شارك الفيلم الفلسطيني "وداعاً طبريا" في حفل توزيع جوائز الأوسكار لعام ٢٠٢٤. أُجريت هذه المقابلة قبل عرض الفيلم في مهرجان أفلام الشرق الأوسط الرابع في جامعة دينسون.
إيزيس نصير: نود البدء بطرح سؤال حول العلاقة بين فيلمك "جزائرهم" وفيلمك الثاني "وداعاً طبريا"؟ إن مواضيع التهجير والذاكرة والهوية واضحة في الفيلمين.
لينا سوالم: لو لم أخرج فيلم "جزائرهم" لما تمكّنتُ من إخراج فيلم "وداعاً طبرياً". إن فيلمي الثاني هو استمرار للأول. يدور فيلم "جزائرهم" حول قصة منفى جدي وجدتي اللذين هاجرا من الجزائر إلى فرنسا في الثمانين من عمرهما. أردت أن أستقصي قصة منفاهما واقتلاعهما وكيف أن الانفصال الذي حدث بينهما كان نتيجة سلسلة من الانفصالات. لقد حدث لهما الانفصال الأول حين اقتلُعا من أرضهما. وبما أن أمي فلسطينية أردتُ أن أواصل استكشاف هذه المواضيع وأروي قصة أولئك النسوة.
إيزيس نصير: يتعلق هذا أيضاً بهويتك كابنة لوالدين أحدهما فلسطيني والآخر جزائري والحدود التي تحاولين عبورها.
لينا سوالم: نشأتُ في جوّ اتّسم بحضور قوي للنساء في حياتي خاصة من ناحية أمي. كان لها سبع شقيقات وشقيقان. كنت محاطة بأولئك النسوة في طفولتي وإبان زيارتنا لدير حنا، قرية أمي في الجليل. ورغم أن أمي تركت قريتها حين كانت في العشرين من عمرها كي تحقق حلمها وتصبح ممثلة في أوربا، حملت معها قصصهم وقوتهم وقيمهم. ولقد سألتُ نفسي دوماً: ما الذي أرادت أن تنقله إلي؟
كان على أمي أن تقوم بخيارات جريئة إلا أنها بقيت قريبة جداً من عائلتها وثقافتها. كان هذا التعقيد هو الشيء المهم الذي أردت أن أستقصيه في الفيلم. تعوّدْنا على رؤية النساء في السينما (خاصة النساء العربيات) مصورات بطريقة نمطية وثنائية، أي كنساء تقليديات محافظات جداً، يخضعن لقواعد الرجال أو كنساء ليبراليات يقطعن صلتهن مع الأسرة، يذهبن إلى الغرب ويتبنين القيم الغربية. بيد أن الواقع أكثر تعقيداً فأولئك النسوة يبقين مرتبطات بالعائلة والتراث وفي الوقت نفسه لهن تطلعاتهن.
إيزيس نصير: هل يمكن أن توضحي لنا أكثر هذه العلاقة بين الأجيال، بين أمك وجدتك وأمها، وعلاقتهن مع طبريا؟ هناك أيضاً عنصر الشتات والمنفى رغم أنك تعيشين في فرنسا؟
لينا سوالم: يدور الفيلم حول ما تنقله أمٌّ إلى ابنتها (من النساء إلى النساء) إلا أنه يعبّر أيضاً عن أهمية الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني. إن التركيز على القصة الشخصية في غاية الأهمية بما أنه يُشار دوماً إلى الفلسطينيين كأرقام، أو مجموعة متماثلة من دون السماح لفرديتهم بالظهور. يمكن أن يقود هذا إلى تجريد الإنسان من إنسانيته. حين كنت أكتب هذه القصص الشخصية وأجمع الذكريات المتناثرة لعائلتي وأعيد ربط جيل بآخر، رغبت أيضاً بأن أعيد ربطها بالذاكرة الجمعية التي غالباً ما يتم إسكاتها لأن قصة النكبة الفلسطينية غير معترف بها. بالتالي إن تصوير الأرشيف التاريخي يسمح للقصة الفردية بأن تشكل جزءاً من القصة الجمعية. تُظهر اللقطات الأرشيفية مجتمعاً متنوعاً يتكون من أشخاص من مختلف الطبقات ومن خلفيات ريفية ومدينية.
[وداعاً طبريا، شقيقات وخالات، دير حنا].
مايكل موريس: لقد أدهشتني حقاً طريقة عملك مع أفراد عائلتك وكيف كانوا راغبين بأن يعملوا معك كي تستعيدوا بعض الذكريات الصعبة. بما أنني مخرج أيضاً وأخرجتُ أفلاماً مع عائلتي أعرف مدى صعوبة الأمر، خاصة حين تدفعينهم إلى أمكنة غير مريحة. يمكن أن يرغبوا بالعمل معك أو يمكن أن يرفضوا ذلك نتيجة لهذا. كانت الطريقة التي عملتِ بها معهم مثيرة للإعجاب فعلاً. أتساءل كيف كانت التجربة وخاصة حين تفعلين أموراً مثل إعادة تمثيل الأشياء الصعبة للكاميرا.
لينا سوالم: لا أعتقد أنني كنت سأنجح في إخراج الفيلم لو وُضعتُ في موقف تصادمي. وهذا ينطبق على فيلمي الأول "جزائرهم" أيضاً. عرفتُ أنني أستطيع أن أصوّر عائلتي وأنهم لن يقوموا برفضي. لهذا فعلتُ ذلك خاصة أن القصص الشخصية يمكن أن تكون ثقيلة جداً وتتعامل مع الألم والصدمة بينما تسبّب صدمات أخرى.
صَوّرَ أبي كلاً من عائلتي لأبي وعائلتي لأمي في التسعينيات. اعتادوا على وجود الكاميرا. كان أبي يصوّر من أجل تسجيل لقطات منزلية شخصية. ساعدتني أيضاً حقيقة أن أبي وأمي ممثلان. كان أفراد أسرتي يقولون لي دوماً: "لا تسقط التفاحة بعيداً عن الشجرة". كانوا سعيدين بالمشاركة وشعروا بأن تمكّنهم من رواية قصصهم بركة. الفيلم هو أيضاً تحية لجدتي ووالدة جدتي. أمنحهما فرصة للوجود وعدم الاختفاء كنساء فلسطينيات لم يحظين أبداً بفرصة لرواية قصصهن.
[وداعاً طبريا، زفاف، دير حنا].
مايكل موريس: أتساءل كيف شعرتِ حين استعدت بعض تجارب أمّك بالتمثيل في الفيلم.
لينا سوالم: كان تصوير أمي أكثر صعوبة من تصوير خالاتي، وكان هذا غريباً لأنها كانت الممثلة الأولى في عائلتها. كانت معتادة على إعارة عواطفها لشخصيات خيالية والتعبير عنها من خلال قصص أخرى.
لم تمثّل أبداً في فيلم وثائقي من قبل وخاصة من إخراج ابنتها. كان من الصعب بالنسبة لها أن تتحرّر من كونها واعية لوجود الكاميرا. وكان هذا مخيفاً أيضاً بالنسبة لي بما أن أمي عملت مع مخرجين كبار. لم يكن الأمر كأنه لدي سيناريو وأعرف ما أريده. كنت أبحث وأنا أصوّر الفيلم. استغرق الأمر مدة للتوصل إلى حل. كان من الصعب أن أقدّم نفسي لأمي ليس فقط كابنة، بل كامرأة ومخرجة. إن المرء غير معتاد على مخاطبة والديه كندين. كنا بحاجة للعثور على فضاء كي نتشارك خارج العلاقة الوثيقة بين أم وابنتها بينما نحافظ على أصالتنا. ستقول: "لا تفتحي الأبواب لأحزان الماضي" وهذا شيء كانت تقوله لها أمها وجدتها حين تطرح أسئلة عن حياتهما. حاولتْ أن تفهم مثلي قصصهما وأردتُ أن أنشّط هذه العملية من البث.
طلبتُ من أمي أن تعيد تمثيل بعض خيارات حياتها الهادفة، لحظات كانت مهمة لكن مؤلمة لها أيضاً. عرفتْ أنها أحبت التمثيل أكثر من أي شيء آخر. لم أردها أن تعاني ونحن نصوّر. لم تكن إعادة تمثيل بمعنى إبداع خلفية جديدة. لم يكن هذا خيالياً، أتى كل شيء من الواقع. كنت أسألها أمام الكاميرا أن تتخيل نفسها مكان ذاتها الأصغر كي تحاول أن تعبّر عن العواطف التي شعرتْ بها في ذلك الوقت. وبوجود شقيقة لها معنا تمكّنتا من العودة في الزمن وإعادة تمثيل محادثات ومشاعر حقيقية. كان ظريفاً رؤية كيف استمتعت خالاتي بكونهن جزءاً من هذه المشاهد.
[وداعاً طبريا، صور عائلية، باريس].
مايكل موريس: أردتُ أن أسأل عن اللقطات العائلية والأرشيفية. ذكرتِ أن والدكِ كان مصوّرَ فيديو لكثير من تلك اللقطات. ثم، بالطبع، كانت لأمك علاقة بالتصوير الفوتوغرافي. كانت لديك أيضاً تلك اللقطات الأرشيفية العظيمة التي أفترض أنها أتت من أرشيف أو مجموعات أخرى. من الظريف أن نرى هذا النوع من التقاطع بين الأشياء الحميمة من الماضي التي صُوِّرت من أجل هدف بناء أرشيف عائلي من الذكريات وربطها بلقطات الأرشيف التي توثّق العلاقة الاجتماعية للتاريخ الفلسطيني. أحب طريقة عملك على الصور الفوتوغرافية بدلاً من مجرد عرضها. تقومين بهذا النوع من النشاط مع عائلتك، تعرضين الصور، وتُخْرجين الذكريات المرتبطة بها. أتساءل ماذا كانت مقاربتك هنا؟
لينا سوالم: عرفتُ دوماً أن الفيلم سيُبْنى حول صورٍ مختلفة. أردتُ أن أستخدم فيه صوراً معاصرة مع مواد أرشيفية تاريخية. لم أعرف في البداية لماذا أنا متعلقة بامتلاك هذه الأنواع المختلفة من الصور. لم يكن خياراً جمالياً نابعاً من مجرد أنني أحببتها. إن قصتنا وذاكرتنا متناثرة ومبعثرة. من الصعب أن تروي حكاية حين لا تكون لديك قصة رسمية متسلسلة الأحداث. تصبح هذه المصادر المختلفة للصور برهاناً على ذلك الوجود. ويصبح كل أرشيف قطعة من الذاكرة لا يتم التعرف عليها. إنها دوماً ذكرى غير مكتملة.
كانت طريقة كي أخلق، عن طريق الفيلم، أرضاً خيالية يمكن أن تتعايش فيها نساء الأسرة كلهن رغم أننا لم نعش في المكان نفسه، واختفت بعض الأمكنة التي كنا ننتمي إليها. إنه كاليوتوبيا كما لو أن المنفى والاقتلاع لم يحصلا. تثير هذه الصور المختلفة سؤالاً كان يشغلني وأعتقد أنه كان يشغل كثيراً من أبناء المهاجرين: ماذا لو ولدت هناك؟ ماذا لو لم تُقتلع عائلتي؟ كيف ستكون قصتنا؟
نعرف مدى تأثير القصة الجماعية في العلاقات الأكثر حميمية. تؤثر بالطريقة التي تربي بها أولادك والقيم التي تزرعها فيهم. إنها مسألة لا جواب لها في الحقيقة. يقرر أشخاص كثيرون أن يغادروا بلدانهم حتى من دون هذه الأنواع من المواقف. يرتبط الشكل الفني بحقيقة القصة والفيلم محاولة لإعادة حل هذا اللغز. ليس فيلماً أحاول أن أكشف فيه أسرار عائلتي. إنه عن إعادة كتابة قصتنا بكلماتنا والسماح لها بالوجود.
[وداعاً طبريا، الأم هيام عباس والابنة لينا سوالم في دير حنة].
مايكل موريس: كانت إحدى الطرق التي تجلت فيها العلاقة مع العائلة في الفيلم هي اللغة وخاصة اللغة العربية وكيف تتحدثين عن علاقتك مع اللغة وتتنقلين بسهولة بين الفرنسية والعربية. هناك تلك اللحظات العظيمة التي تقرأ أمك فيها قصائدك وتنشد الأغاني التي كتبتها بالعربية. لقد أثار هذا عواطفي لأن عائلتي تنحدر أيضاً من منطقة البحر الأبيض المتوسط، لكنني لا أمتلك لغة كي أبني معها صلة بهذه الطريقة. أتساءل كيف تقاربين اللغة وكيف أن امتلاك اللغة يرتبط بقصة عائلتك؟
لينا سوالم: فكّرتُ بهذا وأنا أُخْرج الفيلم: بأية لغة يجب أن أتكلم، وبأية لغة سأطلب من أمي أن تتكلم؟ هل أطلب منها التحدث بالعربية أم الفرنسية؟ أعرف أنني لا أستطيع التحكم بالعملية وأريدها أن تكون طبيعية كي تمثل علاقتنا وما يعنيه أن تعيش في المنفى. حين تربي طفلاً في بلد أجنبي ثمة مسافة وتمزق. هذا منتج المنفى سواء فُرض أم تم اختياره، وجزء من حقيقة علاقتنا. نقلت أمي اللغة العربية إليّ بما أنها لم تتحدث الفرنسية حين كنتُ أصغر سناً. لا أتقن قراءة وكتابة العربية بشكل ممتاز بما أنني لم أتعلمها في المدرسة. هناك جزء كامل من خيال تلك اللغة لم أمتلك مدخلاً إليه، بالتالي لا أستطيع فهمه. في غضون ذلك، تعلّمتْ أمي الفرنسية مني ومن أختي. إنها تتحدث الفرنسية لكنها لا تتقنها. أدركتُ قبل إخراجي للفيلم أن لدينا لغتين، وليس لدينا نصف لغة، لدينا لغة جديدة اخترعناها معاً من خلال الخلط بين العربية والفرنسية بشكل طبيعي. قبلتُ حقيقة أنني لا أستطيع أن أكتب النص إلا بالفرنسية لأنها اللغة التي أتقنها أكثر. كان بوسعي أن أكتب النص بالفرنسية ثم أطلب من أحد ما أن يترجمه لكنني لم أرد فعل ذلك. حين أطرح أسئلة على أمي تنتقل بشكل طبيعي إلى العربية حين يتعلق الأمر بالمسائل العاطفية. أردت في الحقيقة أن أظهر حقيقة ما تعنيه عملية التواصل هذه في المنفى وكان هذا أحد موضوعات الفيلم.
[وداعاً طبريا، والدة جدتي أم علي، أمي هيام عباس وابنتها لينا سوالم، دير حنا].
[ترجمة أسامة إسبر عن الإنجليزية].