللازمة للأطفال الذين يعانون من إصابات خطيرة.

في العراق، وبالإضافة إلى حفر الحرق واليورانيوم المنضّب، "هناك دبابات وشاحنات وعتاد عسكري مهجورة في مدافن ضخمة وهي تشكّل أيضا مصدرا للتلوث الإشعاعي والمعدني. وتشدد سافابيأصفهاني على خطورة معاناة العراقيين، وعلى الضرورة الملحّة لإزالة (الملوثات) لوقف المزيد من الأمراض والإعاقات:

إن (الولايات المتحدة) تقوم فعلا بمعاقبة شعب العراق بالعيش بلا أي خيار، بالعيش مع هذه المواد السامة بشكل لا يعقل منذ لحظة تكوينهم إلى لحظة مماتهم.... إذا لم نُرغم الولايات المتحدة على تنظيف الفوضى التي خلّفتها في العراق، فإنّنا بذلك نحكم على الشعب العرقي بالعيش مع هذا التلوث الهائل، والعملاق والأبدي منذ ما قبل ولادتهم وحتى يموتوا- إذا تمكنوا من البقاء على قيد الحياة لكي يولدوا فعلا.

  

[دبابة مارينز في الناصرية، العراق، في ٢٠٠٣]

ما الذي يمكن أن نتعلّمه من أنماط مماثلة من الإهمال التي حصلت من قبل-معاناة طويلة الأمد لضحايا الحرب المتروكين مشبعين بالسموم بعد انتهاء ذروة الصراع بكثير، أو بعد انسحاب غالبية القوات الأميركية؟

تاريخ يتكرر 

في فيتنام، حيث مازال المدنيون يتعاملون مع مضاعفات "العامل البرتقالي" بعد مرور أكثر من خمسة وأربعين عاما على انتهاء الحرب، وفي اليابان، حيث تعامل المدنيون مع أجيال من الأمراض الناتجة عن قصف كل من هيروشيما وناغازاكي، نموذجان من أكثر النماذج خطورة عن الأذى الذي لا يمحى للإشباع السام في إطار الحرب.

خلال نقاشنا، شدّدت موزهغان سافابيأصفهاني على ما كان يتعين على الولايات المتحدة أن تتعلّمه من فيتنام في سبيل تفادي الوضع في العراق. وتقول أنه يتعين محاسبة الحكومة الأميركية. فهي لا توّد "رؤية عراق آخر في المستقبل".

وكما شرحت لي سافابيأصفهاني، فإن الأبحاث الحاليّة أثبتت وجود رابط واضح في العراق بين أمراض المدنيين وبين سميّة الحرب. وقد شدّدت على أنها، نموذجيا، ومن دون أي قيود زمنية أو مالية أو على فرص الوصول إلى مصادر المعلومات، فإنها توّد أن تجري بحثا طويل المدى، واسع النطاق عن العراق. ولكن، هناك ما يكفي من المعلومات اليوم، لمعرفة أنّه يجب التحرّك وأنه على الولايات المتحدة تنظيف الضرر. وإذا خُيرت بين إجراء المزيد من الأبحاث أو التنظيف "فهي تفضّل انفاق (الإعتمادات المخصصات) على التنظيف.

تشير سافابيأ صفهاني باستمرار إلى سابقة: الدمّار الذّي خلّفه الديوكسين في فيتنام، وهو المكّون الكيميائي لـ "العامل البرتقالي" والعديد من المبيدات الأخرى التي استُخدمت للقضاء على غابات فيتنام، والتنظيف الذي تأخّر انتظاره كثيرا لأجزاء صغيرة من البلاد.

[مروحية أمريكية ترش مواد كيمياوية أثناء حرب فييتنام، ١٩٦٩]

في مقالة نشرت العام 2017 في صحيفة "نيويورك تايمز"، يصف الروائي الفيتنامي الذي خدم في جيش فيتنام الشمالي بين العامين 1969 و1975، باو نينه "الكابوس المروّع للديوكسين":

في ربيع العام 1917، حين كنّا متمركزين غربي كون توم، كانوا يرشوننا باستمرار بالعامل البرتقالي ... فهمنا جيدا جدا قدرته التدميرية الرهيبة. ما إن كانت مقاتلات "كاريبو" تمرّ من فوقنا، حتى كانت السماء تصبح مظلمة بالتزامن مع مطر غريب وكثيف وحليبي. كانت أشجار الأدغال تتحطم، متقرّحة، وتقع على الأرض. أوراق الشجر، الأزهار، الفاكهة، حتى الأغصان كانت كلّها تسقط بصمت. كانت أوراق الشجر الخضراء تتحول إلى سوداء، متجعّدة. كان العشب يذبل ويموت. لقد كنت شاهدا على العديد من مشاهد الحرب القاسية، ولكن تلك المجزرة الوحشيّة للطبيعة هو أكثر ما أتذكّره ويقض نومي.

بسبب الطبيعة المستعصية والطويلة لمعركة الاهتمام بالجنود الأميركيين القدامى الذين تأثّروا بالديوكسين، وحفر الحرق واليورانيوم المنضّب، فإن الصراع من أجل العدالة للعراقيين يبدو حافلا بانكار متواصل. هل يمكن لمعركة العدالة أن تكسب زخما إضافيا مع بداية رئاسة جو بايدن؟

وقد تحدث بايدن علنا عن علاقة ممكنة بين سرطانات قدامي المحاربين الأميركيين وبين تعرّضهم لحفر الحرق. وفي تعليقه على كتاب "حفر الحرق: تسميم الجنود الأميركيين" الصادر العام 2016 للجندي السابق جوزف هيكمان (والّذي يكرّس فصلا كاملا لابن بايدن، بو، الذي مات بسبب سرطان الدماغ في 2015) يقول بايدن، في مقابلة سنة 2018 مع برنامج "نيوزآور" عبر محطّة "بي بي إس"، أن "هناك فصل كامل عن إبني بو (في الكتاب)، الأمر الذي أذهلني. لم أكن أعرف ذلك." (6) ويصف بايدن كيف قام هيكمان "بالعودة والنظر إلى فترة ولاية ابني كمدني في مكتب النائب العام الأميركي (في كوسوفو) ومن ثم العام الذي أمضاه في العراق. وفي المرتين كان مقرّه بالقرب من تلك الحفر الحارقة." وعلق بايدن أيضا قائلا أن "العلم اعترف بوجود بعض المواد المسرطنة حين يتعرّض الناس (لحفر الحرق) و"بحسب كميتها وحجمها في الماء والهواء، يمكن لها أن يكون لها تأثير سرطاني على الجسم."

وعدّل بايدن كلامه، معتبرا أنه "هناك الكثير من العمل الذي يُنجز" ولكن ليس هناك بعد "دليلا علميا مباشرا" على وجود رابط بين حفر الحرق والسرطان، وذلك على الرغم من أنه قارن الوضع مع وقائع معترف بها من الظلم البيئي، مشيرا إلى أنه "بتنا نعرف الآن أنك لا تريد العيش تحت مدخنة ينبعث منها موادا مسرطنة."

إن العراقيين بحاجة ماسّة للاعتراف (بوضعهم) وللاهتمام الطبي-لا يوجد مجال لمثالية متعالية أو تكهنات حول ما يمكن للحكومة الأميركية أن تفعله. هل يمكن للانتباه الجديد المُولى لتأثيرات حفر الحرق على صحة الجنود القدامى أن يقدّم فرصة جديدة للضغط على البيت الأبيض للتحرك لتلبية حاجات المدنيين العراقيين؟

دعوات ملحّة للتنظيف

لا يمكن الاستمرار في التعتيم على الوضع الملح في العراق من خلال مزاعم بأنّه لم يتم بعد إرساء علاقة مباشرة بين التشوهات في الولادات وبين التلوث السام. وكما تصف موزهغان سافابيأصفهاني، فإن هناك خطرا هائلا في قضاء سنوات سعيا لتحديد الملوثات والمواد المسرطنة ذاتها التي تجعل العراقيين يمرضون، في حين أن هناك وضعا بحاجة للانتباه الفوري يستمر في التردي. وتشير إلى أنه لو أنفقت الحكومة الأميركية "عُشر" حجم التمويل الذي أنفقته على غزو العراق لتنظيفه، كان من الممكن أن يكون ذلك مساهمة أساسية في سبيل تصحيح الظلم الذي مازال العراقيون يعانون منه.

(باعتبار أن كلفة حرب العراق على دافعي الضرائب الأميركيين تقدّر بنحو ترليونيّ دولار، فإن عُشر ذلك هو مئتي مليار (بليون) دولار-وهي بالتأكيد كافية لإحراز تقدّم).

وكما يُبيّن كل من ساره فلاوندرز وجون كاتالينوتو في كتاب "معدن العار، اليورانيوم المنضب: كيف أطلق البنتاغون الإشعاعات على الجنود والمدنيين بأسلحة اليورانيوم المنضب"، فإن أي انخفاض في أعداد الإصابات بين الجنود المشاركين في حرب الخليج، اعتُبر من قبل المؤسسة العسكرية الأميركية حاسما في تأمين "مقاومة مدنيّة أخفّ وطأة إزاء الصراعات المستقبلية" (7). وعبر السعي إلى قطع الرابط بين الانتشار في العراق وبين الوفيات المحتملة للمحاربين القدامى بسبب المرض بعد أشهر أو سنوات لاحقة، فإن الحكومة الأميركية حافظت على صورة الالتزام بحرب بتأثير متدن- إذا تم احتساب التأثير حصرا بمعيار فقدان الأرواح العسكرية، من دون احتساب الوفيات والأمراض بين المدنيين. بالإضافة إلى ذلك، وكما يجادل توبي سي. جونز، فغالبا ما يتم "التعتيم عمدا" على استخدام أسلحة اليورانيوم المنضب.

هناك أيضا، طبعا، العامل الاقتصادي. "كيف يمكن (للقطاع العسكري الأميركي) أن يقاوم، على الرغم من نسبة الخطر، مادّة خام متوفرة بلا أي كلفة؟"، كما تكتب فلاوندرز. ولوقت طويل، اعتبر الضرر غير القابل للإصلاح الذي أُلحق بالبيئة العراقية، والأمراض والوفيات بين الجنود وملايين المدنيين العراقيين، "ثمنا مقبولا" (8). فاليورانيوم المنضب، وهو منتج من مخلّفات الصناعة النووية، اختُرع خلال انتاج كل من الأسلحة والطاقة النوويتين، هو "بشكل أو بآخر، مجاني".

تقدّر كلفة جهود حديثة لتنظيف مناطق فيتناميّة من "العامل البرتقالي" بين إثنين وثمانين مليون دولار وبين مليار (بليون) وأربعمئة مليون دولار. هكذا، تصبح كلفة الإصلاح شاحبة مقارنة بكلفة إلحاق الضرر أساسا. وتشرح سافابيأصفهاني الضرورة الملحة للتنظيف قائلة:

أرغب في رؤية الولايات المتحدة مرغمة على تنظيف كل قطعة من بقايا ما خلفّته في العراق، لأن كل ذلك يتحول إلى ملوثات للتربة والهواء والنباتات.

وقد أظهرت لنا الدراسات التي أجريتها أن (العراق ملوّث) بنوع من السموم العصبية والمواد المشعة وكل هذا يشبه حساءً قذرا يتعين تنظيفه. الآن، كم منه التأثير ناجم عن اليورانيوم المنضب وكم منه ناجم عن الزئبق؟ هذه أمور من الممكن أن تكون مهمة ..... بالنسبة إلي، الشيء المهم هو أنني أظهرت مدى الخراب. لقد أقمت رابطا بين الصحة وبين مجاورة (المواقع الملوثة)، وأريد أن أرى ذلك نظيفا.

 

[صورة من فديو من وزارة شؤون المحاربين توفر معلومات عن حفر الحرق]

كيف يتعين تماما على الحكومة الأميركية أن تقوم "بتنظيف العراق"، وماذا عن التعويضات للضحايا الذين تضررت صحتهم وحياتهم بدرجة لا يمكن إصلاحها بسبب الإشباع السام؟ كيف ستتعامل حكومة الولايات المتحدة مع الأذى المستمر في التفشي فيما يتم تأجيل عملية التنظيف؟ وإذا كانت فيتنام مؤشرا لما ينتظر العراق، فيمكن للضغط السياسي المكثف ولإعلاء المصلحة العامة أن تكون الاحتمال الأفضل لإرغام المشرّعين على التحرك في الأشهر والسنوات المقبلة.

هل يقدم القانون الدولي سبلا إضافية أو ملائمة أكثر لتحقيق العدالة؟

"حرب متواصلة على الحياة"

شهد القانون الدولي تطورا في الفترة التي تلت حرب فيتنام. وكما تفيد "المنظمة الدولية للصليب الأحمر" في إصدارها الجديد (أيلول\سبتمبر 2020) "   إرشادات لحماية البيئة الطبيعية في النزاعات المسلحة":

الجهد الدولي لحماية أفضل للبيئة الطبيعية في الصراعات المسلحة وجد زخما في البداية في السبعينيات، حين أثار الضرر الخطير الناجم عن الاستخدام المكثّف للمبيدات مثل "العامل البرتقالي" خلال حرب فيتنام، ضجة دولية وأبرز الحاجة إلى حماية محسّنة ومحدّدة للبيئة الطبيعية في حالات مشابهة. وقد حفّز ذلك تبني، في العام 1976، " اتفاقية حظر استخدام تقنيات التغيير في البيئة لأغراض عسكرية أو لأية أغراض عدائية أخرى".   (معاهدة انمود).

ومن الجدير الذكر أنه فيما تشمل إرشادات المنظمة الدولية للصليب الأحمر كل من حرب الخليج وتحويل "داعش" الماء إلى سلاح حربي في العراق، إلا أنّها لا تشمل بشكل صريح أسلحة اليورانيوم المنضب أو حفر النار. في أعقاب حرب فيتنام وقبل اجتياح العراق في العام 2003، تمّ تدعيم القانون الإنساني الدولي المتعلق بالبيئة عبر عدد من التطورات مثل المادة 55 من البروتوكول الإضافي 1 لمعاهدة جنيف (1977)، والتي تحظر إحداث "ضرر واسع النطاق، طويل الأجل، وخطير" بالبيئة الطبيعية بالإضافة إلى "استخدام أساليب ووسائل حربية تهدف إلى أو من المتوقع أن تسبب هذا النوع من الضرر للبيئة الطبيعية وبالتالي تعرّض صحة وحياة الناس للخطر." ولكن وجود هذه القوانين لم تمنع الوضع الحالي في العراق.

وكما تساءل الباحث القانوني انتوني أنغي "ماذا يعني القول أن القانون الدولي يحكم الدول المستقلة"؟ و "ما هي التأثيرات المستمرّة التي تتبع هذا الإقصاء؟" (9)

ويشرح أنغي أنه لا داعي لإسقاط السيادة قانونيا عن أي مجتمع، في الحاضر، لكي يعاني من أنواع الأذى والاستثناء. فموروثات الاستعمار مستمرة، حتى لو كانت المجتمعات التي خضعت سابقا لظلم الاستعمار قد مُنحت لاحقا صفة قانونية. ماذا يمكن أن يعني الاعتراف والصفة القانونيان لشعب مشبع في ظروف سامة غير قابلة للحياة؟ وكما شرح لي سنان أنطون، أنه نظرا لتاريخ الولايات المتحدة في التدخلات والغزوات غير القانونيّة في الخارج، "علينا دائما استخدام منظور العرق والامبراطورية لفهم" الوضع في العراق، وأوضاع كثيرة أخرى حول العالم.

ولدى النظر إلى غزو الولايات المتحدة للعراق، وخرقها للسيادة العراقية، يصبح واضحا أن القانون الدولي ليس بموقع تأدية دور غير معقد وقادر على التحسين إزاء الإشباع السام في العراق فحسب، بل هو أيضا متورّط في انتاج نظام دولي يمكّن احتلال العراق وتدميره، وتهجير العراقيين بأعداد كبيرة وتركهم في شرك ظروف الإشباع السام.

في كتابه الشهير "خطاب عن الإستعمار"، الذي يرسم الوحشيّة الكامنة في كل المشاريع الاستعمارية، يكتب إيميه سيزير "لا أحد يستعمر ببراءة" و "لا أحد يستعمر بدون الإفلات من العقاب أيضا.... فالأمة التي تَستعمر ... والحضارة التي تبرر الاستعمار-وبالتالي القوة- هي أصلا أمة مريضة" (10) هل يمكن للقوانين الدوليّة التي نشأت بإشكاليّة ضمن إطار المشاريع الاستعمارية أن تتطور لتصبح جزء من تحقيق عدالة بيئية حقيقية؟ هل يمكن للقانون الدولي أن يقدّم علاجات للكوارث السامة كما في العراق؟ إن سابقة فيتنام تظهر أن دور القانون الدولي في تحقيق عدالة عملية وملموسة يمكن أن يكون محدودا، وأن الضغط على الحكومة الأميركية هو الطريق الأمثل نحو تنظيف بيئي وتعويضات للمدنيين في المستقبل القريب.

ويرتبط الإشباع السام بشكل وثيق بالإطار الأوسع للحروب في العراق وظلم الغزو والاستعمار. وفي قصيدة سنان أنطون "إلى جنين عراقي" يسأل طفلا إذا كان يعرف أن "غدك بلا غد"، وأن "دمك حبر للخرائط الجديدة" وأنهم يقتاتون على حليب أمهاتهم المشبع باليورانيوم المنضب". (11)

في عملها الشهير عن التلوث السام في الولايات المتحدة، "الربيع الصامت"، كتبت العالمة والكاتبة راشيل كارسن "السؤال هو هل تستطيع أي حضارة أن تشن حربا بلا هوادة على الحياة من دون أن تدّمر نفسها، ومن دون أن تخسر حق أن تصنّف متحضّرة"؟ (12). إذا طبّقنا معايير كارسن كمقياس لتقييم أفعال الولايات المتحدة في العراق، فما هو تصنيف خلق الولايات المتحدة للإشباع السام، ورفضها الاعتراف أو التصرف بشكل مناسب مع التشبّع، وخلق جيل كامل دمه استخدم "كحبر لرسم الخرائط الجديدة"؟

وتقلب كارسن المفهوم الاستعماري والاستشراقي لـ "الحضارة" رأسا على عقب هنا-فاصلة استخدام الكيميائيات عن أفكار النمو، والتطور التجاري، والحضارة المتقدّمة، وعوضا عن ذلك فإنها تعرّف استخدام هذه الكيميائيات على أنه همجي ومدمّر للذات.

ولدى تطبيقه على الحالة العراقية، فإن تحليل كارسن يستنتج أن أفعال الولايات المتحدة في العراق ليست مجحفة فحسب، بل هو يشكك، مرّة أخرى، كما في فيتنام، وعلى طريقة سيزير، "صحة" أي حكومة تنتج وتطيل ظروف إشباع سام ظالم من هذا النوع. وكما أخبرني سنان أنطون "ما يؤرقني هو تدمير المستقبل، وليس تدمير الحاضر فحسب."

(هذا هو الجزء الأول من سلسلة كتبتها كارلي كراكو  عن الإشباع السام في العراق.)

شكر: إنني ممتنة لموزهغان سافابيأصفهاني لمشاركتها الكريمة للمعلومات حول بحثها. وأنا مدينة بأخلص تقديري لسنان أنطون الذي حاورته من أجل هذه المقالة، وقدّم أفكاره العميقة عن العراق، وقام مشكورا بمراجعة نسخة سابقة من هذا العمل. أرغب في شكر هوما غوبتا لتعليقاتها المتعمقة والمفيدة على نسخة سابقة. وأشكر زملائي المنظمين والمشاركين في تشرين الأول\اكتوبر في الطاولة المستديرة بعنوان "العدالة البيئية في الشرق الأوسط: الحراك المدني، المقاومة وانهاء الاستعمار" حيث قدّمت بعض أوجه هذا التحليل.

(1) سنان أنطون، مقابلة مع الكاتبة، في السابع من كانون الثاني\يناير 2020. كل الاقتباسات اللاحقة لسنان أنطون تعود إلى مقابلة كانون الثاني\يناير 2020 ذاتها إلا في حال ذكر ذلك.

(2) هيلين كالديكوت "نوع جديد من الحرب النووية" من كتاب "معدن العار، اليورانيوم المنضب: كيف أطلق البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) الإشعاعات على الجنود والمدنيين بأسلحة اليورانيوم المنضب"، محرر، جون كاتالينوتو وساره فلاوندرز ضمن مشروع تثقيفي اليورانيوم المنضب (نيويورك: مركز العمل الدولي، 1999)، ص 18-20.

(3) جون كاتالينوتو "قصة متلازمتين: فيتنام وحرب الخليج" في كتاب "معدن العار، اليورانيوم المنضب: كيف أطلق البنتاغون الإشعاعات على الجنود والمدنيين بأسلحة اليورانيوم المنضب"، محرر، جون كاتالينوتو وساره فلاوندرز ضمن مشروع تثقيفي اليورانيوم المنضب (نيويورك: مركز العمل الدولي، 1999)، ص 56.

(4) عمر ديوچي "حياة غير قابلة للحكم" (جامعة ستانفورد للنشر، 2017 )

(5) موزهغان سافابيأصفهاني ، في مقابلة مع الكاتبة، 1 حزيران\يونيو 2020. وكل المقتبسات اللاحقة لموزهغان سافابيأصفهاني من المقابلة ذاتها إلا في حال ذكر ذلك.

(6) جوزف هكمان "حفر الحرق: تسميم جنود أميركا" (2016 ، طبعة جديدة، نيويورك: سايهورس للنشر، 2020 )

(7) سارة فلاوندرز، "النضال من أجل تحقيق نزيه" في كتاب "اليورانيوم المنضب، معدن العار: كيف أطلق البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) الإشعاعات على الجنود والمدنيين بأسلحة اليورانيوم المنضب"، محرر، جون كاتالينوتو وساره فلاوندرز ضمن مشروع تثقيفي اليورانيوم المنضب (نيويورك: مركز العمل الدولي، 1999)، ص 7. انظر أيضا إلى كاتالينوتو "قصة متلازمتين: فيتنام وحرب الخليج" في كتاب "معدن العار، اليورانيوم المنضب: كيف أطلق البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) الإشعاعات على الجنود والمدنيين بأسلحة اليورانيوم المنضب"، ص 55-66.

(8) فلاوندرز، "النضال من أجل تحقيق نزيه" في كتاب "اليورانيوم المنضب، معدن العار: كيف أطلق البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) الإشعاعات على الجنود والمدنيين بأسلحة اليورانيوم المنضب"، 9

(9) أنتوني أنغي "الإمبريالية، السيادة وصناعة القانون الدولي" (كامبردج، جامعة كامبردج للنشر، 2007)، 7

(10)إيميه سيزير "خطاب عن الاستعمار" (1995، طبعة جديدة، نيويورك: مانثلي ريفيو للنشر، 2000)، 39

(11) سنان أنطون، "إلى جنين عراقي" في «ليل واحد في كل المدن» (بيروت. منشورات الجمل، ٢٠١٠).

(12) راشيل كارسن :"الربيع الصامت" (1962، طبعة جديدة، نيويورك، مارنر بوكس للنشر، 2002)، 99

[نشرت المقالة على «جدلية» بالانكليزية. ترجمة هنادي سلمان]

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬