«للغروب فتنة لدى السيّد معروف لا تعادلها فتنة أخرى في الدنيا كلّها». كيف لجملةٍ قد تبدو عاديّةً، بسيطةً، مباشرةً، كهذه الجملة، أن تلتصق بالذاكرة بحيث تتماهى مع الغروب، أو بالأحرى يتماهى معها الغروب، فتمسي فتنةُ ذلك الغروب فتنةَ غروبنا، كما كانت فتنة غروب السيّد معروف الذي لن يمانع لو استعرنا منه غروبه؟ لتلك الجملة فتنة ساحرة غريبة، كما لرواية آلام السيّد معروف فتنة ساحرة غريبة تمنحنا وجهًا مميَّزًا لغائب طعمة فرمان لا نجده في أعماله الأخرى. ألمح الغروب فأتذكّرها، أرمق الغروب فأتذكّرها، أراقب الغروب فأتذكّرها. عشق؟ حتمًا! عشق غريب؟ حتمًا! فالمعشوقة صفحات قليلة في طبعة رخيصة من مشروع كتاب في جريدة صدرت أواخر التّسعينيّات، لم تتغيّر كثيرًا حين صادفتُها لاحقًا في الطّبعة الأولى التي صدرت عام 1982. وكأنّ آلام السيّد معروف لا تُقرأ، بل لا يمكن أن تُقرأ، إلا كما يُقرأ ذلك الغروب: في صفحات هشّة توشك على الذّوبان بين الأصابع. أعمال سرديّة قليلة تذوب كما يذوب ذلك الغروب وفتنته، أعمال قليلة تتماهى كما يتماهى، أعمال قليلة تنهض من رماد الذاكرة كما ينهض: بهيّة، هشّة، موجعة. الغروب، كلُّ غروب، غروب غائب طعمة فرمان في آلام السيّد معروف؛ التّرانيم، كلُّ ترنيمة، ترانيم سنان أنطون في يا مريم؛ الصحراء، كلُّ صحراء، صحراء عبد الرّحمن منيف في النّهايات؛ أصداء الحرب، كلُّ صدى، أصداء هدى بركات في زائرات. لعلّ المصادفة الجميلة حَكَمتْ أن تكون آلام السيّد معروف أولى روايات فرمان التي أقرؤها كي أدرك عذوبة فرمان الجوهريّة الفعليّة. لو بدأتُ من النّخلة والجيران لعلّي كنتُ سأدرك مدى براعة فرمان (وأنا أدركها حقَّ الإدراك)، غير أنّ العذوبة الشّفيفة المقطَّرة تخصّ الجوهرة الأصغر. نقرأ مدن الملح فنُجِلُّ منيف (إلا لو كنّا ذوي أفق ضيّق أحمق مثل جون أبدايك، أو ذوي طيش الأجيال اللاحقة الذين ظنّوا أنّهم أفضل من منيف لمجرّد أنّهم جاؤوا بعده، فأسبغوا عليه كليشيهات تشبههم أكثر ممّا تشبهه في واقع الحال)، غير أنّ العشق الموجع يكون حين نلقى منيف للمرة الأولى في قصّة حبّ مجوسيّة أو النّهايات؛ وحين نلقى نجيب محفوظ للمرة الأولى في حكايات حارتنا؛ وحين نلقى محمّد زفزاف في غجر في الغابة؛ وحين نلقى ربيع جابر في رالف رزق الله في المرآة، وحين نلقى لطيفة الزيّات في الشّيخوخة وقصص أخرى.تلك الجواهر الصّغرى هي جواهر العذوبة بدفقتها القصوى، كما هي دفقة فتنة غروب السيّد معروف.
«للغروب فتنة لدى السيّد معروف لا تعادلها فتنة أخرى في الدنيا كلّها»؛ لدينا غروب، وفتنة، والسيّد معروف، ومباهج السيّد معروف الصغيرة. يقدّم فرمان منذ الجملة الأولى مفاتيح روايته القصيرة، بل يقدّم تلك المفاتيح في تلك الجملة الافتتاحيّة الأولى، كما لو كانت الرواية كلّها شرحًا وتفسيرًا لتلك الجملة الافتتاحيّة القصيرة المباشرة. ليس الغروب هنا نهايةً أو نتيجةً بل بداية ومُفتَتَح لدنيا موازية لدنيا الواقع الذي يعيش فيه السيّد معروف. الغروب فعلُ خلقٍ يَلِد الدّنيا التي يهواها السيّد معروف ويتخيّلها ويعيشها وهمًا ربّما، فرارًا ربّما، توقًا ربّما. الغروب بداية الرواية، بداية عالم متملّص من الزمان والمكان بقدر ما هو متجذّر فيهما. رابطه الجوهريّ بعالم الواقع هو السيّد معروف وعينه الحسّاسة وعقله الذي لا يهدأ، الذي يمزج التعقُّل بالجنون، الرؤى بالهلاوس، الواقع بالخيال. افتتان السيّد معروف بالغروب افتتانٌ عجيبٌ لأنّه ليس محض افتتان بالضّوء هربًا من الظّلمة التي يُصرِّح السيّد معروف بكراهيتها. الأمر أكبر وأبهى من ضوء وظلمة؛ فالشُّروق، أيضًا، انفتاح على ضياء الشّمس وافتتاحٌ لها، غير أنّه مُقصى من عالم السيّد معروف. فالشُّروق - إنْ التُقِط وأُدرك وروقب أصلًا - سيكشف كلُّ ما تسعى الأشياء والبشر إلى إخفائها: سيكشف التّجاعيد، والعيوب، والخدوش، والجروح، والنّدوب التي تغطّي جسد المدينة وأجساد أشيائها وأشخاصها؛ الشُّروق يبدّد الأوهام، ولكنّه يُبدِّد الأحلام أيضًا، والهلاوس، والرؤى، التي لا تحمل معانٍ سلبيّة في عالم السيّد معروف وروايته، لأنّها ملاذ. الشّروق يعني تجريد البشر من أحلامهم حين يصفعهم فيستيقظون ويبدؤون دورة حياة الروبوتات، وحين يهزّ المدينة فيثر غبارها الخانق. أما الغروب فنهايةٌ لذلك الضّياء القاسي المحدود مكانيًا وزمانيًا، نهاية بمثابة بداية أخرى تنفتح على فسحة عابرة قصيرة لذلك «الغروب السّاجي» - كما يحلو لفرمان القول - الذي يوسّع آفاق الأمكنة والأزمنة ويدمجهما فيُدخِلنا، ويُدخِل السيّد معروف، في عالمٍ حُلُميّ تأمّليّ مذهل. فسحة عابرة تختزل كينونةً فيها من الدّيمومة ما تعجز حدود الزّمان والمكان (الواقعيّة) عن الإحاطة بها. يقدّم لنا فرمان لوحة الأحداث وخلفيّتها في الصفحات القليلة الأولى: المدينة المتراخية ضيّقة الأزقّة، الملتفّة على نفسها كشرنقة. ليست لوحةً متفرّدةً، وليست خلفيّةً فريدةً، إذ ستتداعى إلى الذّهن عشرات الأعمال التي يمكن أن نُدرِج آلام السيّد معروف بينها وضمنها، ولكنْ - مرة أخرى - ليس الأمر محض لوحة وخلفيّة وبراعة، بل ثمّة عذوبة تُميّز الرواية عن غيرها، بل وتميّزها حتّى عن روايات فرمان السّابقة واللاحقة، مع ملاحظة أنّ فرمان عدَّها قصةّ طويلة لا رواية. ليست آلام السيّد معروف أولى روايات فرمان في مسرح المدينة وأزقّتها الضيّقة المتعرّجة، ولا هي أولى الأعمال العراقيّة المدينيّة أو آخرها بطبيعة الحال. لدينا مجموعته القصصيّة الأولى حصيد الرّحى، وإنْ كان الفضاء ضيّقًا هناك بحُكم ضيق مساحة السّرد؛ ولدينا روايته الأولى النّخلة والجيران، الرواية العراقيّة الأولى، غير أنّ المدينة هناك خانقة ومخنوقة في آن، ولا سبيل إلى الفرار أو التملّص منها، إذ كانت تفتقر إلى عينٍ كعين السيّد معروف: عين ثاقبة، عين خارجيّة بقدر ما هي داخليّة، حانية بقدر ما هي قاسية، ظالمة بقدر ما هي مظلومة. النّخلة والجيران رواية مكان، رواية جماعة، رواية مكانٍ جمعيّ؛ بينما آلام السيّد معروف تضع المدينة والجماعة في الخلفيّة وتترك الواجهة للفرد، حتّى وإنْ بدا لنا وللكاتب نفسه واحدًا من «الشّهداء الأحياء»؛ هي رواية وعي فرد، أوهام/أحلام فرد، لا يكترث بالمكان أو بالجماعة إلا بكونهما مصادفةً، لا تَهِبُه شيئًا بل هو الذي يَهِبُها الكثير، حين منحها معنى جديدًا. وفي الوقت ذاته، ليست آلام السيّد معروف أولى الروايات التي يكون بطلها (أو نقيض-البطل، بالأحرى) موظّفًا مُكبَّلًا بقيود الجماعة، وبقيود البيروقراطيّة. لدينا رواية خمسة أصوات لفرمان نفسه، وإنْ كانت روايةً مُنبتّةً عن المكان وعن الجماعة بالمطلق، وأقرب إلى كتالوغ يعرض أنماط وعي الطّبقة الوسطى المثقّفة (أو شبه المثقّفة، أو ربّما مدّعية الثقافة أحيانًا) في الستينيّات، ذلك العقد الذي أنتج روايات كهذه بالأطنان، مع فارق المستوى بكل تأكيد. خمسة أصوات ليست ما نبحث عنه إذن، وإنّما هي الوجه الآخر لفؤاد التّكرلي؛ رواية تشبه آلام السيّد معروف في نواحٍ عديدة، ليس أقلّها أنّها رواية قصيرة كانت جزءًا من مجموعة قصصيّة ثمّ انفصلت عنها، إضافة إلى تشابه (ظاهريّ بطبيعة الحال) بين بطلَيْ العملين. لا بدّ أنّ محمد جعفر، بطل الوجه الآخر، كان في ذهن فرمان حين كتب آلام السيّد معروف، إلا أنّ التقاط فرادة فرمان يكمن في تنحية مرجعيّاته الأدبيّة الكثيرة، وفي التّركيز على الكيفيّة التي شيَّد فيها فرمان عوالمه بعد إعادة تكوين وتشكيل تلك المرجعيّات على اختلافها. مرةً أخرى، ثمّة ما تتفرّد به آلام السيّد معروف عن سواها من أعمال: تلك العذوبة الرّهيفة. يتفوّق فرمان في هذه المقارنة من ناحية تحسُّس نبض السّرد الذي يكتب المدينة والوظيفة الحكوميّة ويُكتَب بهما؛ وتتفوّق عين السيّد معروف/فرمان حين لا يكتفي بدور المراقب الأقرب إلى أجنبيّ، كما هي الحال مع محمد جعفر، بل تصبح عين السيّد معروف عينًا للمدينة كلّها، عينًا للغروب الذي يرسم المدينة ويعيد خلقها، عينًا لتأثيرات الغروب التي تمتزج بالمدينة وبناسها كي تنتج عالمًا آخر ولو مُتخيَّلًا، مُتوهَّمًا، لا أن يواصل إصراره الغريب على اختلافه عن غيره كما يفعل التّكرلي في الوجه الآخر، حيث تبدأ الرواية وتنتهي من دون أن نلمح أدنى تغيُّر في المدينة أو في بطلها، فيما يكون الفارق، كلُّ الفارق، بين بداية آلام السيّد معروف ونهايتها؛ يتغيّر البطل وتتغيّر المدينة، يتبادلان الأدوار، يتفاعلان، يتناقضان، يتضادّان، يمتزجان، يتوازيان، ويتداخلان؛ يحدث كلّ هذا من دون أن يفقد السيّد معروف فرادته. الوجه الآخر رواية واقعيّة، ولعلّ فرمان أراد من آلام السيّد معروف أن تكون واقعيّة أيضًا، غير أنّ الغروب غيَّر النيّات والنّتائج، فباتت آلام السيّد معروف أقرب إلى «رومانس»، تتّكئ على واقعيّة الرواية، ولكنّها تكتسب تصنيفًا مغايرًا لا يشبه أيًا من واقعيّات فرمان السابقة أو اللاحقة.
«للغروب فتنة لدى السيّد معروف لا تعادلها فتنة أخرى في الدنيا كلّها»؛ واقعيّة، مدينة، بيروقراطيّة، رتابة. تلك كانت العوامل التي تتماثل فيها آلام السيّد معروف مع مرجعيّاتها الأدبيّة السابقة، عراقيّةً كانت كما رأينا، أم أجنبيّة كما سنرى. قد يخطر في بالنا بارتلبي هرمن ملڤل، ولكنّ بارتلبي ابن ثقافة مختلفة، عالم مختلف، بيئة مختلفة. الثقافة الروسيّة أقرب إلى عالم السيّد معروف وإلى عالم فرمان. المثال الأفضل في حالة آلام السيّد معروف هي رواية دستييفسكي المساكين، وبطلها ماكار ألكسييفتش ديفوشكن. ديفوشكن أقرب حتّى من السيّد معروف إلى التّوصيف الذي أراده فرمان توصيفًا دقيقًا: الشهداء الأحياء. ولكنْ - مرة أخرى - كان الفارق في الغروب، كان الفارق هو الغروب. أحسّ أحيانًا أنّ فرمان أعاد كتابة الصفحات الافتتاحيّة من الرواية، أو ربّما كانت تلك الصفحات آخر ما كتبه، إذ إنّ السيّد معروف الحالم المتأمّل الذي فيها لا يشبه (أو لا يتطابق بالأحرى) مع السيّد معروف الموظّف الحكوميّ المتبرّم بالفوارق الطبقيّة والتّعليميّة والثقافيّة في القسم الآخر من الرواية. ذلك الموظّف وحياته الرتيبة الخانقة في الوظيفة وفي البيت هو أحد هؤلاء «الشهداء الأحياء» الذين أراد دستييفسكي وفرمان توثيقهما بالرواية، غير أنّ ديفوشكن يفتقر إلى غروب السيّد معروف، يفتقر إلى عين السيّد معروف. نُشرت ترجمة فرمان لرواية المساكين عام 1982، وهو العام ذاته الذي شهد نشر آلام السيّد معروف. لنا أن نجزم بقدرٍ معقولٍ من الثقة أنّ ديفوشكن كان حاضرًا في ذهن فرمان حين خلق السيّد معروف، إلا أنّ الفوارق بين حياتَيْ دستييفسكي وفرمان أثّرتا تأثيرًا حاسمًا على بطليهما. كان دستييفسكي يؤسّس (أو يواصل مسيرة تأسيس) أدب روسيّ واقعيّ، فيما كان فرمان قد تجاوز مرحلة التأسيس منذ ثلاثة عقود، حين منحنا مجموعتين قصصيّتين وخمس روايات واقعيّة قبل أن يبدأ آلام السيّد معروف. فرمان حصيد الرّحى والنّخلة والجيران وخمسة أصوات لا يشبه فرمان آلام السيّد معروف لأنّ فرمان الأول كان يسعى جاهدًا إلى تأسيس سردٍ عراقيّ واقعيّ وإلى توثيق المكان الذي بدأ يتلاشى بالتّدريج، فيما كان فرمان الثاني يلملم ما تبقّى من ذاكرة المكان لأنّه ما عادَ ابن المكان، بل بات ابن المنفى. تلك نقطة ركّز عليها عبد الرحمن منيف في مقالته العظيمة عن فرمان وآلام السيّد معروف، لأنّ منيف أيضًا انشغل في سنوات الثمانينيّات والتّسعينيّات بلملمة المكان وذاكرته. الكتابة بالذاكرة تعني بالضّرورة أن تمسي التّفاصيل ناقصة، باهتة، بل ومُتخيَّلة بهذا القدر أو ذاك. ولكنْ ليس هذا هو المهمّ في آلام السيّد معروف التي ما كانت تسعى إلى التّوثيق بل إلى التأمّل. تقوم الرواية جوهريًا على هذا الغروب الذي يُحرِّض تداعيات لغويّة مغوية مدهشة جنونيّة في عقل السيّد معروف، وفي عقل فرمان أيضًا، حين نتذكّر رسائل فرمان إلى منيف التي يشكو فيها منفاه اللغويّ قبل المكانيّ: كان فرمان يتوق إلى استخدام عربيّته من جديد لا في الكتابة أو الترجمة أو القراءة، بل في السّماع والنّطق والحلم والشّتيمة حتّى. كانت تداعيات الغروب اللغويّة التي بدأت في الصفحات الأولى في الرواية، وتواصلت حتّى حين غاب الغروب مع تتالي الصفحات والأحداث، هي الغاية الجوهريّة من وجود السيّد معروف واقعيًا وأدبيًا. الغروب الذي يلوّن المدينة ويمنحها بهاءها الذي يمزّق شرنقة الغبار الخانقة هو ذاته التّداعيات اللغويّة التي تملأ ذهن السيّد معروف وتكاد تنسف واقعه وتصيبه بالجنون. تلك التّداعيات هي ما يمنح السيّد معروف تفرّده الفعليّ عن سواه من ناس المدينة ومرتادي المقاهي وموظّفي المصالح الحكوميّة: هو يحلم، يتخيّل، يتوهّم، يتأمّل، يعشق، يفتتن، يلتذّ. وتلك كلّها خطايا ما كانت المدينة الواقعيّة ولا أناسها المسحوقون ليسمحوا بها، لأنّها تخلق عالمًا آخر. آلام السيّد معروف ليست آلامًا جسديّة فقط، بالرّغم من أنّ أوجاع معدته تكاد تصبح أوجاعنا؛ وليست آلامًا اقتصاديّة فقط بالرّغم من أنّ تلك الرّحى التي تطحن الجميع تطحننا أيضًا؛ وليست آلامًا معنويّة فقط بالرّغم من أنّ الإهانة والإذلال الذي يخنق السيّد معروف وعائلته ومدينته وعالمه تكاد تُطوِّقنا نحن أيضًا بأذرعها الأخطبوطيّة العابرة للأزمنة والأمكنة. آلام السيّد معروف آلام حُلُميّة، آلام لغويّة، كما هي آلام غائب طعمة فرمان في منفاه. السيّد معروف منفيّ أيضًا، ولذا بات يبحث عن ابتسامةٍ ولو متوهَّمة في ليل المدينة. ابتسامة الغروب المُتخيَّلة على شفتي فتاةٍ قد تكون مُتخيَّلةً هي الأخرى هي ذاتها ابتسامة اللغة التي كادت تتحجّر من فرط الرتابة، هي ذاتها ابتسامة الأحلام التي باتت رفاهيّة موجعة؛ أما ابتسامة الليل فهي ابتسامة الواقع، هي ابتسامة المدينة وغبارها وقيودها وضيقها، هي ابتسامة السيّد موفّق التي تطلّ على السيّد معروف من «باطن الليل» كي تعيده إلى المدينة ورتابتها، هي ابتسامة أبو صافي وعبارته الأثيرة «بصريح العبارة». ما كان فرمان ولا السيّد معروف يسعى إلى «صريح العبارة»، بل إلى المجاز، إلى ظلال اللغة، إلى تداعياتها. يُقال إنّ الإنسان لا يتقن اللغة إلى أن تصبح أحلامه ناطقة بها. لا نعلم ما إذا كان غائب طعمة فرمان بدأ يحلم بالروسيّة في منفاه، ولكنّنا نعلم أنّه تاق لأن تكون العربيّة لغة أحلامه، وهي حتمًا لغة أحلام السيّد معروف، لا لكونها لغته الوحيدة، بل لأنّها لغته المُشتهاة، حيث لا آلام، ولا ليل، ولا رتابة، ولا صريح العبارة.
[اللوحة للفنان سينا عطا]