احترقتِ الشمس ناثرة ضوءها القرمزي قدر ما استطاعت، لنلمحها، أو تلمحنا، غير أن العاصفة الترابية اكتسحت السماء مخبئة إياها في قلبٍ لامرئي.
ثمَّ تشرّب الظلام خيوط الضوء الرصاصية الأخيرة على مدى الرؤية، واختفت.
الليلُ يحلّ منذرًا بجوٍ كئيبٍ، لا نسماتُ هواءٍ ولا صوتٌ، سوى مكابح السيارات البعيدة، وعواء الكلاب.
(ينامُ سقفُ البيتِ في حضن الإسفلت
كانوا هنا، يزينون النورَ بضحكاتِ الأشجار
ليولدَ ليلٌ لا يعرفُ الألم
بابُ البيتِ انتُزِعَ وما عادت تدخلهُ هلاهل الفرح
الصّمتُ يعتقلُ الأصوات في حفرته
والموتُ يجرفني نحوه، كأنّي ابنه، كأنه أبي)
الساعة الثامنة
في مفترقِ طرقِ الحياة، تضطرُّ للاختيار، بين الوجود أو العدم، اخترتُ الوجود بِكُلِّ ما أوتيتُ من مشاعرٍ، ما الّذي يُشعرني بعدمي؟ أية ستارة سوداء تغطي بساتين الرمان في قلبي الطفل وتمنعني من رؤيتي؟ أنا صخرة في بحر الألم، وغيمة في سماء صحراء الحياة، لا ذنبَ لي ولا قرار فيما يحدث لي، فهل أنا أكونني؟
أدخلُ بيت صديقِ صديقي، أغسلُ وجهي من آثارِ الخراب، لكن صورة الحرب لا تحرِّكُ ساكنة، خلفَ جفنينِ مفتوحين على العالم، لا عالم سوى ما أراه، ولا خيال سوى ما أود إبصاره.
أكرهُ الصيف، يُشعرني أن العالم ابن كلب ولا يستحق الخروج من الغرفة، الصيف ليس السبب في شعوري هذا، لكنني أُقنعُني بذلك، أو أحاول.
نسماتُ الهواء معدومة، الجو يدعو للكسل، والكهرباءُ مقطوعة، المدينة ملتحفة برداء أسود، فاتني قطارُ النهار، في محطّة الليل أحيا مُذ تكونتُ، أُطيل التحديق في سكّة عمري، لا تنتهي، ولا تبدأ.
(قلقُ الأمِ ينتابني
محتضنًا عقلي مثل عاشقة مراهقة
ثمّ يعصره القلق حتّى أكادُ أهشّمُ رأسي
أرقٌ باغتني أمس، واليوم أراه يجيءُ
مترنّحًا متعثرًا دون رؤية
والخوفُ من عدمِ الخوفِ يخيفني
أنتصبُ كرمحٍ في صدرِ ليلٍ
لا يموتُ، ولا يحيا)
الساعة التاسعة
جفناي ثقيلان، أفرِّقُهما بصعوبة، واستكانة الشاي الحار تسبح في سطحها قشّة، أشرب منها بألمٍ لذيذٍ في حلقي ولساني، ضجيج الأشياء والبشر يختلط حولي، أصاب نوعًا ما بالعمى السيكولوجي، أرى دون أن أستوعب، أو أسمع، والضوءُ يزعجني، أصوات الهواتف النقّالة تصيبني بحالةٍ من الغثيان العقلي، وإن كان ذلك غير منطقيًّا، ففي حالتي يصبح كذلك.
لم أنَمْ ليلة أمس، خفتُ من عدم اللحاقِ بالسائق الذي أحضرنا إلى هنا، كان ابن عاهرة يسمعُ أغانٍ لعينة، ويشتم السوّاقَ، كان ابن كلب حقيقي.
عدم النوم يُبطلُ قدرتي على تحريكِ أطرافي، والضوءُ قويٌ، ينعكسُ على الجدار الأبيضِ إلى عينيّ، على الأقل يجعل دماغي يركِّزُ على الشتم، ناسيًا ما رأى، ومنسيًّا.
(السلامُ لونهُ أسود
الكفنُ لونه أبيض
وأنا أعدو وراءَ ابتسامةٍ تصارع دماءها
لا لأتجمَّلَ بها، بل لأقضي عليها
والضوءُ يُعميني، ليستِ الغياهبُ
سرقني موتٌ لا أعرفهُ
تسلَّلَ خلسةَ بين كل الميتات
ليخطفَ قلبي، وهو ليسَ بميتٍ)
الساعة التاسعة
تصاعدت وتيرة الأصوات، ماتت الرّيح، ما زالت غيوم الترابِ الأصفر تتحايل على ظلام الليل، بتلوينه، الليلُ لا يشبهُ الليل، ولا السماء، ولا أنا.
أفكِّرُ بعجوزٍ تبعته بنظراتي ظهر اليوم، محدودب الظهر، يرتدي ثيابًا تقليدية، وسبحة شديدة الصفرة يعتقلها بين أصابع يديه اليمنى، ويتكئ باليسرى على عكّازه، فكّرتُ لِلَحظة بما يريده هذا العجوز: ماذا يظنُّ بحياةٍ نقضيها بين القمامة والخراب؟ نرى الأسلحة أكثرَ مِن الأشجار، والمرايا، الخراب يسافرُ معنا في أطراف المدينة، ليرينا في صورة شظايا البيوت المفجرة ما نكونه في الأعماق، وفي بنايةٍ من ثلاثة طوابقَ، مهشّمٌ جانبها الأمامي، والخلفي ما زال يقفُ منتصبًا، صورة رؤوسنا، نحن الخراب حولنا، والخراب أعماقنا.
أفكر بما يفكِّرُ به هذا العجوز عن حياته: أين رحلت اللحظة التي لم يضحك فيها، عصبيته وحزنه؟ ماذا تصنع الأيام؟ وماذا تكون مقارنة بالإنسان؟ الأرضُ تدور حول الشمس إذ ترى أنّك كبرت، وكبر الخراب حولك، عيبٌ أن تضحك أو تلعب، على أحدنا أن يوقفَ الأرضَ، أو يدفع الضحكات.
(أمضي جاهلًا ما تركتُ
وما يجيءُ
مكتفيًا بلفافةِ تبغٍ من (كهرسي)*
وموسيقى (خدر فقير)**
ألمحُ الخرابَ يحاول سحبي
هذا الوطنُ بلا وطن
يتيمٌ مشردٌ متعبٌ شاحب الوجه
كهلٌ بلحيةٍ بيضاءَ
هذا الوطن كل الأشياء سوى وطن
ومَنْ أنا لأحظى بوطن؟
أما كُنتُ أطلبُهُ في دعائي كُلَّ يوم؟
أبواب السماء مغلقة، ونحن أحرارٌ في الحرب)
الساعة العاشرة
لا شيء
الحادية عشرة
ساعة، لا شيء آخر.
منتصف الليل
سادَ الظلامُ ومات الصوت، الكهرباءُ مقطوعة، والبعوضُ يلسع ساقيّ وذراعي، فأصفعُ مكانها بقوة، ويغلبني بين لسعةٍ وأخرى، حتّى أغفو، غير مبالٍ بلسعات البعوض.
كابوس
على مبعدةِ خطواتٍ من بئرٍ قديمٍ، أقفُ دون أقدام، بأجنحة بيضاء، أحاولُ الاتزان على جذعي غير أنني أفشل، أتدحرجُ عبثًا للرفرفة بجناحيّ، وأسقطُ في البئر، صارخًا دون صوتٍ، صامتًا بضجيجٍ لم أعهده، وأستيقظُ بينما العرق يقفزُ خارج كل مسامة من جلدي.
أتخلّصُ من اللحاف، وأمسحُ العرق عن جبيني ووجهي، أشعلُ سيجارةً وأتمدد.
يجفُّ العرق على زندي، بينما أنفث الدخان، يصيح الديك وتزقزق العصافير، أفكِّرُ بالعودة إلى المُخيّم، وعدم العودة إلى شنگال مرة أخرى، ثُمَّ ماذا ستعني عودتي؟ ألستُ أنا مَن أقولُ إن الالتفات إلى ما مضى سهلٌ، يمكن لأي أحدٍ أن يلتفت، لكن المضي صعبٌ، مضيتُ لسنواتٍ في المخيم، أعملُ وأدرُسُ، ناسيًا مسمّى (الوطن) و(البيت)، صارت الخيمة عالمي، ليس عالمًا يُحسد عليه، لكنّه عالم، ما الّذي أعادني إلى هنا، أيّ ريح ارتطمت بجداري، وأسقطتني، هذه المناظرُ كلّها تؤلمني، هذه الصور تجسِّدُ الموت، تحارب قلبي الطالب للحياة، تصنع مني شبيهًا لها، باردٌ كالشتاء، بقلبٍ حار كالجحيم.
(يرتطمُ سيلُ الدموع، بجدارِ فراغي
يمنع ولو دمعةً من التحرُّرِ
هاأنذا أتمدَّد في (اللا بيت)
في (اللا مدينة)
في (اللا وطن)
أجثو سائلًا طريقًا للسلام
لا إجابة ولا نأمة
أعدو كسارقٍ في الحقولِ اليابسة
علّي أعثرُ على نبتة واحدة
أتعثر وأقع في بئري، دون أن أبلغ نهايتي
دون أن أكِف عن السقوط)
الثالثة صباحًا
السماء مهجورة، لا قمر فيها ولا نجوم، كما هذا الوطن، لا حياة ولا دلالة تثبت وجودها، أتقلّب في فراشي، أشعلُ سيجارًا، بينما نسمات الهواء تنعشُ جسدي من الفتحة في الجدار، هذه الفتحة حديثة، لم أرَها يوم أمس، ذلك لا يعني شيئًا، أفكر في ماهية الحياة: كم حلمًا مات تحت ركام بيت تم تفجيره، كم ابتسامة خبأتها الجدران في ثناياها فضحتها القنابل للحرب لتقضي عليها؟ كم ذاكرة آلمت أصحابها كمن يغرس سكينًا في الخاصرة ويرش على الجرح الملح؟ الذاكرة مصنع الألم، وبيته الذي أنّى فارقه لا بد من العودة.
أفكر: ماذا لو مات أبي؟ ذلك لا يعني شيئًا، لكن السؤال: هل سأبكي؟ ذلك ما أجهل إجابته، أن عيني نافذتان لا تعرف الألوان والعصافير طريقها إليهما، تطلّان أبدًا على خراب وطني، آه كم أحتاج أن أذرف دمعي، البيوت المهدمة والمدن الغارقة تحت القمامة، تقتل دمعي، باعثة لذاكرتي أعوامًا من الألم، ليولد في كل مرة، دون أن ينتهي.
أفكر في المخيم: في 5600 خيمة، في العائلات التي تتكون من ثمانية أشخاص، تسكن خيمة واحدة، بطول لا يتجاوز خمسة أمتار، وفي أشجار القمامة المزروعة في رؤوس الشوارع، أفكر بالأطفال الذين يولدون في المخيم، لو سألهم أحدٌ حين يكبرون: (من أين أنتَ؟) هل يعرفُ وطنًا؟ بيتًا؟ هل يعرف نفسه؟
(كفن النهار
كفنُ النهار أسودٌ
استعاره الموت من ليلٍ بعد قتله
كفنُ النهار أحمرٌ
استعارهُ الخريفُ بعد قتلهِ لشجرة
وأنا أتكوّرُ في عُقدتْي
خيوطُ الضوءِ الحادّة، تخترقُ عينيّ
لا أطلبُ مفرًّا من ألمي
على ألمي يرتكز بقائي
منسيًّا، أذكُرُ
ناسيًّا، أُذكَرُ
حيًّا أُنسى وأتذكرُ
بلا وجهةٍ أو مصدرٍ، يباغتني الموتُ
ويهربُ مني
أأنّا أحمِلُ موتًا أكبر من الموت؟
أمْ أنَّ مقبرةً أمواتها يتجولون خارج قبورهم
تنام في داخلي، تُبعِدُ عني الموت، والحياة
هذا الوطنُ اللامرئي يقلقني
هذه الحرب المرئية تطمئنني
علّنا نموتُ، لنصرخ بوجه هذا الوطن
ماذا تريدُ بعد؟
علّنا نحيا، لنصمت ونبكي مع هذا الوطن
كفنُ الوطنِ أبيض
خيمة
استعارها من نازحٍ يملكُ اثنتين.)
الفجر
عند الفجر، بدت الشمسُ في الأفقِ الشرقي بضوئها الأحمر كعينٍ تمعن النظر في تجاعيد وجه العالم بنشاط.
أتصلُ بسائقٍ سجَّلتُ رقمه في هاتفي على غير عادتي، لم أتلقَ ردًّا في المرةِ الأولى، كرَّرتُ الاتصال، أجابني صوت خشنٌ يحمل التعب والنعاس، سألته عن موعد ذهابه إلى المخيم، أجابَ في السادسة، فحجزتُ مقعدي، وقطعتُ الاتصال.
روح الحربِ الفتيةِ أبدًا تكتسب شبابها من عمرِ هذا البلد.
خيوط الضوء تتشرَّبُ الظلامَ بتأنٍ، بينما أدخنُ سيجارتي، المدينة في كابوس، تصرخُ بصمتٍ يضجّ هرعًا في أحشائي، وأنا وحيد.
أغسل وجهي بماءٍ باردٍ، وأربطُ شعري، ثمّ يرنّ هاتفي، فأخرجُ ونرحل.
أغمضُ عينيّ كلّ الطريق، اسمعُ أم كلثوم، وكتابًا صوتيًّا لسركون بولص، ما إن أنزع اللاقطة حتّى تشعرني أغاني السائق بالقرف، فأعيدها لأذني. في المخيم تختلط الألوان ببعضها، ولا أعرفني.
(أشحذُ في مدينة الخيم
عن قلبٍ أعيش فيه
عن عينين، لا محجرين صلبين كالقبور
أفتِّشُ عن صبيٍ كُنتهُ، قبل وليمة التشرد
عن أُمٍ عرفتُها لا تنتظرُ سلّة صحيات
عن أبٍ لا ترفرفُ أسرابُ التجاعيدُ في سماء وجهه
لا أعرفني
مدينة الخيم مقبرة لمن نسيهم الموت المستعجل
فمضى، تاركًا المدينة دون موتٍ أو نهاية)
الهوامش
کهرسي*: منطقة يرتديها الخريف لتصبح شجرة.
خدر فقير**: أحد كبار المغنيين الشنگاليين، يغني الفلكلور.
* مصدر الصورة: Ring Art