تمر هذه الأيام الرتيبة مرورًا ثقيلًا يستجلب البكاء والحسرة على ما خسرناه من فرص ومعانٍ وقيم، ويستجدي العاطفة واللمحات الرومانسية للحضور بشكل طاغٍ كي لا ننسى ما حققناه من معجزات باهرة، وما حصّلناه تاليًا من انكسارات وهزائم محبطة وأليمة، وما لملمناه من فقد وموت وضحايا وسجناء ومنفيين. إن هذه اللحظات المشبّعة بالفخر والكبرياء ممزوجًا بالقهر والأسى، لحظات الرومانسية المفرطة، هي الذكرى السنوية لتأمل الماضي دون وقوع الفكر بين فكّي لحظة تاريخية معينة، دون حبس النفس في ذكريات الأمس، الذكرى السنوية لتذكير أنفسنا بضرورة النظر إلى الغد، ومحاولة إصلاح عمل المفسدين في الحاضر، الذكرى السنوية للخروج من الرومانسية الثورية إلى الواقعية الثورية.
هذا المقال لن يبكي على أطلال الماضي، ولن يتباهَ بلحظات النشوة الثورية، ولن يتحسر على السجن والفقد والموت. هذا المقال غير عاطفي وغير رومانسي، غير خيالي وغير حالم، وغير قابل للهري[1]. هذا المقال يضع معطيات الحاضر نصب عينيه، ويرتكز إلى دروس التاريخ والثورات، ويستند إلى شعار "الثورة مستمرة" ليس كشعار، ولكن كواقع ثوري، وباعتبار الثورة عملية دينامية متجددة لا يجوز حصرها في بعض المناسبات والأحداث التأسيسية ولا في بضع سنوات من الارتدادات والهزائم المتتالية؛ الثورة[2] لم تنتهِ بعد، بل لم تبدأ من الأساس، وعلى الفرعون أن يستعد.
عندما اندلعت الثورة المصرية، كنت أودع مراهقتي وعلى أعتاب الشباب، شاركت مثل من شارك من الشعب رغبة في التغيير وفي انقشاع الظلم والفساد والمحسوبية والتجبر، دون طموح شخصي في المشاركة في الحكم أو السلطة. بعد مرور ١٢ عامًا على الثورة وعلى الانشغال بالشأن الداخلي المصري، ربما حان الوقت لمراجعة بعض الأفكار المرتبطة بالثورة ومآلاتها، ليس من نظرة ذاتية كأحد المشاركين بها، ولا من نظرة صحافي مصري محمّل بهموم موطنه ودفع ثمن مواقفه السياسية من نظام الحكم في مصر سنوات من الاعتقال، إنما من نظرة مجردة، من عين الطائر بلغة السينما، ننظر إلى الأحداث من الأعلى، ماذا حدث؟ وماذا سيحدث لاحقًا؟
اعتدت استخدام مصطلح هزيمة أو فشل الثورة، في معرض الحديث عن الوضع السياسي في مصر، خلال السنوات الأخيرة. استخدمت المصطلح بشكل لا واعي دون تفكير تفكيكي في معاني الثورة والفشل والهزيمة، لكني اعتبرت أن الثورة هي الحدث الذي شاركت فيه وأسقطنا نظام حكم دام لثلاثين عامًا، وأن الفشل والهزيمة ليسوا سواء، فيمكن للثورة أن تنتصر وتفشل، ولكن بما أن الثورة هُزمت في خلفية عقلي، فبالتبعية قد فشلت، ولكن هل نظرتي سليمة فعلًا للأمور.. سأعيد التفكير قليلًا في شرح موجز.
عدوى الثورات
في خضم أحداث الثورة الفرنسية، حيث التمرد مستمر، والثوار والمحتجون لم ينل منهم اليأس. النتيجة لم تُحسم، ولم تتضح نيات الثورة المضادة أو تتخذ خطوات ثابتة نحو السيطرة وإفشال الحراك. العالم مترقب، والسياسيون في كل العالم يتابعون الأحداث. أرسل توماس جيفرسون[3] رسالة إلى جورج ماسون[4] جاء فيها: "أتطلع بقلق عظيم إلى تأسيس الحكومة الجديدة الثابتة في فرنسا، مقتنعًا تمامًا بأنه إذا حدث ذلك، فسوف ينتشر الأمر، آجلًا أم عاجلًا، في كل أنحاء أوروبا، وعلى العكس من ذلك، فأي عائق لها سيؤخر من إحياء الحرية في الدول الأخرى"[5].
عندما فرّ بن علي[6] هاربًا من تونس في ١٤ يناير/كانون الثاني ٢٠١١، ازداد الأمل لدى شعوب المنطقة في إمكانية التحرر من حكم الطغاة الذين استولوا على السلطة لعشرات السنين، كانت أغلب دول المنطقة العربية في تلك الفترة تتشابه في ظروفها السياسية، حكم استبدادي فاسد ومستمر يأخذ السلطة كحق مكتسب، ويعامل المواطنين كرعايا لا كشركاء يحكمهم دستور وقانون مشترك، حيث القوانين كلام فارغ على ورق. انتقلت العدوى إلى مصر التي كانت تشهد غليانًا في الشارع منذ بضع سنوات، لنفس الأسباب التي دفعت التونسيين إلى التمرد، احتل المصريون الميادين معلنين ضرورة إسقاط النظام، موجهين رسائلهم إلى رأس السلطة بالرحيل والهروب كما فعل بن علي، تشبث مبارك بالكرسي وتشبث الشباب بالثورة، وفاز الشباب وسقط مبارك، وانقلبت المنطقة العربية رأسًا على عقب.
حاول الإعلام المصري أن يرسخ صورة زائفة عن الشعب المصري في عقل العالم العربي، عن أنه الشعب الخانع القانع الذي لا يقوى على مواجهة حكّامه، الشعب الذي ألف الظلم والفقر، واعتاد الجلد بالكرباج، الشعب المصري لا يثور، ومصر ليست كتونس، كما صدّر الإعلام صورة ترهيبية مبالغ فيها عن قوة أجهزة الأمن المصرية وصمودها وصلابتها وقدرتها على صد أي هياج جماهيري أو انتفاضة شعبية.
ثار الشعب، وصمدت الجماهير، وانهارت أجهزة الأمن، وسقط النظام، وازدادت الآمال في أذهان الشعوب المجاورة، وارتجف الطغاة خوفًا. يحكي لي أحد الأصدقاء السوريين: كنا نتابع الثورة المصرية لحظة بلحظة، عندما تنحى مبارك عن الحكم، لم نصدق، احتفلنا وصرنا نصرخ "عملوها المصريين"، كان لدينا قناعة أن الشعب المصري لا يثور وأن مبارك لن يسقط، إذا نجح المصريون فما الذي يمنعنا من النجاح؟ فليسقط بشار.
انتشرت الشرارة في الشعوب، سوريا وليبيا واليمن، الجميع يريد الخلاص من الاستبداد، كانت مصر هي المحرك والأمل، أكبر شعوب المنطقة، والقائد والملهم على مر العصور، سارت الشعوب على درب الثورات، ولكن الطغاة كانوا أكثر عنفًا وصمودًا، وحقراء للدرجة التي تجعلهم يفضلون قتل الشعوب وتدمير البلاد على أن يسلموا السلطة ويتخلوا عن الحكم.
في السنوات التي تلت رسالة توماس جيفرسون لجورج ماسون، تعرضت الثورة الفرنسية لهزائم متتالية وصراعات وجرائم ومذابح راح ضحيتها مئات الآلاف، ورغم تغيير نظام الحكم وسقوط المليكة وصعود رموز الثورة، إلا أن داعمي الملكية عادوا في صورة جديدة وحاربوا النظام الجديد وعقدوا التحالفات، وشكّلوا بلغة اليوم "ثورة مضادة". كان جيفرسون على حق، سينتشر الأمر في أنحاء أوروبا، وأي عائق سيؤخر إحياء الحرية في الدول الأخرى، تأخرت الحرية كثيرًا، أليس كذلك؟، ولكن في النهاية، أين أوروبا اليوم؟
تعرضت الثورة المصرية أيضًا لخيانات وهزائم متتالية، وتحالفات بين أعدائها من النظام السابق أو الكارهين والمتخوفين أو المنتفعين من الفساد، تأخرت الحرية عن مصر، وبالتبعية تأخرت عن شعوب المنطقة، ولكن إلى متى يستمر الأمر؟
رهّاب الثورة (Revolutionobia)
لا ينفك الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، عن ذكر الثورة المصرية بكل سوء، في كل حديث وكل مناسبة متاحة. عندما لا يجد ما يقوله للشعب تبريرًا لفشله ولتردي الأوضاع يلقي باللوم على ما حدث في ٢٠١١، عندما ترتفع الأصوات مطالبة بالتغيير، يذكرهم بما حدث في يناير ٢٠١١، وأنه لن يسمح بتكراره، لا يمكنه نسيان شبح الثورة، أن الشعب الذي انتفض مرة، يمكن أن ينتفض من جديد، سيزيد من العنف والقمع تأمينًا لسلطته، يقترض المليارات كي يبني المدن الجديدة لمؤيديه، ويغدق على شركات الجيش بالأموال في القطاعات المختلفة ليؤمن ظهره، يشتري صفقات الأسلحة ويشتري معها الصمت الدولي المؤقت، يبيع البلاد بالقطعة للاستثمار الخليجي لينعش خزينة الدولة لشهور، يهدر الأموال في مشاريع كبيرة بلا جدوى كي يتوهم الزعامة، يرسخ حكمه يومًا بعد يوم بالخوف والترهيب والسجون والتعذيب، ولكنه أبدًا لا ينسى شبح يناير الذي يلوح له في الأفق من حين لآخر ليذكره بمصيره المحتمل.
التغيير الذي فعلته الثورة لا يمكن الرجوع عنه، زرعت الأمل في النفوس، وأقنعت الشعوب بقدرتها على التغيير إن اتحدت، وأرهبت الحكّام وصارت كابوسًا يطاردهم حتى بعد سنوات من تأمين مناصبهم، أصابت الأنظمة بمرض جديد، رهاب الثورة، هكذا يمكن أن نسميه، الخوف غير المبرر من انتفاضة الشعوب.
تعرضت الثورة المصرية لضربة قوية من خلال الانقلاب العسكري[7] ٣ يوليو/تموز ٢٠١٣ الذي عزل الرئيس محمد مرسي بعد عام واحد من توليه السلطة، لكني لا أعتبرها الضربة القاصمة، إنما جاءت الضربة التالية في خطاب التفويض، عندما خرج السيسي في ٢٤ يوليو/تموز ٢٠١٣ يطالب المصريين بالاحتشاد في الشوارع لمنحه التفويض والأمر لمواجهة العنف والإرهاب المحتمل! وأتت الضربة القاصمة حقًا في ١٤ أغسطس/آب ٢٠١٣، عندما قرر السيسي إصدار الأوامر بفض اعتصامي رابعة العدوية[8] والنهضة[9] بالقوة المفرطة، مخلفًا أكثر من ألف ضحية على أقل تقدير، فضلًا عن آلاف المصابين والمقبوض عليهم. لطالما اقتنعت بوجود بدائل سلمية أخرى وطرق للتفاوض والمساومة لإنهاء حالة الشقاق المجتمعي، إلا أن السيسي اختار العنف المفرط متعمدًا، لإحداث صدمة مضادة للشعب، بدلًا من الصدمة التي سببتها ثورة يناير للسلطة.
يتحدث البروفيسور عدنان حب الله عن أحداث ١١ سبتمبر/أيلول[10]، في كتابه الحدث السياسي، أن الصدمة كانت عنيفة وعامل المفاجأة زادها عنفًا، لأن ما حصل لم يكن له تصور مسبق، فأتى الحدث من دون سابق إنذار، وأصبح مؤسسًا لواقع جديد، لبداية جديدة ألغت كل منطق وأيديولوجية الوجود التي كانت سائدة، فلم تجد أميركا سبيلًا كي تحافظ على منطق القوة سوى إعلان حرب عالمية على الإرهاب، ولكن من خلال ذلك، إعلان الحرب على العالم بأجمعه، لم يعد هنالك مجال للحياد، فإما معنا وإما ضدنا. اكتشف الأمريكان لأول مرة في تاريخهم أن العالم يكرههم ويكره سياساتهم وجرائمهم[11].
ولأن صدمة يناير كانت عنيفة ومفاجئة للسلطة، كان لا بد من استبدالها بصدمة أخرى تؤسس لواقع جديد وقواعد مختلفة للصراع، حيث يسود مبدأ القوة ومنطق السلاح، لم يجد السيسي سبيلًا غير إعلان حرب شاملة على العنف والإرهاب "المحتمل"، ومن خلال ذلك، أعلن الحرب على الشعب كله، ولم يعد هنالك مجال للحياد، إما مع الجيش أو مع الإرهاب. اكتشف العسكر لأول مرة في تاريخهم أن الشعب يكرههم ويكره سياساتهم وجرائمهم.
البحث عن العدو
يعتبر كارل شميت[12] أن طبيعة الإنسان غير محددة، فلا هو خيّر ولا هو شرير، بل قادر على الخير والشر معًا، ونتيجة لهذه التركيبة المعقدة تنشأ صداقات وعداوات، والسياسة عند شميت لا تختلف عن هذه الطبيعة، فهي القدرة على استكشاف العدو، والتمييز بدقة بينه وبين الصديق، وهذا يعني أن السياسة ترتكز على تحديد الصراعات التي قد تصل إلى الحروب، وبلغ به الشطط إلى التأكيد على ضرورة البحث عن الأعداء ومحاربتهم، فإذا لم نجد عدوًا نحاربه، فيجب صناعة عدو ضعيف نستطيع محاربته والانتصار عليه.
كما يشرح شميت في كتابه مفهوم السياسي، أنه من السمات الأساسية للدولة، بوصفها كيانًا سياسيًا، امتلاك حق الحرب، أي امتلاك الإمكانية الواقعية لتحديد العدو بناءً على قرار ذاتي، ولقتاله إذا دعت الحاجة[13]. ويعتقد أن السياسي أكثر تمرسًا على الحرب من الجندي، لأنه يقضي حياته في الحرب وليس فقط في حالات الاستثناء، كما في الحرب يتقابل الأعداء في ساحة القتال مُميّزين أنفسهم بالبزة العسكرية، وبالتالي لا تكون التفرقة بين العدو والصديق مشكلة سياسية يقع على عاتق الجندي حلها[14].
النظام الذي تشكل بعد الانقلاب العسكري في ٣٠١٣، كان يدرك جيدًا أهمية التفرقة بين العدو والصديق منذ اللحظة الأولى، وكانت قائمة الأعداء جاهزة ومعدّة مسبقًا، جماعة الإخوان المسلمين وتيار الإسلام السياسي على رأس القائمة، بما أنهم من حازوا السلطة وسيكون الصراع معهم مباشرًا، والتيار المدني والقوى السياسية المشاركة في ثورة يناير، بما أنهم عقبة في طريق الحكم العسكري، وبما أنهم يعرفون قوة الجماهير وتأثيرها. ناصب النظام الجديد العداء للثورة وكل ما يمسها، وعكف على تشويهها وتدمير كل ما يربطها بالشعب من روابط المحبة والإيمان، الهدف أن يكفر الشعب بالثورات ويكرهها، ويعلم أنها لن تأتيه إلا بسوء، قام النظام الجديد بمحاسبة شباب الثورة بأثر رجعي، وشن عليهم حملة من الاعتقالات، حتى أولئك الذين تركوا العمل السياسي وابتعدوا عن العمل العام، أيضًا دفعوا الأثمان في السجون، فمنطق العسكر معروف من سنين "الحسنة تخص والسيئة تعم".
عندما طلب السيسي من المصريين النزول إلى الشوارع في خطاب التفويض لمحاربة الإرهاب المحتمل، كان يعلن عن نواياه الاعتدائية بوضوح، ويريد إضفاء الشرعية على الجريمة بإشراك الشعب في تحضيرها ومباركتها، كما كان من المهم إيجاد ذريعة للبقاء والاستمرار، ذريعة لكسب الشرعية، فكانت الحرب ضد العدو الداخلي، الحرب ضد الإرهاب، أو بمعنى أوضح، خلق العدو الضعيف ومحاربته لتحقيق النصر، واستغلاله كذريعة للبقاء ولقمع جموع الشعب بالاتهامات الجزافية أمام المحاكم الاستثنائية، ولسنا في محل حديث تفصيلي عن حقيقة الإرهاب والتنظيمات المتطرفة، فذلك موضوع آخر. بشكل عام، يجب الاعتراف بوجود خطر الإرهاب بعد ٢٠١٣، لكن من الواجب أيضًا البحث عن أسباب وجوده وعن المستفيد الحقيقي من وراء استمراره.
يرى جان جاك روسو[15] في العقد الاجتماعي، أن حالة الحرب عداء وتدمير، ومن ثم فإن إعلان شخص عن نواياه الاعتدائية على حياة شخص آخر، يجعله في حالة حرب مع الشخص الذي أعلن ضده مثل هذه النيات، وهكذا يعرض حياته لسلطة الآخر يقضي عليها هو أو أي إنسان يشترك معه في الدفاع عن نفسه ويتبنى قضيته، حيث إنه من المعقول ومن العدل أن يكون لي الحق في القضاء على ما يهددني بالقضاء عليّ[16].
ومن هنا كان من يحاول أن يفرض على آخر سلطته المطلقة إنما يجعل بذلك نفسه في حالة حرب معه، إذ يفهم من ذلك أنه قد أعلن نيته في الاعتداء على حياته، لأن من حقي أن أستنتج من أن إنسانًا يريد أن يفرض عليّ سلطة دون رضائي أنه سيستخدمني فيما يتراءى له عندما أقع في قبضته، وأن يقضي عليّ أيضًا عندما يشاء له هواه، لأنه ما من شخص تراوده الرغبة في فرض سلطته المطلقة عليّ إلا إذا كان يريد من وراء ذلك أن يرغمني بالقوة على ما يتعارض مع حقي في الحرية؛ أي أن يجعلني عبدًا. من ينشئ حالة حرب ويكون معتديًا فيها يعرض نفسه لهذا الخطر عدلًا[17].
الثورة بين الهزيمة والنصر
إن هزيمة الثورة لا تعني فشلها، والانتصار لا يرادف النجاح. قد تنتصر الثورات انتصارًا لحظيًا محدودًا، ثم سرعان ما تنتكس وتنهزم. وقد تنتصر الثورات وتفشل في إنجاح مشروعها، أو تتبنى مشروعًا مغايرًا، أو أفكارًا رجعية وتطبيقات قمعية، وتصير، في إحدى تجلياتها، أسوأ من سابقيها، وتمارس القمع والقتل والترهيب تحت مظلة الشرعية الثورية.
حركة الضباط الأحرار[18] في مصر، قادوا انقلابًا عسكريًا في ١٩٥٢، سُمّي في البداية بالحركة المباركة، ثم صُنف فيما بعد في كتب التاريخ كثورة شعبية أيدها الشعب، وفي تحوير تلك التسمية، محاولة لنزع الصورة السلبية التي يعكسها لفظ "الانقلاب" واستبدالها بالمعنى الإيجابي الذي تشكله "الثورة". تبنت الحركة أفكارًا تقدمية وتحررية من قبضة الإرث الاستعماري والوصاية الأجنبية، ونادت بعودة ثروات الوطن وخيراتها إلى جيوب الشعب، موجهة بوصلة الحكم نحو مشروع القومية العربية.
وعلى الرغم من نُبل المشروع والأفكار والمبادئ التي تأسست عليها الحركة، لكن ما الذي تحقق من مجمل المشروع، وهل نجح الضباط الأحرار في تطبيق الأفكار والمبادئ التي أيدها الشعب أم انحرفت البوصلة عن المسار، والحركة المباركة التي بدأت بتأييد شعبي وانتصار عارم، انتهت إلى نكسة وهزيمة، فضلًا عن استمرار فساد الملكية في صيغ أخرى تلائم الواقع الجديد، وإلى جانب ممارسات أمنية ظلت محل نقد وتشنيع حتى اليوم، إلى الدرجة التي يعزّي فيها البعض انتهاكات الأجهزة الأمنية اليوم إلى لحظة التأسيس والبداية، إلى لحظة ترسيخ الحكم العسكري (ولنا في ذلك حديث آخر).
حتى الثورة العرابية[19]، التي نجحت في تشكيل حكومة من قادة الحراك، أحمد عرابي ومحمود سامي البارودي، سرعان ما أُحيكت ضدهم المؤامرات، وانتهى أمرهم إلى النفي خارج البلاد، ولا يختلف الأمر كثيرًا عمّا حدث في ثورة ١٩١٩ بقيادة الزعيم الوفدي سعد زغلول.
في عام ١٩٥١، اختير الإيراني محمد مصدق، لمنصب رئيس الوزراء في إيران، بأغلبية برلمانية، بعد احتجاجات شعبية في الشوارع وضغوط على الشاه محمد رضا بهلوي، نتيجة للقرار الثوري الذي اتخذه البرلمان الإيراني بتأميم شركات النفط البريطانية.
استمر مصدق في نهجه الوطني والثوري بمعاداة الشاه والدول الاستعمارية (بريطانيا وأمريكا)، ومعارضة السيطرة الأجنبية على ثروات الشعب الإيراني. ولما تضررت الدول الأجنبية من قرارات مصدق، دبرت انقلابًا من تخطيط المخابرات الأمريكية والبريطانية، بالتعاون مع شاه إيران، للإطاحة بمصدق وعودة السيطرة بقوة إلى حليفهم، عُرف هذا المخطط الانقلابي بمشروع أجاكس، واعترفت المخابرات الأمريكية في ٢٠١٣، بمسؤوليتها عن الإطاحة بحكم محمد مصدق، الذي قضى حياته تحت الإقامة الجبرية حتى وفاته.
فنحن هنا أمام نموذج آخر من انتصار الثورة والحرية وإرادة الشعوب ثم تأتي الهزيمة في وقت سريع ومفاجئ، وصولًا إلى الثورة الإسلامية في إيران ١٩٧٩، والتي تختلف مجرياتها وأهدافها ومشروعها عن المشروع الديمقراطي الوطني الذي تبناه مصدق.
رجوعًا إلى سنوات التخبط في الثورة الفرنسية، قرر الجنرال نابليون بونابرت قيادة حملة عسكرية على مصر في ١٧٩٨، واستمرت الحملة الفرنسية حتى ١٨٠١، وعلى رغم قصر المدة إلا أنها غنية بالأحداث المؤثرة في تاريخنا حتى اليوم، وخلال تلك الفترة ثار المصريون مرتين احتجاجًا على الحملة الفرنسية وعلى جرائم جيش نابليون. ثورة القاهرة الأولى في ٢٠ أكتوبر/تشرين الأول ١٧٩٨، التي قادها شيوخ الأزهر، وانتهت بالهزيمة، والحكم بإعدام ٦ من قادة الأزهر.
لم يستسلم المصريون، وهبت ثورة القاهرة الثانية بعد أقل من عامين في ٢٠ مارس/آذار ١٨٠٠، هُزمت الثورة أيضًا بعد شهر من اندلاعها، حيث ارتكبت قوات الجنرال كليبر[20] المجازر والمذابح في سبيل قمع وإحباط الحراك، دكت الأحياء وضربت المنازل بالمدافع وذبحت المواطنين، خمد الحراك وفشلت الثورة للمرة الثانية، لكن نجح سليمان الحلبي[21] في الثأر للمصريين من جرائم كليبر، حيث تسلل إلى حديقة قصره متنكرًا في زي شحاذ، وطعنه بخنجره حتى أرداه قتيلًا في ١٤ يونيو/حزيران ١٨٠٠. أُلقي القبض على الحلبي، وصدر ضده حكم الإعدام بالخازوق، هل فشلت ثورة القاهرة الثانية بإخمادها من قوات كليبر، أم نجحت باغتياله؟
أنتجت شبكة نتفلكس فيلمًا في عام ٢٠١٨، عن الانقلاب العسكري الذي حدث في أوروجواي عام ١٩٧٣، يحكي فيلم "ليلة الاثنا عشر عامًا" قصة ثلاثة من قادة حركة التحرير الوطنية "توباماروس"[22] الذين اتخذتهم الحكومة ضمن تسع رهائن بعد هزيمة الحركة وانهيارها في ١٩٧٢، وقد قُتل الكثير من أعضائها وقُبض على البقية. شرع الجيش في خطوات سريعة نحو انقلاب عسكري اكتملت ملامحه في العام التالي، وخضعت البلاد لحكم عسكري ديكتاتوري دام لـ ١٢ عامًا، حتى اندلعت احتجاجات شعبية تطالب بالعودة إلى الحكم المدني وأجبرت الجيش على التخلي عن السلطة، بعد تفشي الفساد وفشل الجيش في الحفاظ على استقرار البلاد أو خلق بيئة اقتصادية آمنة للمواطنين.
أفرجت السلطات عن الرهائن الذين تعرضوا لحبس انفرادي لمدة ١٢ عامًا، ذاقوا خلاله ويلات الذل والتعذيب، يبدأ الفيلم بلحظة هزيمة الحركة والقبض على قادتها، وينتهي بلحظة تحريرهم وسقوط النظام العسكري الذي ناضلوا ضده، مستعرضًا حياة الحبس الانفرادي وتفاصيلها وكيف تغلبوا عليها.
الرهائن الثلاث الذين اختار الفيلم حكي قصتهم، هم خوسيه موخيكا، الذي سيتم انتخابه رئيسًا لأوروجواي من ٢٠١٠ – ٢٠١٥، وموريسيو روسينكوف، الذي سيصبح شاعرًا وكاتبًا مشهورًا، ومديرًا للثقافة في مدينة "مونتفيديو" التي يعيش فيها، وأخيرًا، إلوتيريو فيرنانديز هويدوبرو، الذي سيصبح وزيرًا للدفاع حتى وفاته في أغسطس/آب ٢٠١٦.
نموذج مختلف للمقاومة والثورة التي تفشل وتنهزم، ثم تنتصر بعد عقد من الزمن، ويصبح الرهائن والسجناء قادة ورؤساء ووزراء للبلاد.
إذن، فنماذج التاريخ غير واحدة، والنتائج متغيرة، بين ثورات تنتصر ثم تنتكس، وأخرى تنتصر وتفشل، وأخرى يُغدر بها وتُهزم ثم تعود وتنتصر. الثابت الوحيد هنا، أن الثورات مستمرة والنضالات مستمرة، والثورة لا تسير أبدًا في خط مستقيم، فالعلاقة البيانية بين الثورة وأعدائها ليست طردية ولا عكسية، بل أشبه بالخطوط البيانية في تداولات البورصة، ترتفع وتنخفض، تعلو الأسهم في حين وتنهار في أحيان، ويظل الصراع قائمًا، والرسم البياني يتغير طبقًا للمعطيات.
والرسم البياني لدينا، يشير إلى انهيار أسهم أعداء يناير، وانهيار أسهم الحكم العسكري، يشير إلى فوبيا النظام من تكرار ما حدث، وإلى فشل النظام اقتصاديًا وفشله في السيطرة على انهيار العملة، وفي الحفاظ على حلفائه الإقليميين، وبعد فترة قريبة من الزمن سيفشل أيضًا في السيطرة الأمنية التي يفرضها بالخوف والترهيب والاعتقال والخطف والتعذيب، قريبًا يصبح الغضب أقوى من قدرته على الاحتمال، أكبر من قدرته على القمع، قريبًا يعود الشبح القديم في صورة جديدة وربما في جيل مختلف، وتظل الثورات مستمرة.
هوامش:
[1]: بطلوا هري بقي: التعبير الشعبي الذي استخدمه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في صباح الاثنين ٩ يناير/ كانون الثاني ٢٠٢٣، في أثناء وجوده ضمن فعاليات مؤتمر التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي، وذلك ردًا على ذعر ومخاوف المصريين من تردي الوضع الاقتصادي وغلاء أسعار المعيشة.
[2]: إشارة إلى الثورة المصرية ٢٥ يناير/كانون الثاني ٢٠١١، كواحدة من ثورات الربيع العربي.
[3]: توماس جيفرسون: أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية، والكاتب الرئيسي لإعلان الاستقلال (١٧٧٦) وثالث رئيس للولايات المتحدة (١٨٠٢-١٨٠٩).
[4]: جورج ماسون: سياسي أمريكي، معد المسودّة الأولى لإعلان حقوق فرجينيا ١٧٧٦.
[5]: من رسالة توماس جيفرسون إلى جورج ماسون (٤ فبراير/شباط ١٧٩١).
[6]: زين العابدين بن علي: رئيس الجمهورية التونسية منذ ٧ نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٨٧ حتى ١٤ يناير/كانون الثاني ٢٠١١، وهو الرئيس الذي خلعته ثورة تونس، وفرّ هاربًا إلى السعودية حتى وفاته.
[7]: انقلاب عسكري قام به الجيش المصري بقيادة الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي في ٣ يوليو/تموز ٢٠١٣، وعزل الرئيس الأسبق محمد مرسي بعد اندلاع مظاهرات تطالب الرئيس وحكومة جماعة الإخوان المسلمين بالتنحي عن السلطة في ٣٠ يونيو/حزيران ٢٠١٣.
[8]: اعتصام رابعة العدوية: بعد عزل الرئيس محمد مرسي، اعتصم بعض أعضاء جماعة الإخوان المسلمين ومؤيدي الشرعية ومعارضي الانقلاب في ميدان رابعة العدوية في القاهرة.
[9]: اعتصام النهضة: اعتصام لمؤيدي الشرعية في ميدان النهضة بمحافظة الجيزة.
[10]: هجمات ١١ سبتمبر: هجمات إرهابية، مسؤول عنها تنظيم القاعدة، استهدفت الولايات المتحدة الأمريكية في ١١ سبتمبر/أيلول ٢٠٠٣.
[11]: بروفيسور عدنان حب الله -الحدث السياسي (قراءة نفسية تحليلية) المركز العربي للأبحاث النفسية والتحليلية – الطبعة الأولى – بيروت ٢٠٠٣ – ص ٨ و٩.
[12]: كارل شميت: مفكر وفيلسوف ألماني، وُلد في أواخر القرن التاسع عشر، وساند النظام النازي في ألمانيا، اعتبره البعض أحد منظري النازية وأن أدولف هتلر استقى من أفكاره، وما زالت أفكاره في السياسة محل جدل ونقاش.
[13]: كارل شميت – مفهوم السياسي - ترجمة: سومر المير محمود – مدارات للأبحاث والنشر – الطبعة الأولى ٢٠١٧ – ص ٩٧.
[14]: كارل شميت – مصدر سابق - ص ٨٤، ٨٥.
[15]: جان جاك روسو: فيلسوف فرنسي، من أهم كتاب عصر التنوير، تأثرت الثورة الفرنسية بفكره وكتاباته.
[16]: جون لوك/ديفيد هيوم/جان جاك روسو – العقد الاجتماعي – ترجمة: عبد الكريم أحمد – المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات – الطبعة الأولى – بيروت – يونيو ٢٠١٩ – ص٢٧١.
[17]: جون لوك/ديفيد هيوم/جان جاك روسو – العقد الاجتماعي – مرجع سابق– ص ٢٧٢.
[18]: حركة الضباط الأحرار: تنظيم سري عسكري، تأسس داخل الجيش المصري بقيادة اللواء محمد نجيب، استولوا على الحكم في ٢٣ يوليو/تموز ١٩٥٢، وشكلوا مجلس قيادة الثورة عوضًا عن الملكية.
[19]: الثورة العرابية: ثورة قادها أحمد عرابي في ١٨٨١ ضد الخديوي توفيق، احتجاجًا على التفرقة بين الضباط المصريين والأتراك داخل صفوف الجيش، واعتراضًا على التدخل الأجنبي، سُميت بهوجة عرابي، وسرعان ما انهزمت.
[20]: الجنرال جان بابتيست كليبر: أحد قادة الجيش الفرنسي في الحملة الفرنسية على مصر.
[21]: سليمان الحلبي: طالب شامي أزهري اغتال الجنرال كليبر في حديقة قصره.
[22]: توباماروس: حركة التحرير الوطنية؛ تنظيم سري يساري، تركزت نشاطاته في ستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي في أوروجواي، نفذ التنظيم العديد من عمليات الخطف والاغتيال والعنف السياسي، ردًا على قمع الحكومة للاحتجاجات العمالية، وسجن وتعذيب المعارضين.