[هذه المقالة جزء من ملف حول اللغة الأمازيغية، تحت عنوان «"تانكرا تمزيغت": الصحوة والأصلانية الأمازيغتَيْنِ في الآداب والفنون»].
تواترت شهادات المؤرخين القدامى[1] بأن للأمازيغ تراثا سرديا غزيرا ظل يتوارث شفهيا عبر الأجيال إلى العصور الحديثة، إذ أجهزت عليه أو تكاد وسائل الاتصال العصرية التي غزت معاقله ونقلت إلى أبنائه ثقافة الآخرين في قوالب عصرية مغرية، من أهمها المدرسة والراديو والتلفاز، هذه الوسائل التي غزت البيت الأمازيغي وجعلت الإنسان الناطق بالأمازيغية يشعر بتخلف وجمود تراثه عن مسايرة العصر، فبدأ يتخلى عنه تدريجيا. وهكذا أخذ تراث سردي أمازيغي عريق يدخل إلى غياهب النسيان، وفي الغالب يؤول إلى الاندثار، فلا يتبقى منه إلا ما زال عالقا بذواكر المسنين والمسنات على امتداد بلاد الأمازيغ، ممن تشبعوا بهذا التراث في صغرهم، ولكن حتى هذا القليل إذا لم يُدَوَّن، فسيعتبر هو أيضا في حكم المندثر المفقود.
قام الأوروبيون الذين استعمروا شمال إفريقيا ما بين بداية القرن الثامن عشر وأواسط القرن العشرين بجمع وتدوين أجزاء من هذا التراث[2]، وقد دفعتهم إلى ذلك أهداف استعمارية معروفة، ورغم ذلك ، فقد أسدوا للأمازيغية خيرا بإنقاذهم بعضا منه إذ لولا تدوينه، لكان مرشحا للاندثار. ثم لم يلبث أبناء الأمازيغ، ممن نهلوا من المدرسة الحديثة، أن أدركوا -بعد انفتاحهم على آداب الشعوب الأخرى- أهمية الحفاظ على تراثهم الأدبي[3] الذي وجدوه لا يقل من حيث قيمته الأدبية عن تراث تلك الشعوب، ولاحظوا أن هؤلاء لم يحافظوا على تراثهم فحسب، بل ما انفكوا يستقون منه وينطلقون لإبداع أجناس أخرى جديدة، وفق متطلبات العصر.
في ظل ظروف ما بعد الاستقلال والاندثار الذي كان يتهدد اللغة والثقافة الأمازيغيتين، انبعث وعي هوياتي لدى الطبقة المتعلمة من أبناء الأمازيغ، ومن خلاله، ظهرت الكتابة الأدبية الحديثة بالأمازيغية، علما بأنها قبل ذلك، كانت متجذرة في التاريخ[4]. ولكن هذه الكتابة التاريخية كانت غاية دينية ومذهبية بحتة؛ فأغلب ما وصلنا من النصوص المكتوبة بها كان محصورًا في ذلك المجال، في حين أن الشكل الجديد من الكتابة تميز بشموليته وسعة أفقه. وأصبحت له غاية أخرى، هي التعبير عن كل ما يجلي الهوية الأمازيغية، ويجسدها ثقافيًّا. في هذا الشكل الجديد من الكتابة، لم تعد اللغة مجرد وسيلة لإيصال الرسالة الدينية، بل أصبحت مطلوبة لذاتها أولا، لأنها من أهم عناصر الهوية.
[المصدر: Tirra Association].
بدأت إرهاصات الكتابة الجديدة هذه منذ الأربعينيات من القرن الماضي، في الجزائر، ونهاية الستينيات في المغرب[5]، وقد انبجست الأعمال الأدبية الأولى في تلك الفترة، في أوساط غير مُرَحِّبة، بل عدائية أحيانا، ولكن روادها تحدوا العراقل فبدأوا مسيرتهم النضالية صامدين، فقاموا بتجريب الإبداع في أجناس أدبية مختلفة لم يكن الأمازيغ قديما يعرفونها. ولكن بما أن هدفنا في هذا المقال الموجز، لم يكن الحديث عن مجمل أجناس الأدب الأمازيغي المكتوب، فإننا نكتفي من بينها بجنسين سرديين؛ هما القصة القصيرة والرواية، هذان الجنسان الأدبيان، إنما ظهرا في أوروبا بعد الثورة الصناعية وظهور المطبعة وصارا من أهم أشكال التعبير الإنساني في عالمنا. والأدب الأمازيغي لم يكن استثناء في العمل على أصلنة واستعمال هذه الأشكال الأدبية.
وبما أن الحديث عن حيثيات تجريب الكتابة في كل جنس من هذين الجنسين في كل قطر، وفي كل منطقة، يقتضي تبيان الظروف التي ساعدت على ظهوره ومراحل تطوره إلى الوقت الراهن -الشيء الذي لا يسمح به هذا المقال الموجز- فسنكتفي بالتركيز أكثر على منطقة محددة في خريطة الأدب الأمازيغي المكتوب، هي المنطقة الناطقة بتنويعة "تاشلحيت" في وسط المغرب وجنوبه. ولا يمنع هذا أن ألقي بإلماعات عجلى إلى المناطق الأخرى داخل المغرب أو في الجزائر، فهذا القطر الأخير، كان له السبق التاريخي النسبي في الكتابة في هذا المضمار؛ فقد صدرت الرواية الأولى بالأمازيغية في الجزائر تحت عنوان: "لوالي ن ودرار" سنة 1946 للروائي بلعيد ن أيت علي، في حين صدرت المجموعة القصصية الأولى في المغرب تحت عنوان: "ئماراين" للأستاذ ئد بلقاسم حسن سنة 1988- أما أول رواية أمازيغية مغربية منشورة، فلم تصدر إلا في سنة 1997، للروائي محمد شاشا، وهو روائي مغربي، كان يقيم في هولندا حيث أصدر الرواية. وإذ لم أتوفر حاليا على معطيات دقيقة تخص عدد الروايات التي صدرت بالجزائر منذ الرواية الأولى إلى حدود اليوم، فإن الرواية الأمازيغية في المغرب، وإلى حدود منتصف سنة 2021، تقارب تسعين رواية؛ خمس وخمسون رواية منها صدرت في المنطقة الناطقة بتاشلحيت، في حين أن القصة القصيرة يفترض أن تتجاوز المئة والخمسين مجموعة قصصية، ومرة أخرى، مئة وسبع عشرة مجموعة قصصية منها، صدرت في نفس المنطقة المومأ إليها آنفا.
يعود التفاوت في عدد الإصدارات السردية بين مناطق المغرب إلى عوامل، بعضها يتعلق بكون منطقة تاشلحيت كانت فيها الكتابة بالأمازيغية عريقة بالمقارنة مع باقي المناطق، علاوة على اتساع الفضاء الجغرافي ونسبة السكان، والبعد النسبي عن عوامل التعريب، ولكن هناك عاملا أساسيا في هذا التفاوت يتمثل في ظهور رابطة "تيرا" للكتاب بالأمازيغية التي تأسست في مدينة أكادير سنة 2009 وعملت على تشجيع الكتابة بالأمازيغية بصفة عامة وأولت عناية خاصة للكتابة في المجال السردي لدى الشباب بصفة خاصة، وقد رفعت من حصة الإصدارات في المنطقة المذكورة؛ فأربعون رواية من خمس وخمسين، وثلاث وسبعون مجموعة قصصية من مئة وسبع عشرة، من إصدارات الرابطة.
وقد لعبت المرأة دورا هاما في هذا المنجز الأدبي السردي، فإذا كان عدد الكتاب في هذا الجنس الأدبي أكثر من سبعين كاتبا، فإن عدد الكاتبات يتجاوز خمسا وعشرين كاتبة.[6]
ما نقط التلاقي والانفصال بين شكلي الأدب الأمازيغي، الشفوي منه والمكتوب؟
يمتح السؤال أهميته من أن الأدب السردي الأمازيغي المكتوب حاليا مازال في طور التأسيس، وليس في ذلك أي تبخيس لكثير من الأعمال السردية المشهود لها بالجودة والأصالة، وإنما أعني التأسيس الرسمي لهذا الأدب اجتماعيا؛ فاللغة الأمازيغية التي هي مادة الأدب الأمازيغي، إنما رسمت في القطرين اللذين ينتجان حاليا هذا الأدب، وهما المغرب ثم الجزائر، بعد العشرية الأولى في الألفية الثالثة. فقد تم ترسيم الأمازيغي في المغرب في سنة 2011 وفي الجزائر في سنة 2016.
[المصدر: Tirra Association].
لننطلق من مسلمة قلما يماري فيها أحد؛ هي أن ليس هناك أدب مكتوب انبنى عند تأسيسه على فراغ؛ فأغلب الآداب العالمية المكتوبة تناصت في الأول مع نصوص شفوية أنجزت قبلها. فقط، إذا حقق الأدب المكتوب ما يكفي من التراكم الكمي والكيفي في الإنتاج، يشرع في الانفصال النسبي عما سبقه من نصوص، وحينئذ، يبدأ في التناسل متناصا مع نصوص أخرى مكتوبة. ولكن، لأن للأدب الأمازيغي المكتوب ظروفا خاصة بنشأته، إذ ترعرع في الهامش، وشق طريقه في ظروف غير متقبلة في الأول. فالأدب الأمازيغي لم يحقق التراكم الكافي، في الوقت المناسب، ولم يحظ بالانتشار المطلوب، رغم الامتداد النسبي للفترة الزمنية التي استغرقتها فترة التأسيس التي لا تزال مستمرة. فلا غرو أن يعود القصاص والروائي الأمازيغي، عندما يريد أن يبدع بلغته الأم - الأمازيغية - إلى ما تختزنه الذاكرة من نصوص تلقاها شفويا في داخل أسرته وخلال احتكاكه بالجماهير التي تتواصل بالأمازيغية، فهذا الكاتب، وهو ينجز عمله، يكون خاضعا لسلطتين: سلطة النصوص الشفوية التي تشكل مادته الخام التي يشتغل عليها عندما يبدع، وهذه قد تلقاها في محيطه القريب بطريقة أو بأخرى وبشتى أشكالها: حكايات، أساطير، طرائف، أمثال، أحاج... ثم سلطة النصوص المكتوبة في اللغات التي تلقاها أكاديميا.
إن أغلبية الكتاب بالأمازيغية حاليا لم يسبق لهم أن تلقوا تكوينا أكاديميا في الأدب واللغة التي يبدعون بها، لأن بعض الجامعات المغربية التي انفتحت على هذا الأدب وفتحت له مسالك أو شعبا، لم تفعل ذلك إلا مؤخرا جدا، والكتاب الذين تخرجوا منها ما زالوا قلة ضئيلة من بين الكتاب. فمن الطبيعي إذن أن تتناص الأعمال الأدبية المكتوبة، قصصا كانت أو روايات، مع النصوص الشفهية السابقة عليها، إلا أن حضورها يتفاوت، ليس بين كاتب وآخر فحسب، وإنما أيضا، بين نص وآخر أحيانا، لنفس الكاتب، وحضورها قد يأتي عفويا، وقد يأتي مقصودا من الكاتب.
ومن يستعرض حصيلة لأعمال السردية المنجزة لحد هذا التاريخ، يقف على أنماط متعددة من تعامل الكتاب مع التراث الشفوي في النصوص المكتوبة:
أ. فمن هذه النصوص، ما تكاد تتماهى مع النصوص الشفهية التقليدية، بحيث لا يكاد القارئ المتفحص يستبين الفروق بينهما؛ لا من حيث الشكل، ولا من حيث المضمون. إلا أن هذا النوع قليل بالنسبة لأغلبية النصوص المكتوبة، لنأخذ كنماذج لهذا النوع المجموعة القصصية "ئزماز ن تركين" (أزمنة الجمر) لمحمد ؤحمو[7]، أو "ئرزاك ييميم" (المر اللذيذ) لمحمد كارحو[8] أورواية "تيكتاي" (ذكريات) لمحمد مستاوي[9]. ورغم أن هذه الأعمال الثلاثة تكاد تكون صورا طبق الأصل للنصوص الشفوية، فإنها تتمايز من حيث اشتغال الكاتب على جماليتها؛ فالمجموعة القصصية لمحمد كارحو، تعد بحق تحفة فنية في الحكاية/القصة، استقت كل مقوماتها من الحكاية الأمازيغية التقليدية، في حين أن أعمال محمد أوحمو القصصية، أقرب إلى الحكاية التقليدية منها إلى القصة الحديثة، في حين أن عمل محمد مستاوي يشعر المتلقي أنه مجرد استنساخ للحديث العادي المدون. هذه الأعمال الثلاثة مسبوقة كلها، من حيث زمن صدورها، بأعمال سردية أخرى، ولدت قبلها، ولكن تتجلى فيها سمات القصة الحديثة، إما من حيث القضايا التي طرحتها، وهي جديدة على السرد الأمازيغي التقليدي، أو من حيث الصياغة الفنية التي أنجزت بها. يقوم كنموذج للنوع الأول المجموعتان القصصيتان: "ئماراين" (العشاق) للكاتب حسن إدبلقاسم[10]، و"تيغري ن تبرات" (قراءة رسالة) للكاتب الصافي مومن علي[11]، وكنموذج للنوع الثاني: "أنزليف" (المُحترق) للكاتب محمد أشيبان[12].
ب. ومن الكتاب من يتكئ أكثر على الأساليب التعبيرية البلاغية التي تقوم على الكناية والاستعارة والتشبيه التي تشكل ما يسمى بالصورة الأدبية، وهذه الأنماط التعبيرية تشكلت في الحكي الشفوي التقليدي عبر العصور، وهي مبثوثة في النصوص الحكائية، وأحيانا في الكلام العادي المتداول، يستقي منها الكتاب ليُكسِبوا إبداعهم تلك الجمالية الأصيلة التي ميزت السرد الأمازيغي وطبعت الذوق العام للناطقين باللغة الأمازيغية أو بتنويعة من تنويعاتها.
[المصدر: Tirra Association].
وهذه بعض النماذج من تلك الأساليب التي قلما يخلو منها أي نص سردي مكتوب. أحيانا يوظفها الكاتب دون أن يعي بذلك، تعمدت أن أستقيها من إحدى الروايات التي صدرت أخيرا وهي رواية "تيتبيرين تيحرضاض" (الحمائم العارية) للقصاص والروائي حسن ابراهيم أموري[13] الذي يبدو أنه توخى توظيفها في النص:
- "أر تتواركان أزال تقد ئسك": يحلمون في وسط النهار، وحرفيا: يحلمون نهارا، حين تكوي القرن. وهي كناية عن الغرق في الوهم ونسيان الواقع. وهو من التعابير المسكوكة المتداولة في اللغة العادية فعبارة: "أر تتواركان أزال،" عبارة مجازية تقوم على استعارة مكنية و"تقد ئسك" التي تعني تكوي القرن، قرن حيوان ، كالبقر مثلا. تحتوي على كناية ثانية بالحذف إذ قد كني عن الشمس المحذوفة بالضمير.
- "تففيت اغ تت ئنن أ سعيد". لقد ضيعت الفرصة يا سعيد. وحرفيا: هناك صببتها يا سعيد. وهو تعبير مسكوك كذلك يقوم على الكناية بالحذف كذلك، فالمصبوب محذوف، يقوم الضمير مقامه.
- "وا نتاضانا" ياعاما مضى؛ وهو تعبير مسكوك متداول، يقوم على الاستعارة، يعبر به عن التغافل عن الواقع، وعدم المسايرة.
- "يوت ؤفالكو ننس اكججا": رمى صقره الجذع. وهي صورة أدبية رائعة تقوم على الكناية، وتعني الفشل في إصابة الهدف.
- "ئززل خف وسغيم": على القضض رقد. وهو أيضا أسلوب كناية، ويعني العيش بألم ومعاناة.
ت. ومن الكتاب من يوظف الهيكل الفني للحكاية الشفوية لحمل مضمون حديث، كما نجد ذلك في قصة “أيت توف تماشوت" (رب قطة أهم من قرية) و" تابتي" (الجدة) في المجموعة القصصية "تاغوفي ن وميين" (عشق الحكايات) لمحمد أكناض[14] أو يستوحي الكاتب عنوان المجموعة القصصية من الحكاية الشفوية على غرار "أيت ئقجدر د وخساي" (أصحاب السحيلية واليقطينة) لمحمد أوسوس"[15].
ومنهم من يوظف عبارات متداولة مأخوذة من حكايات معروفة لدى الجمهور الأمازيغي، كما فعل الكاتب محمد أشيبان في مجموعته القصصية "أنزليف".
ث. ومن الكتاب من يوظف العبارات المسكوكة كالأمثال وغيرها. ويحضر هذا النوع من العبارات بشكل لافت في بعض الأعمال الروائية مثل "تاواركيت د ئميك"[16] (حلم وزيادة) و"ئناكوفن" (المُسْتَأْصَلون)[17] و"تامورت ن ئلفاون" (أرض الخنازير)[18]. يحضر المثل الأمازيغي في رواية "ئناكوفن" حضورا قويا حتى تحس أنه لا يأتي عفوا؛ بل يتوخاه الكاتب لغاية أدبية جمالية يرصع به عباراته، ويكسبها الجرس الأدبي المتين، في حين أن صاحب "تامورت ن ئلفاون" يضع لتلك الأمثال علامات في النص المقروء تساعد الباحث على التعرف عليها.
إن الذي يستعرض حصيلة المنجز السردي الحالي ويقارنه بالتراث الشفوي التقليدي سيسجل بجانب تلك التعالقات والتواشجات بين الشفوي والمكتوب تمايزات وانفصالات بينهما كذلك.، وهذه أكثر حضورا؛ فالكاتب الأمازيغي لم يقدم على مغامرة الكتابة إلا ليتجاوز أسر الشفوية التي رانت على الأدب الأمازيغي طويلا وكبّلته بأغلال ماض انقضى وبقي متحكما. وقد حرص المبدع الأمازيغي الجديد على أن يكون ابن عصره من حيث الشكل ومن حيث المضمون.
فمما يتميز به الأدب الأمازيغي المكتوب عامة، وبصفة خاصة الجنس السردي منه، أن مجال تشكله وتلقيه مجال حضري في الدرجة الأولى؛ فهو أدب نشأ متوجها للجماهير التي تتعامل مع المقروء. وهكذا فالفضاءات التي انبجس منها ولا تزال تحتضنه إنتاجا وتلقيا، فضاءات حضرية ؛ كالرباط والدار البيضاء وأكادير والناضور ووجدة، وفاس، وتيزي ووزو، وبجاية، والجزائر، وحتى بعض العواصم العالمية مثل باريس وأمستردام. في حين أن الفضاء الأمثل للسرد التقليدي هو القرية، حيث يتواجد فرسانه الصناديد، وحيث كان ينتج ويتلقى في الغالب سماعا.
ومن هذه المميزات أن القضايا التي يشتغل عليها والشخوص الفاعلين فيها والفضاءات الزمكانية التي تتحرك فيها تلك الشخوص تحيل على جنس القصة والرواية بدل الحكاية والأسطورة. ولقد سبقنا القول بأن كتاب القصة والرواية الأمازيغيتين يمتحان من مصدرين مختلفين: التراث الشفوي الأمازيغي العريق الذي ترعرعوا في أحضانه وتشربوه في صغرهم، ثم مصدر آخر مكتوب هو ما تلقوه خلال دراستهم الأكاديمية ويتجلى هذا الأخير في عدة أشكال من التناص:
أ. من بينها ما يشبه فن "المعارضة" في الشعر، وهي تقوم على إنتاج نص أدبي تقليدا لنص مكتوب سابق عليه، أعجب به الكاتب فأراد أن يبدع نصا شبيها به. نموذج هذا النوع يتمثل في رواية "أغيول د وزكن" (حمار ونصف) للقصاص والروائي الحسن زهور[19]. الذي قلد في هذا العمل الروائي نصا قديما لأبوليوس "الحمار الذهبي" الذي يعتبر أول رواية في التاريخ.
ب. التناص مع التراث الديني كالقرآن والحديث وغيرهما. ففي رواية "تامورت ن ئلفاون" إشارة إلى سورة النمل في القرآن الكريم، وفي رواية "تاواركيت د ييميك" إشارة إلى "أدرار ن قاف" وهو جبل أسطوري ورد في بعض الكتب الدينية مثل كتاب "بدائع الزهور في غرائب الدهور"[20].
ت. التناص مع الدواوين الشعرية والأعمال الروائية الأمازيغية الحديثة، ومع أقوال الفلاسفة والمفكرين. نمثل لذلك بروايتي "دداو ؤشضاض ن تشاكا ننم" (تحت أهذاب الشقاء)[21] و"ئيبيو ن تارير" (فول الغولة) لفاضمة أفراس[22] ورواية "تامدايت د وصنصي" (المصيدة والطعم) لهشام كوغولت[23].
ث. استحضار شخصيات من التاريخ الأمازيغي القديم على غرار ما قام به زهور الحسن في استحضار شخصية كيليوباترا سيليني زوجة يوبا الثاني في مجموعته القصصية " تايري د ئيزيلليض"[24] ولحريك ن طارق بن زياد في مجموعته "ئسككاسن ن تكرست" (أعوام الشتاء)[25]. وشخصية يوبا الثاني في المجموعة القصصية "وججوت ن ئريفي" (أريج الظمأ) لصالح أيت صالح[26].
وعلى غرار ما قامت به زهرة دكر في روايتها "تيسكي تارجدالت" (الملكة الغامضة)[27] التي استوحت فيها "تين هنان"، الشخصية التاريخية التي يعتبرها الطوارق جدتهم.
يعمل الكاتب الأمازيغي بدأب في مهمة غير يسيرة تتمثل في استنبات وترسيخ هذا الفن السردي الوافد على التربة الثقافية الأمازيغية من ناحية، وتأصيل هويته في الثقافة الأمازيغية من ناحية أخرى. يفعل ذلك وهو يدرك أن القطيعة النهائية مع تراثه السردي لا تجديه في هذا المسعى، بل تعسر مهمته أكثر، فكلما حاول حرق المراحل، سقط في معميات لا نسغ أدبي فيها، مما يجهد المتلقي، ويحرمه من تلك المتعة المقدسة التي هي ضمان للتفاعل بين الكاتب والمتلقي. طفق الكاتب الأمازيغي يدرك هذه الحقيقة وبدأت ساحة السرد الأمازيغي الحديث تتأثر شيئا فشيئا بأعمال إبداعية أصيلة توفر للقارئ متعة كان من قبل لا يجدها إلا في آداب اللغات الأخرى.
الهوامش:
[1] ابن خلدون، دار الكتاب اللبناني، 1999، ص 175.
[2] Emile Laoust: Contes berbéres du Maroc. Institut Royal de la Culture Amazighe et Université Mohammed V(2012).
[3] قام المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بتدوين ونشر العديد إنتاجات الأدب الشفوي كنموذج على ذلك "إماريرن" مشاهير شعراء أحواش في القرن العشرين الذي جُمعت فيه بعض المنتخبات الشعرية لـ 50 شاعرا.
[4] لأسباب غير واضحة بما فيه الكفاية، لم يحفظ لنا التاريخ نصوصا طويلة نسبيا بالحرف الليبي أو حرف تيفيناغ الذي تفرع عنه، سوى شواهد بعض القبور أو ما شابهها، ولكن وصلنا الكثير مما كتب بالحرف العربي بعد دخول المسلمين إلى شمال إفريقيا، كرسالة ابن غانم، وكتابي "الحوض" و"بحر الدموع" المنظومتين الدينيتين اللتين ألفهما الفقيه محمد علي أوزال الذي عاش إلى أواسط القرن الثامن عشر.
[5] تزامن تأسيس الجمعية الأمازيغية للتبادل والبحث الثقافية "الأكاديمية البربرية" بباريس والجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي بالرباط في سنة 1967. المسألة الأمازيغية في المغرب والجزائر: الجذور والرهانات خلال قرنين ونيف، المؤلف: الحسين بو يعقوبي، الطبعة الثانية.
Souss imression Agadir.
[6] يرجع في هذه الإحصاءات كلها إلى ماقامت به رابطة "تيرا" للكتاب بالأمازيغية التي تحين هذه المعطيات كل سنة.
[7] من بين المجموعات القصصية التي أصدرها القصاص محمد احموا "ئزماز ن تركين"، مطبعة الأقلام بأكادير، سنة 2008.
[8] ستعتبر المجموعة القصصية "ئرزاك ييميم" أول مجموعة صدرت للقصاص محمد كارحو من مطبعة دار القلم بأكادير، سنة 2010.
[9] من منشورات "تاوسنا" مطبعة ئدكل بالرباط، 2012.
[10] مطبعة المعارف الجديدة بالرباط، 1988.
[11] منشورات الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي، مطبعة المعارف الجديدة بالرباط 1992.
[12] الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي، من منشورات مطبعة فيديرانت بالرباط 1998.
[13] من منشورات رابطة "تيرا" للكتاب بالأمازيغية، المطبعة المركزية لسوس 2020.
[14] من منشورات رابطة تيرا للكتاب بالأمازيغية، مطبعة دار السلام بالرباط 2015.
[15] من منشورات البحث والتبادل الثقافي، مطبعة المعارف الجديدة بالرباط 2009.
[16] الرواية الأولى لمحمد أكناض، مطبعة بوركراك بالرباط الطبعة الأولى، 2002.
[17] الرواية الأولى لمحمد أسوس، من منشورات رابطة تيرا للكتاب بالأمازيغية، المطبعة المركزية بسوس أيت ملول 2017.
[18] الرواية الثالثة لمحمد أكناض، مطبعة دار السلام بالرباط 2012.
[19] منشورات رابطة "تيرا" للكتاب بالأمازيغية، المطبعة المركزية لسوس، أيت ملول 2018.
[20] تأليف محمد بن أحمد بن إياس الحنفي، الناشر: دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، الطبعة الثالثة، تاريخ النشر 2008.
[21] منشورات رابطة "تيرا" للكتاب بالأمازيغية، المطبعة المركزية لسوس أيت ملول 2015.
[22] منشورات رابطة "تيرا" للكتاب بالأمازيغية، المطبعة المركزية لسوس أيت ملول 2020.
[23] منشورات رابطة "تيرا" للكتاب بالأمازيغية، المطبعة المركزية لسوس أيت ملول 2020.
[24] منشورات رابطة "تيرا" للكتاب بالأمازيغية، مطبعة دار السلام بالرباط 2014.
[25] مطبعة أقلام بأكادير، 2009.
[26] من منشورات رابطة "تيرا" للكتاب بالأمازيغية، مطبعة دار السلام بالرباط 2015.
[27] من منشورات رابطة "تيرا" للكتاب بالأمازيغية، المطبعة المركزية لسوس أيت ملول 2018.