(دار الشنفرى للنشر، تونس، 2022).
[الدكتور ماجد الأميري باحث وكاتب أكاديمي عراقي حاصل على شهادة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا الثقافية، نشر العديد من الأبحاث في المجلات العراقية والعربية وصدر له عدد من الكتب منها: المقدس والمسرح في العراق القديم- نصوص درامية من الألفين الثاني والثالث قبل الميلاد، دراسة وترجمة وتعليق، دار ديار، تونس، ٢٠١٩، تمثلات الحرب في النقوش والنصوص السومرية، دراسة وترجمات، دار الشنفرى، تونس، ٢٠١٢، ومن أحدث كتبه: المتخيل الرافدي الهارب من التاريخ، دراسة ونصوص معرّبة عن الأصول المسمارية، دار الشنفرى للنشر، تونس، ٢٠٢٢].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة هذا الكتاب وما هي منابعه وروافده ومراحل تطوره؟
ماجد الأميري (م. أ.): في أفق البحث عن صورة المسرح في مدينة أوروك / الوركاء التاريخيّة، من خلال سلسلة نصوص كَلكَامش بنسخها السومريّة، وهي النّصوص التأسيسيّة التي انطلقت منها النسخ البابليّة والأكاديّة اللاحقة، انبرى سؤال الحياة من الموت ومعنى الوجود من العدم في إطار المتخيّل الذي تتشكّل منه التجربة الكَلكَامشيّة في بنية دراميّة متّسقة. فثمّة وجهان متراشحان يمكن من خلالهما التفكير في مفهوم الذات / الذات الثانية الذي أبدع صورته الكاتب البابلي سين ليقي ــ أونينّي، أو ماتسميّه الأدبيات الفلسفية والأنثروبولوجيّة بــ: الأنا / الآخر. وكلاهما يعكسان معنى الند، النظير، الشبيه، الصنو، الكفؤ، المماثل، العديل… إلخ، ويصبّان في فكرة "التواصل" ونقيضها "التفاصل" على الصعيد الإنساني بوصفهما فعلين يقعان بين ذات وذات ثانية. ولمّا كان الموت فرضيّة أوّلانيّة اختبرها الوعي الماورائي الكَلكَامشي قبل غيره وتمثّلها على المستوى الشعوري بفقد أنكيدو، فقد اكتشف الشعور بخواء المعنى: شعور بفراغ العالم من معناه والفكر من دلالته، أي علمه بتناهيه وإدراكه لوجوده المحدود. فكان البحث في المنابع الفلسفيّة والفكرية والنفسية والإنثروبولوجيّة لمفهوم الذات والذات الثانية والكيفيّة التي أبدعها المؤلف في حضور الذات الثانية / تواصلها / تطابقها، وبالتالي تفاصيلها وتعدّمها. ورفض كَلكَامش للتفاصيل الممتمثّل بالموت ورحلته نحو اللاتناهي حاملاً لماذائيّة الموت للالتحام باللامتناهي.
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسة التي يتضمنها الكتاب؟
(م. أ.): من زاوية حمل لماذائيّة الموت المشار إليها آنفاً، فإنّ معاناة وعي تجربة الصمت / الموت بوصفه حدّاً متناهياً، تمثّل بالنسبة للبطل المأساوي ذروة الفعالية العقليّة ــ اللاعقليّة في بحثها عن معنى الوجود. ولمّا كان الإنسان هو الكائن الواعي القادر على قول معاناته والتعبير عنها ونقلها من الأنا ــ إلى ــ الآخر، فإنّ لهذا القول ــ الحامل التعبيري ــ المحصور بين المعاناة / التعبير / المُعبّر إليه، باعثاً تعيد على أساسه الذات الواقعة في المعاناة تشكيل الموضوع الذي تعاني منه لصالحها لا العكس. وهنا يشدّد الكاتب البابلي سين ليقي، مؤلّف النّص على أنّ ثيمة الحب تعني المصالحة مع الذات، وعيها، وبالتالي حبّها في الآخر وليست حب الآخر وجوباً، كما تذهب إلى ذلك القراءات الغربيّة الشاذّة لأنّ المصالحة في إحالتها الجذرية تنطوي على إلغاء الخصام مع آخر، والخصام هو لبُّ العنف وجوهره المؤدّي إلى الإغتراب الإنساني .ومن ثمّة فإنّه يؤسّس مشروع درامته بطريقة متراكبة عن طريق نفي الاغتراب، إرجاعه إلى ذاته الأولى او ردّه إلى "وطن"، وذلك ماحاول سين ليقي فعله في نصّه عبر تمثُّل (المؤلف) لــ(شخصيّة) كَلكَامش الإنسان الإلهي ــ الغريب ــ المغترب ــ المدرك لعدمية الأنا ومشكلة الموت وفكرة الحد والتناهي، وهو تمثُّل حامل التاريخ الذي أدرك في صميم وعيه أن أعظم العبقريات الإنسانيّة مهما حقّقت من إبداعات سوف تمّحي من التاريخ بعد عشرة آلاف سنة، كثُرت أم قلّت. ومن هذا المستوى الإدراكي العميق عاش صراعاً مأساويّاً حادّاً محصوراً بين محدوديّة التحقيق والتجسيد (واقع ــ الإله المتأنسن) ولا محدودية الإمكان والرؤيا والنفاذ (ميتا واقع ــ الإنسان المتألّه)، والنتيجة التشاؤميّة التي يتأدّى إليها الشعور من خلال وعيه لقصور المحاولة أو فشلها ــ محاولة التنافذ بين الرؤيتين ! بمعنى آخر: وعي الوعي لوعيه حين يكون الطريق مسدوداً أمامه، ومواجهة الوجود بما هو كذلك ومعنى هذا الوجود بكل عرائه. لذا يكون البحث عن الشبيه، النظير، المماثل نسبياً حلّاً نسبيّاً وهذا يفسّر لنا عمق إصرار كَلكَامش في البحث عن "صديقه" حتّى داخل الأحلام بصفته "هو" كـ "آخر" ، مثيله ، وذاته المتمّة "أنكيدو" الذي سوف يكون قدره ومصيره وعلّة انتباهه لأناه.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
(م. أ.): جميع الكتب التي أنجزتها تقف متجاورة، متراصّة، ومتراشحة تروم الكشف عن الحقائق المحتجبة وراء "القوّة" التي رسّختها "الإقليميّة الغربيّة" على حدّ تعبير جورج بلاندييه، وخصوصاً الحقائق الأدبيّة والدراميّة بما تنطوي عليه من نصوص أنموذجيّة، تأسيسيّة وقعت تحت طائلة عنف التصنيف والتسمية والتأويل.
(ج): ما التحديات التي جابهتك أثناء الكتابة والبحث؟
(م. أ.): بخصوص التحدّيات التي جابهتني أثناء الكتابة يمكن القول إنّ الصراع المأساوي الشديد الذي تعاني منه روح الكاتب، الإنسان المبدع ــ المحصورة بين حجري الرحى : لامحدودية الرؤيا والإمكان، ومحدودية التعبير والتحقيق، هو الصراع الدرامي الحاد بين لا محدودية الرؤيا والنفاذ، ومحدودية التحقّق والتجسيد . وبرغم أنّه يمثّل مصادرة للإبداع إلّا أنّه يدفع الكاتب إلى تعميق اغترابه أو الإحتجاب وراء الصفات والألغاز والاستعارات والتمائم المضللّة، ومع ذلك ـ وفوق ذلك يظل إنتاجه "هو" الذي كانه قبل أن يتحوّل إلى "آخر" فــ "آخر" آخر وهلمّجرّا . في مقابل هذا الصراع أو بمحاذاته ثمّة صراع آخر يتربّص بالكاتب ومعاناة الكتابة والبحث والتعبير عن لحظة عبور تجربة ــ المعاناة ــ لتصبح الكتابة مواجهة حتميّة يقف فيها الكاتب أمام عمله، كآخر بعد عبور الفسحة الفاصلة بين معاناة التجربة ومخاضاتها، وتحوّلها إلى منجزمتحقّق . غير أنّ هذا الصراع المتناظر ــ الشرس ليس سوى حوارية عذاب تفترض التجاوز ، تجاوز المعاناة أو تحويلها إلى مسألة خلق جديد. وهي إذن وقفة ــ وقفات احتراق الأنا الصادرة الكاتب البابلي سين ليقي وتذوّتها في قلب اشتعالات الرؤى المتأججة بيننا، رؤى الفكر والوعي وتوهجها اللاهب في ظلمات البحث ورحلته الشاقّة داخل نورانيّة الشمس الكامنة في الداخل.
(ج): هل هناك نصوص ذات تأثير خاص أو قرأتها أثناء تأليف الكتاب؟
(م. أ.): بلا شك هنالك نصوص قرأتها وحفّزتني على مواصلة البحث مثلما دفعتني للخوض بعيداً في معاناتها لتمثّلها وإعادة تشكيلها برؤيا متمايزة تزعمها. إنّها معاناة حقيقيّة أشبه برؤيا صوفيّة عميقة وليست تزجية للفراغ، معاناة السؤال اللماذائي المرهون بالمعنى لقارئ يتلمّس المعاناة ويعكسها بوصفها معاناة الإنتباه إلى ثقب الوجود العدمي الذي يتّسع كلّما ولج فيه البشر ليصبح الثوب الذي يسربلنا جميعاً. بعض هذه النّصوص عربية وبعضها الآخر غربي وكلّها تعبّر عن تجربة التساؤل عن معنى الوجود التي يطرحها الفيلسوف سين ليقي لمشكلة الموت والانتباه إلى الوجود.
(ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري\الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
(م. أ.): يتنزّل هذا الكتاب أولاً في حقل البحث الفكري والفلسفي والأنثروبولوجي لا سيّما وأن المعالجة الفذّة التي أبدعها الكاهن الفيلسوف سين ليقي ــ أونينّي تمزج التاريخ بالأسطورة والواقع بالمُتخيّل في تركيبة أدبيّة دراميّة باحثة عن المعنى. والمعنى المقصود كما أراه وأفهمه، هو البحث عن الشرط الماورائي ــ الميتافيزيقي للوجود الإنساني بوصفه كائناً واعياً لذاته، وللظاهرات المحيطة به. بالوعي أصبح الإنسان ذاتاً بشكل أوّلاني، بعد أن كان قناعاً، فدور (شخص) ، فاسم وفرد، ومنه إلى كائن ذي قيمة ميتافيزيقية وأخلاقية، ومن ضمير أخلاقي إلى كائن مقدّس، ومنه إلى شكل أساسي من أشكال الفكر والعمل. وقد حاولت التدليل على هذا الرائز من خلال قراءة نص سين ليقي الذي أعتبره لحظة الوعي التراجيدي الأولى لمشكلة الموت: عدميّة الذات الثانية وتعدّم الأنا، من جهة، وصراع القدر بتتبّع الخط البياني للبرهان عليه عبر الرحلة الماورائيّة، من جهة ثانية. أمّا عن البناء الكلي للمقاربة التي يطرحها الكتاب، فيمكن التركيز على مشكلة الاغتراب وتجربة المعاناة التي عاشها الكاتب البابلي سين ليقي كنقطة محوريّة تعكس مشروع الانتقال من معاناة ــ المشكلة ــ إلى تفسيرها ــ إعادة إنتاجها باللغة وعبرها. أي الانتقال من المعنى كمعاناة لا عقلانية لتجربة شعوريّة حادّة ومعينة عاشها المبدع ــ إلى التفسير العقلاني لتلك المعاناة عبر متخيّل درامي تصنعه اللغة وتقوله.
(ج): من هو الجمهور المفترض للكتاب ومن القراء الذين تأمل أن يصل إليهم؟
(م. أ.): هذا الكتاب ليس كتاباً للتسلية أو لتزجية الفراغ بالنظر إلى معاناة اللماذا التي يحملها بين جنباته وفي ثناياه، وهي معاناة مرهونة بالمعنى لقارئ يتلمّس المعاناة ويعكسها. لأنّ القارىء الذي لا يعاين التجربة ويطالعها معاينة الخبير، أولا يقدر أن يعانيها ويجهل رؤيتها أكثر من قراءتها ومطالعتها لن يصل إلى نشوة التوّحد مع اللامتناهي والانعتاق من أسار المتناهي المحدود بحد. والقارىء المقصود هو الذي عَبَرَ ــ يَعْبرتجربة التساؤل عن معنى وجوده التي هي معاناة وعي الكاهن ــ الفيلسوف سين ليقي قبل أن تتحوّل إلى معاناة الوعي الكَلكَامشي لمشكلة الموت ــ العدم ــ وهو القارئ المستهدف، على غرار ما يهبه المعلّم ــ النموذج من تجربة معاناته إلى المريد ــ المُكرّس الشغوف في طقوس العبور.
مقتطف من الرواية: في مدار الرؤى
يصهر نصّ "يرى كلّ شيء" المعروف بملحمة كَلكَامش، مع تعليق التحفّظ على اسم ملحمة، بُعد القوّة المأساويّة والارتحال العجائبي بطريقة فذّة، وينتج عن هذه الصهارة ابتكاراً أصيلاً لمجموعة كبيرة ومبكرة من الحكايات الخاصّة بكَلكَامش. إنّه عمل مغامر وتأمّل عميق في أحد أهم وأعقد قضايا وجود الإنسان منذ الأزل، عمل يستكشف عديد المسائل ويوفّر للقارىء رؤيّة "فلسفيّة" رافديّة لمناقشة المآزق المحدقة بالوجود والخيارات البشريّة المطروحة على ضآلتها. ويُستشفُ منه صراع الذات لحظة تطابقها مع صنوها، أو ضميرها، أو ذاتها الثانيّة، وانتباهها للفجوة الفاصلة بينها وبين العالم، الوجود، كلّ الوجود العاري من جلّ محمولاته التاريخيّة والمعتقديّة، وسقوطها في الصمت أو تعلّقها بين قوسين فيهما سؤال صادم : مامعنى أن نكون؟ ولماذا كان علينا أن نكون؟ ولمَ يتوجّب علينا الرحيل جبراً في لحظة ما؟!
لكنّ النّص، بكثافة لغته وتراكب أحداثه، حين يرتحل في هذه اللماذائيّات المُعلَّقة يوسِّعُ صور الذات في فرادتها وفرديّتها ومعاناتها الحادّة وهي تجرّب الفقد وتعيش ألم الخسران المرير، حتميّة الموت جبره وجبروته، فتجمع حبكته الدراميّة خيوطها المتناثرة لتشكّل هويّة المؤلّف / البطل / ذاته الثانيّة، وهي تتقاطع في شخصيّة كَلكَامش المُتعدِّد: فتى / ملك / بطل / رجل / إله ــ إنسان.
كَلكَامش "الغريب" عن نفسه؛ الغريب الذي يجب أن يتعلّم كيف ينفي غربته، يعيش، يجد طرقاً للتعبير عن طاقته الهائلة، بوساطة استقدام وانصراف صنوه وشبيهه أنكيدو، يجب أن يتعلَّم كيف يلامس الواقع ويتصرّف في حدود النواميس التي يفرضها عليه مجتمعه وكونه من الحلم جاء الصنو أنكيدو إلى الواقع ـ ومنه مضى فجأة إلى غير رجعة مثل حلم ـ وما الحلم سوى الواقع في حالة الماوراء. فقذف بكَلكَامش الغريب ذي الهويّات المتقاطعة في دوّامة البحث والسؤال، وعي المعنى والانتباه الذاتي لأسّ وضعيته المحدودة في الوجود. لقد أخرجه موت أنكيدو من بداهة ظنّه المتألّه، اللامتناهي وأدخله في جوف العدم الإنساني، ليقول له ما لم يكن ينصت إليه من قبل: أنت مائت بعد حين! بهذه الدلالة الموجزة للمحدوديّة – التناهي ، يمكن القول استباقاً أنّه لو لم يظهر أنكيدو – بوصفه قدر كَلكَامش ومصيره – لما تعيّن بحدٍ ولما مات. ذلك أنّ تجربة نهاية أنكيدو هي تجربة نهاية كَلكَامش المؤجلَّة – ولو بعد حين – حيث تتحد الذات – مع الآخر / الذات الثانية – الصنو – الغير لتصبح بالنتيجة إرهاص تجربة الأنا - مع - الإنيّة التي تعي تعدّمها المتتابع نحو المصير المحتوم. الأنا هي الذات الإنسانيّة اليقظة، ضدّ الأنا الغُفل، تلك التي يعرّفها النحويون بـ الضمير. أمّا الإنيَّة فهي عينيَّة الوجود العيني، الحضور الإنساني مع كينونة الظاهرات كلّها، العيان الوجودي المُشاهَـد.
ولمّا كانت الدراما تحث الخطى مُسرعة بإصرار شديد صوب ثيمة الموت، لتميط اللثام عن فشل "مشروع" الالتحام الإرادي باللاتناهي وتحقيق الأبديّة عنوة باغتصابها من لدن الآلهة والدخول من خلل سرمدية تتخطّى الزمان والمكان والواقع، فإنّها تزيح القناع عن ضعف الإنسان وهشاشة قوّته في مجابهة قهر الموت. لأنّ تحقق المشروع الوارد أعلاه ـ الالتحام بالآلهة ـ يعني إلغاء الشروط الأوّلانيّة المُتَّفق عليها بخصوص الوجود النسبي الإنساني، وكسر الميثاق الذي وضعته الآلهة منذ القدم:
… "إلى أين تذهب ياكَلكَامش ؟
الحياة التي تنشدها لن تجدها .
عندما خلقت الآلهة البشر قدّرت للناس الموت
واستأثرت هي بالحياة الخالدة" ! .
سيدوري، صاحبة الحانة المقدّسة.
وهكذا – في التحليل الأخير – يتوجّب على كَلكَامش أن يتصالح مع طبيعته الخاصّة وأن يتقبّل موته كرجل وكإله في نفس الوقت! إنسانٌ يحمل في جسده لحم الآلهة، لكن كلاهما سيختبر الخسارة والفقد معاً. لأنّ الموت لحظة استواء الوجود كلّ الوجود، سيبقى متحدياً، محالياً لجميع الإدّعاءات والعواطف الإنسانيّة الكبيرة والصغيرة؛ فهل أدرك كَلكَامش هذا المبدأ وقَبِل به؟ هل ارتضى شرب كأس السم وقَبِل الحياة في حدود نسبيتها منْ دون محاولة؟ أم أنَّه تصالب من أجل تأكيد ذاته، وجوده الحقيقي ضدَّ وجوده الوهمي، الشبحي، الحلمي؟ صرخ، رفض المعطى، تساءَل، استفهم عن هباء الوجود، انتفض على لحام البدء والمُنتهى المتواضع وانبرى لولوج المبهم في الآتي محاولاً سبره واستجلاء ممكناته.
ألا يبيت الاستفهام اللماذائي الكَلكَامشي عن هباء الوجود ولا معناه مُبرّراً، ومشروعاً، إنْ لم يكن واجباً، طالما أن الوقوف بوجه الحد الجبري ــ القرار النهائي أمرٌ مستعصٍ ومستحيل؟
يبدو أن ليس هناك من حل نظري للمشكلة ينفيها بحلّها سوى الرهان الواعي على احتمال مطلق، البحث عنه ومحاولة تحقيقه، بالرغم من سقوط نسبيّة كَلكَامش والرهان الوجودي الذي كشفته الآلهة، صريعين أمامه في شخص أنكيدو لحظة موته.
فهل شرب كَلكَامش كأس السم وقَبِل الحياة في حدود نسبيّتها وعَدِمَ المحاولة؟
أم رفض شرب السم، وعى ذاته والعالم من حوله، وجوده، ورسم لماذائيَّة معنى وجوده؟
"كيف ألزم الصمت؟
كيف أخلد إلى السكينة!؟".
بالرغم من انتباه كَلكَامش لوضعيّته الوجودية المحدودة تلك، نسبيته، لكنَّه قرَّر المحاولة الواعية المركوزة على رعشة الإحساس المعلّق بالوجود، ذهب يبحث عن الإنسان ـ الإله الوحيد الذي حصل على الخلود واستلقى على ظهره باستكانة في الأبديّة، جدَّه البعيد، مثيله الخالد (أوتنبشتم إبن أوبارتوتو). رفض التناهي وارتحل باتجاه اللاتناهي للإتّحاد صميميّاً معاً، وفي تجربة انصهار النقيضين وعى كَلكَامش – أوتنبشتم تناهيه ولا تناهيه معاً كمدخل للعدم المطلق بعد الفناء، وبالتالي كأوّل ظهور عياني للوجود النسبي – المطلق بعد الفناء.
"أنا ذاهب مهما يكن الشقاء
لا أبالي بالحزن والألم،
لا يؤذيني الحر والبرد..
إنْ تحسرت
إنْ تأوّهت، أنا ذاهب"!.
باشر رحلة نشدان لا تناهيه للالتئام معه واغتصابه في خلال مجابهة شرسة، عنيفة ، شديدة البأس ومميتة، تتخلّلها أسفار متطاولة الأزمان مصحوبة في كل لحظة بشرط عصي يتغيّى حجب اللاتناهي في غياهب المستحيل بغية تجسيد التناهي وترسيخ محدوديته ووهنه وهراء محاولته.
من المحتّم أنّنا لن نستطيع تجاوز حدنا الزمني كوننا نمثّل فعل التزمّن ووعيه الذي مهما كانت تصوّراتنا له دائريّاً لا متناهياً، لولبيّاً، أو مستقيماً، فإنّ تصوّرنا نفسه أحد العوامل الطوعيّة لضرورة النسيان وصراعنا ضدّه لنحيا ونبدأ مرّة أخرى. هكذا يظل الممكن طريقنا ونقطة انطلاقنا نحو الضرورة لا العكس. اختار كَلكَامش طريق الممكن، وقف وخطا من الجواز إلى الوجوب – من الجائز الوجود إلى الواجب الوجود – ومابين النقطتين الحدّيتين تأرجح إرادي قد يطوّح بصاحبه في أيّة لحظة. ليس ذلك فقط، بل إنّ كَلكَامش "تصالب" أفقياً وعموديّاً في محاولة تأكيد وجوده كحقيقة (كَلكَامش) ضدّ وجوده كحلم (أنكيدو) لأننا سنرى بعد حين كيفيّة انطباق الذاتين في إنيّة واحدة، ورفضه رفضاً باتاً ونهائيّاً للصيرورة المتمثِّلة بالقدر. فهو ـ من جهة أولى ـ إنسان، والإنسان يبدأ من الحلم وإلى الحلم يعود وبه يقوى... رفض كَلكَامش الإنتحار وشرْب كأس السم، سعى جاهداً للدخول في الماوراء كي يتمكّن من تغيير وجهة الخلق والكون، فكان سعيه - على مستوى الواقع - نفي للواقع وللماوراء من دون تأليف يجمعهما في قانون - بالدلالة الشاملة للكلمة – الدالّة على تثبيت "هويّ" للمستقبل في الحاضر، وقوفاً وراء خط أفق المحدوديّة المُطّل على الحاضر.
إنّ بزوغ النهاية (في سقوط أنكيدو) كشفت عن حدّية التكرار، أو الإيقاع الدائري لحركة الوجود التي أراد كَلكَامش كسرها، لكنّه يفشل في ظل جريان العادة – ومنها العود – بصورة ثبات السلوك – الوعي، الخضوع لتكراريّة الزمن أو دائريّته، التي ربّما تكون حركة الإله الشمس (شمش) أنموذجها الساطع .
العادي يعيق حركة الإدراك والنفاذ، أي فعل الإبداع بصفة عامة، رغم أنّه شرط تميّزه ومادته الخام، وإمكانه المجسّد. ولن يصبح كَلكَامش ملكاً ويرتدّ إلى المألوفيّة إلّا بفصم عرى الألوهة في هويّته، وهو مالم يرده بالفعل فحدث بالقوّة! حدث ذلك بفقد ثوب الخلود في العشب الذي كافح من أجل الحصول عليه فأكلته أفعى.
من صميم معاناة كَلكَامش اللاعادية التي فصلته عن العالم اليومي، بصفته لحم الآلهة من جهة الإنتساب للأمومة، وهي في جوهرها أطر معاناة المؤلّف سين ليقي – أونينّي نفسه، يمكننا القول إنّه عانى تجربة التفلسف! التفلسف كمعاناة هو تجربة صلبة يهتز فيها العالم اليومي تحت قدميه، فيعلو عليه ليواجه العالم.