في ظل التحديات البيئية المتزايدة التي تواجه العالم اليوم، يشكل التصحر أحد أبرز الكوارث البيئية التي تهدد سبل العيش والاستقرار البيئي والاقتصادي، خاصة في الدول النامية والمتعثرة، والذي يمكن تعريفه باختصار على أنه تدهور الأراضي الزراعية والمراعي وتحولها إلى أراضٍ غير منتجة، نتيجة التعرض لضغط متزايد من العوامل البشرية المختلفة والطبيعية المعقدة. وتبرز مشكلة التصحر كواحدة من أخطر التحديات البيئية التي تواجه المنطقة العربية، التي تعد من أكثر المناطق تأثرا بالتغيرات المناخية والبيئية الحالية، ومن أفقر المناطق بالمساحات الخضراء والمسطحات المائية، وإضافة لذلك، فإنها من أكثر المناطق ضعفا في سلاسل الغذاء، حيث تبلغ فاتورة استيراد الأغذية في المنطقة العربية 100 مليار دولار سنويا، وهو رقم كبير يدلل على ضعف الممارسات الزراعية والإنتاجية، وأيضا مرشح بالارتفاع بسرعة مع ارتفاع مستويات التصحر. لذلك فإن التحرك لمجابهة هذه الظاهرة هي خيار استراتيجي مهم للحفاظ ليس على التوازن البيئي فقط، إنما أيضا للمحافظة على الأمن الغذائي والنمو الاقتصادي وحتى الاستقرار السياسي.
التصحر هو تدهور التربة وفقدان الغطاء النباتي في الأراضي في المناطق القاحلة وشبه القاحلة والجافة شبه الرطبة بسبب عوامل كثيرة مثل إزالة الغابات، الرعي الجائر، الزراعة غير المستدامة، والاستخدام المفرط للمياه الجوفية، إضافة لزيادة معدلات درجات الحرارة. ويؤدي هذا التدهور إلى تراجع الإنتاجية البيولوجية والاقتصادية للأراضي الزراعية والمراعي، ليحوّلها إلى أراضٍ غير صالحة للاستخدام. ويختلف التصحر عن الجفاف؛ حيث أن عمليّة التصحر تطور بشكل تدريجي طويل الأمد يؤثر على التربة والنباتات والمياه، في حين أن الجفاف هو ظاهرة قصيرة الأمد مرتبطة بنقص هطول الأمطار في مواسم محددة.
التصحر ليس مشكلة بيئية محضة، تسهم في تفاقم الأزمات المناخية، حيث يؤدي تدهور الأراضي إلى تقليل قدرة التربة على تخزين الكربون، ليزيد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، بل تتعدى ذلك أيضًا لتصبح قضية اجتماعية واقتصادية كبيرة، حيث يؤدي انخفاض إنتاجية المحاصيل والمراعي لتقليل الدخل لدى المجتمعات المحلية، والتأثير على سلاسل إمداد الأغذية وخفض مستويات المدخولات الاقتصادية التصديرية، خاصة في دول العالم الثالث، حيث تراجع الأمن الغذائي وزيادة معدلات الفقر والهجرة القسرية قد تكون مدخلا لارتفاع حدة الصراعات حول الموارد.
تتراوح أسباب التصحر ما بين التغيرات المناخية والعوامل البشريّة المختلفة، لكن أكثر الأسباب تأثيرا في رفع تدهور الأراضي يقع معظمها تحت مظلة التدخلات البشرية، والتي يعد أهمّها الاستخدام غير المستدام للأرض والأنشطة المساهمة في تآكل التربة وتدهورها مثل الرعي الجائر، والزراعة المكثفة، وقطع الأشجار. وإضافة لذلك فإن التغير المناخي ومآلاته في ارتفاع درجات الحرارة الناتجة عن التلوث البيئي يساهم بشكل كبير في تدهور التربة وتقليل قدرتها على الاحتفاظ بالمياه، كما هو الحال في نتائج التطرف المناخي مثل الأعاصير والفيضانات والحرائق التي تؤدي لتدمير الغطاء النباتي أو تجريف التربة. ولا يمكن إغفال زيادة النمو السكاني وعدم التخطيط الصحيح لإدارة الموارد والتوسع العمراني والمدني غير المدروس، يزيد الضغط على الموارد الطبيعية، ما يؤدي إلى استنزاف الأراضي والمياه. ولذلك فإن خطط مكافحة التصحر ليست فقط شأنا محليا يشمل بعض القطاعات أو بعض الدول، إنما للسياسة العالمية دور رئيس في ذلك، لذلك أقّرت عام 1994 اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر (UNCCD) كإحدى نتائج مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية (قمة الأرض) في ريو دي جانيرو، حيث تهدف الاتفاقية إلى مكافحة التصحر وتخفيف آثاره من خلال تعزيز التعاون الدولي وتنفيذ سياسات تنموية مستدامة على كافة المستويات.
وفقًا لتقرير الأمم المتحدة، فإن %40 من أراضي العالم متدهورة مما يؤثر على حوالي 3.2 مليار شخص؛ أي ما يقرب من نصف سكان العالم، وهو ما يعني أن التصحر ليس مجرد مشكلة بيئية، بل هو أزمة اقتصادية واجتماعية خطيرة، حيث يُكبّد التصحر وتدهور الأراضي والجفاف الاقتصاد العالمي خسائر تصل إلى 878 مليار دولار سنويا. أمّا بالنسبة للمنطقة العربية، والتي تعتبر واحدة من أكثر مناطق العالم هشاشة في نظامها البيئي وتأثرا بتغيرات المناخ، فإن التصحّر يعتبر تهديدا حقيقيا للمجتمعات والاقتصاديّات في المنطقة، فحسب تقرير صندوق النقد العربي حول التصحر، فإن حوالي %90 من مساحة المنطقة تصنف ضمن المساحات الجافة وشديدة الجفاف، وحوالي 43% منها على الأقل هي صحارى، وأن حوالي 72% من مساحات المنطقة العربية تحصل على معدل هطول مطريّ سنوي أقل من 100 ملم، وهذه النسبة تتأثر بالتغيرات السلبية للمناخ، ما أدى لتراجع كميات الأمطار بنسبة تتراوح ما بين 10% و%18، مع الزيادة الواضحة في مستويات تذبذب كميات هذه الأمطار. وعلى ضوء هذه الأرقام والنسب فإن السلاسل الغذائية في المنطقة العربية مهددة بشكل كبير بالتصحر، وتضع اقتصاديات الدول على المحك بسبب ضعف الإنتاج والانزياح نحو مزيد من الاستيراد والتأثر بمضاربات الأسواق العالمية. وتتضاعف خطورة التصحر في المنطقة العربية بسبب حدة الصراعات في بعض الدول، فقد تكررت التحذيرات الدولية من أن الصراعات في السودان واليمن على وجه التحديد قد أدت إلى تدمير مساحات شاسعة من الأراضي الخضراء، وأن الاستمرار على هذا النحو في تدهور التربة سيشكل موجات جديدة من المجاعات والفقر الغذائي.
على الرغم من خطورة مشكلة التصحر وآثارها السلبية على البيئة والاقتصاد والمجتمع، إلا أن هناك حلولاً يمكن أن تخفف من آثارها بشكل كبير. وأولى هذه الحلول هي تشجيع الزراعة المستدامة باستخدام تقنيات الزراعة بدون حرث بحيث تقلل من تآكل التربة وتحافظ على محتواها العضوي، والزراعة المائية التي تستخدم كميات أقل من المياه مقارنة بالزراعة التقليدية، إضافة لزراعة المحاصيل المقاومة للجفاف والتي تتحمل نقص المياه وتناسب الظروف المناخية القاسية. من ضمن الحلول المطروحة للتصحر هو إعادة التشجير والتي تساعد في تحسين جودة التربة ومنع الانجراف وتحسين إدارة المياه ببناء السدود الصغيرة وتقنيات الري الحديثة مما يحسن كفاءة استخدام الموارد المائية.
في عام 2024، عُقد مؤتمر الأمم المتحدة لمكافحة التصحر (COP16) في الرياض، وركّز المؤتمر على تعزيز التعاون الدولي لمواجهة التصحر والتغيرات المناخية المرتبطة به. وقد أخرج عن المؤتمر قرارات جديدة تسعى إلى تعزيز التعاون في مواجهة التصحر والتغير المناخي، مع أهداف محددة بحلول عام 2030، ومنها تعزيز الاستثمار في استعادة الأراضي، حيث التزمت الدول الأعضاء بزيادة الاستثمارات في استعادة هذه الأراضي، وتسعى لاستعادة 1.5 مليار هكتار من الأراضي المتدهورة بحلول عام 2030، برأس مال قدره 12 مليار دولار يُمول من الحكومات والمؤسسات الدولية. لكن من جانب آخر، فإن تقرير تقييم الاحتياجات المالية الذي صدر في اليوم الثاني من المؤتمر يشير إلى أنّ هناك فجوة تمويلية ما بين الممنوح والمطلوب تُقدر بنحو 278 مليار دولاراً لتحقيق أهداف الاتفاقية، ما يعني أن جهود مكافحة التصحر ما تزال متواضعة مقارنة بالمخاطر الناتجة عن مزيد من تدهور الأراضي.
التصحر هو تحدٍ خطير يتطلب تضافر الجهود بين الحكومات والمجتمعات المحلية والمنظمات الدولية. إذا استمرت الاتجاهات الحالية، فإن كثيرا من مناطق العالم الثالث والمنطقة العربية بالأخص ستواجه تحديات بيئية واقتصادية هائلة قد تؤثر على استقرارها ومستقبلها. ومع ذلك، يمكن من خلال سياسات فعالة واستراتيجيات مستدامة تحويل هذا التحدي إلى فرصة لبناء مستقبل أكثر ازدهاراً واستدامة.