قبل سنة ٢٠١١، كان التواجد السوري في فرنسا قليلاً ومقتصراً على الطلاب والطالبات الوافدون للدراسة الجامعية وخاصة الهادفون للحصول على درجات علمية عالية. وفي إقليم الألزاس شرق فرنسا مدن كثيرة ارتبط اسمها باللاجئين من الجنسيات المغاربية والتركية. إلا أن موجة اللجوء السورية الكبيرة بعد سنة ٢٠١١ أحدثت تبدلاً في المشهد العام لمنطقة الألزاس، حيث تركزت عائلات سورية بكاملها وخاصة في مدينة ستراسبورغ التي تعتبر عاصمة الإقليم.
وترافق هذا التواجد بفعاليات اقتصادية سورية لافتة، توسعت معها حركة التجارة ما بين سورية ومدينة ستراسبورغ لدرجة أنه تم فيها افتتاح مخبز خاص بالخبز السوري واتسعت قائمة الوجبات الفرنسية لتضم أصنافاً جديدة من المطبخ السوري، عدا عن افتتاح عدد كبير من المطاعم والمخازن وصلت إلى حد افتتاح محل صاغة لبيع الذهب والمشغولات الذهبية السورية. في هذه المادة أشارك معكم بعضاً من مشاهداتي عن واقع الأمهات السوريات اللاجئات في منطقة الألزاس بفرنسا.
قصة رباب
وصلت رباب إلى ستراسبورغ منذ مدة قصيرة بعد أن كانت تدير مطعماً صغيراً في مدينتها سلمية بسوريا. وبعد وصولها بشهرين وعبر الأصدقاء استلمت عملاً في مطعم سوري افتتح حديثاً حيث تعد الكبب والبرك وكافة أنواع الفطائر. وعن تجرتها تقول رباب: "العمل متعب هنا، واللغة عائق كبير بيني وبين الزبائن الذين يرغبون بمعرفة المزيد عما أعده". وتشتكي رباب من طول المسافات بين بيتها وبين المطعم: "الوقت هنا عامل حاسم، المواصلات سهلة ومريحة ومتوفرة لكن الوقت طويل، يلزمني ساعة لوصول مكان العمل وساعة للعودة إلى البيت".
تحضر المقارنة بقوة بين عملها القديم في سوريا وعملها الحالي في فرنسا، إذ تذكر رباب أن "الإدارة تختلف عن العمل بأوامر متلاحقة من صاحب المطعم، فأنا أشعر بأنني تحت الرقابة اللصيقة، وأكثر ما يهم صاحب المطعم هو كمية إضافية من الكبب والفطائر من نفس الكميات الاعتيادية". كما أنه لا يحق لها التصريح عن عملها لأنها لم تجتز دورة اللغة حتى الآن، لذلك فهي مضطرة للقبول بأي أجر يمنحه لها صاحب المطعم.
فكرت رباب بأن تترك العمل وتعمل من منزلها لتوفر الوقت وتكسب أكثر دون التعرض لضغوط وأوامر صاحب المطعم، لكن عدم وجود زوج أو ابن يتكفل بتوصيل الطلبات أوقعها في مشكلة تأمين عامل خاص يتطلب أجراً لا يتناسب مع دخلها المتوقع، عدا عن عدم تملكها لفرن خاص للفطائر ولا تجهيزات كهربائية للعجن وتحضير وخلط الكبب، وعندما عرضت ابنتها استعدادها للقيام بتوصيل الطلبات على دراجتها تعثر تنفيذ هذا الاقتراح لأنه تم تبليغها بقبولها في معهد مسائي لتعلم الموسيقا على آلة الكمان التي كانت تعزف عليها في سوريا، مما يعني عدم توفر أي وقت لتنفيذ مهمة التوصيل ودعم مشروع الأم.
قصة نوال
ساهمت ميزة اللجوء العائلي في تخفيف آثار اللجوء وخاصة في الفترة الأولى والمسماة بصدمة اللجوء أو صدمة البدايات في المجتمعات الغريبة، لكن الإيجابية في اللجوء العائلي ليست مطلقة، فقد أجبرت نوال على الرحيل عن بيتها ومدينتها من قبل أولادها الذين قدموا اسمها ضمن قائمة اللجوء العائلي في السفارة الفرنسية. كان اللجوء آخر ما تفكر به رغم حرصها الشديد على ضرورة تأمين أبنائها وعائلاتهم فرصة اللجوء لمعاناتهم من حالة خاصة كعائلة. ومن الطبيعي أن تتمسك نوال التي تبلغ ثمانين عاماً بقرار عدم تغيير منزلها ومدينتها وحيها وعلاقاتها الاجتماعية لكن للأبناء وجهة نظر أخرى، فكيف سيتركونها وحيدة وهي في هذا العمر الحرج والذي يتطلب متابعة ومساندة ودعم الأبناء والأحفاد معاً!
وصلت نوال إلى ستراسبورغ وكان بيتها المقدم من قبل الخدمات الاجتماعية بعيداً عن سكن أولادها حسب قائمة البيوت المتوفرة، فعانت كثيراً في الفترة الأولى من سكنها وخاصة بسبب عدم إلمامها باللغة الفرنسية وانعدام أي فرصة لتعلمها في هذا العمر المتقدم. إضافة إلى أن أنه لم يكن هناك بقالية معروفة توصل لها احتياجاتها اليومية عبر أشخاص معروفين من قبلها كما كانت معتادة في مدينتها حمص بسوريا. تغير كل شيء على نوال حتى طريقة التسوق وطريقة مراجعة الطبيب وزيارة الصيدلية أو الجيران.
لكنها سرعان ما اعتادت الحي والبيت، والعلاقات الجديدة، وكان من حسن حظها ملاصقة بيتها لسوق شعبي كبير متنوع ينعقد يومي الأربعاء والجمعة من كل أسبوع، وتمكنت بمساعدة ابنتها من الاتفاق مع أحد الجيران الشباب على مساعدتها بنقل كل مشترياتها مقابل بدل مالي بسيط إلى بيتها. عدا عن أن ابنتها قامت بالاحتفاظ بمفتاح البناء والمنزل بصورة احتياطية للاطمئنان الدائم أو الطارئ على والدتها بعد تدريبها على استعمال بعض الأرقام الضرورية في حال حصول أي طارئ تحسباً لتأخر وصول أحد أبنائها أو تداركاً لوضع يتطلب تدخلاً فورياً.
واقع متناقض
تتنافر الصورة، والمشهد العام متناقض، نساء قليلات العدد يشترين مصاغاً ذهبياً من رواتب الإعانة تكريساً لعادات قديمة موجودة في البلد الأم سورية، يبدو هدف هذا التقليد هو حماية حياة النساء بعد الطلاق! لكن المشهد القانوني متغير هنا في ستراسبورغ وعموم الدولة الفرنسية، فحقوق النساء وخاصة بعد الطلاق مضمونة بما فيها حضانة الأطفال وتأمين منزل للسكن، ما السر إذن؟! ربما وفرة المال على حساب نمط الحياة والتقشف وعدم الاختلاط بالمجتمع الجديد ونشاطاته الثقافية، وغياب ثقافة المصروف الفردي الترفيهي أو الموجه نحو حالة فردية من الرفاهية تتحول إلى سلوك أو نمط حياة يتطلب نفقات معينة، ترفض بعض السوريات الانخراط فيها والاعتماد على العروض التسويقية رخيصة الثمن وقليلة الفائدة أو الجودة.
وعلى المقلب الآخر تقتصد بعض السوريات في نفقات عيشهن لترسل ما تتمكن من توفيره لأهلها أو أشقائها في سوريا الذين يعانون من ضنك العيش وفقر شديد وغياب كامل لكل مقومات الحياة الإنسانية. من هؤلاء السوريات شام التي تصف واقعها: "أدخر كل يورو يمكنني توفيره لتأمين نفقات المهرب لإحضار شقيقتي الوحيدة من سورية فقد عجزت عن تأمين تأشيرة دخول نظامية لها، وصورتها لا تفارقني، الجميع تخلى عنها لأسباب كثيرة وهي لا تملك حتى الإيجار الشهري للبيت المتداعي الذي تسكنه في ضواحي دمشق. وعندما يواجهها أطفالها بأنها تقتصد من مصروفهم لصالح أختها تبكي بشدة وتقول: "أنتوا مو ناقصكن شيء، فكروا فيها".
حنين وشوق
تتمنى نوال أن تعود إلى مدينتها في سورية لتموت هناك، تبدو الحالة حنيناً طبيعياً يفرضه التقدم في السن وفكرة الخوف من الموت في الغربة، لكن ابنتها تجيبها بتهكم: "غربة شو يا أمي، كلنا معك، نحن عائلة نجت بكاملها، نحن جميعنا معاً، وهذا يعني أن الغربة صارت وراءنا هناك حيث لا ابن أو ابنة ولا حفيد/ة ولا عناية أو رعاية ولا حتى دواء وكهرباء!".
تبقى المشكلة الأكبر التي تواجهها النساء السوريات في بلاد اللجوء وخاصة الأمهات هي وصمة اللجوء، تقول نور: "أشعر بأن رائحة اللجوء المُرّة ملتصقة بجلدي!" وتعبر نور عن اشتياقها العارم لأمها في سورية ولبيتها ومطارح شبابها وطفولتها، لكنها ترفض العودة بشدة لأنه لا حياة هناك كما تقول.
بعينين غارقتين في الدموع تقول إيمان: "أشتاق بشدة، لكني لن أعود، سأجبر نفسي على الاندماج، وإتقان اللغة هي الخطوة الأولى". وتعلن أنها ستشكل في المستقبل القريب جمعية نسوية اسمها: رابطة السوريات في ستراسبورغ.
ما بين وصمة اللجوء والنجاحات الشخصية والعامة ثمة تبدلات أكبر من شخصية وأقل من أن تشكل حالة عامة، لكنه واقع غني في تناقضاته وفي رمادية المشهد العام، إنه لجوء ولو تغير اسمه أو تفاصيله، لكنه سمة عميقة تتأصل في البلاد الجديدة، تغني وتغتني، وربما تشكل صدمة في تفاصيل معينة وكثيرة، لكنها الحياة في مواجهة الحق في النجاة.