ناصر عراق
(دار الشروق، القاهرة، 2021)
[تخرّج ناصر عراق من كلية الفنون الجميلة بالقاهرة 1984، وعمل في الصحافة الثقافية في مصر. شارك في تأسيس مجلة دبي الثقافية وعمل مديرًا لتحريرها منذ 2004. أصدر العديد من الكتب، منها: "تاريخ الرسم الصحفي في مصر" (2002) الذي فاز بالجائزة الأولى في الدورة الأولى لجائزة أحمد بهاء الدين، و"أزمنة من غبار" (رواية 2006)، و"من فرط الغرام" (رواية 2008)، و"الأخضر والمعطوب" (مقالات 2009)، و"العاطل" (رواية 2011)].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النص، ما هي منابعه وروافده، ومراحل تطوّره؟
ناصر عراق (ن. ع.): منذ 45 عامًا وأنا منشغل يوميًّا بفن الرواية، وبالتحديد منذ أسعدني الحظ بقراءة "الأيام" لطه حسين في 1976، وبعد شهور اطلعت على ثلاثية نجيب محفوظ موفورة الشهرة (بين القصرين/ قصر الشوق/ السكرية). أقول منذ ذلك التاريخ البعيد وأنا أحلم بكتابة الروايات مثل هذين العظيمين، وأكاد أزعم أنه لم يمر يوم دون أن تكون في جعبتي رواية لأحد الكبار أتفاعل مع أحدائها وأنفعل بما يجري لأبطالها، لكني لم أمتلك الجسارة لخوض عباب بحر الرواية متلاطم الأمواج إلا عندما حلّ عام 2001، حين بدأت في ممارسة الكتابة الروائية بانتظام، ولم أتوقف لحظة حتى الآن، وحصيلتي 11 رواية منشورة ورواية قيد النشر وأخرى على وشك الانتهاء منها. وبالتالي أقدمت على كتابة روايتي (أيام هستيرية) ضمن مشروعي الروائي الذي أعكف عليه قبل سنين. وقد كان المثير الأول الذي أولد فكرة هذه الرواية في خيالي هو "الطلاق" في مصر المحروسة، إذ إن هناك حالة طلاق واحدة كل أربع دقائق وفقًا لإحصاءات عام 2018، الأمر الذي أصابني بالرعب على مستقبل أبناء المطلقين الذي سينشأون في بيئة اجتماعية غير سوية.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية؟ ما هو العالم الذي تأخذنا إليه الرواية؟
(ن. ع.): حاولت في "أيام هستيرية" أن أشيّد أكثر من عالم متشابك مع بعضه بعضًا، فهناك الطلاق ومشكلاته، وهناك الزواج المتعجل عبر فيسبوك دون أن يرى أي من العروسين الطرف الآخر رأي العين، وهناك مأساة الوحدة التي يتعرض لها بطل الرواية فجأة وهو في الستين من عمره، وهناك مناقشة مهمة أيضًا لأفكار بعض النباتيين الذين يرفضون تناول اللحوم، وهناك قضية العنوسة وتأخر سن الزواج لدى البنات في مصر، علاوة على طرح قضية الإدمان بين الشباب وأسبابها وجذورها، وهناك الورطة الكبرى، وهي أن زمن الرواية جرى في ظل ظهور فيروس كورونا الوغد واضطرار البشرية إلى البقاء في منازلها. أقول حاولت أن أفعل كل ذلك، والحكم في النهاية على نجاح هذه المحاولة يعود إلى القارئ الكريم والناقد الحصيف.
(ج): كتابُك الأخير عبارة عن رواية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًّا بذاته تأثير فيما تريد قوله، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(ن. ع.): أنا رجل أعشق فن الرواية عشقًا لا حدود له، فمن خلاله أستطيع طرح أفكاري وآرائي حول الحياة بتناقضاتها العنيفة. ومن خلال الرواية أيضًا أحاول جاهدًا أن أطرح هذه الأفكار وتلك الآراء بأسلوب جميل وشائق يمنح القارئ المتعة المرجوة من كل نص أدبي، وفي الوقت نفسه يدفعه إلى التساؤل وإعمال العقل. وعلينا ألا ننسى أن المرء يميل كثيرًا إلى الاستماع للقصص والحكايات. وماركيز كتب سيرته الذاتية تحت عنوان دال يعبر به عن افتتانه بفكرة الحكي، فكتب "أن تعيش لتروي".
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(ن. ع.): أظن أن هناك تحديات عامة تواجه كل من يريد أن يتصدى لكتابة رواية، ولعل من أبرزها هو وضوح الفكرة وتحديد الشخوص الرئيسة وطبيعة الصراع وضبط المعلومات وإحكام البناء إلى آخره، مع ضرورة امتلاك المهارات اللغوية اللازمة كي يتمكن من التعبير الصائب الدقيق عما يجري من وقائع طوال زمن الرواية. لكن مع "أيام هستيرية" واجهتني تحديات إضافية خاصة بجمع معلومات عن الإنسان النباتي والسبب الذي جعله يهجر تناول اللحوم، كما أبحرت كثيرًا في الاطلاع على عالم المدمنين وطبائعهم النفسية والأدوية المحظورة التي يمكن أن تسبب لهم الإدمان إلى آخره، فضلًا عن متابعتي اليومية للصراع الشرس المفاجئ الذي اندلع فجأة بين الإنسان وبين فيروس كورونا المكروه، لأن أجواء الرواية تجري في عام 2020، ولأن بطلها أصيب بكورونا.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ن. ع.): "أيام هستيرية" هي الرواية رقم 11 في مسيرتي الإبداعية، وأعتز بها كثيرًا، فقد كتبتها في لحظات نفسية بالغة القسوة والصعوبة، فكانت الكتابة بمثابة سلوى تخفف الألم الشديد الذي ألمّ بي، كما كتبتها تحت القصف اليومي لفيروس كورونا، فكنت سجين منزلي أتابع بأسى جرائم هذا السفاح وانتشاره من بلد إلى بلد ومن قارة إلى أخرى، ومع ذلك لم أفقد الأمل لحظة، إذ كنت واثقًا بقدرة العلم على التوصل إلى لقاح أو دواء يحمينا من مصائب هذا الفيروس البغيض.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(ن. ع.): المصادفة قادتني وأنا عاكف على "أيام هستيرية" إلى قراءة كتاب "قدحة النار.. دور الطهي في تطور الإنسان" للباحث والمفكر البريطاني ريتشارد رانجهام، وهو كتاب بالغ الأهمية وقد استفدت منه كثيرًا، كما ذكرته بالاسم في ثنايا الرواية.
(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(ن. ع.): وأنا أكتب لا يهمني سوى أن تأتي كتابتي رشيقة الأسلوب محكمة البناء قادرة على إثارة الخيال، لأنني أنشد المتعة لي أولًا، فإذا لم أستمتع بما أكتب، أحذفه وأبدّله تبديلًا، لذا يمكن القول إن القارئ الذي أفكّر فيه أثناء الكتابة، دون قصد أو وعي، هو ناصر عراق، وأظن أنني أمتلك ذائقة لا بأس بها، فإذا لم أرض عما أكتب محوته في الحال. لكن المدهش أنني بعد أن أنتهي من الرواية وأراجعها مرات عديدة وأجوّد فيها، حتى تصدر للناس. آنذاك أكتشف أن بها نواقص، وأنه كان من الممكن أن تخرج للقرّاء بشكل أفضل، لذا، لا أعود أبدًا إلى ما كتبته بعد صدوره، وأشرع على الفور في الاستعداد للعمل الجديد.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(ن. ع.): أنا أكتب يوميًّا في الصباح المبكر منذ ربع قرن تقريبًا، وعندي رواية جديدة ستصدر من دار الشروق بالقاهرة مع معرض القاهرة الدولي للكتاب في يناير 2022 اسمها (الأنتكخانة)، وقد أنهيتها قبل أربعة أشهر، أما الآن فأنا أعمل على رواية جديدة لم أستقر بعد على اسم لها.
مقتطف من الرواية
نبيل عبد الحكيم البنا
(أنا نباتية).
قالتها عبر الواتساب بفخر معجون بأداء واثق يقرر حقيقة مطلقة ينبغي أن يعرفها الجميع ويشيد بها. ومع ذلك، لم تنتبه نسمة فريد إلى أنها ظلت تصوّب هذه العبارة في وجهي عند أي خلاف حتى لو لم يكن طعامًا، ولا تكتفي بذلك، إذ تهرع نحو غرفة النوم تظلل جبينها تقطيبة منفرة وتغلق الباب خلفها وتفتح الفيسبوك لتنتقي من غوغل صورة لثمرة باذنجان أو فلفل أو تفاح وتضعها على صفحتها الشخصية، ثم تكتب تحتها كلامًا يقطر تباهيًا بالذات لأنها استطاعت أن تزهد في اللحم والسمك والدجاج منذ سنوات، وأنها سعيدة بهذا الإنجاز الكبير سعادة بالغة، وأنها تشكر الله كثيرًا، ثم تضيف من باب الغمز واللمز (أنا نباتية... أجل أنا نباتية رغم أنف أي إنسان... أنا امرأة استطعت الاستغناء عن الطعام المقترن بالدم، وفخورة بهذا الاستغناء ولن يستطيع أحد مهما كان إعادتي إلى ما يأكله البشر ذوو القلوب القاسية الذين يهللون بسعادة عند ذبح الحيوانات والطيور).
***
عرفتها منذ أسابيع قليلة وقبل أن يغزو البشرية فيروس كورونا الوغد (كوفيد-19)، فيحصد عشرات الآلاف من سكان الكوكب في غضون وقت قصير. أعجبني بعض قصائدها وبوستاتها التي تنشرها في صفحتها على الفيسبوك لما تتضمنه من جسارة في إبداء الرأي ومهارة لغوية لا بأس بها، كما لفت انتباهي جمالها الواضح وثيابها الأنيقة وشعرها الأسود الطويل، فقررت التقرب إليها، فضغطت (لايك) غير مرة على ما تنشره في صفحتها، وكتبت تعليقات مادحة مرات على عدد من نصوصها الشعرية. وبعد الحريق المخيف وطدت معرفتي بها سريعًا عبر الرسائل الشخصية على الماسنجر في الفيسبوك والواتساب، فهي تقيم في القاهرة، بينما أرعى وحدتي الموحشة هنا في دبي. لاحظ أنني قلت عرفتها، ولم أقل التقيت بها، حيث لم نلتق وجهّا لوجه أول مرة إلا في "جروبي" بوسط البلد ذات ليلة شتوية، أما اللقاء الثاني فتم في معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي أقيم في يناير 2020. دعوتها لحضور الندوة المقامة على هامش المعرض لمناقشة روايتي الجديدة، فرحبت وقالت بنبرة هادئة: (يسعدني ذلك).
عندما اقتربت مني لتصافحني قبل بدء الندوة، تفحصتها كثيرًا، فاضطربت وغضت بصرها حياءً، فتأكد لي حجم الفرق الكبير بين صورها التي تنثرها في الفيسبوك ليل نهار، وبين الأصل الذي يلقي عليّ، أو يتلقى مني، التحية. هذا الفرق بدا مضببًا في اللقاء الأول الذي جرى بوسط القاهرة قبل ذلك بيومين، لكنه تجلى الآن. لقد بدت جميلة متألقة متأنقة مشرقة على شاشة الموبايل في الفيسبوك تتخذ أوضاعًا تغري العريس المتعجل، بينما تلوح لي هنا في أروقة المعرض فتاة عادية بلا ألق محرومة من التوهج غارقة في بحر الماكياج الفج. للحظة ندمت لأنني عرضت عليها الزواج دون أن أراها وجهًا لوجه، وقررت التراجع، لكن رائحة الحريق المرعب وشراسة ذئب الوحدة المدمرة وقوات المطافي ورجال الشرطة ولوتس... كل ذلك أغلق صفحة الندم سريعًا، ودفعني دفعًا لارتكاب أكبر خطأ في حياتي.
***
لم تكن نسمة فريد فتاة صغيرة أو حتى متوسطة العمر. لقد بلغت الثانية والأربعين في أكتوبر الماضي، ومع ذلك لم تحظ بلذة الزواج من قبل ولم تعرف نعمة الأمومة أبدًا. وقد أكد عماد الدين سرور ما أخبرته به، إذ قال لي ونحن نحتسي الشاي على مقهى أم الدنيا بدبي: (معك حق تمامًا... لا تقدم على الزواج من امرأة تزوجت من قبل، حتى لا تضع نفسك في مقارنة مع أحد دون حتى أن تقصد هي)، ثم أضاف ضاحكا: (لتكن أنت أول قاطف لتفاحة أنوثتها)، فابتسمت وقلت له وأنا أتأمل شاربه الكث الذي يزداد بياضًا من أسبوع إلى آخر كأنه في سباق مع الشيب: (وهل يضمن رجل كونه الأول بالنسبة لأية امرأة في هذا الزمن؟ إنه أمر صعب التأكد منه)، فربت كتفي وحرك رأسه بالموافقة وقال مواسيًا: (هوّن عليك... لقد مررت يا عزيزي نبيل بتجربة قاسية جدًا، خاصة مع الحريق المدمّر، ولا حل لك إلا بالزواج، ولتكن تجربة جديدة عسى أن تخفف عنك سنوات الشقاء التي كابدتها فجأة وأنت في نهايات العقد السادس).
***
(عريس في الستين) ورطة لم تكن في الحسبان، لكن أن تقضي ثلاث سنوات وأنت تقضم رغيف الوحدة المر يوميًا عذاب لا ينتهي، وكأن المقادير قذفت بي فجأة إلى نار جهنم، تشوي قلبي ثم تعيد تشكيله من جديد لتشويه مرة أخرى. ثلاث سنوات وأنا أخاطب الجدران والمقاعد والكنب وأخشى أن أتلقى منها ردًا، فأكون قد سقطت في جب الجنون كما يقول أساتذة الطب النفسي. ثلاث سنوات كابوسية تختتم بحريق مروّع نجوت منه بأعجوبة. ثلاث سنوات وأنا أستعيد كل لحظة تفاصيل زواج مترع بالحب والنجاح والسفر والأبناء دام ربع قرن قبل أن تسدد علا جميعي في وجهي فجأة رصاصة النفور: (أرجوك... أريد الطلاق... لا أحتمل الحياة معك).
***
نسمة فريد
أجل... هذا رجل مجنون؟
كيف يعرض الزواج على فتاة دون أن يراها وجهًا لوجه فيتفحص قسماتها ويتأمل جسدها؟ لماذا لم ينتظر حتى يتعرف إليّ مباشرة قبل أن يقدم على هذه الخطوة الجريئة؟ هل يعبث معي؟ هل يرغب في تزكية الوقت بالتسالي مع أنثى مثل معظم المثقفين الملعونين هنا في القاهرة؟ لا أظن، فسيرته في الوسط الثقافي طيبة، وبعض بوستاته التي أطلع عليها تؤكد أنه إلى قبيلة الجادين ينتمي، فهل أنا أمتلك صفات امرأة تشجع رجلًا على الاقتران بها على الرغم من أنه لم يحظ برؤيتها رأي العين؟
أجل... السرور كله يسيل في أوردتي وشراييني منذ طرح نبيل عبد الحكيم البنا هذا العرض الطيب قبل ساعة. لا أستطيع أن أسيطر على أعصابي. التوتر اللذيذ يحرمني من متابعة المسلسل التركي (العشق المجنون) على هاتفي المحمول رغم شغفي الشديد به. إنني أقفز من فوق السرير بجنون وأتأمل وجهي وجسدي في المرآة بحبور ودوران من أمام ومن خلف رغم انزعاجي من شكل شفتي العليا وأسناني الأمامية، وبلا تردد فتحت علبة ماكياجي وأمسكت قلم الروج الأحمر ووضعت اللمسات المناسبة برفق. ثم رنوت إلى القلم بتركيز وأنا أغلقه ودللت نفسي قائلة: "ماك"... أنت تستحقين هذه الماركة الفاخرة يا نسمة.
لقد اتصل بي تليفونيًّا من دبي ليعلن رغبته الطيبة، فلما طلبت منه أن يستخدم الواتساب كما كنا نفعل منذ تعارفنا قبل أربعة أيام فحسب كي لا يتكلف ثمن مكالمة دولية، قال بجدية أسعدتني كثيرًا: (نسمة... لا يليق أن أطلب منك الزواج عبر وسيلة تواصل اجتماعي... يجب أن أطرح الأمر عليك بصوتي وأتلقى منك إجابة بشكل مباشر)، فأدركت أنه من صنف الرجال الكرماء، وكتمت فرحتي الكبيرة بصعوبة شديدة حتى لا يسمع طيور السعادة تزغرد في فؤادي وقلت له: (هذا الأمر يشرفني كثيرًا).
***