[لبيبه صالح من مواليد مدينة طرطوس عام 1961، لها كتابات نقدية وصحفية في الصحف العربية والسورية، وقصص للأطفال، ومجموعة قصصية قيد الطبع بعنوان " وشم الذاكرة"].
[هذه القصة جزء من ملف مخصص للقصة السورية المعاصرة].
"وصلوا إلينا يا محمد" همست المرأة بصوت مخنوق، مخاطبة زوجها، بينما حاول الرجل الوقور أن يتماسك، ويستمدَّ الشجاعة من الذات ومن الموروث، تذكَّر بيت شعر راح يردده كصلاة، يقول فيه أوس بن حجر مخاطباً نفسه الملتاعة، بعد أن وقع ما كان يخشاه:
"أيتها النفس اجملي جذعا إن الذي تخشين قد وقع"
إذن، وصلوا، في اللحظة التي حلَّ فيها على المكان المنعزل ليل وعتمة ما بعدها نهار ولا ضوء.
عادت المرأة لتنعب بصوتها المخنوق: سيدخلون علينا بيتاً بيتاً.
ردَّ الرجل بحيطة وقدريَّة: فليكن ما يكون، مصيرنا كغيرنا من هؤلاء الناس.
ومطَّت المرأة صوتها بالدعاء: "يا ألله.." في اللحظة الذي بدأ فيها ضرب عنيف على الباب بأعقاب البنادق، وترافق ذلك بصراخ وتهديد باللغة العربية الفصحى: افتحوا أيُّها الكفرة.
فتح الرجل الباب بجسارة، وقال: تفضلوا.
لم يلقوا أي تحية، دفعه أحدهم إلى الداخل، وراح ينظر هو والآخرون الذين انتشروا في عمق البيت إلى السقف والجدران والنوافذ والفرش المكدَّسه مع الأغطية، كانت المرأة قد أغمي عليها، عبر فوقها رجل من المقتحمين الملتحين دون مبالاة، حتى أن زوجها الذي رآها أشبه بميتة لم يتمكَّن أن يُعبِّر لها عن تعاطفه، وربما تمنى لها ولنفسه الموت في تلك اللحظة.
صرخ به أحدهم: من أنتَ، ما اسمك؟
رد باقتضاب: محمد.. اسمي محمد.
- أأنتَ موظف؟.
لا أنا متقاعد.
- هل تعرف الصلاة؟
نعم أنا مسلم.
- أنت حيوان. صرخ الغريب، ما جعل الرجل يرتجف من وقع الإهانة، وهزَّ برأسه دون أن يوحي بالقبول أو بالاعتراض. عاد الغريب ليقول كنوع من التراجع: ما هذه اللحية التي تطلقها، هل هذه لحية مسلم؟ إنها لحية يهودي ملحد.
- قلت لي اسمك محمد، من أين أنتَ؟
أنا من الزبداني.
- ماشاء الله ما شاء الله! ما هذه الكتب؟
أنا كاتب. قال الرجل باعتداد، ثم تذكَّر زوجته المرمية على الأرض بلا حراك، واحمرت عيناه، لكنَّه عاد ليتماسك، قائلاً في سرِّه: لن أدع هؤلاء الذئاب يرون دموعي مهما فعلوا.
قال الغريب الملتحي: ألا يوجد مصحف في بيتك أيُّها الزنديق؟
ردَّ الرجل: إنني أحفظ كتاب الله في صدري.
قال الملتحي: أحسنت الإجابة يا محمد. لكن عليك أن تتخلَّص فوراً من هذه اللحية التي تذكرني بالخنازير الشيوعيين واليهود الروس.
عادت للرجل الوقور السكينة ولم يغادره التحدي، وقال في نفسه، لو أن هؤلاء أحرار لما وجدتُ حرجاً، ولما ترددت في أن أقول لهم: وأنا أيضاً شيوعي، منذ أكثر من خمسين عاماً.
كانوا قد أنهوا جولتهم في بيته، وتأهبوا للخروج إلى المنزل الآخر، وبينما هم يخرجون، سأله الغريب الذي قاد اقتحام منزله بعصبية: من يسكن هنا؟ وأدرك ماذا يعنون بالسؤال، أجاب: والله أنا لا أعرف أحداً من جيراني.
قال له رجل لم يكن قد تكلم من قبل: احلق هذه الذقن البشعة حالاً، وتزيَّا بزي الإسلام، وإياك أن تأتي بأي حركة أو إشارة، وسنعود إليك مرة أخرى.
أطبقوا الباب وهم يخرجون، وراحوا يضربون بأعقاب بنادقهم على باب الشقة المجاورة، ولما لم يفتح أحد أطلقوا نيران بنادقهم الرشاشة على القفل الذي لم يلبث أن استسلم لهم: وصرخ أصغرهم سناً: اخرجوا إلينا أيُّها الكفرة. ردَّ عليه ملتح آخر وكأنَّه يشمت به، ما من أحد في هذا البيت.
كان خروجهم فرصة لصاحب البيت لكي يلتفت بشغف إلى رفيقة عمره، التي استيقظت مذعورة عند سماع إطلاق النار، وإذ رأت زوجها لا يزال يتحرَّك في المنزل، عادت إلى الإغماء من جديد.
بلل الرجل وجه زوجته بالماء ثم ما لبثت أن فتحت عينيها بذعر، قال: لقد خرجوا.
وقالت كمسرنمة: لقد قتلونا جميعاً، ستأكلنا الكلاب، وما من أحد يدفننا.
بعد ثلاثة أيام تحقق المشهد أو الرؤيا التي تحدثت عنها المرأة. رأى الرجل، كما رأى باقي الأحياء الذين أبقوا عليهم مجموعة من الجثث المحروقة، تعبث بها الكلاب في ساحة المساكن التي أغلب سكانها من العمال والموظفين الفقراء، وبعض الأرامل والمطلقات..
بعد أن أنهوا التفتيش، وعزلوا من يريدون إعدامهم، عمن يريدون احتجازهم. كان بعض المتعاونين معهم، الذين عملوا لديهم كأدلاء على جيرانهم، هم أيضاً لم ينجوا من التنكيل والاحتقار. وكانت بعض النسوة من المتعاملات معهم ينتظرن بفارغ الصبر عمليات الاغتصاب الكاملة، وقد استمتعن استمتاعاً جزئياً بالعنف المنفلت الذي أبداه الغزاة باقتحام منازل هؤلاء السكان الآمنين الذين يتحدرون من أماكن شتى، ويفترض أن يُقرَّب بينهم التغرُّب وضيق الحال وأشياء كثيرة مشتركة. كان بينهم نبلاء يليق بهم صفة إنسان، هؤلاء جعلهم التحدّي يسمون إلى مرتبة الشهداء قبل أن يستشهدوا، ارتقى بعضهم إلى مرتبة الشهداء الحقيقيين، والآخرون نالوا بشرف صفة الشهداء الأحياء.
عند المساء جاءت الأوامر عبر مكبر الصوت، أن ينزل الجميع من منازلهم إلى الساحة، رافعين أيديهم فوق رؤوسهم، حين تجمعوا في الساحة الكبيرة بالمئات، وبعد أن كان الغزاة قد سئموا من القتل والحرق والصراخ.. وكانوا قد حرقوا عمال الفرن في ساعات الصباح! فرزوا النساء عن الرجال، وساقوهم جميعاً كقطيع هائم هلع، في اتجاهين متعاكسين. بدأت النساء تتهامس وتتململ، قالت امرأة لجارتها: رأيت بأم عيني رجلاً وزوجته يلقيان بنفسيهما من شرفة الطابق الرابع. وقالت امرأة أخرى: الأستاذ وزوجته المهندسة تصدوا لهم وقتلوا منهم، وقاتلوا حتى استشهدوا. صرخ أحد الملتحين بالنساء: اخرسن يا.... لكن من بين جموع النساء صرخت امرأة ببسالة: أمك العاهرة...
قال الملتحي: تقصدينني أنا؟
نعم أنتَ ومن معك..
ثم هجمت النساء، وكانت أول ثورة حقيقية لم تشهدها البشرية منذ عقود من الزمن. تفككت وحشية المعتدين، وسمع الرجال الذين استداروا إلى الخلف ما يجري، وراحوا ينظرون بإعجاب إلى اللبوات البشريات، وهنَّ يدافعن عن إنسانيتهن وإنسانية الرجال والأطفال التي تمَّ الاعتداء عليها دفعة واحدة، من أشرار يجمع بينهم الشرُّ والعدوان والتوهُّم. دبَّت روح المقاومة في الرجال، و سرت بينهم استفاقة حامية ألهبتها فيهم النساء الجسورات، لم يعد أحد من الأسرى المنتفضين يبالي بردود فعل هؤلاء الكائنات الزنيمة البشعة الشكل والمحتوى، سقط قناع القوة دفعة واحدة عن هؤلاء، وبدوا مذعورين مثل صبيان تلاحقهم لعنات الأمهات، ولم ينفعهم صراخهم الذي تحوُّل إلى توسل وبكاء جعلا الضحايا في حيرة وارتباك، وبدا أن المشهد على وشك أن ينقلب لصالح الضحايا.
إلا أن أوامرَ عاجلة جاءت من قادتهم، تطالبهم بالمزيد من التوحش، وتأمرهم باقتياد من تبقى إلى الأسر.
اقتيدت أمهات وأطفالهن، نساء ورجال كالأنعام إلى جحيم الأنفاق، بينما فر آخرون راسمين طريق النجاة الصعبة كمن يعبر أرضاً مهلكة.. في "يوم نزوح طويل، وسفر خروج جديد" يوم "كانت الأرض تبكي، والسماء والتراب، ينخرط الجميع في بكاء مر"*
وكان الرجل الوقور، الكاتب من الزبداني، مع زوجته من العابرين إلى النجاة ليكتب يوميات الحصار في عدرا العمالية.