أسس مؤتمر الأطراف للتغير المناخي (COP) كجزء من اتفاقيّة الأمم المتحدة الإطاريّة بشأن التغيّر المناخي (UNFCCC)، بهدف تكوين أرضيّة تجمع الدول للعمل معًا للحد من تغيرات المناخ. وبمرور السنوات أصبحت قمم (كوب) محط أنظار العالم واهتمام كبير بما سينتج عنها من التزامات جماعية وتعهدات بيئية ودعم للدول النامية في التكيف مع الأزمات البيئية.
ورغم أنّ ما حقّقته (كوب) يعتبر محدودا، إلّا أن بعض المنجزات تحسب لقمم المناخ مثل بروتوكول كيوتو عام 1997 الذي يعتبر أول اتفاقية ملزمة قانونيًا للحد من الانبعاثات، وأيضا اتفاقيّة باريس 2015 التي تعتبر أهم ما تمخّض عنه قمم (كوب)، بتحديثها وتوسيعها للأهداف والتوجّهات العالميّة في مواجهة التغيّرات المناخيّة لتصبح أكثر شمولا. لكن ما تبع هذه الاتفاقيّة تراجع كبير في أداء قمم COP التي تحولت لما يشبه الكرنفالات الاستعراضيّة لتبادل الخطب الرنانة والتقاط الصور التذكارية دون تحقيق تقدم فعليّ على الأرض.
يتعمّق هذا الانحراف عامًا بعد عام بإقامة كوب في دول غير ملتزمة أو مهتمة بشكل حقيقي بمسارات التغير المناخي، كما حدث باستضافة مصر في عام 2022 والتي تعرضت لانتقادات بسبب قمعها للنشطاء أو توسّعها بالنشاطات الملوّثة، أو بالاستضافة الأخيرة هذا العام في أذربيجان، الدولة التي تعتمد اقتصادها بشكل كبير على النفط والغاز، ففي العام 2022، شكّل هذا الإنتاج ما يقرب من نصف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد و92.5 في المائة من عائدات التصدير، وفقاً لإدارة التجارة الدولية الأميركية. ورغم أنّ القمة ترتكّز على الترويج لمشاريع "الطاقة الخضراء" مثل محطات طاقة الرياح والشمس، إلا أن ذلك لم يخفِ حقيقة أن الحكومة الأذريّة تستثمر بشدة في إنتاج النفط والغاز، وتسعى لتمويل مزيد من مشاريع التوسع في الوقود الأحفوريّ، وذلك بدفع ورعاية أوروبية، لتكون المفارقة أن الدول الساعية بقوة لتبني السياسات الخضراء، لا تتوانى عن رعاية أية مشاريع ملوثة أخرى حين تتقاطع مع صالحها. هذا التناقض الواضح بين أهداف القمة وبين سياسات دول تسعى لزيادة الصناعات الاستخراجيّة الملوّثة، يعكس إشكالية كبيرة في مصداقية العملية التفاوضية في قمم المناخ وفي جدواها، ولتؤكد مرة أخرى عمق الفجوة بين الطموحات المعلنة والواقع السياسي والاقتصادي الذي يحكم العالم، خاصة في ظل غياب إرادة سياسية حقيقية تلتزم بالتعهدات والالتزامات، ما جعل من قمة باكو فرصة أخرى ضائعة في مواجهة أزمة وجودية تهدد البشرية بأسرها.
وإضافة لذلك، يأتي انعقاد القمة في ظل صراعات وحروب متفاقمة حول العالم بتأثير سلبيّ مباشر على النقاشات والمخرجات، فالحديث عن مسألة الانبعاثات والتلوّث البيئي بشكل جدّي لا يمكن أن يكون بمعزل عن قضيّة النزاعات العسكرية وأثرها المدمّر، فوفقًا لتقرير صادر عن (برنامج الأمم المتحدة للبيئة)، تساهم الجيوش في إنتاج %5.5 من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري عالميًا، وهو رقم يفوق الانبعاثات السنوية لبعض الدول الصناعية مثل اليابان. وإضافة لذلك، فإن هذه الحروب تهدم البنية التحتية، تلوث مصادر المياه، وتدمر الغابات وتصحر الأراضي الزراعية، مما يزيد من هشاشة المناطق المتضررة أمام آثار التغير المناخي، خاصة في الدول النامية والمتعثرة اقتصاديّا. وتأتي المفارقة هنا بأنه بالتزامن مع إعلان مخرجات قمة المناخ، بدأت دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا تدفع للتوسّع في رقعة الصراع والعملية العسكريّة ضد روسيا، ومن جهة أخرى تستمر إسرائيل في إبادتها العسكريّة لغزة، وكما أنّ المشاحنات بين الصين وجاراتها لا يبدو بأنها ستنتهي قريبا. ومن هنا يتضح من السياق السياسي العالميّ بأنّ مسألة الالتزامات المناخية ما تزال بعيدة عن أولويّات الدول الكبرى، التي تواصل تجاهل التي تلوّث العالم بسياساتها الصناعيّة، وأيضا بصراعاتها اللامنتهية.
وبالرجوع إلى مسألة "الالتزامات المناخية"، فقد كان التفاوض حول التمويل والالتزامات الماليّة هي القضيّة الخلافيّة والمخيّبة للآمال في قمة المناخ في أذربيجان، فقد أظهرت الدول الكبرى تململا كبيرا من الوفاء بها، بينما حاول ممثلو الدول النامية -التي غالبًا ما تتحمل العبء الأكبر من آثار التغير المناخي دون أن تكون مساهمة رئيسية في التلوث- من الضغط لمزيد من التعهدات والمخصصات لمواجهة تغيرات المناخية وخطط التنمية والاستدامة. فحسب ورقة موقف صادرة من شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية : "هناك حاجة ملحة لإعادة تقييم وتقدير حجم وسقف التزامات التمويل المناخي في ظل الزيادة السنوية في ارتفاع درجات حرارة الأرض، وزيادة الكوارث والخسائر والأضرار". فرغم أن الاتفاق في القمة خلص إلى زيادة التمويل ثلاثة أضعاف للدول النامية، من الهدف السابق البالغ 100 مليار دولار سنويًا إلى 300 مليار دولار سنويًا بحلول عام 2035، إلّا أن التقديرات التي وضعتها ورقة الموقف المذكورة سابقا، فإنّ الحاجات التمويلية المقدرة لمواجهة أزمة المناخ تتجاوز الـ400 مليار دولار.
إضافة إلى ذلك، فشلت القمة في تحديد آليات تمويل واضحة وضمانات للالتزام بالتعهدات. بدلاً من ذلك، ركزت المناقشات على إعادة تدوير نفس التزامات سابقة التي لم تُنفذ، مما يعمّق فجوة الثقة بين الدول النامية والدول الصناعية. فهذا التباطؤ في توفير التمويل يهدد بفقدان الكثير من الدول الفقيرة قدرتها على مواجهة الكوارث المناخية المتصاعدة، مثل الأعاصير، والجفاف، وارتفاع مستوى البحار.
ومع صعود التيارات اليمينية والشعبوية، خاصة في الدول الصناعية الكبرى، من المتوقع أن نشهد تراجعًا إضافيّا في الالتزامات المناخية. فخلال فترة رئاسة دونالد ترامب، انسحبت الولايات المتحدة من اتفاقية باريس، مما أعطى إشارة للدول الأخرى بأن الالتزام بالمناخ ليس أولوية، ومع تصاعد الخطاب المناهض للتعاون الدولي في أوروبا وأماكن أخرى، أصبحت الجهود المناخية أكثر هشاشة وعرضة للتسييس، وستشكّل عائقا كبيرا أمام تنفيذ التعهدات البيئية والمالية الواقعة على عاتق هذه الدول.
فشل قمة COP 29 ليس مفاجئًا بالنظر إلى هذه العوامل مجتمعة. التناقضات بين أهداف القمة وسلوك الدول، الإخفاق المستمر في تقديم التمويل الأخضر، التأثير الكارثي للحروب، وصعود التيارات السياسية المناهضة للعمل المناخي كلها عوامل تُظهر أن العالم ما زال بعيدًا عن تحقيق أهدافه المناخية. ما يحتاجه العالم اليوم ليس فقط التزامات جديدة، بل إرادة سياسية قوية لتنفيذ ما تم التعهد به بالفعل، وهذا ما لن يكون دون ضغط منظم من الجماعات والمؤسسات والنقابات، للدفع باتجاه إنهاء الصراعات والحرب، وبتصدير نخب تتبنى سياسات توطين النظم البيئية بشكل محليّ وبشكل يتوازى مع تشبيك الجهود عالميا، فدون هذه الجهود، ستفقد قمم المناخ أية منجزات حقيقية مؤثرة، بينما يستمر الكوكب في السير نحو كارثة محققة.