يظل سؤال التضامن بصورته الفنية أو الإبداعية عموما، مثار جدل ومحل خلاف، حين يتعلق الأمر بحرب تتفق جهات قانونية دولية على أنها إبادة جماعية، وتستطيل إجابات السؤال، لتتحول إلى نقاش معقد، بين من يؤيد هذا الشكل من التضامن، كطريقة مثلى لتوثيق الحالة، ولحشد المشاعر العامة نحو توحيد الموقف العام، وبين معارض لا يراها تسمن ولا تغني، بل يراها أحيانا حالة من التسلق على مأساة الآخرين، في إطار حصاد السمعة الطيبة أو مجد الشهرة، في غير وقته المناسب بالمعنى الأخلاقي، لكن ما يثير النقاش أكثر هو تعدد الأقطاب، بين فنان متضامن، وآخر موارب، وثالث يقفز إلى الضفة الأخرى، بما يشبه التضامن مع القاتل! وهذا ما يستدعي نقاشا أعمق ومقارنة أدق.
وللوقوف على ملامح هذه الحالة، لا بد من استدعاء نماذج لتبدو المقارنة أوضح، فمنذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وانطلاق أذرعه الإجرامية، وامتداد الحالة زمانيا إلى ما يقارب العام، صار هناك فراغ واضح في حيز التضامن الفني، خصوصا عند المقارنة مع ظروف مشابهة سابقة، كالانتفاضتين الأولى والثانية، ففي الحروب الخاطفة، لا يرتفع سقف التوقعات إزاء الإنتاج الفني الموازي، لأن العملية الإنتاجية تتطلب وقتا.
ويمكن في حالة الحرب على غزة الوقوف على عدة نماذج، أولها نموذج التضامن الصريح، والذي تعبر عنه قلة من المشتغلين في الحقل الغنائي، مثل بيغ سام الذي قدّم أغنية "لو مرة بس" والتي تتحدث عن مأساة غزة بصراحة مطلقة:
"لو مرة بس تغفي بروحي المتعبة
لو مرة بس يرتاح اللي بأرضك غفى
لو مرة بس ترتاحي من بطش العِدا
لو مرة بس نفداكي بأغلى ممتلك
كنتِ ولا زلتِ أنا، يا غزتي يا قمرتي
نالوا من ضلوعك وأنا أبقى أرثى الحزن اللي بخاطري
يمكن إذا غالي الدمع، ترخصلك الروح التي
فاضت عذاب جرحك وطال بظلمه ليكِ المعتدي"
ويواصل بيغ سام الأغنية التي اضطلع بكتابتها وتلحينها بنفسه:
"يا دمع أنا بعيني رَفح، يُمه الدمع لما نَزح
طل الضحى بطلة شهيد حتى الفرح كربه جرح
لما الحزن بالعشق يجوز، كيف الحزن بأغلى وطن؟
يا غزة أنا بروحي معاكي ولو بلاكي الدنيا جنة
ما انوجع بحرك يا روح الروح، انوجعنا إحنا
نسقط إن سقطت ولن تسقط
لا ولن نسقط ما دمنا باقون صبًا كنهر الغيظ
يا غزة أنا بروحي معاكي ولو بلاكي الدنيا جنة
ما انوجع بحرك يا روح الروح، انوجعنا إحنا
نسقط إن سقطت ولن تسقط
لا ولن نسقط ما دمنا باقون صبًا كنهر الغيظ"
وفي الأغنية محوران واضحان، الأول يظهر شعورا شخصيا بجراح غزة ومصائبها، والثاني يظهر تحدّيا للعدو، وأملا بالنصر، وإيمانا بالحق، وهذه صورة تامة للتضامن وتسخير الموهبة للتعبير الصريح عن الموقف، بما لا يشوبه شائبة أو شك.
وكذلك أغنية أصالة "أصحاب الأرض" بما اشتملت عليه من جدل متعلق باستخدام أغاني تراثية دون تثبيت أسماء مطوريها من موزعين وباحثين، وباستخدام اللغة العبرية، وباستخدام كلمات تظل مواربة، حتى دخول الشاعر فارس قطرية في نهاية الأغنية مقدما نصا واضحا يشحذ فيه الهمم:
"ثبت جذورك في التراب فأنت باق هاهنا
الأرض أرضك يا فتى هذه البلاد بلادنا
هم جهلة لا يعلمون بأن وطنك خالد
فاصمد ورابط واحتسب إن ورائك كلنا
كم من شهيد قدموا أرواحهم من أجل تحقيق اليقين
يا صاحب الأرض اعتصم فالأرض عرض المتقين"
أما النموذج الثاني، والذي يمكن اعتباره مواربا، فيظهر في أغنية Hold your Fire للقيصر كاظم الساهر، الذي عودنا أن يقدم مواقف واضحة في الحرب، منذ "أطفال بغداد الحزينة يسألون" و"ماسكا عودي أغني" و"صليت حتى انتهت الدموع" وغيرها من الأعمال الوطنية الخالدة، التي وقفت على معاناة الشعوب العربية، وانحازت للضحايا ونقلت الصورة كاملة.
إلا أن الأغنية الجديدة التي قدمها باللغة الإنجليزية فقط، والتي كان الأمل أن تحمل صوت الضحية الفلسطينية إلى شعوب الغرب، لم تشتمل على مقولة واضحة، سوى المطالبة بوقف الحروب والجنوح للسلام، دون تحديد الضحية ولا تحديد المجرم، بما رآه نقّاد مساواة بين الطرفين، فتقول الكلمات التي كتبها توم لو (قمنا بترجمتها):
"نحن نتوق إلى السلام
نصلي للوقت الذي يتوقف فيه القتال
في أعماق قلوبنا لدينا شوق للسلام
نصلي للوقت الذي يتوقف فيه القتال
أطفالنا الخائفون
يركضون للنجاة بحياتهم
العنف يسرق براءتهم
لم يكن في أعينهم إلا الحزن
فقط لأنهم ولدوا على هذا العرق أو هذه العقيدة
إنهم ملائكة يتساقطون بسبب الجشع السياسي"
وإن كان يبدو في هذا المقطع شعور الساهر وشاعر الأغنية بالمأساة في غزة واضحا، والذي تعززه الصور في الفيديو كليب، إذ تظهر ملامح عربية فلسطينية للأطفال المسحوقين بالحرب، إلا أن المقطع التالي، الذي يتردد كلازمة في الأغنية، أتاح حيزا للاتهام بالمواربة:
"أوقف نارك..
أوقف نارك..
أوقف نارك..
أوقفها من أجل الذين تحبهم ومن أجلك ومن أجلي".
حيث افترض المتلقي موقفا أكثر وضوحا بإدانة الاحتلال وإيقافه أمام مسؤولية الدم والإبادة في غزة، عوضا عن دعوته لوقف إطلاق النار من أجل الطرفين!
على أن موقف كاظم الساهر يبقى أفضل من مواقف آخرين، إذ يمكن تفسيره على أنه محاولة لتقديم عمل يتضامن مع غزة – التي لم يُذكر اسمها صراحة في الأغنية – دون أن تلاقي الأغنية رفضا غربيا، خصوصا أنها أُنتجت بالتعاون مع جمعية الأمم المتحدة للموسيقى الكلاسيكية بقيادة بريندا فونجوفا، ورُصدت عوائدها لدعم الأنشطة الإنسانية للأمم المتحدة.
أما النموذج الثالث، الذي لم يكتفِ بالنأي، إنما انحاز إلى الطرف الآخر كما رأى كثيرون، فيمكن أن نجده في مشاركة ثلة من المشاهير في إعلان لشركة بيبسي التي تتربع في قمة قوائم المقاطعة، ومن بينهم نجم ليفربول ومنتخب مصر محمد صلاح وعمرو دياب ونوال الزغبي وسامي الجابر ونجم الكرة البرازيلي السابق روبرتو كارلوس، والممثل أحمد السقا والممثل كريم محمود عبد العزيز، فيما رفض ويجز مثلا المشاركة، ولم يترك في المقابل مساحة ظهور دون إظهار التضامن مع القضية الفلسطينية.
معظم المشاركين في هذا الإعلان الذي ظهر في ذروة الحرب على غزة، لم يعلقوا على الأمر، ولم يحاولوا دفع التهمة، إلا في إطار رد الحرج، أو الادعاء بالالتزام بعقود مسبقة، ومنهم من زعم أن الشركة استخدمت مشاهد قديمة عولجت بالذكاء الاصطناعي.
أما النموذج الذي بدا أكثر وضوحا من حيث اللامبالاة والاستفزاز، فيعبر عنه "محمد رمضان" في إعلان كوكا كولا، والتي تتقدم قوائم المقاطعة أيضا، ومردّ الاستفزاز سببان، الأول أنه في بداية الحرب نشر مقطعا يحرض فيه الشعوب والجيوش العربية على حمل السلاح والمضي لدعم غزة عسكريا، لكنه سرعان ما تغافل وتحول مرة أخرى إلى أداة للترويج للمنتج المتهم بدعم الإبادة، بما يظهر أنه قابل للشراء ببضعة دولارات كما علق كثيرون، والسبب الآخر أنه على خلاف عمرو دياب مثلا، قام بمشاركة الإعلان على صفحاته الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، داعيا الناس لشراء المنتج، في ما شبهه البعض بالحملة المضادة للمقاطعة.
مع هذه المقارنات يصبح سؤال التضامن عبر الغناء أكثر إيلاما ووحشة، إذ يتحول من سؤال عن جدوى التضامن مع الضحية، إلى سؤال عن إمكانية منع الأصوات والأسماء العربية من التضامن من داعمي الاحتلال، في ذروة إجرامه ضد الفلسطينيين في غزة وفي كل مكان.