انظر حولك، واشكر الألعاب.
دراسة الألعاب وأهميتها في حياتنا اليومية ليست بالأمر الجديد، منذ عقود طويلة والإنسان يلعب، يلعب ليقضي على الملل، يلعب ليقضي وقته، ويلعب ليقضي على الآخرين. ولكن هل تفكرتم في فوائد اللعب المخفية؟ لا أعني المادية كالمليارات التي تُجنى في أولدترافورد أو ويمبيلدون، ولا الآلاف التي ترفرف من الجيوب الجالسة على طاولات المقامرة، بل الفوائد العلمية والصناعية.
لا أعرف الكثير عن الفوائد خارج الإطار الإلكتروني، فأنا مبرمج متواضع، والكسل يمنعني من الخروج عن دائرتي للبحث في غيرها، ولكنّ حبي للألعاب الإلكترونية دفعني لكتابة هذا المقال. عندي نقطة عليّ إثباتها: لعب البلايستيشن طوال اليوم هو الشيء الوحيد الذي سيؤدي إلى نجاحي في مواد الجامعة يا أمي، البلايستيشن أنجحت التجربة البشرية، فلن يتغير الحال معي.
قد أكون بالغت قليلًا، ولكن اصبروا معي وسوف ترون مقصدي. ضمن دراستي الجامعية كتبتُ بحثًا عن الألعاب الإلكترونية، تحديدًا عن الأجهزة وتطوّراتها خلال السنين. توصلت خلال بحثي إلى استنتاج أبهرني وملأني بالفرح، لن أستعجل وأقوله لكم الآن، فالانتظار جزء من المتعة وإن لم تحب الانتظار فأنت شخص عانى مع التحميل (loading).
أول لعبة إلكترونية تاريخيًّا كانت على جهاز داخل مختبر، على شيء يسمى بـ"حاسوب لا رقمي" (analog computer) يعمل باستخدام ظواهر طبيعية مثل الميكانيكية والهيدروليكية، وحتى الكهربائية غير الرقمية للحساب، وعلى هذا الجهاز كانت لعبة "tennis for two" عبارة عن صورة على شاشة "oscilloscope"، تحتاج إلى مقبضين دائريين للتحكم لكل لاعب، وكان الجهاز عملاقًا يحتوي على روابط جلدية لتسهيل حمله حول المختبر.
مع مرور السنوات وتقدم الأيام انتشرت صالات الألعاب الترفيهية (arcades). صالات واسعة فيها الأطفال والشباب، كل لعبة تعمل على جهاز ضخم أطول من مترين، مكون من شاشة وكومبيوتر داخلي ولوح أزرار ثابت. كل واحد من هذه الأجهزة كان يشغل لعبة واحدة فقط، وعندما يمل منها الزبائن يتحول الجهاز إلى مجمّع غبار. عندما زادت الشركات المصممة للألعاب مثل Atari وSEGA، أصبح هناك عدد أكبر من الألعاب وزادت المنافسة على تحقيق أعلى النتائج في كل لعبة، ومع أن منافسة لوحة الشرف الرقمية كانت حبكة عبقرية لجعل اللاعبين يكررون اللعبة حتى يعتلوا أوائل القوائم، ولكن في النهاية الملل والحاجة للتغير والتجديد انتصرت، فبدأوا بصنع أجهزة ألعاب متغيرة؛ لم يعد على مالك الصالة شراء أجهزة كاملة فقط لتغيير اللعبة، ولكن أصبح بإمكانه شراء قطعة واحدة تستبدل من داخل الجهاز لتتبدل اللعبة، وبدلًا من تغير الجهاز كامل فقط تُستَبدل اللاصقات الخارجية التي تروّج للعبة.
خلال هذه التطورات تبلورت العديد من الأفكار التي دخلت ساحة اللعب بسبب الشعبية التي اكتسبتها الصالات، من هناك جاءتنا pong، تلك اللعبة البسيطة التي كانت مثل الصاعقة في وقتها، لكنّ "pong" جاءت وأحضرت معها صالات الألعاب إلى المنزل، واختصرت على الأطفال عناء طلب القروش والتوصيلة من أهلهم يوميًّا. هناك بعض الخلافات على "pong" وجهاز آخر يسمى "Odyssey" عن أيهما أدخل الألعاب إلى المنازل أولًا، ولكن يندر أن تجد شخصًا سمع بالأخيرة، لذلك سأنسب الشكر والفضل للعبة "pong".
تعدّ مقاطع الفيديو الإباحية والجيوش أكبر دافعين للتطور التكنولوجي على مرّ البشرية، برغم ما قد يقال بأنهما شيئان يبعدان عن بعضهما أعوامًا ضوئية، فالإنترنت مولته وزارة الدفاع الأميركية، والأفلام الإباحية هي سبب انتشار الـVHS وموت الـBetamax لأن شركة "Sony" قررت عدم السماح بنشر الأفلام الإباحية على جهازها وهذا أدى إلى موت الجهاز.
إذا كنتم تفكرون: ما دخل هذا بألعاب الفيديو؟ (من الواضح أنكم لم تلعبوا مورتال كومبات أو غيرها من الألعاب التي تختلق أجسادًا عجيبة للمرأة والرجل) دعوني أدلكم على وجهتنا القادمة، وهي جهاز الـAtari 2600.
كان هذا الجهاز السرّ في نجاح الكثير مما نراه اليوم في عالم الألعاب، إذ احتوى على قطعة صغيرة لطيفة، تنضح بالفرص والإمكانات، سميت هذه القطع بالـ"TIA" (أو: Television interface adapter). وكانت هذه القطعة هي الأولى من نوعها، إذ كانت أول قطعة منفصلة للتعامل مع الصورة؛ تعاملت مع الصوت والمدخلات من اليدين إلا أنها أيضًا أول قطعة خارج الحاسوب تعمل على تقسيم المهام والاستفادة من هندسة حاسوبية مختلفة مخصصة لعمل مُعين، وهنا كانت بداية كروت الشاشة التي نعرفها اليوم.
والآن سوف أشرح لكم طريقة عمل كرت الشاشة الذي خُلق وطُوّر لتلبية الحاجات التقنية للألعاب، إذ إنه كما قلنا سابقًا مخصص للصور، أعني أن بنية كرت الشاشة مختلفة جدًّا عن بنية المحلل الرئيسي للجهاز (CPU) الذي يعمل على عمليات معقدة بسرعة عالية ولكن واحدة تلو الأخرى. أما كرت الشاشة فيعمل على إنجاز عمليات بسيطة بسرعة أقل، ولكن هنا السر، فهو ينجز أعدادًا هائلة من العمليات في نفس الوقت، وهنا يكمن سر قوته. هناك من سيقول أن الـCPU أيضًا يعمل على عدة عمليات في نفس الوقت، وهذا صحيح، فحتى جهاز الموبايل أصبح لديه CPU مقسم إلى أربعة وثمانية أجزاء (multicore) تعمل في نفس الوقت، ولكن هذا الادعاء يحمل في طياته مشكلتين؛ الأولى هي أن الـCPU يعمل على برامج أعقد، ومن غير الممكن دائمًا فصل هذه البرامج وتوزيعها على جميع الأجزاء لأنها عمليات تعتمد على بعضها البعض، على عكس المهام التي تُعطى لكرت الشاشة والتي لا تعتمد على غيرها بنفس قدر مهام الـCPU. والنقطة الثانية، وهي الأهم، في كرت الشاشة الأحدث من صنع شركة "Nvidia"، نوع 3090RTX، هناك ما يزيد عن 10 آلاف جزء متساو يعملون على توازٍ شبه متكامل. هل ترون الفرق؟ كما أن هناك نقطة مهمة أخرى، وهي أن كرت الشاشة يعمل على عمليات بسيطة جدًّا، ولهذا يسهل تجميع أعداد هائلة من الأجزاء البسيطة المخصصة داخل كرت واحد.
كرت الشاشة هو أساس الذكاء الاصطناعي الحالي، والبيتكوين وغيرها من العملات الافتراضية، والواقع الافتراضي، وحتى في العديد من الأبحاث العلمية المبنية على المحاكاة. فالعلم والخوارزميات المستخدمة حاليًّا في الذكاء الاصطناعي اخترعت في الستينيات، وكانت الرياضيات والمبادىء واضحة، إلا أن الآلات الحاسوبية كانت محدودة القدرة، ولكن في عصرنا الحالي تطورت لتصل إمكانياتها إلى ما يتطلبه إتمام عمل الخوارزميات.
هل تذكرون قولي إن هناك عمليات كثيرة بسيطة تحدث في نفس الوقت في كرت الشاشة على التوازي؟ مع مرور الوقت وتطور الكروت اكتشف العلماء أن طريقة بناء الذكاء الاصطناعي تحصل على نحو شبيه، إذ إن أعدادًا هائلة من العمليات البسيطة التي لا تعتمد على غيرها تحصل في نفس الوقت واستطاعوا أن يستخدموا كروت الشاشة التي تتفوق بكثير على الـCPU لعمل هذه الحسابات.
اختُرعت كروت الشاشة لسبب واحد، ألعاب الفيديو، وسوق الألعاب هو السوق الرئيسي لتوزيعها، لولا هذا السوق لم يكن هناك أحد ليمول البحث والتطوير الذي أدى إلى استغلال كروت الشاشة في مجالات غير الألعاب ازدهرت في عالمنا اليوم، مثل الذكاء الاصطناعي، والتشفير، وغيرها.
[هذه المقالة جزء من ملف خصّصته جدلية لتناول موضوع الألعاب الرقمية].