تطور مسار التظاهرات في البصرة ودخولها مرحلة حاسمة في مواجهة السلطة وأجهزتها القمعية المختلفة، فضح هذيانات حكومة المحاصصة الطائفية ووعودها الزائفة حول الإصلاح والتغيير وتوفير فرص العمل والخدمات والماء والكهرباء...الخ، وجعلتها في مواجهة لحظة الحساب الجدي والحاسم. فلا فرص العمل توفرت، ولا الخدمات تحسنت، فيما تحول الماء إلى كابوس مرعب بعد أن أصيب الآلاف من سكان البصرة بحالات تسمم (18 ألف حالة تسمم، حسب دائرة صحة البصرة) نتيجة ارتفاع التلوث البكتيري والجرثومي في المياه التي تصل إلى بيوت سكان البصرة.
الوعود التي أطلقها رئيس مجلس الوزراء في العراق، لم تكن سوى محاولات لامتصاص الغضب وكبح جماح الإحتجاج وخلق حالة من التشرذم وشراء ذمم شيوخ العشائر والزج برجال الدين لحرف مسار التظاهرات وتحويل وجهتها نحو أهداف لا تمت لهموم المواطن البصري والعراقي عموماً بصلة. وها هو العبادي ومن معه في الحكومة المركزية والمحلية يواجهون لحظة غضب يصعب امتصاصه أو حرف مساره.
إطلاق الرصاص على شباب البصرة المحتج والمتظاهر من أجل حقوقه وكرامته، حيث قتل خمسة من المتظاهرين وجرح العشرات منهم، كشف عن فقدان الحكومة لأي حل لمأساة البصرة، أو تلبية المطالب بالحقوق والحياة الكريمة، سوى بالبحث عن حل أمني يتمثل في إطلاق العنان لقوى القمع لتمارس مهنتها الأصيلة: قتل المتظاهرين وتعذيبهم وزجهم في المعتقلات ومطاردتهم في الشوارع، لكن واقع الحال يقول إن قوات الأمن تركت مدرعاتها وآلياتها في شوارع البصرة واختفت من واجهة المشهد ليقوم الشباب الذين تلقوا بصدورهم العارية رصاص القوات القمعية بحماية تلك المدرعات والآليات والسهر من أجل الحفاظ عليها، وليسقطوا بذلك التصريحات المنحطة التي أطلقها جاسم السعدي مدير شرطة البصرة عن وجود مندسين ومسلحين في التظاهرات.
مشكلة البصرة لا تنحصر في أزمة المياه، أو توفرها ونقاوتها، ولا في توفير فرص العمل، بل في استمرار وجود نظام المحاصصة الطائفية وقواه السياسية والمليشيات المسلحة وتدخلات المؤسسات الدينية التي تسعى لممارسة دور حامي النظام وكبح جماح الاحتجاج والدفاع عن سلطة طائفية فاسدة. فهذا النظام تحول إلى عبء كبير على العراق والعراقيين فأفسد الحياة السياسية وحولها إلى لعبة مزايدات من أجل الحصول على المنافع والإمتيازات وممارسة النهب تحت حماية القانون. ومن المؤكد أن نظاماً كهذا لا ينشغل بقضايا الحقوق والكرامة الإنسانية، ولا بتوفير فرص العمل والحياة الكريمة لمن يحكمهم، بل إنه يجد في مآسيهم وفقرهم وبطالتهم فرصة لاستمراره في الحكم والتسلط والتلاعب بمقدرات الدولة وثرواتها.
حتى لا تضيع جهود وتضحيات شباب البصرة وكل مدن العراق الذين يواصلون احتجاجهم وتظاهراتهم ويرفعون سقف مطالبهم، فيتحملون الحر والعطش وعنف القوات القمعية ورصاصها وهراواتها، والحملات الاعلامية المسعورة التي تشنها السلطة والفضائيات الطائفية ورهط الذين امتهنوا التحليل السياسي والأمني المزيف والمخادع، وتستهدفهم وتشوه صورتهم وتتهمهم بالعمالة والاندساس وتخريب مؤسسات الدولة، فلا بد من التفكير بشكل جدي بمطالب المرحلة المقبلة، بعد أن تيقنا، جميعاً، من زيف الوعود التي أطلقتها السلطة، وبالبديل الذي يجب أن لا يكون بيد احزاب السلطة وقواها، بل بيد شباب ساحات الاحتجاج والتظاهر، وهم أصحاب الحق في فرضه على السلطة وعلى كل من يقف معها.