في مجموعتها القصصية "متحف النساء"، يبرز وعي الكاتبة نور الموصلّي لأوليّة الفنّ، فللأيديولوجيا مكانتها لديها، إنّما تبقيها خلف الغيوم، وتحجبها بأجنحة التخييل العريضة، وتقنيّات الفنّ القصصيّ الحداثيّة. وصدرت هذه المجموعة القصصية، المتضمنة 23 قصة قصيرة، حديثاً عن دائرة الشارقة الثقافية، إثر فوزها بجائزتها وبالمركز الأوّل للعام (2022).
تختلف هواجس القصص وتتنوّع، مع انحياز نور الموصلّي للنسويّة، ففي قصص كثيرة، تدلي بدلوها الفنّيّ، للحديث في قضيّة المرأة، ظلمها، وتهميشها، وتبيين ظروفها القاسية اللّا إنسانيّة. وبموضوعيّة، تتكشّف هواجس النساء، أحلامهنّ، وسط مجتمع ذكوريّ بالغ القسوة، يستبدّ بهنّ ويتحكّم بمصائرهنّ، ومحاولات تمرّدهن، وتكتمهنّ على أجنحتهنّ التي بزغت ونمت خفية، للطيران إلى الحياة، وعن نزوعهنّ إلى تقطيع الخيطان التي تقيّدهنّ، وفشلهنّ ونكوصهنّ نشداناً للسلامة، وللبقاء على قيد الحياة مرّات، ولو عشن أنّها حياة الموات، أو أنّهنّ يعدن تابعات ويكرّسن الظلم الذي كابدنه بأنفسهنّ. ولحضور الدمى، والخيطان التي تحرّكها تكرار في قصص عديدة، تبرزه القاصّة في صيغ فنّيّة مختلفة، تصل حدّ الغرائبيّة أحياناً كثيرة.
هنا، لا مكان للبكاء والنحيب، فالمكان للصرخة، صرخة الرفض والثورة على المجتمع، وإن غُدر بالصرخة أو وئدت، صرخة عالية أو مكتومة محمولة بفنّيّة نابضة بهيّة تثورعلى أشكال القصّ التقليديّ. لتحتلّ الفنتازيا وسعاً يكاد يطال القصص بأكملها، الرمزيّة، القصّة-القصيدة أحياناً، التكثيف والإيجاز الباهرين، والنزعة للعودة إلى الطفولة لا لرومانسيّة أو هروب، إنّما للكشف عن الجذور التاريخيّة التي أودت مؤخّراً بالأغصان إلى العقم حيناً، واليباس الأنثويّ حيناً آخر.
أساليب فنّيّة حداثيّة اتخذتها نور لتحمّلها أفكاراً لطالما استهلكت منذ عقود مديدة، وفي شتّى الأصناف الأدبيّة والفنّيّة، محورها قضيّة المرأة. فمثلاً، نلقى مجدّداً مسألة سجن النساء خلف الأبواب الموصدة، في قصّة "متحف النساء"، لكنّه سجن مشغول بفنتازيا ورمزيّة تزركش رعبه الفادح، وتخفّف من حدّة شعور القارئ بالقهر والترويح عنه بإدهاشه وإمتاعه بجماليّة فنيّة ضاجّة. فالأب يمنع بناته من الخروج من البيت، فيحوّل المتمرّدة بينهنّ إلى دمية يضيفها إلى الدمى/ بناته السابقات، يعلّقهنّ إلى جدار غرفة خاصّة بهنّ. تقول الطفلة الساردة:" كنت سعيدة بتلك الدمى التي تعطي لبيتنا طقساً خرافيّاً كأفلام الكرتون. لكنّ أختي الكبيرة لم تكن تحبّ الدخول إلى غرفة النساء، وكلّ ما كان يشغلها هو الخروج من المنزل." ويحدث أن خرجت تلك الأخت والأب غائب عن البيت، لتحكي الساردة في الخاتمة:" تقول أمّي إنّها عادت سريعاً، لكنّني منذ ذلك اليوم لم أجد لها أثراً، ولم أعد أسمع صوتها، كلّ ما تغيّر في بيتنا حينها، أنّ نساء المتحف زدن واحدة، بوجه مقلوب وشعر مسدل على الظهر وأقدام لا تطأ الأرض."
إدهاش وإمتاع فنّيّان سيمسكان بتلابيب القارئ وانفعالاته المتضاربة حتى النهاية، إنّما يعجزانه عن اختصار القصص وإيجازها، بل في ذلك بتر للقصص وظلم كبير لها. إذ أن الإيجاز والتكثيف ينسّقان الصور تتالى في كلّ فقرة، وأحياناً تتالى حكايات في الحكاية الواحدة، حكايات عامرة بالمعنى والغرائبيّة، وفي كلّ عبارة، لغة حارّة أنيقة وآسرة باقتصادها بساطتها وشفافيّتها الشعريّة مرّات، فينساب السرد، بجمله القصيرة وعفويّته، وبانسجام الزمنين الحاضر والماضي، ينساب رشيقاً سلساً في درب يخلو من أيّة منحنيات أو منعطفات مربكة أو دخيلة مقحمة. وبعجالة آمنة يصعد بالقارئ ليسبح في فضاءات التخييل الغنيّة، المرعبة والطريفة حيناً، وفي دوّامة الأسئلة المقلقة المؤلمة، عبر ثلاث وعشرين قصّة أُدرجت في خمس وسبعين صفحة، فقط!
تتضمّن قصص "حريق في الذاكرة"، "خيال أوسع من سماء"، "أمشي على سطور"، مثلاً، حكايات أخرى حدثت في أزمان وظروف مختلفة، تدعم بها الكاتبة حكايتها الأصليّة وصولاً إلى الخاتمة/ الراهن. وفي قصص أخرى تعود الساردة إلى طفولتها وحكاياتها التي آلت بالشخصيّات الرئيسة إلى مصائر، لم تكن في الحسبان، موجعة قاهرة، أغلب الأحيان.
تتعدّد الشخصيّات في القصص وتتنوّع، شخصيّات واقعيّة، قد يكون بعضنا خبر تجاربها المفرحة أو المخيّبة والقاسية. وقلّما تغوص القاصّة في دواخلها، وتكشف لواعجها، بل هي تُبرز أغوارها عبر تصويرها الخارجيّ المتقن، لسلوكها وتصرّفاتها وأسئلتها، تمرّداً أو نكوصاً وانصياعاً. فثمّة تواصل مع الذات وثيق وواضح، والرغبة في التحرّر شديدة، إلّا أنّ الواقع المرعب والمهدّد لوجود الفرد/الأنثى بشكل خاص، يدفع بالشخصيّات المستلبة المتمرّدة إلى الخضوع. فإن تركت لنا القاصّة السؤال عن مصير الطفلة الساردة حين كبرها في قصّة" متحف النساء"، إلّا أنّها ترينا مآلات شخصيّات أخرى حاولت التمرّد، بيد أنّها سرعان ما لُجمت وقيّدت بخيطان أعادتها إلى الحظيرة! كما في قصّة "أياد خفيّة"، حيث في النهاية، وبعد سرد آسر للأحداث، يضطرّ الأب، وبموافقة باقي أفراد العائلة، لوضع ابنته في صندوق مغلق، وقد كفّوا عن مراعاتها وتعاطفهم معها وتصديقهم لها بأنّ ثمّة أياد خفيّة تدفع بها لتصرّفات غير مرغوبة، رغم براءتها بل هي حقّ لها بشكل ما، فالآن باتت صبيّة جاهزة للزواج! ويا لفرح العريس الذي التقى بعروس خبئت في صندوق فلم يمسسها أيّ خطأ أو خطيئة! إنّما حالة خنوعها لم تقتل فيها الحلم القديم، لتختم الساردة حكايتها بقولها: "اليوم، أجلس في صندوق مهمل على أحد رفوف بيت زوجي، أطالع دمى أولادي التي يحرّكونها كيفما شاؤوا، وأحلم بأياد خفيّة تحرّك خيوطي." كما نلقى انكسار شخصيّة أخرى، هي الطفلة المتمرّدة سابقاً، والصبيّة راهناً، تخضع لقوانين العائلة/المجتمع لعجزها عن تقطيع الخيطان التي تكبّلها، في القصّة- القصيدة الجميلة "خيوط"، والتي فيها أيضاً إعلان مبكر للاشمئزاز والنفور من تلك الخيطان، وقد رفضت الساردة في طفولتها العودة ثانية رفقة أمّها لمشاهدة مسرح العرائس. كما سيؤول أيضاً مصير امرأة أخرى حاولت تمرّداً ما، إلى أن تجرّ أذيال الخيبة معها إلى بيت زوجها، في القصّة الغرائبيّة المدهشة "سلالة ملعونة:" التي تنتهي بوجوب طرد الذكريات الحزينة، كي لا تعكّر صفو سعادتها الزوجيّة اليوم، وفرحها بقدوم وليدها الوشيك: "...أطوي له ثيابه وأنمّقها في خزانته، بقي عليّ أن أعدّ له غرفته الصغيرة الضيّقة بسقف واطئ." وفي ذلك تكريساً لما عاشته تحت السقف الواطئ في بيت العائلة، وقد آلمها تمرّدها عليه بشدّة. نلقى هذا الخضوع والتكريس للهيمنة الذكوريّة في القصص التي تحكي فيها نور الموصلّي عن معاناة الإناث في مجتمعهنّ الصلد والحادّ الذي لا نجاة لأيّ كان، نساء ورجالاً، من براثنه وتوحّشه، عدا سدنته وممثّليه، أمثال الشيخ في القصّة ذاتها، رجل الدين المستبدّ، سفير الله الأوحد على الأرض، مالك صكّ غفرانه وانتقامه! ففي القصص عامّة شجب وإدانة للظلم سواء كان مدنيّاً أم دينيّاً.
في حين تتبدّى الأنثى حرّة طليقة ومبدعة في قصص أخرى، فمثلاً في قصّة "لسان من ورق" تؤدّي صرخة البنت المضطهدة غير المسموعة إلى اختفاء صوتها. لكنّ الصوت سيظهر في مكان آخر؛ على الورق. لتقول الساردة في الخاتمة: "بعد تلك الصرخة اختفى صوتي كلّيّاً، فصرت أكتب." أمّا في قصّة "امرأة شفافة" فإنّ القاصّة تلمّح في جماليّة لافتة إلى الحدس الأنثويّ الراداريّ، وإلى استحالة النقاء والصدق في مجتمع منافق يفضّل ارتداء الأقنعة. كما نلقى امرأة حرّة ومدلّلة من الجميع، طفلة وشابّة وعاشقة، في القصّة-القصيدة، بالغة الطرافة والعذوبة: "أمشي على سطور". وفي قصّة "رآني أطير" الفنتازيّة الجميلة، ستدفع الأمّ ضريبة تحرّر ابنتها، فما إن رأى الأب ابنته تطير وقد نبت لها جناحان حتّى سارع إلى تطليق أمّها.
تبرز في القصص الأمّ المتفهّمة، المؤازرة لابنتها وحاميتها، سواء كانت امرأة أو قطّة مثلاً، كما في قصص "مختبئة في صندوق"، "متحف النساء"، "أياد خفيّة"، "رآني أطير"، من دون أن توضّح القاصّة خلفيّة أولاء الأمّهات، المعرفيّة أو العلميّة، ليبدون على هذا التحرّر من الثقافة البطريركيّة، في محبّتهنّ للبنات. لأخمّن أنّهنّ من بين النساء ذوات النزعة التحرّريّة بالفطرة، ومتواجدات حولنا في الواقع، وإن قلّ عددهنّ. في حين يظهر الأب مستبدّاً قاسياً أغلب الأوقات، ومتفهّماً إنّما إلى حين، كما في قصّة "أيادٍ خفيّة"، وحيناً آخر حالماً راقياً ومتمرّداً في قصّة "أمشي على سطور"، و"خيال أوسع من سماء" ففي هذه الأخيرة تتالى الحكايات، في بيت يحبّ القصص ويدبّج الحكايات، تحكي الأمّ إحداها، وأخرى تحكيها الأخت، وللأب حكايته هو الآخر، حكايته التي انتهت في عودته إلى الحقلة حيث سينام ليلة، لاستعادة دفتر مذكّراته في الصباح، الدفتر الذي دوّن فيه قصص الناس التي قرأها في حياته، ومن يومها، تقول الساردة: "وها أنا ذا، كلّ يوم أذهب إلى تلك الحقلة، أقف على حفرته وأنتظر أن يصحو."
في قصص أخرى، تستمرّ الغرائبيّة وعوالمها الفنتازيا الجاذبة، فمثلاً في قصّة "نهم" عائلة فيها الأخ الأكبر نهم جشع يأكل الأخضر واليابس بالمعنى اللا مجازي، حتّى أنّه مجازيّاً ولشدّة طمعه كاد يأكل قضبان السجن فأطلقوا سراحه، ولم يوفّر التهام أمّه انتقاماً منها لتقسيمها إرث العائلة على أبنائها وبناتها بالتساوي، وقد كان يطمح للاستئثار به كونه الأخ الأكبر! وثمّة عقوبة أخرى ستطال العائلة كلّها، الأولاد والأم، وحتّى الأب في النهاية، الذين عانوا من التفكّك الأسرويّ، بسبب غياب الأب وزواجه من امرأة أخرى، وذلك في القصّة المؤثرة "قصاص".
وللفنّ والكتابة الأدبيّة حصّتهما بين القصص، أوردتها القاصّة في عوالم فنتازيّة غرائبيّة، وتخييل بديع. مثل قصّة "اليوم الثامن في الأسبوع" هذا اليوم الذي لا يعرفه أو يعيشه سوى الفنّان. وقصّة "أنا الراوي"، وفيها يقود السرد الأخّاذ الطريف راوٍ، فيحكي عن معاناته والغبن الواقع عليه من قبل المؤلّف الذي يستأثر بأضواء الشهرة، غير آبه بالدور الأساسيّ للرواي! لربّما تلمّح القاصّة هنا إلى وجوب فصل الراوي/السارد عن المؤلّف. وفي قصّة طريفة أخرى هي "صفحات في الأفق" تبطن نور القول بأنّ الرسم والشعر لا تتسع لهما الدفاتر والجدران، إنّما يحتاجان لآفاق أوسع في الهواء وفي الفضاء، وكذلك هو شأن الحبّ. وفي القصّة العذبة بفانتزيتها "دعوة" تلميح إلى أنّ في الشعر يكمن نقاء الكون وبهجته. وفي قصة "قامات طويلة" الساخرة، تحكي عن التفاخر الفارغ واستمراء الاستعباد، في بلاد تسامح أفرادها طوال القامة في استضافة شعب آخر قامات أفراده بالغة القصر، وقد استمرأوا قضاء وقتهم مرحين في مراقبة ضيوفهم والاستهزاء من قصر قاماتهم، غافلين عن كدح هؤلاء البنّاء، بينما حياتهم تمضي في روتينها ورتابتها، إلى أن استعمر أولئك الضيوف الغرباء أرضهم واستوطنوها. فهبّ الشعب ثائراً رافضاً للذلّ وإهانة قاماتهم الطويلة من قبل من لا يطالون كعابهم، وسارعوا إلى الهجرة بحثاً عن مقرّ آخر، فيه يستسيغون تسلّط أصحابه عليهم، ويخضعون له بطيب خاطر!
في خاتمة القصص "طاولة الموتى" الطريفة المخيفة، ثمّة واقع مستبدّ، يتلصّص ويراقب، ويحاسب فينتقم ويثأر من الكاتبة/الساردة ما إن يجد أحد أفراده ما يتشابه وشخصيّته أو تجارب خاضها، إلى الدرجة التي تدفع بالكاتبة للهرب، وتوقّفها عن المساس بحياة الناس في قصصها. فتلجأ للكتابة عن الجمادات والأشياء من حولها، لكنّ الرعب وقد تملّكها فيما يبدو، جعلها ترى الباب مثلاً أو المرآة يحاولان النيل منها، فلا يبقى أمامها غير اللجوء إلى عوالم الموتى، فهؤلاء آمنون صامتون، فلا هم يراقبون أو يهدّدون وينتقمون، في حال تشابهت حكاياتهم مع قصص الكاتبة. فشرعت الكاتبة تكتب عن عوالمهم، غير أنّها كما تقول: "...منذ أن جلست إلى طاولة الموتى، أحاول أن أرفع رأسي وأنهض عن هذا الكرسيّ، فيرتطم برخام لا أعلم مصدره." وفي ذلك ترميزاً لمقولة القاصّة المبطّنة بأنّ الناس وحيواتهم هم النبع الذي يحيي الكتابة الأدبيّة، ومن دونهم تموت!
تواظب الكاتبة في اعتمادها ضمير المتكلّم المفرد/أنا سارداً، على مدار القصص، سواء كان السارد أنثى أم ذكراً، ومن المعلوم، مقدرة هذا الضمير على تأكيد المصداقيّة وخلق الانفعالات المؤثّرة بالقارئ وجذب اهتمامه على الدوام، إنّما ثمّة ما يجانب ذلك ايضاً، ففي هذه المواظبة تكمن شجاعةٌ وتحدٍّ وسخريةٌ لمواجهة قمع الاستبداد وظلمه، في مجتمع خبرته الكاتبة جيّداً! واللافت أيضاً، أنّه رغم تلك المعاناة القاسية القاتلة، فإنّ مشاعر الكراهية والضغينة أو الانتقام تنتفي تماماً. ففي السطور وخلفها ثمّة إدراك وتفهّم لطبيعة المجتمع، وتعرية الكاتبة له وتشريحه، شبيه بتشريح طبيب يجتثّ مكامن العلل بمبضعه الموجع، لإنقاذ حياة مرضاه وصونها معافاة سليمة. لتذكّر قصص نور الموصلّي بمقولة رولان بارت: "ما يرفع من شأن الصورة هو الحبّ، الحبّ المفرط."
يبقى التأكيد على أنّ أيّة كتابة توضيحيّة لقصص "متحف النساء" لن تعوّض عن قراءتها، والاستمتاع باستكشاف جماليّة الفنّ وعذوبته!