مع اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، عادت إلى الواجهة طبيعة العلاقة بينه وبين جمهور مؤيديه، الذي لم يتمكن بعد من البكاء عليه بصورة مكافئة لما أظهر تجاهه من مشاعر على مدار أكثر من ثلاثين سنة.
وبفحص سريع لتاريخ هذه العلاقة، تظهر بشكل جليّ سطوة نصر الله كقائد ملهم، يتدخل في تفاصيل يومية في حياة جمهوره، هذا ما تظهره على الأقل مقاطع الفيديو التي تجاور كل حرب، والشعار الذي يرفعه جمهوره بصورة مطلقة: "لبيك نصر الله"، في مقاربة لشعار عقدي لدى جمهور الشيعة، يرتبط بقائد تاريخي ملهم في أدبيات هذا المذهب، وهو: "لبيك يا حسين".
ولأن الأغنية صورة من صور الإعلام كما هي صورة من صور المشاعر المكثفة، لدرجة تبلغ حد إمكانية اعتبارها وثيقة تؤرخ لمرحلة أو لحالة، وليس أدل على ذلك من أسراب الأغنيات التي تصنع في كل حرب، وتنطوي على تمجيد القادة، ومن بينهم نصر الله.
وفي هذا السياق يمكن سوق أمثلة آخرها أغنية قصيرة للفنان اللبناني معين شريف، لم تتجاوز 50 ثانية، بعنوان "قطعا جاء نصر الله"، وفيها اقتباس صريح، لعبارة: "قطعا سننتصر" المنسوبة لحسن نصر الله.
وتقول كلمات الأغنية:
"هيدا الزمن اللي انطرناه
هيدا الوعد اللي سمعناه
ولى زمن الهزايم
وعدك صادق ما بننساه
وهالمرة الوعد علينا
تبقى الراية بإيدينا
صرختنا ما غيرنا:
لبيك يا نصر الله
قطعا جاء نصر الله"
وفيها اشتمال أيضا على مقولة نصر الله: "ولى زمن الهزائم"، وربما قليلا ما تشهد الأغنيات اقتباسات مباشرة لخطابات القادة، لكنها حاضرة بقوة عندما يتعلق الأمر بحسن نصر الله على وجه الخصوص.
ففي أغنية "أحبائي" للفنانة اللبنانية جوليا بطرس، والتي تتمتع بقصة مؤثرة خاصة، حيث أرسل المقاتلون رسالة إلى حسن نصر الله في خضم حرب تموز 2006، لطمأنة القيادة، وقد تداولتها وسائل صحافية وإعلامية في حينه، بعد استهداف قناة المنار، وجاء فيها: "نحن ثابتون هنا على امتداد حدود فلسطين وفي كل بقعة من جنوب العزة والكرامة والإباء، وما زلنا الوعد الذي قطعت كالرعد فوق رؤوس الصهاينة"، وجاءت الرسالة بعد أن أشاع الإعلام الإسرائيلي دعاية تفيد باستسلام مقاتلين من حزب الله.
بدوره رد حسن نصر الله على الرسالة قائلا: "أما المجاهدين فأقول لهم: وصلتني رسالتكم وسمعت مقالتكم، وأنتم والله كما قلتم، نعم أنتم الوعد الصادق وأنتم النصر الآتي بإذن الله، أنتم الحرية للأسرى والتحرير للأرض والحمى للوطن والعرض والشرف، يا أخوتي أنتم أصالة تاريخ هذه الأمة وأنتم خلاصة روحها وأنتم حضارتها وثقافتها وقيمها وعشقها وعرفانها، أنتم عنوان رجولتها، أنتم خلود الأرز في قممنا وتواضع سنابل قمح ديارنا".
فتلقف غسان مطر الرسالة بروح إبداعية، واستخرج منها قصيدة غنائية، قدمها إلى جوليا بطرس، فكانت الكلمات:
"أحبائي..
استمعتُ إلى رسالتِكم، وفيها العِزُ والإيمان
فأنتم مثلما قلتم رجال الله في الميدان
ووعدٌ صادقٌ أنتم
وأنتم نَصرنُا الآتي
وأنتم من جبالِ الشمس
عاتيةٌ على العاتي
أحبائي..
بكم يتحررُ الأسرى، بكم تَتَحررُ الأرضُ
بقبضتِكم بغَضْبَتِكم يُصانُ البيتُ والعِرضُ
بناةُ حضارةٍ أنتم، وأنتم نهضةُ القيمِ
وأنتم خالدونَ كما خلودُ الأَرزِ في القممِ
وأنتم مجدُ أمتنا، وأنتم أنتم القادة
وتاجُ رؤوسِنا أنتم، وأنتم أنتم السادة
أحبائي..
أُقَبِلُ نُبلَ أقدامٍ بها يَتَشَرفُ الشرفُ،
بعزةِ أرضنا انغرسَت، فلا تكْبو وترتجفُ،
بكم سنُغيِّرُ الدنيا، ويسمعُ صوتَنا القدرُ،
بكم نبني الغَدَ الأحلى،
بكم نمضي وننتصرُ".
وقد تكون هذه سابقة في تاريخ الغناء، أن يتحول خطاب إلى أغنية، عبر التنصيص، بحيث لم يضف الشاعر فكرة أو مقولة خاصة، إخلاصا من عند نفسه لنصر الله وخطابه، وهي صورة توثيقية دقيقة، أفضت إلى عمل فني خالد.
وفي السياق نتذكر أيضا أغنية "مقاوم" أو "عاب مجدك"، التي لم يكتبها حسن نصر الله، ولم تستوحَ من خطاباته، ولكنها وصفت حالة النصر على نحو عميق، يقف على تفاصيل معركة 2006، عندما وجد الجنوب نفسه وحيدا في عين المعركة، فقاوم وانتصر، فعاب مجد العدو بالمذلة والهزائم.
ومع ذلك فقد أسهم حسن نصر الله في الأغنية أيما إسهام، إذ إن شاعرها هو نجله "جواد نصر الله"، الذي يقول: "إن المقاومة ليست فقط بالقتال وإنما قد تكون بالشعر أيضا، وإن الشعر كان طوال التاريخ عملية استنهاض وعملية إعلامية أيضا في الحرب".
ستنتهي الحرب، ويشيع اللبنانيون حسن نصر الله كما يشتهون، وسيبقى أثره في الميدان والوجدان، إذ تشهد هذه الأغاني على كل ما كان.