سحر العيش المشترك في لبنان: اتفاق الطائف بعد مرور ثلاثين عاماً

[مظاهرات اكتوبر في لبنان] [مظاهرات اكتوبر في لبنان]

سحر العيش المشترك في لبنان: اتفاق الطائف بعد مرور ثلاثين عاماً

By : Maya Mikdashi

[ترجمة: أسامة إسبر]

في سنة 1989 صادقَ نوّابُ آخر برلمانٍ لبناني مُنْتخبٍ على اتفاق الطائف (الذي سُمِّيَ رسمياً ”وثيقة المصالحة الوطنية“). وُقّعَ الاتفاق في مدينة الطائف السعودية، ومَكَّنتْ له وفرضَتْه إرادةٌ وحوافز سياسيةٌ واقتصادية دولية وإقليمية، وأبقاه عائماً إعياءُ الشعب الذي تحمّل 15 سنة من الحرب.  ثم جرى إدراجه في الدستور اللبناني سنة 1990. وقد مرَّ اليوم ثلاثون عاماً على توقيعه في 22 تشرين الأول\أكتوبر سنة 1989، لكنه لم يُطبَّق حتى الآن بشكل كامل.

قتلت الفصائل المتحاربة للحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) نحو مائة وخمسين ألف شخص، معظمهم من المدنيين، وأقعدت عدداً أكبر من ذلك، وسببت مستويات هائلة من النزوح والهجرة. إذ هاجر  ثلاثون بالمائة (حوالى 800,772 شخص) من سكان ما قبل الحرب الذين بلغ عددهم  مليونين وخمسمائة وستة وسبعين ألفاً،  ونزح في الداخل نحو ثلاثة وثلاثين بالمائة آخرين (تقريباً 850,080).

وقدرت مجموعات البحث المستقلة أن 4٪ من السكان، أي 103,40 آخرين جُرحوا، وأن حوالى 19,300 اختفوا قسراً أثناء الحرب الأهلية.  وفي الحقيقة،  ربما كان الدرس الأقوى لاتفاق الطائف هو أنه إذا طال أمد الحروب طويلاً بما يكفي، كل شيء يمكن أن يُساوم عليه أو تُعقد صفقة حوله مقابل نهاية بسيطة للحرب. وما يظن الأجانب أنه “دعم“ لاستقرار هذا النظام  أو ذاك هو في الحقيقة رغبة بالأمان ولكن هذا غير قابل للتعميم، وفقط قلة من الأشخاص العاديين من أولئك الذين عاشوا ظروف الحرب الأهلية يستطيعون فهمه. إذ غالباً ما تبدأ الحروب بدوي طلقة مسدس أو قذيفة هاون وتنتهي بتذمر الناس الذين يعيشون في ظل هذا المسدس ومدفع الهاون.

رسّخ اتفاق الطائف، ولو أنه لم ينشئ، ما يمكن أن ندعوه زمنية المؤقت. وكمصطلح، تجذب الزمنية الانتباه إلى العمل الإيديولوجي والسياسي لكل من التجربة العاطفية للفترة والطرق الرسمية في تمرير الوقت.  وفي كلٍّ من عامي 1926 و1989، العام الذي تم فيه تبني الدستور اللبناني لأول مرة، والعام الذي جرى فيه إدراج اتفاق الطائف جزئياً في ذلك الدستور، صُقلتْ الطائفية (الطائفية السياسية) كإطار مؤقت،  ويجب أن تُفهم هذه الطبيعة ”المؤقتة“ المفترضة للطائفية السياسية، كما أقول في أبحاثي، بأنها تؤمن العمل الليبرالي والتعويضي والتربوي للدولة اللبنانية، وكذلك مستقبلها.  باختصار، تعاود بفعالية إنتاج الزمن المستقبلي للدولة لأنها تبقي المواطنين معلقين داخل زمنية المؤقت، مدعومين بالخوف من ”طغيان الأغلبية“ إذا انتهت الطائفية السياسية قبل أن يتم النجاح في صناعة المواطنين الوطنيين من المواطنين الطائفيين.  وبحسب هذا المنطق، لا تنتهي الطائفية السياسية  إلا حين يتحرر المواطنون من الطائفية، لكن إنهاءها ”بشكل فوري“ مظلل بتهديدات للعلمانية والليبرالية والتزام لبنان بالتعددية.  وكي أكون واضحة، إن تهديد الديمقراطية المباشرة موزع بشكل غير متساو على المسلمين، الذين يشكلون أغلبية ديموغرافية، وخاصة اللبنانيين الشيعة، الذين يُعتبر خطابهم الكلاسيكي والطائفي مديناً بشكل خاص لقادة دينيين وطائفيين بطركيين ومسيطراً عليه من قبلهم.

ينطوي هذا المنطق على تناقض جوهريّ، وهو أن سياسيين يدينون بمقاعدهم لنظام طائفي سياسي سيعملون بفعالية على تفكيكه وتفكيك الشبكات الاجتماعية والقانونية التي تسهّله ( ويجب أن يتم هذا مترافقاً مع تغيير أذهان وقلوب المواطنين أنفسهم). إن زمنية المؤقت هذه متأصلة في منطق الانتداب والاستعمار، بمعنى أن مجموعة من الناس يجب أن تُحْكم إلى أن تُجْعَل ”جاهزة ” للحرية والمساواة، وتُعْلَن كمواطنين في دولة مستقلة، ومواطنين في ديموقراطية ليبرالية مباشرة. ووُصف حكم الانتداب في الشرق الأوسط ووسيطه، الدولة الاستعمارية، هكذا بأنهما يقومان بمهمة تحضير. وورثت الدولة القومية المستقلة عمارة وإيديولوجية هذا المهمة التحضيرية من خلال زمنية المؤقت.

وفاقمت قراءةٌ ماكرة وتطبيقٌ جزئي لاتفاق الطائف هذا التناقض الجوهري بين (1) صقل الطائفية مؤسساتياً واقتصادياً وبيروقراطياً من أجل تبرير الطائفية السياسية ك“انعكاس“ سيء ولكن ضروري للواقع، و(2) توكيل الطائفية السياسية بمهمة إنهاء الطائفية، في النهاية. وترافقت الطائفية السياسية أيضاً مع الفساد وقطاع عام مصاب بالتضخم، ومع سياسيين يسيطرون على الأموال العامة والمدخل إلى خدمات الدولة، بما فيه التوظيف، ويعيدون توجيهها إلى شبكاتهم الطائفية. لا تتضايق معظم الديمقراطيات التوافقية من منطق المؤقت، فهي لا تعد بمستقبل غير توافقي. ما العمل الذي تقوم به زمنية هذا المؤقت في الحياة السياسية للبنان؟

نسيان العفو، نسيان العنف الجنسي

ما يتضمنه اتفاق الطائف وما لا يتضمنه مهم لأن صفقات السلام أدائية، فحين تكون ناجحة، تنتج غالباً وترعى سرديات تاريخية مهيمنة للحروب تصوغها حتى النهاية، وتقدم خريطة طريق لإصلاح سياسي مطلوب.

سهّل قانون العفو العام لسنة 1991 تطبيق اتفاق الطائف. فقد عفا الاتفاق عن ”كل الجرائم المرتكبة أثناء الحرب الأهلية من 1975 حتى 1990“. وعلى نحو محدد، عفا قانون العفو العام عن جميع الأفعال التي عُرِّفتْ كجرائم في قانون العقوبات اللبناني، وقانون العقوبات العسكري، وقانون الذخائر والمتفجرات. بهذه الطريقة، عفا قانون العفو عن انتهاكات كل من الأحزاب السياسية والقادة وقت الحرب وعفا عن جرائم الاغتصاب والقتل والتعذيب والاختفاء القسري التي ارتكبها الأفراد وأعضاء الميليشيات. لكنه لم يعْف عن جميع الجرائم، إذ لم يشمل العفو أشخاصاً مثل الذين زوّروا عملةً،  أو تاجروا بالآثار مثلاً. عُفيَ عن منفذي الاغتيالات السياسية، لكن العفو لم يشمل جرائم ومجازر ارتُكبت ضد السكان المدنيين في وقت الحرب. يقول كثيرون إن قوانين العفو جوهرية لضمان إنهاء الحروب الأهلية وتمثل ”شراء“ سياسياً لحقبة ما بعد الحرب. لكن قوانين العفو الخاصة بالحرب الأهلية تصبح أكثر فعالية حين تُسن وتُمرر مترافقة مع لجان تقصي حقائق وسيرورات عامة في الإصلاح. وهي نادراً ما تكون شاملة هكذا.

كان للعفو الذي شمل، بشكل خاص، جميع جرائم العنف الجنسي أثناء الحرب الأهلية تأثيرات نادراً ما حُللت، هذا إذا اعتُرف بها، على مستوى السياسة أو التحليل السياسي. ولكن حين لا يُعْترف بالعنف الجنسي الذي يمارسه المتحاربون كشكل من أشكال العنف السياسي أثناء الحرب الأهلية، لا يتلقى الضحايا تقريباً أبداً خدمات اجتماعية أو طبية، أو حتى اعترافاً بسيطاً  بمصابهم. وحين لا يتناول المصلحون والمحللون ما بعد الحرب العنف الجنسي بوضوح فهم يتواطأون بفعالية في إسكات العنف الجنسي وجعله طبيعياً في كلٍّ من الماضي والحاضر. يمكن ألا تكون هذه التواطآت مقصودة، لكنها دليل على هيمنة التحليل السياسي الذكوري في لبنان في الحرب وبعدها. وليس من غير المألوف إطلاقاً، مثلاً، أن تدرس المؤتمراتُ والمشاغلُ ومجموعاتُ السياسة الطائفيةَ والطائفيةَ السياسية بشكل شامل دون أن تأخذ في الحسبان الحقيقة البسيطة بأن المواطنين الطائفيين لا ينبتون كالفطر من الأرض، بل يُنتجهم نظام بيوسياسي (بيولوجي سياسي) يشدد على التناسل، والإرث البطركي، وقوننة الجنسانية بقانون أحوال شخصية ديني ومؤسسات دولة علمانية.

حين يُمنح العنف الجنسي عفواً شاملاً، تُختزل الحرب إلى سردية حول ما يفعله المسلحون لبعضهم بعضاً و\أو إلى سرديات غامضة حول مآسي حصلت للمدنيين أثناء الحرب.  ويمكن أن يقول البعض إن الصمت المحيط بالعنف الجنسي أثناء وقت الحرب لا يحترم الضحايا والحساسيات الثقافية، لكن هذا الخط أصبح متعباً لأن البحث لم يدعمه أبداً. وإذا حدث أي شيء، صار عذراً لعدم التفكير حول الموضوع، أو إدخال العنف الجنسي في تواريخ أو تحليلات أو سياسات موجهة إلى الحروب الأهلية وحقب ما بعد الحرب في المنطقة.  وتحتل المجازر وعمليات التهجير والتعجيز حيزاً أكبر في الخيال العام عن الحرب الأهلية اللبنانية أكثر من الاغتصاب والتحرش والهجوم أو الإكراه الجنسي، لكن هل يصدق أحد أنه كونك تعرضت للاغتصاب على حاجز لأنك امرأة أو فلسطينية هو شكل من العنف السياسي أخفّ من كونك ضُربت أو اختفيت على حاجز لأنك من الطائفة الخطأ أو لأنك لاجئ فلسطيني؟  هل يعتقد أحد أن الاغتصاب من قبل أفراد الميليشيا هو أذى أخف من الابتزاز الاقتصادي؟ لا يقدم هذا النسيان الإرادي التسويغ للعنف الجنسي أثناء وقت الحرب فحسب، بل يجعله حتمياً أيضاً.

صار كثير من قادة لبنان في وقت الحرب قادة سياسيين بعد الحرب كنتيجة مباشرة لقانون العفو، وبقوا هم (أو أقرباؤهم) هكذا.  وكان هؤلاء هم الرجال الذين أُوكلت إليهم مهمات تطبيق اتفاق الطائف، ولهذا ربما لم يكن من المستغرب أنه لم يُطرح أي برنامج  للأم الجراح الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للحرب. ولم تحدث مصالحة رسمية، ولم تُشكَّل لجان تقصي حقائق، أو تُعقد ندوات لتعويض المدنيين، ولم يحدث إصلاح تربوي شامل. وما تزال كتب التاريخ التي تُدرس في المدارس العامة، مثلاً، تنتهي في 1975. وبعيداً عن سن سلسلة قوانين وإنشاء برامج لإلغاء الطائفية السياسية كما ينص اتفاق الطائف، استثمر أمراء الحرب  السياسيون اللبنانيون في الحفاظ على وفي توسيع رأس مال المحسوبيات والطائفية وشبكات نيوليبرالية سيطروا من خلالها على المدخل إلى الدولة. ربما يتعلق هذا جزئياً ببنية ”الديمقراطيات التوافقية“ نفسها، التي قال بعض الباحثين إنه من المحتمل أكثر أنها تقود إلى فساد وجمود سياسي.

حروب داخل الحروب: الاقتصاد، الفساد، والمساءلة

أشار عدد من الباحثين إلى الطرق التي كان فيها اتفاق الطائف، والتعديلات الدستورية المتعلقة به،  اللحظة التكوينية للفساد المستشري وإعادة الهيكلة النيوليبرالية للبنان ما بعد الحرب. وكان هذا جزئياً ناجماً عن استنساخ الاتفاق لمأزق الحرب الأهلية، مانعاً أي مجموعة محلية من الهيمنة على العملية السياسية. وكان هذا ناجماً أيضاً عن حقيقة أن النظام السياسي الذي أعيدت هيكلته منح الرئيس ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النوب سلطات متماثلة تقريباً. إن الجمود المؤسساتي الناتج لا يمكن أن يُنهى إلا إذا عُقدت الصفقات بين ”الرؤساء الثلاثة“ أو التحالفات الأوسع للسياسيين.  وفي هذا السياق، بزغت سياسة المحاصصة، والتي تُعرف بتقاسم ”مغانم  السلطة، والامتيازات والموارد“، إذا استخدمنا كلمات رينود ليندرز. فضلاً عن ذلك، إن عدم حدوث مساءلة للفساد السياسي يجب أن يُربط بغياب المساءلة على المشاركة في الحرب الأهلية. وفي النهاية ساعد اتفاق الطائف في  تحول أمراء الحرب  إلى رجال دولة.  فالذين دمروا ونهبوا مؤسسات وموارد ما قبل الحرب وشكلوا كانتونات سياسية واقتصادية واجتماعية بديلة أوكلت لهم في حقبة ما بعد الحرب مهمة تقوية وتدعيم الوحدة الوطنية، ومؤسسات الدولة، والتنمية الاقتصادية. فضلاً عن ذلك، لم يعالج اتفاق الطائف، على غرار جميع صفقات السلام، الأسباب الاقتصادية للحرب الأهلية وتأثيراتها. إذا لم ينه اللامساواة السياسية التي وُجدت في لبنان قبل الحرب وتفاقمت أثناءها. كان فعلُ هذا يقتضي أيضاً معالجة الثروات الهائلة التي راكمتْها فصائل الحرب. بدلاً من ذلك، إن سلسلة الإصلاحات النيوليبرالية التي طبقتها حكومات ما بعد الحرب كحكومة رئيس الوزراء رفيق الحريري فاقمت فحسب اللامساواة في الثروة ودمرت أكثر الطبقة الوسطى وشجعت على ملاحقة السلطة من قبل أغلبية في البلاد. وزادت مضاربات الأراضي، وعقود الحكومة، ودورات التضخم من غنى شبكة من النخب بينما في الوقت نفسه خَصَتْ وأضعفت الطبقتين الوسطى والعمالية.  ويجب أن يضيف المرء إلى هذه الدينامية الربح المفرط اللاعقلاني للنظام السوري، وللجيش والاستخبارات أثناء تلك العملية حتى عام 2005. وفي الأعوام الثلاثين التي تلت نهاية الحرب الأهلية، تواصلت ”الحرب الاقتصادية داخل الحرب“، كما عبّر رولف ترويللو Rolph Trouillot، واستعرت بعد توقيع اتفاق الطائف.  ربما كان هذا غير مفاجئ في سياق نُص فيه على السوق الحرة والملكية الخاصة في الدستور، لكن لم يُنص على الحق بالوظيفة، والرفاه الاجتماعي،  وتأمين السكن، أو حياة محترمة. وبحسب ليديا أسود Lydia Assouad تتركز الثروة في لبنان حالياً ” بشكل كبير في يد العشرة الأوائل ويسيطر 1٪ من السكان البالغين اللبنانيين تقريباً على 45٪  و70٪ من الثروة الشخصية الكلية على التعاقب.  إن هذه المستويات هي جوهرياً أعلى مما هو الأمر في  الصين وفرنسا وأعلى قليلاً مما هو في روسيا والولايات المتحدة في الفترة الأخيرة“. ويمتلك لبنان إحدى أعلى النسب من أصحاب البلايين بالنسبة لعدد السكان في العالم، وأعلى دين عام بالنسبة لنسب الناتج المحلي الإجمالي في العالم. وبينما يمتلك قطاع المصارف معظم هذا الدين، فإن السياسيين وحلفاءهم بشكل مباشر وغير مباشر يهيمنون على قطاع المصارف، مما يعني أن السلالات السياسية والاقتصادية تستفيد بشكل مباشر وتربح من الدين العام وخدمته المطولة تحت شروط تفضيلية.  يجب ألا يفاجئنا بالتالي أن الذين حصلوا على العفو عن جريمة إصدار أمر أو تنفيذ المجازر وجرائم الحرب ، مثلاً، أخذوا هذا الإحساس بالاستحقاق والمناعة معهم إلى حكومات ما بعد الحرب. وفي 2019 أفشل هذا الإحساس بالاستحقاق المفاوضات على ميزانية تقشف حيث، كما قال سامي عطا الله:”رفض مجلس النواب مقترحات لفرض الضرائب على رواتب وفوائد ومعاشات تقاعد السياسيين الحاليين والسابقين وكذلك تعديلات لزيادة الأجور على السيارات المفيّمة وتراخيص حمل المسدسات المستخدمة من قبل حاشيتهم الأمنية“. ورُفضت بشكل مشابه أفكار لفرض ضريبة على الثروات أو ضريبة على المضاربات العقارية.

وصعّب قانون العفو المعالجة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للحرب الأهلية. إن إسكات الحرب الأهلية فعال بقدر ما هو إيديولوجي.  وفي  بداية 2019 عوقب عضو في مجلس النواب لأنه أشار إلى حقيقة تاريخية بأن الرئيس المنتخب بشير الجميل وصل إلى السلطة من خلال تحالف في وقت الحرب مع دولة إسرائيل.  قيل هذا رداً على حقيقة أخرى، هي أن الرئيس ميشيل عون تمكن من الوصول إلى السلطة من خلال تحالف مع حزب الله.  واعتُبر التعليق على الرئيس السابق بشير الجميل ”غير مقبول“ من قبل ابن أخيه وابنه، وكلاهما عضو في البرلمان. وانتقد حزب الله بعنف البرلماني المذكور. وما كان غير مقبول لأعضاء مجلس النواب اللبناني وما اقتضى اعتذاراً رسمياً لم يكن تحالفاً من زمن الحرب مع إسرائيل، بل بالأحرى كان حديثاً عن ذلك التحالف في زمن الحرب.

المؤقت الأبدي

تعهد اتفاق الطائف أن“إلغاء الطائفية السياسية يجب أن يكون هدفاً وطنياً، ويجب أن يتم وفق خطة مرحلية“ وأنه ”لن تكون هناك شرعية دستورية لأية سلطة تناقض عهد الميثاق المشترك“. ووعدَ الاتفاق، والتعديلات الدستورية التي عكسها، بمستقبل سياسي لن يُنتخب فيه أعضاء البرلمان من قبل نظام انتخابي طائفي أو مناطقي. أولاً، كان يجب أن يُنتخب مجلس نواب جديد،  وتجتمع حكومة جديدة، هذه المرة على مبدأ التمثيل المتساوي للمسلمين والمسيحيين، وإصلاح نظام فضّل سابقاً المسيحيين.  إن هذا المجلس المُصحّح حديثاً، والموزّع بشكل متساو، وهذه الحكومة، سيعملان على إلغاء النظام الانتخابي الذي جلبهما إلى السلطة، الطائفية السياسية والتمثيل المناطقي. وحالما يحدث هذا، سيُشكل مجلس شيوخ بسلطة محدودة ” تُمثل فيه جميع الجماعات الدينية“. لا توجد كلمات مثل ”ماروني“ و“سني“ أو ”شيعي“ لا في اتفاق الطائف ولا في الدستور اللبناني. وعلى الرغم من هذه الحقيقة، يفترض كثيرون أن نظام الترويكا، والذي بمقتضاه يجب أن يكون الرئيس مسيحياً مارونياً، ورئيس الوزراء مسلماً سنياً ورئيس مجلس النواب مسلماً شيعياً، شرط دستوري. بدلاً من ذلك، يحتوي الدستور فقط على  كلمتيْ مسلم أو مسيحي أربع مرات في 24 صفحة، عثر على اثنتين منهما في النص الحالي للمادة 95، وهو تعديل لاتفاق الطائف:

إن مجلس النواب الذي يُنتخب على أساس المساواة بين المسلمين والمسيحيين سيتخد الإجراءات التي تلغي الطائفية السياسية بحسب خطة انتقالية. وستتشكل لجنة وطنية يرأسها رئيس الجمهورية، تتضمن، بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس الوزراء، المفكرين السياسيين البارزين والشخصيات الاجتماعية. وستشمل مهمة هذه اللجنة دراسة واقتراح الوسائل لضمان إلغاء الطائفية، واقتراحها على مجلس النواب ومجلس الوزراء، ومتابعة تنفيذ الخطة الانتقالية. وفسّر السياسيون اللبنانيون المادة 95 من الدستور كتناقض ملائم: ماذا إذا أضر إلغاء الطائفية السياسية (في الحال) باتفاق العيش المشترك والسلمي؟ إن اتفاق الطائف لم يحدد أي إطار زمني  لتطبيقه، وكذلك الدستور. بدلاً من ذلك، تبقى الوثيقتان مجمدتين في الزمن الحاضر ل“تعهد“ و“التزام“ بمستقبل غير طائفي مختلف دوماً وغير محدد. وفي الحقيقة، إن المطالبة بالتطبيق الفوري لصفقة سلام عمرها 30 سنة فُهم كتهديد لحقبة ما بعد الحرب، كما لو أن هناك افتراضاً أنه إذا نُظمت الانتخابات المباشرة غداً، فإن الناس سيظلون يصوتون بهوياتهم الطائفية سامحين لرعب الديموغرافيا بأن يحكم. إن تهديد الديمقراطية المباشرة والفورية موزع بشكل غير متساو على المواطنين المسلمين، الذين هم (وسيواصلون أن يكونوا) أغلبية ضخمة،  ولأنه لا اتفاق الطائف ولا الدستور يتضمنان إطاراً زمنياً  لإلغاء الطائفية السياسية، لا يوجد حكومة قائمة يمكن أن تخضع للمساءلة لعدم تحركها الحثيث نحو هذا الهدف.

فضلاً عن ذلك، بدلاً من تمرير سلسلة من القوانين الإجرائية العملية والفعالة وتشكيل اللجان لتطبيق الأجزاء المختلفة من اتفاق الطائف (ليس فقط إعادة التوزيع السياسي بدلاً من إنهاء الطائفية السياسية)، فقد جرى إدراجه في الدستور اللبناني ورفعه إلى مستوى الإيديولوجية الوطنية وجعل من المستحيل تعديله أكثر أو مجادلته دون إحداث أزمة دستورية.  إن زمنية الطائف هي المؤقت إلى الأبد، مما يسمح بمأسسة حاضر طائفي من أجل تسهيل الانتقال إلى مستقبل مؤجل أبداً غير طائفي. إنها زمنية الزنزانة المُحتجزة، افتداء الحاضر بمستقبل يمكن ألا يصل أبداً وقلة منا يمكن بالفعل أن تشاهده. إنها زمنية التفاؤل الوحشي المدعومة بتهديد الحرب، يجب أن نتحمل الحاضر خدمة لمستقبل عظيم، لكن كل يوم يصل المستقبل، ويبدو شبيهاً جداً بالماضي. وقال لنا قادتنا السيساسيون باستمرار إن الشيء الوحيد الذي يؤجل الحرب الأهلية هو التمسك المتواصل باتفاق طائف محقق جزئياً وحاضره الذي بلا حدود.

سحر العيش المشترك

بُرر رهاب الأجانب والعنف وخطاب الكراهية، والطبقية والشعبوية اليمينية الموجهة ضد اللاجئين السوريين والفلسطينيين في لبنان، لوقت طويل بمخاوف التجنيس والدعوات لحماية التركيبة السكانية الطائفية الهشة  للبنان. وصُورت نسب ولادة وخصوبة اللاجئين السوريين، الذين معظمهم سنة، كتهديد للطائف ورؤيته ”للعيش المشترك“. وكان تحطيم الأرقام الطائفية أيضاً سبباً لماذا النساء اللبنانيات لا يمتلكن الحق بمنح المواطنة لأزواجهن وأولادهن. هكذا، تمت إعادة تعبئة انتهاك حقوق اللاجئين السوريين والنساء اللبنانيات كبضاعة عامة: في خدمة العيش المشترك، وفي خدمة اتفاق الطائف. وهنا يكمن تناقض آخر: إن العيش المشترك السلمي يتطلب استقراراً ينهي الخلاف السياسي، ويقتضي مجموعات مختلفة ترى العيش المشترك كإنجاز يجب أن يُراقب باستمرار ويُحسَّن ويُقاس ويُعالج ويُثار. وهذا لا يقتضي مثلاً الوجود السلمي للدولة اللبنانية مثلاً، بل يتطلب ويطبق ويقتضي نوعاً معيناً من العيش المشترك، شكلاً خاصاً من الاختلاف السياسي الذي يجب أن ”يتعايش“  (أو بصيغة أخرى)، يتطلب نوعاً طائفياً. ويمكن أن تُرى الطبيعة المهيمنة لروح الطائف من خلال كلٍّ من سلطته الرمزية والطرق المتناقضة التافهة التي يمكن أن تُعبأ بها السلطة الرمزية.  مؤخراً، هيمن رئيس بلدية حدث، وهي ضاحية مدينية تابعة لبيروت، على عناوين الصحف حين جاهر علناً بسر معروف جيداً: إن  شراء وبيع وتأجير العقارات كان ولا يزال تقنية للتقسيم الطائفي في لبنان بعد الحرب.  إن بلدية الحدث، كأي بلدية من بلديات البلاد الكثيرة، تنتهج سياسة عدم التشجيع على تأجير أو بيع الشقق التي يملكها مسيحيون لمسلمين. (بالمصادفة، إن الحرم الجامعي الرئيسي لجامعة البلاد العامة الوحيدة، الجامعة اللبنانية، هو في الحدث. إن تأثير هذه السياسات على الكتلة الطلابية والتعليم العام لم يعالج بعد في المجال العام).  وحين عرض المستأجرون المحتملون تجربتهم في أنهم رُفضوا ولم يتمكنوا من السكن في الحدث بسبب دينهم، دافع رئيس البلدية جورج عون علناً وبصوت مرتفع عن سياسة البلدية.  واتهمت وزير الداخلية ريا الحسن رئيس البلدية بانتهاك اتفاق الطائف والدستور اللبناني، الذي يعد المواطنين اللبنانيين بالحق في أن يعيشوا في أي مكان في البلاد.  بدوره قال رئيس البلدية إنه لن يغير أبداً السياسة  وإنه في الحقيقة الفصل الطائفي و“الحماية“ الديموغرافية هما اللذان ضمنا ”العيش المشترك“، الكأس المقدسة لاتفاق الطائف. وُضعَ مبدآن دستوريان،كان كل منهما تعديلاً للطائف، ضد بعضهما بعضاً:

ط- أرض لبنان أرض واحدة لكل اللبنانيين· فلكل لبناني الحق في الإقامة على أي جزء منها والتمتع به في ظل سيادة القانون، فلا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان، ولا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين·

ي - لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.

إذا كان الجدل حول استخدام العقارات كأداة لرسم الخطوط الحمر الطائفية في لبنان قد كشف أي شيء، فهو الطبيعة المهيمنة المبتذلة والمرنة والمتناقضة لاتفاق الطائف. ففي بلاد مكرسة للعيش المشترك بين الجماعات الطائفية، يجب على المرء أن يمتلك ويحافظ على ويدعم جماعات طائفية معرّفة جيداً، وهذه عملية يكون فيها نظام الأحوال الشخصية محورياً. وحتى إذا منح الدستور اللبناني المواطنين الحق بأن يعيشوا أينما أرادوا وقال إنه ضد فكرة الفرز على أساس الانتماء، يمكن أن تكون هناك حاجة لرسم الخطوط الحمر الطائفية لتدعيم الجماعات التي تجرب تغيراً ديموغرافياً في ”مناطقهم“ ومن المحتمل أن ”يخفف“ صوتها في نظام من الانتخابات المناطقية. في النهاية، إن عدم الحماية من التدهور الديمغرافي الطائفي بفعالية سينتهك وعد الدستور بالعيش المشترك. هذه بالضبط هي الحجة التي طرحها جورج عون في الفيديو أعلاه. فضلاً عن ذلك، إن رئيس الوزراء سعد الحريري  (والذي هو ابن رئيس وزراء سابق) قال إن الأزمة البيئية والصحية العامة ناجمة عن حقيقة أنه ”لا المسلم مستعد أن يستقبل نفايات المسيحي ولا المسيحي كذلك.“ حتى القمامة تُمنح قدرة على ضرب استقرار العيش المشترك، فقد حاول السياسيون مؤخراً صبغ نيران تشرين الأول 2019 بتهديد وتخويف طائفي.

واليوم يبدو أن اتفاق الطائف يمكن أن يكون أي شيء يريده السياسيون، إذ يمكن أن يحول العنصرية والتمييز الجنسي والفصل إلى سلع عامة مغلفة ببلاغة “العيش المشترك”، ويمكن أن يُستخدم للمحاججة من أجل وضد حرية التنقل والسفر داخل البلاد من قبل السياسيين، ويمكن أن يرهن حاضرنا لتهديد حروب مستقبلية. ويمكن أن يُستخدم مع وضد توظيف موظفين مدنيين نجحوا في اختبار حكومي منذ سنوات لكن ليسوا “متنوعين” بما يكفي كي لا يخلوا بالتوازن في صفوف الخدمة المدنية. ويمكن أن يستخدم اتفاق الطائف كعذر من أجل عدم الاستئصال بشكل كامل وفوري للفساد المزمن ومعالجته من قبل سياسيين منتخبين ومسؤولي الدولة. إن حقيقة أن كل أطراف الحجة يغطون أنفسهم بالقوة الرمزية للطائف تتحدث كثيراً عن أهميته في مواصلة تعريف وتحديد مصطلحات الجدل السياسي في لبنان، بعد ثلاثين سنة من نهاية الحرب الأهلية.

أنهى اتفاق الطائف الحرب الأهلية اللبنانية وقدم خريطة طريق لمستقبل سياسي مختلف ولو أنه مُتصور على نحو ضيق. وتحول إلى قفص على يد أولئك الذين استفادوا مباشرة من تطبيقه الجزئي ومن تقديس اتفاق سلام بدلاً من تطبيقه. وقيل لنا إن هذا القفص، زمنية المؤقت هذه، هي أكثر أماناً من البدائل: حرب أهلية أخرى، وهيمنة طائفية ودينية على البلاد، وديمقراطية مباشرة في بلاد غير “مستعدة” لها، أو مزيج ما من كل هذا.  سنفعل جيداً لو تذكرنا كلمات الدكتور مارتن لوثر كينغ الابن الذي كتب في رسالته من سجن برمنغهام أن الليبراليين البيض، الذين يستفيدون مباشرة من العنصرية، والذين كانوا سعداء في القول لناشطي الحقوق المدنية ”انتظروا“ حتى يصبح الجزء الأكبر من السكان جاهزين للمساواة السلالية خوفاً من رد الفعل العنيف. قال إن كلمة ”انتظروا“ عنت دوماً أن ”هذا لن يحدث أبداً“.

علمونا أن نخاف من بعضنا بعضاً أكثر من النظام الذي ينتج الاختلاف السياسي الطائفي ويحافظ عليه كمنطق له. طُلب منا أن نضحي بالمساواة بين الجنسين، وبحقوق اللاجئين و واللامساواة الاقتصادية المشلة، والفساد، وفهماً لتاريخنا الخاص على مذبح “العيش المشترك”. والذين يتفوهون بهذه الأكاذيب، الذين يبقوننا في هذه الزنزانة المحتجزة من الحاضر السياسي يستفيدون مباشرة من عدم تطبيق اتفاق الطائف، وطول الوقت يقومون بخدمات لفظية له.

أفكار ختامية

ما هو النظام؟ إنه إيديولوجيا حاكمة، ومنطق سياسي، وبنية محفزة تجري عبر الأذرع المختلفة للسلطة الرسمية وغير الرسمية وتوحدها. لقد تشكل نظام الوضع القائم في لبنان من خلال اتفاق الطائف، وهذا النظام، كما أقول أنا وآخرون طائفي وذكوري ونيوليبرالي ومؤقت ويشمل في داخله وصاية غياب للمساءلة وإسكاتاً للماضي.  وقبل كل شيء يدعمه الخوف بينما هو في الوقت نفسه مرن وقابل للتكيف. وأصبح اتفاق الطائف مبرراً لعدم الفعل والورقة الأخيرة التي يستخدمها السياسيون لتأمين الدعم. وبالنسبة لهم، يجب أن يحافظ اللبنانيون على خلاف وتمثيل سياسي طائفي من أجل الحفاظ على وحدة ووعد البلاد، يحتاجون للخلاف السياسي الطائفي كي يكونوا دولة حيث تلك الاختلافات “تعيش بشكل مشترك” تماماً كما الحسابات المصرفية المتنامية للقادة البطركيين الذين يقودون تلك الطوائف كي تعيش معاً.  وفي وقت نشر هذه المقالة خرج مليون شخص إلى شوارع لبنان في مدن وبلدات مختلفة مطالبين باستقالة الحكومة. لكن هذا ليس كل شيء.  إنهم يطالبون، بطرق مختلفة، أيضاً بمحاسبة الفاسدين وإعادة هيكلة الأنظمة المالية والميزانية من أجل إعادة توزيع عادلة للثروة. استجابت الحكومة حتى الآن بقائمة من الإصلاحات الاقتصادية التي تفعل كل شيء عدا الاعتراف بإهمالها السابق لواجباتها العامة. كثيرون يدعون أيضاً إلى إنهاء الطائفية السياسية وإلى تبني قانون انتخابي تصبح فيه البلاد مقاطعة انتخابية واحدة بشكل فعال. لقد حان الوقت ليس فقط للتطبيق النهائي للطائف، بل أيضاً كي تتجاوز خيالاتنا السياسية اتفاق الطائف والحرب التي هدف إلى تحسينها والحروب داخل الحروب التي أصمتها بشكل فعال.

كم هو جميل الشعور باحتمال نهاية اتفاق الطائف في ذكراه.

[كُتبت هذا المقال للإشارة إلى الذكرى الثلاثين لاتفاق الطائف قبل نشوب الانتفاضة في لبنان. وعُدِّل كي يظهر بعض الصلات بين اتفاق الطائف وديناميات الاحتجاج الحالية.]

للمقال باللغة الانجيليزية، اضغظ/ي هنا.

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • Maya Mikdashi, Sextarianism: Sovereignty, Secularism, and the State in Lebanon (New Texts Out Now)

      Maya Mikdashi, Sextarianism: Sovereignty, Secularism, and the State in Lebanon (New Texts Out Now)

      A convergence of so many things, starting with a conversation in a grad school class about religious conversion in the Middle East. The consensus in class was that this was considered apostasy, and not only illegal but dangerous in most of the region.

    • ألا يكون الرَّجل الفِلسطيني ضحيّة؟ جَندرة الحُروب الإسرائيلية على غزّة

      ألا يكون الرَّجل الفِلسطيني ضحيّة؟ جَندرة الحُروب الإسرائيلية على غزّة

      نصحو كل صباحٍ على تعداد قتلى جَديد: ذبحت آلة الحرب الإسرائيلية مئة أو مئتي أو أربعمئة أو ستمئة فلسطينيّ. تعكس الأرقام أعلاه عدة معلومات: أغلب أهل قطاع غزّة، أحد أعلى المناطق كثافة سكانية في العالم، لاجئون من فلسطين التاريخية.

    • Beyond the Lebanese Constitution: A Primer

      Beyond the Lebanese Constitution: A Primer

      All constitutions are flawed, even (or especially) those that are treated as particularly sacrosanct—such as the US Constitution. The recent protest movement in Lebanon, which began on 17 October 2019, has generated renewed interest in the Lebanese constitution—with a lot of what might be called “constitution talk” by both protestors and the political class. In this article, I focus on two issues that have renewed and stimulated much interest in the constitution: calls for (1) the removal of sectarian representation in parliament; and (2) a unified personal status law. I also offer a short history and ideological reading of the Lebanese constitution, stressing its contradictions. I end with a series of questions that push our political imagination beyond the constitution in its current form and toward a new social contract, one that actively responds to many of the protestors’ demands.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬