ملاحظة المُحاوِر: استخدمُ تعبير «الغرب» بمعناه الإيديولوجي، وليس الجغرافي. عندما أحيل على بوتين، فأنا أحيلُ عليه لا بصفته شخصًا، بل ممثلًا لمصالح الطبقة الرأسمالية الروسية.
تتسارع الأحداث على الساحة العالمية، فاتصالات ووساطات من هنا وعقوبات وتهديدات من هناك، كان أبرزها رفع روسيا لجاهزية قوات الردع النووي لديها إلى نظام الواجب الخاص في مشهدٍ لم يألفه العالم منذ أزمة خليج الخنازير. لم تبدأ الحرب الأوكرانية في 24 فبراير، حتى بالمنطق العادي لا بد لأي حدث من مقدمات يمكن الإحالة إليها لتفسير حدوثه، إنما تعود إلى وقت سابق من عام 2014. نشوب المعارك في 2014 له أيضًا أسبابه، وليست في جوهرها أسبابًا هوياتية كما يسوَّق، وإنْ سُخِّرَت هذه الهويات لتغذية خطاب الحرب والتعمية على جذوره الاقتصادية والاجتماعية، بمعنى التفاوت الاقتصادي والاجتماعي –لا على المستوى الداخلي في كل بلد فحسب، بل على المستوى العالمي أيضًا.
من جهة أخرى، تباينت المواقف من هذه الحرب بين مؤيد ومعارض. داخل صفوف اليسار لم يخلُ الأمر من تباين أيضًا. لكنَّ الثابت أنّ العالم يمر اليوم بلحظةٍ مفصلية ينفتح فيها على الاحتمالات كافة. في هذه المقابلة نستضيف المؤرخ الهندي والمؤلف والصحفي والأستاذ الجامعي والمفكر الماركسي فيجاي برَشاد لمعرفة وجهة نظره إزاء الأزمة الحالية. يعمل فيجاي حاليًا مديرًا لمعهد القارات الثلاث للبحوث الاجتماعية ويشغل منصب المحرر الرئيس في دار نشر ليفت وورد بوكس الهندية، وسبق له التدريس في جامعات مختلفة حول العالم وشغل منصب كرسي إدوارد سعيد في الجامعة الأمريكية في بيروت. على أساس موقفه الماركسي العالمثالثي، ينشط فيجاي في التأليفِ،تُرجمت أعماله إلى عدة لغات؛ وينشر المقالات في صحف متعددة؛ ويشارك في الندوات والمؤتمرات.
ندعكم بعد هذه التوطئة المقتضبة مع نص المقابلة.
ع: دعنا نبدأ هذه المقابلة من التاريخ، هل لك أن تضع القارئ في السياق التاريخي لأوكرانيا وروسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والتواريخ المفصلية في هذا السياق؟
ف: ما من شعبٍ على وجه الأرض يعيش حياةً اجتماعية وثقافية وحيدة اللون، فما يُغني حياتنا ويثريها هو اختلافنا وتنوعنا. لقد توزعت أوكرانيا، لفترة طويلة من تاريخها، بين إمبراطوريات مختلفة –البولندية والليتوانية والقيصرية. حين تشكّل الاتحاد السوفييتي، دار نقاش هام حول فكرة القومية والمواطنة. كل مَن عاشَ في الجمهورية السوفييتية كان مواطنًا سوفييتيًا، لذا لم تكن القومية (أو حتى بمعناها الضيق: الإثنية) تحدِّد المواطنة. بالإضافة إلى ذلك، كان من المقرر أن تدير كل قومية رئيسة شؤونها من خلال مجموعةٍ من الجمهوريات المتساوية أمام القانون، اتحدَت معًا في وقتٍ لاحق لتشكِّل اتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية. كانت أوكرانيا واحدة منها. داخل أوكرانيا، كان العالم الثقافي متنوعًا مع أغلبيةٍ سكانية أوكرانية وأقليةٍ تتحدَّثُ الروسية والهنجارية والمولدوفية والرومانية. كانت حقوق وتقاليد هؤلاء معترف بها ضمن الدساتير السوفييتية ومرعية من جانب النظام الأوكراني. لا ريب أنَّ النموذج قد تضمَّن عيوبًا، لكن بالعموم ظل النظام سليمًا، ولم يكن للإثنية القومية أيَّ تأثير يُذكَر. بيد أنَّ المشكلة، كما حدَّدها لينين في وقتٍ مبكر من عمر الجمهورية السوفييتية، تمثَّلَت في كيفية إدارة شوفينية روسيا العظمى. الحال أنَّ الجماعة السكانية الأكبر في نظامٍ ديمقراطي رسمي ستمارس تقاليدها وتجاربها الثقافية على الأقليات. يُحسَبُ للينين طرحه هذه المسألة في النقاش العام بوصفها مثارَ قلقٍ جدي. إلى جانب هذا، جادل لينين بوجوب أن يكون تقرير مصير القوميات مبدأً لكنّه ليس مبدأ مجردًا، فإذا استولت عصابة معادية للثورة والمجتمع على السلطة في برنامج مشروع قومي، أيقبل المرء عندئذِ حقها في تقرير المصير حين تُختَزَلُ «الذات» في عصابة من البلطجية الرأسماليين؟ كانت هذه النقاشات في أوائل سنوات الاتحاد السوفييتي ثرية ومهمة.
لكن مع انهيار الاتحاد السوفييتي في 1990-1991، واجهت عديدٌ من جمهورياته تحديًا خطيرًا. لقد تلاشت القومية السوفييتية. داخل روسيا، أحيا بوريس يلتسِن (الرئيس من 1991 إلى 1999) أشكالًا من القومية الروسية عمَّقها لاحقًا فلاديمير بوتين (يدعى حزبه روسيا الموحدة). بدأت عدة جمهوريات سوفييتية تخبَر ضغوطات الإثنية القومية وتوتراتها، حدث هذا في الجمهوريات الأوروبية والآسيوية. تزايدت حِدَّة تلك التوترات في الدول الشيوعية السابقة في أوربا الشرقية –مع تفكك يوغسلافيا بوصفه الحدث الأكثر درامية لأنّه جرى عبر التطهير العرقي الدموي وحرب الناتو (1991-1999)، وأيضًا مع تفكك تشيكوسلوفاكيا بطريقة أكثر سلمية. كانت الحرب في جورجيا (2008) نذيرًا لما حدث مؤخرًا في أوكرانيا.
لا يوجد سبب يَحوُل بين التاريخ الثقافي الأوكراني الغني وبين إيجادِ هذا التاريخ لشكلٍ سياسي معقول. فقد أوجدته دول أخرى (تشيكسلوفاكيا، كما أسلفت). أتت الولايات المتحدة لتصب الزيت على النار، فقد تطلعت إلى استخدام جيران روسيا كأدوات ضد موسكو. يضطلع توسع الناتو شرقًا بدورٍ في أوكرانيا، لكنَّ هذا الدور وحده لم يكفِ لأنَّ فرنسا وألمانيا لم تريدا لأوكرانيا الحصول على عضوية كاملة في الناتو. وإذْ لم يكن الناتو أداة كافية، فقد رتَّبت الولايات المتحدة انقلابًا ضد الحكومة الأوكرانية في 2014 (من الخطأ عَدُّ تلك الحكومة –بقيادة فيكتور يانكوفيتش من 2010 إلى 2014– حكومةً موالية لروسيا، فبعد فشل يانكوفيتش في الحصول على قرضٍ ضروري من روسيا استدار نحو الأوربيين). جلبت الولايات المتحدة إلى الحكم، بعد ترتيبها الإطاحة بيانكوفيتش، حكومة بيترو بوروشينكو التي تبنت أجندة معادية صراحةً للروس وقومية أوكرانية متطرفة. مضى الرئيس بوروشينكو (2014-2019) بهذه الأجندة تحت شعار «armiia, mova, vira» (جيش، لغة، إيمان) الذي صار أمرًا واقعًا مع إنهاء التنسيق العسكري مع روسيا (2014)، وسن تشريعاتٍ جعلت اللغة الأوكرانية «اللغة الرسمية الوحيدة في البلاد» وقيَّدت استخدام اللغة الروسية ولغات الأقليات الأخرى (2019)، وقطع الكنيسة الأوكرانية لعلاقاتها مع البطريرك كيريل في موسكو (2018). هذه الإجراءات، إلى جانب تمكين العناصر النازية الجديدة، مزَّقت النسيج المتعدد القوميات في البلد وتسببت بنزاعٍ مسلح خطير في منطقة الدونباس الواقعة شرق أوكرانيا، موطنُ أقلية إثنية معتبَرة تتحدث الروسية. طلبت هذه الأقلية الحماية من روسيا، بعد تهديد سياسة الدولة وميليشيات النازية الجديدة لها. بغية الحد من خطر التطهير العرقي ووقف الحرب في منطقة الدونباس، وافق جميع الأطراف على مجموعة من إجراءات خفض التصعيد، من بينها وقف إطلاق النار، تحت مسمى اتفاقيتي مينسك (2014-2015).
لقد نشبت المواجهة الحالية من هذا التاريخ وبتشجيعٍ وتحريضٍ من الولايات المتحدة.
ع: في خطابه إلى الشعب الروسي، استفاض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الحديث عن تاريخ أوكرانيا. ما من شك بأنَّ التاريخ جزء من الصورة الكلية، لكنَّه ليس الصورة كلها. برأيك، ما مدى صحة الحجة القائلة إنَّ الأزمة الحالية نتاج عدم التزام الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بما قدماه إلى روسيا من ضمانات وترتيبات أمنية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي؟ ثم ما طبيعة هذه الأزمة: أهي ما تحدث عنه بوتين؟ أو هي أزمة تراكمٍ رأسمالي، وبالتحديد أزمة البرجوازية الروسية والأوكرانية اللتين لم تجدا موطئ قدم في النظام العالمي، أو هي شيء آخر؟
ف: بعدما اتضح أنَّ جمهوريتي ألمانيا سوف تتوحدان في عام 1989، سعى الاتحاد السوفييتي إلى الحصول على ضمانٍ من الولايات المتحدة والناتو بأنَّهما –أي الناتو– لن تتجاوزا الحدود الشرقية لألمانيا الموحدة. كان ذاك اتفاقًا وديًا. لم توقّع أي معاهدة بهذا المعنى. لهذا السبب ثمَّة حالات إنكار لطبيعة الاتفاق ذاتها، مع أنَّ التسجيل يُبيّن أنَّ مثل تلك الالتزامات قد تمت. مع انهيار الاتحاد السوفييتي في 1991، سعت أوروبا الشرقية بأكملها وروسيا (الآن كجزء من كومنولث الدول المستقلة) إلى تحالفٍ جديد مع أوروبا. بطبيعة الحال، استشعرت الحكومات الجديدة –حتى وإن تكوَّنت من شيوعيين سابقين– ضرورة عقد اتفاقٍ مع الدول الأوروبية القوية. لهذا الاتفاق طريقان هما الاتحاد الأوروبي (لأجل العلاقات السياسية والاقتصادية) والناتو (لأجل العلاقات العسكرية). وبالفعل، صارت روسيا شريكًا للناتو من أجل السلام وانضمت إلى مجموعة السبعة الكبار حين كان يلتسِن في منصب الرئاسة. ولم تمنع روسيا، في عهد بوتين، سبعَ دولٍ من أوروبا الشرقية من الانضمام إلى الناتو في 2004. تتجاوز قضية الضمانات الأمنية مسألة توسع الناتو. كان كل شيءٍ في روسيا على ما يرام ما دامت تحت جناح الولايات المتحدة، لكنَّها إذْ بدأت تبرز كقوة مستقلة، ههنا تدخلت الولايات المتحدة لوضعها عند حدها.
على مدار العقد الماضي، حاولت أوروبا إقامة علاقات مستقلة مع روسيا والصين لتنويع اقتصادها المضطرب. تُعَدُّ الطاقة الروسية –عبر خطوطٍ تمر من كييف وخط نورد ستريم البحري– ضرورية لاحتياجات أوروبا من الطاقة وللصناعة الأوربية (بما فيها منظومتها الغذائية). أما مبادرة الحزام والطريق الصينية فمغرية للدول الأوربية، فقد اشتركت فيها 18 دولة أوروبية؛ صارت إيطاليا محطة بالغة الأهمية للمبادرة. ها هي أوروبا اليوم، الخاضعة كليًا في السابق لمجمع الدولار-وول ستريت-البنتاغون، تتجه –منطقيًا– إلى فلك التطورات الجديدة الجارية في آسيا. كان من أشكال الضغط الأمريكي ضد روسيا والصين ممارسة الأولى لهيمنتها على القارة والتأكد من عدم ولادة أي مشروعٍ أوروبي مستقل. فكل شيءٍ في الاتحاد الأوروبي على ما يرام شريطة ألَّا يضغط الاتحاد على مصالح الولايات المتحدة.
ينبع النزاع الحالي من هذه المخاوف الجيوسياسية أكثر من كونه انعكاسًا لأزمة الرأسمالية الروسية والأوكرانية. في الواقع، سوف تضر هذه الحرب بمصالحمها أكثر مما ستعززها.
ع: يقودنا السؤال السابق إلى سؤالٍ مفتاحي في أي تحليلٍ ملموس: أتبدو هذه الأزمة صراعًا بين قوى إمبريالية وأخرى مناهضة للإمبريالية؟ أو صراعًا بين إمبرياليات، أو دعنا نقول (تجنبًا لتمييع مفهوم الإمبريالية) صراعًا داخل المعسكر الرأسمالي على إعادة اقتسام مناطق النفوذ والموارد يعززه الأداء الاقتصادي السيئ عالميًا؟
ف: ليست الحرب في أوكرانيا حربًا إمبريالية، إذا استخدمنا مصطلح «الإمبريالية» بطريقةٍ لينينية. إنَّها حربٌ تدور رحاها –برأيي– لهذه الأهداف:
1. الدفاع عن الناطقين بالروسية في شرق أوكرانيا.
2. لمنع أوكرانيا من أنْ تصبح قاعدة غربية ينطلق منها العدوان على روسيا الذي لن يكون حربًا بل سيكون –كما قال بوتين– بمثابة إبادة.
3. لإقامة جسر بري بين الحدود الروسية والقرم التي فيها ميناء خالٍ من الجليد للبحرية الروسية، والتي كانت المياه تنفد منها بسبب حصارها من الجانب الأوكراني.
بالتالي، فهذه حربٌ إقليمية للدفاع عن المصالح الروسية وليست حربًا أشعلها نزاعٌ-رأسمالي بين حكومتين تمثّلان قسمين مختلفين من أقسام الاحتكار العالمي. أعتقد أنَّ الروس يزعمون بأنَّ هذه الحرب دفاعية لحماية مصالحهم المباشرة وليست تعدياً للاستيلاء على الموارد وما إلى ذلك. لا تقدِّم هذه النظرة فعليًا إجابة شافية عن سبب تدخل الروس في سورية في 2015. فذاك التدخل لم يكن لحماية حكومة الأسد في حد ذاتها، بل للدفاع عن المياه العسكرية الروسية في طرطوس. لا تملك البحرية الروسية سوى مينائين خاليين من الجليد –سيباستوبول (القرم) وطرطوس (سورية). لقد كان كلا التدخلين خارج أراضيها بدافع الدفاع عن هذين الميناءين. لهذا، أميل إلى قبول الرأي القائل بأنَّها «حرب دفاعية» بغية «الدفاع» عن المصالح الأمنية الروسية، وليست حربًا قد تفيد البرجوازية الروسية. لنتذكر أَّنَّ هذه البرجوازية غير ثابتة في مكان ولها مصالح في أوربا كلها، وواقع الحال أنَّ هذه الحرب قد أضرت بها.
لكن الأمر الأقل لفتًا للانتباه كان الخلاف على خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي والتوترات في أوروبا الشرقية. حين اندمجت دول أوربا الشرقية في الاتحاد الأوروبي، زحف العمال من الشرق إلى الغرب مع إزالة الحدود. لقد وفروا احتياطيات هائلة من العمالة وساعدوا المؤسسات الرأسمالية في الغرب على الازدهار. بعد الأزمة الائتمانية في 2007-2008، انقلبت دول أوروبا الغربية –لا سيما المملكة المتحدة– ضد هؤلاء العمال عوضًا عن الانقلاب ضد رأسماليي رعاة البقر خالقي الأزمة. فتنامت مشاعر معاداة المهاجرين ضد أبناء أوروبا الشرقية، مع صورة العامل من أوروبا الشرقية بوصفه مفتاح حالة البريكست. كان الأمر كما لو أنَّ سجل أوروبا البشع المعادي لأوروبا الشرقية يمكن محوه من خلال الدفاع عن حقوق الإنسان ضد روسيا في الشرق نفسه. يوجد هنا عقدة تتطلب المزيد من البيانات والتحليل، لكنّي أردتُ طرحها والتنويه بها لأجل مزيدٍ من الدراسة والبحث.
ع: يبدو من المواقف الدولية أنَّ الأزمة الحالية أزمة داخل أوروبا، وليست أزمة عالمية (بل جزء من الأزمة العالمية)، كما يدأب الإعلام الغربي على تصويرها، فالولايات المتحدة (الرابح الأكبر من كل هذا بحسب مايكل هدسون) تقف بعيدًا وقد تركت لأتباعها في أوروبا (على الأخص ألمانيا) أمر الصدام مع روسيا، بينما اتجهت هي رفقة بريطانيا وأستراليا إلى تحالف أوكوس (AUKUS) الموجه ضد الصين، مع هذا التحالف الأخير وإعادة التسليح في أوروبا واليابان يبدو أنَّ الأزمة العالمية تحتدم على أساس ثلاثة تكتلات (أوروبية – أنكلوساكسونية – شرقية). تاريخيًا، ليس هذا النمط من الأحداث نمطًا فريدًا، فهل يمكن استشراف ما ينتظر العالم في المستقبل القريب؟
ف: إنَّ الأمور هذه الأيام في غاية التوتر. لستُ واثقًا من وجود تكتلات في اللعبة، فما لدينا هنا ليس سوى الكثير من التعقيدات والتغيرات. منذ عام 1991، بذلت الولايات المتحدة قصارى جهدها لضمان عدم ظهور أي منافس عالمي. لذا، استحدثَت نموذج تجارة وتنمية يضرب جذوره في منظمة التجارة العالمية والمؤسسات القديمة، مثل صندوق النقد الدولي، الخاضعة لنظام الدولار-وول ستريت-ووزارة الخزانة الأمريكية. من الناحية الاقتصادية، دفعت الولايات المتحدة باتجاه عولمة رأس المال والإنتاج لاعتقادها بأنَّ نظام الملكية الفكرية الجديد، الموضوع في اتفاقية التريبس (TRIPS)، سيمنح شركاتها شبه الاحتكارية ميزةً تنافسية لفترة طويلة جدًا.خيضَت الحروب، من قبيل الحرب على العراق، لتأديب أي عاصٍ وإرسال رسالةٍ إلى الجميع مفادها أنَّ ما من لاعب رئيس في المدينة سوى الولايات المتحدة وأنَّه لا ينبغي لأيٍ كان أن يتجرأ على الدوران خارج فلكها. روسيا، في عهد يلتسِن (1991-1999)، كانت خاضعة كليًا للأجندة الأمريكية، بينما أبقت الصين في عهد جيانغ زي من (1993-2003) وهو جينتاو (2003-2013) رأسها منخفضًا، ولم تواجه القوة الأمريكية مباشرةً.
قبل عقدٍ من الآن، كشفت الشركات الصينية عن أنَّها كانت قادرة على مقارعة الشركات الغربية شبه الاحتكارية مباشرةً، لا سيما في المجالات الرئيسة –الاتصالات والسكك الحديدية العالية السرعة والطاقة النظيفة. كان هذا عندما بدأت الولايات المتحدة بممارسة قدرٍ كبير من الضغوط على الصين. بدأت الصين وروسيا عندئذ تتقاربان، واطمأنتا إلى أنَّ مقارباتهما للشؤون العالمية لن تكون على شاكلة مقاربة الولايات المتحدة. دلَّت مبادرة الحزام والطريق الصينية والتدخل الروسي في سورية (2015) على مقدم هذين البلدين بأسلوبين مختلفين. حاولت الولايات المتحدة، في عهد أوباما (2009-2017) وترَمب (2017-2021)، الرد عبر سياسة «المحور نحو شرق آسيا» والحرب التجارية على الصين. هذه التحركات من الولايات المتحدة، بما فيها الشراكة عبر المحيطين الهندي والهادي وأوكوس[1] (AUKUS)، عززت الروابط بين هذه القوى الآسيوية الكبيرة.
رضخت أوروبا للضغط الأمريكي، كما حصل مع بعض الدول الآسيوية (الهند واليابان). لكن في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، واصلت البلدان محاولة اتخاذ قرارات براجماتية بشأن الاقتراض من مبادرة الحزام والطريق أو صندوق النقد الدولي. لقد أتاح ظهور مبادرة الحزام والطريق أمام البلدان مساحةً لتطوير أجندتها الخاصة.
نحن في فترة انزياحاتٍ تكتونية كبيرة.
ع: ثمَّة طرف يحضر هذه الحرب عبر غيابه، أعني اليسار. على المقلب الآخر، يهيمن اليمين على المشهد. لزيادة الطين بلة، يطبق بعض اليسار المثل القائل «عدو عدوي صديقي» على حالة بوتين ناسين المخطط اللينيني «لأجل تقييم الحرب، أي حرب، واتخاذِ موقفٍ منها، عليك الإجابة عن سؤالين: لِمَ تُشن الحرب، وأيّ الطبقات تشنها وتقودها». في حين يقدّم نفسه بصفة محارب ضد النازية الجديدة في أوكرانيا وضد إمبراطورية الأكاذيب، فإنَّ بوتين نفسه داعم لحركات يمينية (وفاشية) في روسيا وخارجها. علاوة على هذا، فقد كان إلى وقتِ قريب يتغازل والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، يدلُّ على هذا حجم التبادل التجاري بينهما. لا شك بأنًّ بوتين لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يكون المهدي المنتظر عند اليسار مهما حمل خطابه ضد الغرب رطانة نقدية. يذكرنا هذا الاختطاف لخطاب اليسار إلى جانب وهن اليسار والتدهور الاقتصادي العالمي بأجواء ما قبل الحرب العالمية الثانية إلى حدٍ ما. كيف تفسر حالة اليسار المشوشة والمتخبطة عند هذا المنعطف؟
ف: يعيش اليسار حالة ضعف على الصعيد العالمي. لم يتسبب بإضعافنا هذا الموقف أو ذاك، بل الانهيار البنيوي لقوة الطبقة العاملة بفعل عولمة الإنتاج ورأس المال. من الصعب تأسيس نقابات قوية عندما تكون الشركات مجرد مقاول من الباطن لبعضها البعض لا مؤسسات عملاقة تتطلب مقادير ضخمة من رأس المال الثابت. إذا حاولت تأسيس نقابة على أساس شركة مقاولة صغيرة الحجم في سلسلة الإنتاج العالمية، فببساطة ستتجاهل الشركة شبه المحتكرة تلك الشركة وتشتري من غيرها. لقد أضعفَ هذا التراجع البنيوي اليسارَ لا محالة. لذا، يلجأ اليسار الضعيف إلى تحالفات ليست جيدة دائمًا، حتى على المدى القصير. هذه ضريبة ضعفنا ولا يجب علينا تجاهلها.
لا بد لنا من بناء قوتنا. لا يكفي أن نتخذ الموقف المثالي، أو نخطَّ الخط الأمثل، فهذه رفاهية دوائر صغيرة من المثقفين غير الخاضعين لمساءلة الحركات الجماهيرية التي تحاول بناء نفسها ومواجهة جبروت الإمبريالية على الصعيد العالمي ومواجهة رأسماليي بلادها. يجب أن يتعلم اليسار إجراء مناقشاته دون ضغائن واحتقان. ففي بعض الأحيان، نُصبِح أسوأ أعداءٍ لأنفسنا. لقد لمست هذا في الحرب السورية، ويتكرر الأمر نفسه اليوم في أوكرانيا.
لا ريب أنَّ روسيا بوتين غارقة في القومية وتستمد جذورها من قوة الرأسماليين شبه الاحتكاريين. هذه واقع الحال بالطبع. لكن لن يترتب على إضعاف روسيا سوى زيادة قدرة الولايات المتحدة على بسط هيمنتها على أوروبا والمضي بسياسةٍ اقتصادية إمبريالية تجعل من المستحيل على بلداننا وضع أجندتها الخاصة وتَئِدُ نضالات طبقتنا العاملة. لذا، نقف ههنا على ديالكتيك بين عدم الرغبة في أن تهيمن الولايات المتحدة وبين الرغبة في رؤية الطبقة العاملة الروسية ترسخ أقدامها في وجه الزمرة شبه الاحتكارية. ينطبق الشيء نفسه على الولايات المتحدة حيث يود المرء رؤية حركة الطبقة العاملة وحركة الأقليات تتغلب على العصابة الأوليجارشية.
ع: في ضوء ما سبق كله ما الموقف الواجب تبنيه حيال ما يحدث اليوم برأيك؟ خاصةً مع سيادة مقاربات ثنائية زائفة من قبيل الثنائية الغربية: الروس الهمج أصحاب الحنين إلى الماضي الآسيوي بحسب مقالة نشرتها وول ستريت في مواجهة الأوكران المدافعين عن الحرية والقيم الأوروبية، أو الثنائية الروسية: لقد دافعت إمبراطورية الأكاذيب في الماضي عن مناطق نفوذها، ونحن يحق لنا الدفاع عن مناطق نفوذنا، أو الثنائية الليبرالية: الديمقراطية في مواجهة السلطوية.
ف: تنبع مواقفنا من نضالاتنا ويجب أن تكون مبررة أمام طبقتنا. في بلدان مختلفة، يجب التفكير في هذا الأمر على أرضية الدفع بالصراع الطبقي إلى الأمام. والقضية الأساس هنا أن نصفي حساباتنا مع برجوازيتنا المرتبطة بعلاقات مختلفة مع الإمبريالية. يرجع جانب من الصعوبة داخل اليسار إلى افتراضه أنَّ الإمبريالية مجزأة، أي وجود إمبرياليات أخرى، صينية وروسية، بخلاف الإمبريالية الأمريكية الوحيدة. لا أعرف أيَّ تعريفٍ يستخدمه الأشخاص لوصف مشروعات الدولة الصينية والروسية بالإمبريالية. من جانبي، أرى هذه المشروعات دفاعية إلى حدٍ كبير. لا يوجد لأيّ منها مطامح عالمية ولا اقتصاد سياسي يعتمد على الغزو خارج الحدود. لهذا، إذا انطلق التحليل من بوابة الصراعات بين الإمبرياليات، فيجب علينا عندئذٍ العودة إلى الأساسيات والتساؤل عن كيفية فهمك لمفهوم الإمبريالية. أنا على استعداد للاعتراف بأنَّ الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا، على وجه التحديد، صراعٌ بين رأسماليات على شكل أوربا، بيد أنَّه ليس صراعًا بين إمبرياليات، فهذا –برأيي– وصفٌ مبالغٌ فيه.
أعتقد أنَّ المخاطر الرئيسة المحيقة بعالمنا تتمثل في الانقراض بسبب كارثة مناخية، والفناء بسبب حروبٍ تشن أغلبها الولايات المتحدة من خلال الناتو، وانحدار الحضارة من خلال تزايد عدم المساواة الاجتماعية والسمية الاجتماعية. آمل أن يقدر اليسار على التوحُّد حول هذه الموضوعات والعمل على بناء تنظيم الطبقة العاملة في مواجهة مشاريع البرجوازية. أيمكننا الالتفاف حول برنامجٍ مشترك للدفع بنضالاتنا قُدُمًا؟ هذا ما أعمل عليه من بوابة «خطة إنقاذ الكوكب» (يمكنك قراءتها من هنا بالعربية أو بالإنجليزية على موقع معهد القارات الثلاث) ومن بوابة تأسيس القمة العالمية للشعوب. نحن نكافح لبناء الإنسانية. أما الانقسام الحقيقي فهو: البربرية الرأسمالية في مواجهة الإنسانية الاشتراكية.
هوامش:
[*]: مترجم سوري وحاصل على الماجستير في المحاسبة، صدر له ترجمة «تولستوي وعصره» لفلاديمير لينين ويصدر له قريبًا «مدخل إلى رأس المال» لديفيد هارفي.
[1]: اتفاقية ثلاثية بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وقعتها الدول الثلاث في سبتمبر العام الماضي.
يمكنكم الاطلاع على المقابلة باللغة الإنجليزية من خلال الرابط.