حملة إسرائيل لاستهداف الصحّة الفلسطينيّة

حملة إسرائيل لاستهداف الصحّة الفلسطينيّة

حملة إسرائيل لاستهداف الصحّة الفلسطينيّة

By : Hana Kassem

ألحق العدوان الإسرائيلي الأخير على غزّة خسائر فادحة في البنى التحتيّة الصحيّة في القطاع المحاصر، مع مخاوف من أن يكون النظام الصحيّ في غزّة قد بات على شفير الانهيار. إلّا أنّه لا بد من معرفة حقيقة أنّ الغارات الإسرائيليّة الأخيرة التي قتلت أبرز الأطباء في غزّة، ودمّرت مؤسسات صحية، تأتي في إطار استراتيجية أشمل تهدف إلى تقويض صحة الفلسطينيين تحت الاحتلال.

أحد عشر يوما من الغارات الإسرائيليّة المكثّفة على غزة ألحقت ضررا كبيرا بالبنى التحتيّة الصحيّة الضعيفة أصلا. وقتل القصف كلا من الدكتور معين العالول، طبيب الأعصاب الأبرز في غزّة، والدكتور أيمن أبو العوف، رئيس قسم الطبّ الداخلي والمشرف على جناح كامل مخصص لمرضى حالات كوفيد-19 في مستشفى الشفاء، والطبيبة النفسيّة رجاء أبو العوف، ومعهم قُتل أولادهم وأقاربهم. أمّا شارع الوحدة المؤدي إلى مستشفى الشفاء، وهو الأكبر في غزّة، فقد قصف أيضا لدرجة تجعل من المستحيل وصول سيارات الإسعاف وطواقم الطوارئ إلى المستشفى عبر طريق مباشر. كما ألحقت غارات يوم الأحد ضررا كبيرا بإحدى عيادات "أطباء بلا حدود"، مما أدى إلى إغلاقها. ودمرّت غارة إسرائيلية المختبر الوحيد في غزّة لإجراء فحوصات كوفيد-19، كما أفيد عن قصف المقرّ الرئيسي لـ "جمعية إغاثة أطفال فلسطين" في غزّة.

ويجب عدم اعتبار هذه الهجمات الأخيرة على أطباء غزّة ونظامها الصحيّ معزولة عن سواها. بل بالعكس، فهذه الاعتداءات هي جزء من حملة شاملة ومستمرّة وممنهجة تستهدف صحّة الفلسطينيين في الضفة الغربيّة وغزّة المحتلتين.

قبل أسابيع قليلة، ضربت قطاع غزة المحاصر الموجة الثانية من فيروس كورونا، مسجلّة أرقاما قياسيّة في عدد الإصابات والوفيات. الآن، ومع ندرة الأسرّة في المستشفيات، جاءت الغارات الإسرائيليّة لإسقاط الفوضى على الأزمة الصحيّة. وفيما كان عدد الإصابات يتزايد، كان الأطباء يهرعون لتضميد الجراح الناجمة عن الشظايا، ولبتر الأطراف فيما كان المرضى يصطفون في الأروقة المزدحمة في المستشفيات والعيادات. وكانت المستلزمات الطبيّة، بما فيها أكياس الدم، وأسطوانات الأوكسيجين، والبنج (للتخدير)، وتجهيزات الحماية الشخصية، والمضادات الحيوية تنفذ بوتيرة خطيرة. وأفاد المسؤول في وزارة الصحة في غزة عبد اللطيف الحاج أنّه يخشى "انهيارا تاما" في البنية التحتية الصحية في غزة.

وفيما النظام الصحيّ في غزّة على شفير الانهيار تحت وطأة فيروس كورونا، والغارات العسكرية، والحصار القائم منذ أربعة عشر عاما، يمتدح النهج الذي طبقتّه إسرائيل للتلقيح ضدّ كورونا على أنّه نموذج نجاح يتعين على الدول الأخرى اتباعه. إلّا أنّ سياسات إسرائيل للتلقيح هي في الواقع نموذج صارخ للتفرقة العرقية الطبيّة.  ستة وخمسون في المائة من التسعة ملايين نسمة في إسرائيل تلقوا جرعتي اللقاح، وستون في المئة تلقوا الجرعة الأولى منه. ومنذ نيسان/إبريل الماضي، لم تسجّل إسرائيل أي حالة وفاة يومية بسبب كوفيد-19. في المقابل، تستمر غزّة والضفة الغربية في المعاناة من تحويرات الفيروس الجديدة ومن الانتشار السريع للمرض.

إن أزمة القطاع الصحي في فلسطين المحتلة هي واقع أحدثته إسرائيل. وإسرائيل ملزمة قانونيا بموجب القانون الدولي بتأمين لقاح كوفيد-19 للفلسطينيين الخاضعين لاحتلالها العسكري في غزة وفي الضفة الغربية.

في نهاية شباط\ فبراير، وفي حين كانت غالبيّة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة ينتظرون تلقي اللقاح، قررت إسرائيل إرسال نحو مئة ألف لقاح إلى دول حليفة. وبحلول مطلع أيّار/ مايو، كان هناك فقط 3،6 فلسطينيا قد تلقوا الجرعة الأولى من اللقاح في الضفة الغربية، وكان أقل من واحد في المئة قد تلقوا الجرعتين. في غضون ذلك، كان لدى المستوطنين الإسرائيليين الذين يعيشون في مستوطنات يهودية بحتة على امتداد الضفة الغربية في انتهاك للقانون الدولي، الحق الكامل بالحصول على اللقاحات الموجودة لدى إسرائيل، في حين أنّه يحظر على الفلسطينيين الذين يعيشون في المناطق ذاتها الحصول عليه.

إلّا أن إسرائيل تدحض التزاماتها بتلقيح الفلسطينيين (القاطنين) تحت حكمها العسكري، وتدعي في المقابل أنه بموجب اتفاقات أسلو فإن السلطة الفلسطينية هي المسؤولة عن تلقيح ناسها. وهذا ليس صحيحا موضوعيا. فرفض إسرائيل توفير التلقيح الكامل للفلسطينيين الخاضعين لاحتلالها العسكري، هو انتهاك لاتفاقية جنيف الرابعة، ولاتفاقية لاهاي للعام 1907، وللعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولاتفاقيات أوسلو.

قد أظهرت السنوات الأخيرة أن استهداف البنى التحتية الصحية الفلسطينية والعاملين الفلسطينيين في المجال الطبي هي استراتيجية إسرائيلية للقضاء على النظام الصحي في غزة وإلحاق عقاب جماعي بالفلسطينيين. في حزيران/يونيو من العام 2018، خلال احتجاجات مسيرة العودة الكبرى في غزة قام جندي إسرائيلي بإطلاق النار وقتل رزان النجّار وكانت في العشرين منن عمرها، وكانت مسعفة تعالج المصابين. وعلى الرغم من أنّ إسرائيل ادعّت لاحقا أنها قتلها لم يكن متعمدا، إلّا أن القنّاص الإسرائيلي الذي أصابها كان يطلق الرصاص على حشد يتضمن مسعفين يرتدون رداءهم الأبيض بوضوح. وا

وكونها القوة المُحتَلّة، فإن البند 55 من اتفاقيّة جنيف الرابعة يلزم إسرائيل بتأمين "المستلزمات الطبيّة للشعب (المُحتَل)"، فيما البند 56 يقضي بإلزام الطرف المحتل بـ "تبني وتطبيق الإجراءات الوقائية والرادعة اللازمة لمكافحة تفشي الأمراض والأوبئة المعدية" وذلك "بجميع الوسائل المتاحة" لديه. أما البند 43 لمعاهدة لاهاي للعام 1907 ، والتي تعد أساس القانون الدولي المتعارف عليه، الذي يلزم إسرائيل عمليا بواجباتها، فيطالب إسرائيل بتأمين النظام والسلامة العامة للشعب الفلسطيني المحتل. أما البند 12 من "العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية"، وإسرائيل وفلسطين عضوان فيه، فيطالب الدول اتخاذ الخطوات اللازمة لـ "تجنب ومعالجة والسيطرة على الأوبئة، والأمراض المزمنة المتفشية والأمراض المهنية وغيرها". ويقضي البند ذاته أيضا بـ "خلق ظروف تؤمن للجميع الخدمات الطبية والاهتمام الطبي في حال المرض"، وهو بند يمكن الجدل أن إسرائيل خرقته كما ثبت لدى قيام الجنود الإسرائيليين بتدمير مواقع اختبار كوفيد-19 في الضفة الغربية، والغارات الإسرائيليّة التي ألحقت الضرر بكل من مقر أطباء بلا حدود والطريق الرئيسية التي توصل إلى المنشأة الصحية الأكبر في غزة وهي مستشفى الشفاء، وتدمير المختبر الوحيد لاختبار كوفيد-19 في غزة.

وأخيرا، تخطئ إسرائيل في الإشارة إلى اتفاقات أوسلو لدعم حجتها بعدم تلقيح الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. فبموجب اتفاقيات أسلو، فإن السلطة الوطنية مسؤولة عن الإشراف على الصحة العامة وعن إدارة برامج التلقيح الدورية مثل الشلل أو الحصبة. إلا أن الملحق الرقم 3 من الاتفاقيات فينص على أن تقوم "إسرائيل والطرف الفلسطيني بتبادل المعلومات المتعلقة بالأوبئة والأمراض المعدية، وبالتعاون لمكافحتها وتطوير أساليب لتبادل الملفات والوثائق الطبيّة".  

بالإضافة إلى ذلك، فإن الأولوية هي للقانون الدولي قبل هذه الاتفاقات كلها، حيث أنّ اتفاقات أوسلو لا تمحو التزامات إسرائيل بموجب القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان بما أن إسرائيل تبقى قوة الاحتلال. ولا تلغي اتفاقات أوسلو معاهدة جنيف الرابعة، وهي دقيقة ومحددة في ما يتعلق بواجبات قوة الاحتلال لتوفير الخدمات الصحيّة. إلى ذلك، تُبقي الحكومة الإسرائيلية سيطرة أوليّة أساسيّة على كل من غزة والضفة الغربية، بالإضافة إلى سيطرة حصريّة على المنطقة "سي" من الضفة الغربية والتي تشمل ستين في المئة من المساحة، مما لا يترك لإسرائيل أي عذر للتنصل من مسؤوليتها في تلقيح الفلسطينيين ورميها على السلطة الفلسطينية فقط لأنها تجد ذلك مناسبا لها. 

وعوضا عن الالتزام بتعهداتها القانونية الدولية والقيام بتلقيح الفلسطينيين في الضفة الغربية وفي غزة، تحتفظ إسرائيل الآن بمخزون غير مستخدم مؤلف من عشرة ملايين لقاح من نوع "أسترازينيكا" مدّتها على وشك الانتهاء، من دون أي خطط لتقديمها للفلسطينيين تحت الاحتلال.

في غضون ذلك، أدت الغارات الإسرائيلية التي دمّرت المركز الوحيد لإجراء اختبارات كورونا في غزة إلى زيادة تخلّف القطاع المحاصر في التعامل مع الوباء. قبل انقضاض الصواريخ الإسرائيلية، كان سكان غزة المقدرين بنحو مليوني شخص يعانون من نسبة إصابات تقدر بثمانية وعشرين في المئة وهي منن الأعلى في العالم، وكان أكثر من نصف مخزونها المحدود من اللقاحات المقدر بمئة وإثنين وعشرين ألف لقاح، معظمها توّفر عن طريق مبادرة "كوفاكس"، مهدد بنفاذ مدة الصلاحية لأن عملية التلقيح جمّدت وسط القصف الإسرائيلي.  ويبقى واقع أن قيام إسرائيل بتلقيح مواطنيها، بمن فيهم مستوطنين يقيمون بصورة غير شرعية في الضفة الغربية، بوتيرة هي من أسرع المعدلات في العالم يعني أنّها قادرة وتملك السبل لتوفير اللقاح للفلسطينيين تحت الاحتلال. وعبر رفضها لتلقيح الفلسطينيين بشكل كامل، فإن إسرائيل تقوم بتفرقة عرقية طبية.

وقد أظهرت السنوات الأخيرة أن استهداف البنى التحتية الصحية الفلسطينية والعاملين الفلسطينيين في المجال الطبي هي استراتيجية إسرائيلية للقضاء على النظام الصحي في غزة وإلحاق عقاب جماعي بالفلسطينيين. في حزيران/يونيو من العام 2018، خلال احتجاجات مسيرة العودة الكبرى في غزة قام جندي إسرائيلي بإطلاق النار وقتل رزان النجّار وكانت في العشرين منن عمرها، وكانت مسعفة تعالج المصابين. وعلى الرغم من أنّ إسرائيل ادعّت لاحقا أنها قتلها لم يكن متعمدا، إلّا أن القنّاص الإسرائيلي الذي أصابها كان يطلق الرصاص على حشد يتضمن مسعفين يرتدون رداءهم الأبيض بوضوح. ولم يكن قتل رزان حدثا فرديا. فقد وجدت الأمم المتحدة أن إسرائيل "استهدفت عمدا" أطفالا وصحافيين ومسعفين خلال احتجاجات مسيرة العودة الكبرى، وقتلت ثلاثة مسعفين خلال تسعة أشهر في العام 2018.

في العام 2019، قتل الجنود الإسرائيليون بالرصاص مسعفا في السابعة عشرة من العمر، هو ساجد مزهر في مخيم الدهيشة للاجئين بالقرب من بيت لحم. ويرقى الاستهداف الإسرائيلي المتعمد للكادر الطبي إلى جرائم الحرب بموجب البند الثامن من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وعمليات القتل الحديثة لكل من الدكتور معين العلول، أبرز طبيب أعصاب في غزّة، والطبيبة النفسية رجاء أبو العوف، والدكتور أيمن أبو العوف، رئيس القسم المخصص لفيروس كورونا في مستشفى الشفاء، تفرض المزيد من الخسائر الجسيمة على غزة المحاصرة، حيث يوجد أصلا نقص في عدد الأطباء. إلى ذلك، فإن التدمير المستجد لشارع الوحدة المؤدي إلى مستشفى الشفاء وعيادة أطباء بلا حدود في غزة، يمكن اعتباره خرقا للقانون الدولي المعهود والبند العام الرقم ثلاثة من معاهدات جنيف، الذي ينصّ على جمع الجرحى والمرضى والاهتمام بهم، ويحظر توجيه هجمات عمدا ضد المستشفيات وأماكن جمع المرضى والجرحى، على ألّا تكون أهدافا عسكرية.

بالإضافة إلى ذلك، تمنع السياسات الإسرائيلية الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة من الحصول على العلاجات الطبية. إذ يتعين على أهل غزة التقدم بطلب للحصول على أذونات طبية تصدرها إسرائيل من أجل مغادرة القطاع المحاصر لتلقي العلاجات الطبية. ويتطلب نظام الأذونات المضني الذي تفرضه إسرائيل على حرية تنقل فلسطينيي الضفة الغربية، وأيضا على المرضى وطواقم المستشفيات، التقدم بطلبات للحصول على أذونات تصدرها إسرائيل من أجل الوصول إلى المستشفيات المتخصصة الأساسيّة في القدس الشرقية.

ومن العسير الحصول على هذه الأذونات وغالبا ما يتم رفض منحها. وفي بعض الأحيان، يشترط، لمنح الأذونات، توفير معلومات عن العائلة، والأصدقاء، أو الزملاء للسلطات الأمنية. وحتى مع توفّر إذن تلقي العلاج الطبي، يواجه الفلسطينيون قيودا تتعلق بعدد أفراد الأسرى الذين يسمح لهم بمرافقة الأطفال والمسنين إلى المستشفيات أو للمعاينات الطبيّة، كما أنه يتعين على فلسطينيي الضفة الغربية الحاصلين على أذونات لدخول القدس الشرقية تجاوز معوّقات إضافية للحصول على الطبابة يفرضها التأخير الطويل على الحواجز العسكرية، أو إقفالها. مثلا، في 2019، أجبرت الطفلة عايشة اللولو التي لم تصل إلى سن المدرسة بعد، على السفر وحدها من غزة إلى القدس لأن إسرائيل رفضت إعطاء والديها أذونات لمرافقتها. حين خرجت من جراحة في الدماغ في مستشفى في القدس، بكت طالبة أهلها، الذين كانوا على بعد ساعة واحدة منها في غزة، إلا أنهم كانوا غير قادرين على أن يكونوا إلى جانبها. ولمّا تدهور وضعها الصحي، تمت إعادتها إلى غزة وهي فاقدة للوعي، وبعد أسبوع، ماتت.

أيضا في 2019، رفضت السلطات الإسرائيلية إصدار إذن لليث أبو زيد لمرافقة والدته إلى جلسة العلاج الكيميائي في القدس التي تبعد 15 دقيقة عن منزلهم في الضفة الغربية، ومنع من رؤية والدته للمرة الأخيرة قبل موتها من السرطان في القدس. ويفرض نظام الأذونات الإسرائيلي ثمنا مميتا على الفلسطينيين. وأفادت منظمة الصحة الدولية أن أربعة وخمسين فلسطينيا في غزة، من بينهم ستة وأربعين مصابين بالسرطان، ماتوا سنة 2017 بعدما تم تأخير أو منع منحهم أذونات للسفر لتلقي العلاج الطبي.

وقد أجبر نظام الأذونات، بالإضافة إلى الحواجز العسكرية على امتداد الضفة الغربية، سبعة وستين امرأة على الإنجاب عند الحاجز بين العامين 2000 و2005، مما عرض حياة الأمهات كما الأطفال للخطر وأسفر عن موت ستة وثلاثين مولودا.

ويخضع الفلسطينيون لنظام الأذونات لتلقي العلاجات الطبية خارج الضفة الغربية وغزة بسبب تردي البنى التحتية الصحية في الأراضي المحتلة. إلا أنه يجب عدم النظر إلى نظام الأذونات الصحية بشكل منعزل- بل يجب ربطه بسبب تردي البنى التحتية الصحية في فلسطين وافتقارها إلى الموارد في الإطار الأوسع للاحتلال. فالنقص بالموارد والرعاية الطبية المتوفرة للفلسطينيين في الأراضي المحتلة هو واقع صنعه الاحتلال بنفسه. لدى إسرائيل السيطرة التامة على الحدود في الضفة الغربية وغزة، بما في ذلك ما يمكن استيراده أو تصديره. والسياسة الإسرائيلية مزدوجة الحدّ تمنع استيراد أي مواد يمكن أن تعتبرها خطرا أمنيا أو من المحتمل أن يكون لها استخدامات لأغراض عسكرية. وبموجب هذه السياسة، تمنع إسرائيل استيراد موارد حيوية مثل المعدات الطبية، وأجهزة الاتصالات أو المواد الخام المستخدمة في البناء مثل الإسمنت.

ولأن السياسة المزدوجة الحد تحظر المعدات الطبية المتطورة والأجهزة الطبية من الوصول إلى الأراضي المحتلة، فإن النظام الصحي الفلسطيني محكوم بالعمل ضمن نقص الموارد والفلسطينيون مجبرون على الاعتماد على إسرائيل للحصول على الأذونات الطبية لتلقي الرعاية الصحيّة الأساسية.

والسياسات الإسرائيلية التي تقيّد الحصول على العلاجات الطبية وتمنع المستلزمات الطبية من الوصول للذين تحت الاحتلال تتناقض بشكل مباشر مع واجباتهم كمحتلين بموجب معاهدة جنيف الرابعة.

والعدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، بما فيه الغارات الجوية على البنى التحتية الصحية وقتل أطباء فلسطينيين، يجب وضعه في إطار السياق الأوسع لحملة أكبر تستهدف صحة الفلسطينيين ضمن نظام من التفرقة العرقية الطبية في كل من غزة والضفة الغربية المحتلة. ولقد أدى حصار غزة المستمر منذ أربعة عشر عاما إلى خلق نقص مستديم في الأدوية والموارد الطبيّة، والسلسلة الأخيرة من الغارات فاقمت من الوضع الصحي المريع القائم بفعل فيروس كورونا وغياب اللقاحات. أما قتل الأطباء والمسعفين، وتدمير المنشآت الطبية، ورفض تلقيح الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال، ونظام الحواجز العسكرية والأذونات التي تستخدم كعقبات للحصول على الرعاية الصحية، بالإضافة إلى منع الموارد الحيوية من الدخول إلى الأراضي المحتلة بموجب السياسة المزدوجة الحدّ، فيتعين اعتبارها كلّها مرتبطة باستراتيجية أوسع تستهدف صحة الشعب الفلسطيني. 

[نشرت على «جدلية».ترجمة هنادي سلمان]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • Israel’s Campaign to Target Palestinian Health

      Israel’s Campaign to Target Palestinian Health

      The latest Israeli assault on Gaza enacted a heavy toll on the besieged enclave’s healthcare infrastructure, with fears that Gaza’s healthcare system is on the verge of collapse. However, Israel’s latest airstrikes that have killed Gaza’s top doctors and damaged medical facilities must be understood in the context of a larger strategy to undermine the health of Palestinians under occupation.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬