قبل فضيحة انسحاب قوات الأمن العراقية من الموصل إبان حكم المخلوع نوري المالكي وتركهم لمواقعهم أمام بضع مئات من مقاتلي ما سيطلق عليها لاحقاً "الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)" الذين احتلوا المدينة، ثم بسطوا سيطرتهم على ثلث مساحة العراق، كان صديق مصلاوي، تعرفت عليه خلال فترة دراستي القصيرة في كلية الصيدلة في أوكرانيا عام ،2010 يلح علي لزيارته في الموصل كلما عاد إلى المدينة في العطلتين الربيعية والصيفية. ولكن، للأسف، انشغالي بدراستي بكلية الهندسة التي انتقلت إليها في بغداد كان دائما يمنعني، واليوم أندم كثيراً على عدم تلبية الدعوة.
كنت قد كتبت نصاً قصيراً تحدثت فيه عن تلقي خبر سقوط الموصل بيد مقاتلي داعش وعن تلك الدعوة في شتاء 2016، نشر ضمن مجموعة من المقتطفات الأدبية الداعمة للمدينة في مجلة شكو ماكو الالكترونية (ShakomakoNET).
مرت السنوات وأنجبت الفضيحة كارثة أخرى ستضاف إلى سجل العراق الحافل بالمآسي والويلات. فلثلاث سنوات، عاث مقاتلو التنظيم في نينوى فسادا. فسبوا النساء الأيزيديات وجندوا أطفالهن، هجروا المسيحيين من الكلدان والآشوريين والسريان ونسفوا الآثار التاريخية والمتاحف وحتى والمساجد والكنائس.
وبعد تسعة أشهر من الاقتتال الدموي الذي جوع السكان وشردهم، حول المدينة القديمة في الموصل إلى أنقاض ودفن من بقي من المواطنين تحتها، أعلن العراق تخليص المدينة وسكانها من مخالب مقاتلي داعش في تموز 2017، بعد عملية عسكرية شاركت فيها ميليشيات الحشد الشعبي وقوات التحالف الدولي سيئ الصيت الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي الأسابيع القليلة الماضية، سنحت لي أخيرا فرصة رؤية المدينة التي طالما حلمت بها بمناسبة مرور سنتين على إعلان "النصر" ، فزرتها لعدة مرات وكتبت مقالا تحدثت فيه عن واقع السكان وما خلفه إعصار الموت هناك من خوف ودمار.
[لقطة للمدينة القديمة من الضفة الشرقية من نهر دجلة تظهر حجم الدمار الذي لحق بها، الموصل، 14 تموز 2019.]
كانت الحياة قد بدت كأنها عادت فعليا إلى معظم مناطق الجانب الأيسر على الضفة الشرقية لنهر دجلة. مطاعم جديدة مكتظة بالزبائن، شبان بتسريحات شعر عصرية وقمصان ملونة يلعبون الورق وينفثون دخان النرجيلة على أنغام موسيقى البوب الحديثة، وفتيات سافرات يتجولن في شوارع كان مقاتلو داعش ينفذون أحكام إعدام علنية على أرصفتها في زمن ليس ببعيد.
ومع ذلك، كان الاطفال اليتامى ممن حصدت الحرب ذويهم أو أولئك الذين اعتقلت السلطات آباءهم وإخوانهم بحجة الانتماء أو التعاطف مع مسلحي داعش يهيمون في الشوارع بحثاً عن الصدقات من أصحاب السيارات المصطفة في طوابير طويلة عند التقاطعات المزدحمة. وتذكر المنازل المدمرة بقصف نفاثات التحالف العشوائي الذي أباد آلاف المدنيين العزل وفق أرقام من Airwars وIraq Body Count، فضلا عن شهادات أهل المدينة أنفسهم.
[طفل متسول يقف عند احد تقاطعات مدينة الموصل، 14 تموز 2019.]
[أطفال يلعبون بكرسي متحرك في المدينة القديمة في الموصل، 14 تموز 2019.]
للجانب الايمن حكاية أخرى، حيث تكومت هياكل آلآف المنازل المدمرة جراء القصف الجوي فوق بعضها على ضفة النهر الغربية فبدت المدينة القديمة من الضفة الأخرى كمدينة أشباح. عظام بشرية ملقاة هنا وهناك، ورائحة الجثث المتعفنة ترحب بالزوار وتدور على الأزقة المقصوفة لتطرق أبواب العوائل القليلة التي عادت وتحول بينهم وبين محاولاتهم اليائسة لتقطيب جراحهم العميقة.
عند تجولي بين جثث المنازل الذبيحة على ضفة النهر، كانت كلمة واحدة تدور في ذهني: الخيانة. هناك الكثير من الأسئلة التي تحوم حول الخطة العسكرية التي اتبعت في تحرير الجانب الأيمن، وكيف أغلقت منافذ المدينة أمام مقاتلي التنظيم ليدفن المدنيين معهم تحت أنقاض منازلهم. أو كيف يعطى الضوء الأخضر من الأساس لمقاتلات التحالف الدولي لتنفيذ ضربات جوية في مناطق مكتظة بالسكان كتلك التي في المدينة القديمة في الموصل.
[صورة بانورامية لمدينة الموصل الواقعة على نهر دجلة، يظهر فيها حجم الدمار في الجانب الايمن وجمال ضفة النهر الشرقية، 14 تموز 2019.]
ورغم حجم الخسائر المخيف والكارثة الإنسانية التي حلت بالسكان هناك، فأن "الإعلام العراقي" لم يجرؤ – إلا ما ندر – على التشكيك في سير تلك العملية، بينما ينهمك اليوم في تعظيم ذلك "النصر المبين" ولا يتطرق للسؤال عما خلفته الحرب من خسائر بين المدنيين العزل.
عادة الإنكار هذه متجذرة في النظام السياسي والمؤسستين العسكرية والإعلامية في عراق ما بعد الاحتلال ودائما ما يتم التهرب من مسؤولية تقديم أرقام واضحة ودقيقة عن الخسائر المدنية والتقليل من حجم المآسي وإعطائها صبغة طبيعية ومن ثم صرف النظر عنها بالكامل لتلميع صورة الدولة ومؤسساتها على حساب معاناة المدنيين.
وكخير دليل على ذلك، عندما اعتقلت السلطات الجندي الذي انتشر له مقطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي يظهر فيه وهو يتحرش بطفل صغير ويتكلم عبر مكالمة فديو جماعية عن اغتصاب والدته مع جنود آخرين في الموصل، نشر يحيى رسول، المتحدث باسم خلية الاعلام الأمني تغريدة على حسابه في موقع تويتر كتب فيها إن "مديرية الاستخبارات العسكرية في وزارة الدفاع ألقت القبض على كل الأشخاص الذين ظهروا بمقطع فيديو أساؤوا فيه لسمعة الجيش العراقي"، وليس للجريمة البشعة التي ارتكبوها بحق الطفل ووالدته، في محاولة لتصوير الجريمة على أنها حادثة فردية ومحاولة لتشويه صورة الجيش العراقي بدل فتح تحقيق في إمكانية وجود مثل هكذا ممارسات بين صفوف القوات الأمنية ووضع طرق للتعامل مع مرتكبيها إن وجدت.
بعد مرور عامين على طرد مسلحي داعش من الموصل، تبدو المدينة القديمة اليوم كمقبرة وادي السلام في النجف، موحشة وشبه خالية من البشر وحتى من الحيوانات كالطير والقطط والكلاب السائبة. يعيش أغلب من عاد من سكانها على المساعدات التي تقدمها منظمات الإغاثة الدولية وكل ما أنجز من عمليات إعمار بسيطة كإعادة بناء بعض المنازل وإعادة تأهيل شبكات المياه وما شابه أنجز من قبل تلك المنظمات في ظل إهمال حكومي مستمر.
[عامل يقود آلة رفع انقاض بجانب الجامع النوري في مدينة الموصل القديمة، تظهر في الصورة المنارة الحدباء للجامع، 14 تموز 2019.]
هذا ويستمر أكثر من 300 ألف مواطن موصلي بالنزوح وفق أرقام من المجلس النرويجي للاجئين NRC، فضلا عن أن مستقبل المدينة مهدد بالخطر فهناك أجيال أمية لا تكتب ولا تقرأ ستكبر بعد أن أجبر الآلاف من الأهالي على سحب أبنائهم من المدارس عندما غير التنظيم الإرهابي المناهج الدراسية بما يخدم أيدولوجيا التطرف التي يتبناها عناصره.
كانت زيارتي للموصل موجعة ومليئة بالدموع، ورغم حجم الدمار الصادم كنت أحاول رسم صورة جميلة لها، أن اتخيلها قبل أن تطأ أقدام الغزاة الامريكان أرضها لتفتح الباب لدوامة الموت والعوز والدمار الأبدية. كان للمدينة سحرها الخاص، رغم الدمار، وكنت أحاول أن أتخيل كيف كانت الأمسيات في حي الميدان على ضفة النهر، أو في حدائق المنازل الكبيرة في حي الحدباء الراقي، صباحات جامعة الموصل والتمشي في الغابات، أذان الجامع النوري ودقات جرس كنيسة الساعة، وتفاصيل صغير كثيرة أخرى. لكن فات الأوان.
[ الجامع النوري المدمر في الجانب الايمن من مدينة الموصل، 14 تموز 2019.]