تبرز سرديّة نسويّة هامة في المجموعة القصصيّة للكاتبة روعة سنبل، "صيّاد الألسنة"، الصادرة عن دائرة الثقافة بالشارقة والفائزة بجائزتها للإبداع العربي للعام 2016. فهذه القصص تجسّد إحدى السرديّات النسويّة والنسائيّة الجديدة في سوريّة التي ظهرت مطلع القرن الحالي والتي تتّسم بإعادة تدوير لثقل إرث اضطهاد المرأة، والبحث عن الخلاص، ثقل كان يطمس بعضاً من ذات الكاتبة، يرجرج خطابها أحياناً، ويلقي بظلاله على اللغة المشفّرة أحياناً أخرى، خوفاً من الرقيب المجتمعيّ، بالدرجة الأولى! كما تتّسم هذه السردية بتسوية العلاقة الإشكاليّة مع الذات والجسد، ومع الرجل، وبخطابها الصريح الواثق. لتنشأ كتابة حرّة بديلة للكتابة المتحرّرة.
يتضّح لدى روعة، وهي الصيدلانيّة، أنّ ما تفعله في أثناء تركيبها عناصر الأدوية لضمان فعاليّتها الناجعة، تفعله في صناعة قصصها وتركيب عناصر كيميائها السرديّ، بوعي معرفيّ وثقافيّ، وباقتدار فنّيّ لافت. فليست المصادفة، من دفعتها لاستفتاح مجموعتها بقصّة "حزن برائحة واخزة"، وختامها بقصّة "حين خرجتُ من الإطار"، بينهما عشر قصص، نظّمتها القاصّة في خيط متين كحبّات خرز مسبحة جميلة ثمينة. وتجدر الإشارة، إلى أنّ قصّتين قد تتراءيان للقارئ العجول أنّهما نافرتان بين الخرزات، هما: "حبّة شوندر بنصف لسان" و"صيّاد الألسنة"، غير أنّهما من صميم خطاب الكاتبة الأيديولوجيّ، كما سيتبيّن لاحقاً.
صاغت القاصّة سردها القصصي بتقنيّات حداثيّة متنوّعة: الرمزيّة، الفانتازيا، الحلم، الأسطورة، الحكاية الشعبيّة، القصّة القصيدة، التكثيف، والتصوير المتقن للمشاهد سينمائيّاً وتشكيليّاً. وعبر خيال مجنّح، وأسلوبيّة عذبة بعفويّتها وصدقها، رشاقة سردها، وتشويقه، وبلغة قصصيّة أنيقة مثقلة بالمعنى، شفيفة شعريّة، وشاعريّة أحياناً.
ترفل القصص بموضوعات جديدة، باللّا مألوف، هاجسها الأوحد هو استعادة المرأة الوحشيّة، تلك التي تحدّثت عنها الباحثة النسويّة والقاصّة كلاريسّا بنكولا في كتابها القيّم "نساء يركضن مع الذئاب". فالمرأة الوحشيّة هي الأنثى الأصليّة، أنثى ما قبل الحضارة الأبويّة، أو بتعبير سيمون دو بوفوار، الأنثى التي صيّرها المجتمع امرأة. بتلك الأنثى تنشغل روعة سنبل لاستعادتها، تزيل عنها تراب الوأد، وتكشط العفن المجتمعيّ عن مقدراتها البنّاءة الخلّاقة والمخلّصة.
تبطن أولى القصص "حزن برائحة واخزة"، تبريراً لظهور المرأة الوحشيّة لاحقاً، فالسبب يكمن في انتهاك الغريزة، وقتل الذات الأنثويّة. وفيها نلقى أمّاً لطفل وزوجة لرجل لا يكترث لها، تقيّدها شؤون العائلة وتهمّش كينونتها حدّ الموات. تقول المقدّمة: "منذ سنوات، تُنتهك أنوثتها بغلظة، تجتثّ بعض أمنياتها بقسوة، وتوأد كثير من ملامح إنسانيّتها بعنف بين الحين والآخر، تحتضر الأمنيات والملامح، ثمّ تتبخّر كلّها!" عبرها، تكثّف القاصّة محنة المرأة المزمنة، في عبارات فتّاكة: تُنتهك بغلظة، تُجتثّ بقسوة، تُوأد بعنف، تُحتضر، تَتبخّر! وبأفعال بصيغة المبني للمجهول تتّهم الجميع/المجتمع! امرأة يُضجرها استلابها حدّ القهر والمرض، فتلجأ لشتّى الحلول عبثاً، لتمعن في التطبّع مع أدوات استلابها، وذلك في إنهاك جسدها بأشغال البيت الشاقّة! ثمّ، كحلّ أخير، تلجأ إلى المطبخ تجلس إلى الطاولة معهنّ، أولاء المكوّرات المحتجبات المستكينات، "يشبهن بعضهنّ بعضاً، ويشبهنها". ترتشف قهوتها، تأخذ السكين، وبنصلها الحادّ تبدأ بحزّ جلودهن وتقشيرها، تعرّيهنّ، وبتلذّذ تخدش أجسادهنّ، إلى أن جرحت إصبعها، فأخذت تخضّبهنّ بدمها! وبنشوة وتشفّ تتأمّل "استغرابهنّ، ذعرهنّ، ضعفهنّ، استسلامهنّ". تهطل دموعها غزيرة، وطويلاً تبكي، وهي تقطعهنّ، هنّ حبّات البصل، لتجهيز وجبة الغداء! ففي حالة تعويض فرويديّة، وبتلّذّذ المعنّف المستلب مديداً، وقد صيّره العنف ماسوشيّاً/مازوخيّاً، تنتقم من البصلات عوض انتقامها من واقعها، تنتقم بدفع من غريزتها المكلومة الرافضة لما ليس طبيعيّا، كاعتياد الانتهاكات أو التطبّع مع العنف والاستلاب. وفي خاتمة القصّة تسجّل المرأة لزوجها المتجهّم، إذ لا كلام بينهما، مشتريات اليوم التالي على ورقة علقّتها على باب الثلّاجة! ومن ضمن المشتريات: بصل! يغلبها العجز والاستسلام والاستشفاء بانتقامها المرضيّ!
أمّا في قصّة "عند الحافّة" الحافلة بمشاهد سينمائيّة ولوحات تشكيليّة، تبرز أنثى مختلفة، معافاة توّاً من ماضيها، واعية لذاتها ومدركة لحقوقها، تختار رجلها بنفسها، يبادلها الحبّ في حنان. ندّان يمضيان، ويسيران طويلاً إلى آخر الدنيا، وعند حافّتها يجلسان، يديران ظهريهما للعالم، ويتحدثان طويلاً: "...بأمور مختلفة، خطيرة وممنوعة، حميميّة ودافئة". تقول الساردة بضمير المتكلّم "أنا"، تكرّره مزهوّة بامتلاكه: "هنا، تماماً عند حافّة الدنيا، أقف أنا، أنا التي تشبهني، كما لم أكن من قبل أبداً، حرّة من عقلي، ومن ماضيّ". هنا، ألغت ماضيها المضني، أفرغت عقلها من قوانين المجتمع المجحفة، فتسلم هي وقراراتها وخياراتها، وتضجّ روحها بالفرح. وعند الحافّة، تفتح ذراعيها للسماء والأفق والحبّ. وعنها سيقفزان معاً، هي وهو، إلى عالم أفضل، ثمّ: "وفقط عندما يشهق هو، وتشهق القهوة، سأدرك أنّني...فعلتها"! وهذا بالضبط ما ذكرته كلاريسّا بنكولا: "هناك باب بسيط ينتظر أن نمشي إليه. في الجانب الآخر قدمان جديدتان، اذهبي هناك، ازحفي إلى هناك إذا احتاج الأمر، كفّي عن الكلام والهواجس، فقط افعليها". بطلة القصّة المعافاة وقد باتت تشبه نفسها، ستفعلها! لأنّها عارفة، ترفض ما ليس طبيعيّاً، ما لا يلائم غريزتها، وأيضاً، لأنّها برعاية المرأة الوحشيّة/الأنثى الأصليّة. رعاية تستحقّها! سيتكرّر هذا الانعتاق برمزيّة في قصّة "انعتاق" وفيها بطلة القصّة طائرة ورقيّة ربطها صانعها إلى يده، بعد أن صنعها وزيّنها بما يلائم مزاجه وهواه وحده، وما إن أطلقها في الفضاء حتّى ابتعدت إلى الأعلى، من هناك، تراه لأوّل مرّة على طبيعته وحقيقته، وتتعرّف إلى ذاتها طليقة لأوّل مرّة، فلا تتردّد بقطعّ الخيط، لتنعتق وتحلّق سعيدة في سمائها، تاركة إيّاه في صدمة وخوف! بلى، كان عليه أن يربطها إلى يده لأنّه، في الواقع، هو من يخافها! بلى، المرأة هي المسؤولة الأولى عن خلاصها، فحرّيتها ذاتيّة الصنع! وكي لا تبقى المرأة الحرّة المبدعة منعزلة في برزخها، ولا تخسر كينونتها الأصليّة أو عائلتها، أو تندم أشدّ الندم، كما تقول القصّة الفنتازيّة "هنا وهناك"، فالحلّ يكمن في أن تبني المرأة عالمين متوازنين: الـ(هنا) خاصّتها وحدها، والـ(هناك) خاصّة عائلتها وسواها!
الأنثى قويّة بطبيعتها، ولّادة صانعة الحياة، لا يقهرها غير الموت الفعليّ، المتجسّد مثلاً في مرض السرطان، وحده سيعجز الجنيّة في القصّة الرمزيّة والفنتازيّة "الجنّيّة المتقاعدة". بعد تقاعدها، تضجر الجنّيّة، فتبحث عن عمل. تسعد برعاية الأطفال، تستبدل أسنانهم اللبنيّة بالدائمة، وتعلّق اللبنيّة أيقونات في بيتها. لكنّها تعجز عن إنقاذ نهود النساء من التشوّه والموت! فتنسحب من العمل حزينة، تفضّل العطالة على مشاركتها في تشويه رمز الحياة والجمال، لأنّها أنثى أصليّة! كما سيعُجِز الموتُ، موت الزوج، بطلةَ قصّة "فراشات غائبة"، عن تكرار تجربتها في الحمل والولادة رغم كلّ آلامها المبرحة، ورغم قسمها وإعلان توبتها عنها إثر ولادتها الأولى! وقد صوّرت القاصّة ببراعة لحظة الولادة، في مشهديّة سينمائيّة، مفعمة بالظرافة والطرافة وبالآلام الهائلة تكابدها المرأة متأرجحة بين الموت والحياة، كباقي الأمّهات، حتّى أمّهات الأنبياء، كما ألمحت القاصّة في تكثيف جميل، عبر نخلة تعبر حلم المرأة في غفوتها بين الطلقة والأخرى، تستقوى بالنخلة لا شعوريّاً، نخلة ولادة السيّدة العذراء!
في قصّة "خيال الظل" الأشبه بقصيدة نثريّة، تلفتنا الكاتبة بمعرفتها التامّة بما تخوض فيه، فإن كان المطبخ في القصّة الأولى هو ملاذ المرأة العاجزة، فإنّ غرفة النوم هي ملاذ المرأة القويّة، ما أمكنها وسط بيئتها القمعيّة. ظلّها وحده يشغل جدران الغرفة ويتمدّد عليها وقتما يشاء. فالقمع النفسيّ يفصم المعنَّفَ إلى شخصيتين: شخصيّة مقموعة وأخرى شخصيّة ظلّه. وتبعاً لخلفيّة صاحبه ومستوى وعيه، يكون الظلّ إيجابيّاً أو سلبيّاً. أمّا حين تقمع المرأة، ويستبدّ الواقع بكينونتها، فإنّ أجزاء كبيرة من الذات، وغرائز سلبيّة وإيجابيّة مكبوتة، ومشاعر تكمن في لا وعيها، يُدفع بها إلى ظلال النفس، إلى أن تسكن في عالم الظلّ، كحال بطلة القصّة، التي تكتب رسالة إلكترونيّة إلى أحدهم، لا نعرف ماهية علاقتها به بدقّة، ما نعرفه أنّهما تشاركا الحياة سابقاً، وأنّها مولعة به، وأنّه بعيد، وله زوجة وطفل. في هذه القصّة تبرع القاصّة بخلط رمزيّة الظلّ، الظلّ الأنثويّ، وظلّ المتخيّل الإبداعي، هنا، حيث للأجساد والمشاعر ظلالها. مثلما تعيش امرأة القصّة مع ظلال الغائبين لشدّة شوقها إليهم. إنّما أهملت الكاتبة تبرير غياب هؤلاء الكثر، وحرمانها رؤية غيّاب آخرين، وانقطاع الكهرباء المتكرّر! عن ظلّها كتبت بطلة القصّة، المثقّفة الشاعرة، لصديقها: "أتدري أنّني أغبط ظلّي؟ حرّ هو، لا تعيقه مسافة، ولا يحكمه قانون". فتصالحها مع ظلّها يصون لها توازنها وسط قسوة الواقع، وضمان لعالمها الخاص. في ظلّها ترى ظلال الغائبين، كما يخلّصها من حرجها في التعبير عن مشاعرها، فيكتب عوضاً عنها. لذلك تبقيه نظيفاً منسدلاً بلا تجاعيد ومعطّراً. ترتديه أحياناً، وأغلب الأحيان تطلقه إلى الخارج حيث الحياة والخبرات. ثم تخبئه كلّ ليلة في خزانتها، فهو خاصّتها وحدها، عالمها السرّيّ الرائع، يجب التكتّم عليه، في محيطها القمعيّ! تقول الباحثة بنكولا: "وعند النساء، على وجه خاصّ، يتضمّن الظلّ دائماً وأبداً الجوانب الرقيقة رائعة الجمال للكينونة، الجوانب التي تكون مُحرّمة من حضارتها أو لا تلقى إلّا النزر اليسير من المساندة والدعم". وأنّ هاته النساء يخبئن ظلالهنّ في الخزانة لصونها، فهي وحدها من يعطيهنّ: "الأذن بخلق حياة ذاتيّة الصنع."
لا يقتصر لجوء روعة سنبل إلى الحكاية الشعبيّة والأسطورة، المؤثّرين في تشكيل الوعي البشريّ، لاعتمادهما تقنيّة لكتابة حداثيّة فحسب، بل لغاية أخرى هامّة، فمن خلالهما تبثّ خطابها الأيديولوجي المبطّن. تفكّك الحكاية الشعبيّة، تدكّها ثمّ تعيد بناءها في حكايات بديلة، وكأنّما تحاول تصوّر أصول تلك الحكايات التي وصلت إلينا عبر أزمان طويلة. فمن لا يشكّ في أمانة الشفاهيّة؟ وفي أن ناقليها لم يرووها بلغتهم الخاصّة، وعقليّتهم الخاصّة، ومعتقداتهم وأعرافهم المجتمعيّة؟! ولربّما جميعنا يعرف مثلاً، تحوّل ليليت، مع حلول الحضارة البطريركيّة، من ربّة المهد وحارسة الأطفال ساحرة الجمال والصوت وباذخة الحنان في الأسطورة الأصل، إلى غولة قبيحة تروّع الأطفال وتأكلهم!
تثير روعة سنبل كغيرها من الكاتبات هذه القضيّة المسكوت عنها لأزمان، ففي القصّة الفنتازيّة "في حكاية أخرى" استبدال لحكاية "ليلى والذئب" الشهيرة، حيث تبدو المرأة، كما في الحكايات المتوارثة كلّها، "ساذجة كفريسة" بتعبير بنكولا! في هذه القصّة سنلقى المرأة الوحشيّة ذاتها، تتزيّن بإغواء، وترتدي ملابس مغرية، تلقي بوشاحها الأحمر على كتفيها، وتنطلق إلى أكثر الدروب طولاً! بحثاً عن الذئب الذي يستهويها، إلى أن تجده، فيقع في مصيدة إغوائها ويلحقها إلى بيت جدّتها المتوفّاة حديثاً، المكان الآمن لها. فلن تستعيد الحفيدات أصالتهنّ، بغير موت الجدّات، أولاء المتطبّعات بالذكوريّة! وهناك، وقد نالت المرأة مرامها برضىً بالغ، ولم يكد الذئب مستمتعاً يسترخي فوقها، حتّى قتلته رصاصة من بندقيّة رجل هرع لإنقاذ المرأة! وتبعاً لسياق هذه القصّة البديلة، فإنّ حضور الرجل مخلّصاً للمرأة، يختلف عنه في الحكايات المتوارثة، ويشير إلى أنّ السلاح بيد الرجل الصيّاد ثمّ المحارب، ورغبته في القتل، وفي أن يكون سيّداً على المرأة، أمور ما تزال قائمة، ويشير أيضاً إلى رغبة هذه المرأة في جرّ الرجال، دون غيرهم، إلى بيت الجدّة. ففور قتل الرجل للذئب، تتلبس المرأة كيد النساء وحنكتهنّ، تظهر رعبها المزيّف وامتنانها الكاذب، وتدفن رأسها في صدر الرجل وتبكي، ومن خلال دموعها تنظر في عينيه لتتأكّد: "لقد وقع!" ثمّ تخبرنا القاصّة أنّ ليلى ذات الرداء الأحمر لم يأكلها الذئب بل تعيش الآن سعيدة مع زوجها وأطفالها! لتختم قائلة: "ولأنّ الناس كلّهم يصدّقون حكايات الجدّات، لن يخطر يوماً لبال أحد أنّها هي من أغوت الذئب، نصبت له حبائلها، وجرّته لبيت جدّتها جرّاً". فالمرأة الأصليّة قديرة بفطرتها، لا تسمح بامتهانها إطلاقاً. كما أنّ المرأة مخلوقة طبيعيّة، فيها تكمن بذور الخير وبذور الشرّ.
في القصص، تصالح مع الذات الأنثوية، وبالتالي تصالح مع الرجل، فالرجل، بعد القصّة الأولى، ندّ للمرأة ومشارك لها في الانعتاق والتحرّر، هو الآخر يحتاجهما، فالاستبداد الذكوريّ يطال الجميع دونما استثناء، ويخلق مجتمعات مقموعة، خائفة، يلوذ أفرادها بالمقابر ليسجّلوا على الجدار، كما فعل أجدادهم، الكلمات المحظورة، التي لأجلها تُقصّ الألسنة، ألسنة أهالي القرية جميعهم، إنّما إلى حين! وذلك في القصّة الرمزيّة الفنتازيّة "صيّاد الألسنة"، الساحرة والمرعبة. تسردها أنثى ثوريّة تخلّص الأهالي وتستردّ لهم ألسنتهم المقطوعة/ حقّهم في التعبير. فالأنثى هي صانعة الحياة ضدّ الموت والموات! وهي، كما تجمع الأساطير، من دفعت بالرجل المهووس بالقتل، بممارسته الصيد ثمّ الحروب، دفعت به للاستقرار، لتنشأ الحضارة البشريّة باختراعاتها هي: الزراعة، الرسم واللغة، الكتابة، الموسيقا...! أسطورة بدء الحضارة تستعيدها مخيّلة الكاتبة في قصّة "وحيدان"، إحدى حكاياتها البديلة!
بفنّيّة ومواربة تعكس روعة سنبل، توضيح الباحثة بنكولا لمفهوم المرأة الوحشيّة: "لا يعني الانضمام إلى ركب الطبيعة الغريزيّة، أن نتحلّل من كلّ شيء، أن نتصرّف بجنون أو نفقد السيطرة، ولا يعني أن نفقد انتماءاتنا الاجتماعيّة الأساسيّة، أو نفقد جزءاً من إنسانيّتنا. إنّها تعني العكس تماماً، فالطبيعة الوحشيّة هي الدرع الواقي لنا". وترى أنّ المرأة الوحشيّة تحصر رعايتها في النساء الخلّاقات المبدعات في شتّى مجالات الفنون والفكر، فلا ترعى أبداً أولاء المتمثّلات للقيم الذكوريّة، كما تشي قصّة "حبّة شمندر بنصف لسان"، ففيها مرأتان نمطيّتان، فاقدتان للوعي المعرفيّ، للتفهّم والتعاطف، تسهمان مع البطريركية المنافقة في تهميش المرأة والاتجار بها عبر إشغالها بزينتها وعطورها مثلهما، وتتمثّلان قسوتها السلطويّة في احتقارها للضّعفاء والاستقواء عليهم، كما فعلتا بالرجل المعثّر ذي الرأس الأشبه بحبة شوندر، واللسان المتأتئ! وتختم روعة مجموعتها بالقصّة الفنتازيّة الموجعة "حين خرجْتُ من الإطار"، لإتمام خطابها الإيديولوجي غير الطوباويّ، فتقول بمواربة، من المحال أن تكون المرأة حرّة، بين جدران غرفة نومها، علّقت على أحدها صورة للزوج المتوفّي، رمزيّة لديمومة الاستبداد! سيخرج الزوج، سارد القصّة، من الصورة، ويدفع بأرملته، من دون أن تراه، للانتحار لفعلتها (المشينة) مع رجل أحبّته! وإذاً، لن تتحقّق الحريّة الفرديّة في مجتمع مقموع مكبوت، فإن لم يقتل المتمرّدة مدّعو الشرف، فقد يقتلها الرعب من الفضيحة والإحساس بالذنب، تبعاً للقصّة!
قصص روعة سنبل فارقة مراوغة، فظاهرها يلامس القارئ العاديّ ويمتعه، أمّا باطنها فإنّه يدهش القارئ المتخصّص، يقلقه، ويدعوه للمساهمة في التغيير!