كثرو وحوش الغابة وعتمت المدينة

[متظاهرون في وسط بيروت بعد الانفجار المأساوي الذي وقع في مرفأ بيروت (8 آب 2020). تصوير هبة الكلاس من موقع Shutterstock.] [متظاهرون في وسط بيروت بعد الانفجار المأساوي الذي وقع في مرفأ بيروت (8 آب 2020). تصوير هبة الكلاس من موقع Shutterstock.]

كثرو وحوش الغابة وعتمت المدينة

By : Yara Ismail

 كثرو وحوش الغابة وعتمت المدينة

 
سنعد الآن للاثني عشر

وسنبقى صامتين

دعونا لا نتحدث بأي لغة

ولو لمرة واحدة على الأرض

هيا نتوقف لثانية

ولا نحُرّك أيادينا كثيراً


كم ستكون هذه لحظة غير مألوفة

بطيئة، بدون محركات

سنكون جميعنا فيها معاً

في غُربةٍ فجائية

(باولوا نيرودا)

1- ٢،٧٥٠ طن من المواد المتفجرة دمرت ميناء بيروت؛ هشّمت دوائر الموت والخراب والتهجير التي تمركزت حولها أجزاء من المدينة ومن حياة الناس هناك. أغرقت الفيضانات شوارع اليمن، تلك التي يُعاقب أهلها بحرب قاسية لا تُغفر، وأدت إلى كوارث صحية. أعلنت موريتانيا حالة الطوارئ بعدما حول ألف طن من البترول بحرها للون الأسود ووضع حياة اثنتين من المحميات المائية البيئية هناك تحت التهديد. بينما أرسلت إسرائيل، بسلسلتها غير المتناهية من الجرائم الاستعمارية، قذيفة سقطت على أرض مدرسة ابتدائية في غزة، وتستمر بسياستها في هدم منازل الفلسطينيين، هذه المرة في بيت لحم. أكٌدت الامارات العربية المتحدة خيانتها لأكثر من سبعين عاماً من النضال والدعم الشعبي من أجل وقف الاستعمار الصهيوني المستمر لفلسطين بتطٌبعيها لعلاقات دبلوماسية مع السلطات الاستعمارية. قوبلت التظاهرات الأخيرة لحركة حياة السود مهمة بشراسة قمعية؛ شراسة يألفها إلى حد كبير أفراد ومواطنو الدول الحليفة للولايات المتحدة التي تحرضها وتدعمها بالأسلحة. مرت سنة على انتزاع سلطات الاحتلال الهندية الحكم شبه الذاتي من كشمير وفرضت إغلاقاً عسكرياً عليها. وبالطبع، كلنا الآن تحت الحظر بسبب فايروس كوفيد 19 (باستثناء كبير مستشاري رئيس الحكومة البريطانية، دومينك كومنغز).

ما الذي يحدث في العالم؟ هنالك شعور بأن غالبية الناس على هذه الأرض يمارسون حياتهم اليومية من خلال حالة دائمة ومتجددة من الفوضى، مروعة أحياناً، وعادية في أحيانٍ أخرى. السؤال الذي يتعقب الخطوات المترددة داخل هذا الشعور هو: ما الذي يمكن أن نفهمه ونقوم به؟

2- تركيزي هنا على أولئك الآملين بتقديم وممارسة تضامنهم مع الناس في لبنان، والنية أن هذا نقاش له انعكاسات على أماكن وسياقات أخرى. كبداية، ونحن نحاول التفكير في هذا الموضوع، يمكننا أن نقول بشكل واضح بأن الطبقة السياسية اللبنانية مسؤولة عن هذه الجريمة. ولنقل لأنفسنا بعد ذلك، وبشكلٍ واضحٍ أيضاً، بأن الطبقة السياسية التي تحكم لبنان هي نفسها الطبقة السياسية التي تحكمنا. فتلك الطبقة ليست شاذة عن القاعدة، في عالمٍ، على خلاف ذلك، رحيم ويعمل بطريقة عادلة وفعالة. يجب علينا رفض النظام نفسه؛ ذلك الذي يُقصي من ينتزع منهم أغلى الأثمان عبر هرم الرأسمالية العالمية. لا تقل لأطفالك: "على الأقل، نحن لسنا لبنان/ غزة/ سوريا (استبدل سياقاً آخر هنا)". فإن كنت من دولة متواطئة في إلحاق معاناة دائمة للشعوب، سواءً من خلال بيع أسلحة (مثل فرنسا)، أو مراوغة سياسية (مثل السعودية)، أو من خلال علاقات دبلوماسية (مثل إيران)، أو علاقات اقتصادية (من ضمنها الأرصدة الخارجية، مثل المملكة المتحدة)، او عقوبات اقتصادية (مثل الولايات المتحدة) عليك العمل كذلك على تنظيم منزلك من الداخل. وهذا يعني إنه علينا تجديد التزامنا بالتنظيم المحلي الشعبي من أجل تحدي الأنظمة المفلسة سياسياً ورفض قمع الدولة (وغيرها مما يجعل العالم غير قابل للعيش)، كل هذه الأشياء التي تتم إدانتها حالياً في السياق الذي نتحدث عنه ، أي لبنان.

3- ما الذي يتضمنه التفكير بهذا الشكل؟ إن أول ما يشير إليه هو أن المطلوب من الشعوب هو التضامن، وليس العمل الخيري، وأن هذا التضامن كان قائماً قبل الكارثة، وسيبقى قائماً بعدها. فهناك تاريخ طويل من التنظيم والتعبئة من أجل تحقيق التغيير الاجتماعي الذي ربط شعوب العالم مع بعضها البعض من خلال أيدولوجيات وممارسات صاغت مسارات للتحرير وطرقاً أخرى للوجود. يمحي هذا النوع من التضامن الشعبي مركزية الجهة المانحة، وعلى وجه مثالي، سيقلل مساحة التمثيل الأدائي الذي يسمح للمانحين الاعتقاد بأنه من المقبول لهم أخذ صور شخصية بين ركام البيوت وحياة الناس.

4- يتساءل المرء إن كان باستطاعة إيمانويل ماكرون؛ هذا المصرفي السابق الذي قوبلت سياساته الاقتصادية بما يقارب العامين من الإضرابات والمظاهرات وتشريعات تعزز عنف الشرطة، أن يؤدي في فرنسا نفس مسرحية العلاقات العامة البشعة التي قام بها في لبنان. تُظهر التقارير من الأرض أن استقبال ماكرون كان أقل حميمية مما تواردته معظم الجهات الإعلامية. وقبل اثني عشر يوماً فقط من الانفجار، رفض وزير خارجيته (الذي غيّر حرفياً مجاز" ساعد نفسك وسيساعدك الله" إلى “ساعد نفسك وستساعدك فرنسا") تقديم دعم إضافي للبنان إلا إذا تبنى صفقة البنك الدولى المقترحة. كان لسياسات هذا البنك وعروض الدعم الخاصة به في مقابل قيام الحكومة اللبنانية بإجراءات تقشفية صارمة، دور أساسي في استدامة التفاوت الطبقي المتزايد هناك، هذا بالطبع من دون التطرق لأسباب الفقر وحالة اليأس الاقتصادي والاجتماعي الهيكلية. يمكننا ممارسة تضامننا مع لبنان في الوقت ذاته الذي نعبر فيه عن رفضنا لخطاب " لبنان المسكين" (وكذلك، دعونا نترك سردية "طائر الفينيق" البالية – ليس هناك حاجة لأي مكان أو شعب أن ينهض من الرماد لمرات عديدة كي يرتقي لهذا المجاز؛ الذي ربما يكون ذو نية حسنة، ولكنه، في نهاية المطاف، مجاز مُنهِك). 

5- من جهة أخرى، لأولئك الذين يحاولون استغلال ما تبقى لإنقاذ الموقف، سواءً مستعمرين سابقين أو استغلاليين جدد، يمكننا أن نأخذ درساً من العمل البارع الذي يقوم به آخرون لكي نقول: أجل، عليكم أن تقدموا لنا تعويضات، من دون كل هذه الدراما المتلفزة - فأنتم تدينون لنا بها، وعلى الأرجح، تدينون بأكثر من ذلك.

6- بالحديث عن الدراما المتلفزة، هل يُمكننا توخي الحذر من اهتمام وسائل الاعلام السائد المتحدث بالإنجليزية، الواضح والمفاجئ، بتحقيق الشعب اللبناني لآماله وطموحاته؟ وهل يمكننا أيضاً تجنب الانخراط في بورنوغرافيا المعاناة التي يتم إعادة انتاجها في شبكات الاعلام، وأن نسأل أنفسنا ما المغزى من هذه الصور والمجازات المتكررة؟ تكتب آريلا آيشا أزولاي أن الصور هي دعوة لإنتاج معنى؛ أي أنها فهم مُحتمل "يستمر ويُكشف عنه عندما يتفاعل معه آخرون". لطالما جرى استغلال صور الدمار والمعاناة الشخصية كوسيلة لخلق تصور دائم عن فرد عاجز وسيء الحظ. يجب فهم الدعوة ل “انقاذ لبنان المسكين" التي تستلبها برامج الدعم الخارجية من هذه الصور على ما هي عليه بوضوح. تعمل الأنظمة السياسية في البلدان التي تُدير وسائل الاعلام السائدة شبكاتها منها كوسيلة ضغط من أجل أن تقدم تبريرات للنهج السياسي لهذه الحكومات ومشاريعها الدموية على الأرجح. بذلك يتموضع الاستغلال الحالي لمعاناة اللبنانيين بأريحية بجانب حملات سابقة في الاعلام حول أسلحة الدمار الشامل، التي ليس لها وجود، في العراق سنة ٢٠٠٢ وبجانب خطاب "انقاذ المرأة الأفغانية" ممهداً لاحتلال وطنها عام ٢٠٠١. هذه فقط بعضاً من الأمثلة الأكثر بشاعة، ولكن هنالك الكثير غيرها.

7- وبالبقاء في موضوع الاعلام السائد، هل أستطيع القول إنه على الرغم من شعوري بالرضى لرؤية شخص قذر كجبران باسيل ينال حقه من التوبيخ على يد مذيعة إعلامية، يراودني السؤال التالي: أين يغيب هذا الكم من الاستجواب المشتعل والموقف القوي عندما يتعلق الأمر بقادة آخرين؟ هناك العديد من المواضيع التي حاولت المذيعة أن تستجوب رئيس الخارجية اللبناني السابق بشأنها كالواسطة والفساد والنُخبة الحاكمة التي "تجر البلد نحو حالة من اليأس". بالطبع، هناك الكثير من الأشياء هنا لانتقادها (واحدة منها قد تكون الاستشراق)، ولكن النقد الأكثر عملية هو أن نطلب من بيكي أندرسون، المذيعة الإعلامية هذه، أن تستضيف أفراد أكثر من النخبة الحاكمة العالمية لتفضح جرائمهم التي يرتكبونها وينسقوها داخل حدود بلدانهم وخارجها. هذا النوع من الإصرار على فصل سياق لبنان من السياق العالمي يدّعي أن المعضلات التي يعاني منها هذا البلد ليس لها علاقة بتداخله العميق في النظام المالي للرأسمالية العالمية وشبكاتها، ولا بالأنظمة في البلدان التي يتم منها إنتاج هذا النوع من الخطاب الإعلامي. يجب التنويه هنا أن الصحفيين في لبنان يتحدثون عن هذا التحدي الذي يفرضه الاعلام السائد ويشاركون كذلك شهادات وآراء مهمة تُلقي الضوء على الظروف الصعبة هناك. بإمكانكم الاطلاع على بعض من عملهم هنا وهنا و هنا وهنا وهنا

8- في الوقت العاجل، ينصح الناس بالمؤسسات غير الحكومية كوسيط مناسبة لتقديم الدعم كونها تتعامل مع حالات ما بعد الطوارئ وتستطيع توصيل معونات ومعدات للناس في لبنان بحُكم أهليتها الرسمية. ويقترح الكثير من المتواجدين هناك الصليب الأحمر اللبناني كأفضل جهة لاستلام الدعم وذلك بسبب تعاملهم السريع مع الاحتياجات الطارئة للانفجار ومع المظاهرات التي تبعته. ولكن على المستوى البعيد، سيكون من المهم علينا أن نجدد ونبني علاقات مع المنظمات ذات القواعد الشعبية في لبنان من أجل دعمها في تولي زمام القيادة. أفكر هنا بشيء شبيه بالدعم والعون المتبادلين. يعمل هذا النوع من الدعم مع الناس العاديين بشكل مباشر لكي يتجاوز المستثمرين النهيمين والعقاريين في القطاع الخاص الذين سيتبعون، بلا شك، الحكومات الجشعة التي تحاول الاستثمار في عملية إعادة الإعمار. "من يُسبب الدمار لن يؤتمن على إعادة الإعمار"

9- بالتأكيد، يٌشكل خطاب "الأزمة" فرصة، ويشهد على ذلك الامتداد العالمي لشبكات المنظمات الغير حكومية وقطاع ال NGO. تُوظف بعض من هذه المنظمات طواقم عمل مستنيرة، مخلصة لعملها بشكل عظيم، وتقوم بعمل مهم ومنقذ لحياة الناس. بإمكاننا الاقرار بهذا في نفس الوقت الذي نُثير فيه ننتقد عن بعض مبادئ هذه المنظمات. فإضافةً لكونها مشكوك فيها هيكلياً، يمكن القول بأن المنظمات الغير حكومية تمتص أيضاً من أموال الدعم وقوة عمل في المبادرات الشعبية. وساهمت لدرجةٍ ما في محي التاريخ الممتد للعمل المجتمعي الشعبي والمنظمات السياسية والحركات العمالية التي كان لها في الماضي قوة كبيرة في النضال لتحقيق التغيير الاجتماعي. على الأمد البعيد (ويبدو أنه سيكون التزام بعيد الأمد كذلك)، ذلك النوع من الدعم الذي يتظاهر بكون غير سياسي لا يجب عليه أن يكون المساحة الذي نستثمر فيها مجهودنا وعملنا.

10- دعونا نقول ما هو واضح: هناك مبادرات مجتمعية موجودة بالفعل بين الناس. كيف يمكننا معرفة ما يريدون منا عمله؟ هنالك أمل بالتأكيد بأن تقوم القوى الاجتماعية المتنوعة بتوحيد صفوفها الميدانية في لبنان والتنظيم معاً من أجل تعافي مستقبل البلد، وهو شيء لمح له بعض الباحثين والنشطاء المتواجدون هناك. هل يمكننا أن نتعلم، من خلال قراءة جهودهم، الأشياء التي يمكن العمل بها لكي ندعمهم؟ وهل يمكننا تجرأ التفكير بطرق عمل تعيد توجيه خطوط التنمية والتعافي لتكون من خلال إقامة صلات مع الناس وليس من خلال المنتفعين السياسيين وشركات القطاع الخاص ؟ لا أدري.

لربما تكون واحدة من البدايات في هذا الاتجاه بأن نستمر في أو أن نعيد تنظيم أنفسنا أينما كنا (علماً بأن القوى السياسية، وخاصة تلك التي ظهرت بعد ٢٠١١، تحاول أن تقضي على إمكانية حدوث هذا) والعمل مع حلفائنا ورفقائنا في كل مكان من هذه البداية نحو مستقبل نتشاركه جميعاً؟

إذا كان التاريخ القصير لـ ٢٠١١ وما بعده يعلمنا شيئاً فهو أن من هم في مواقع السُلطة يضمنون بقاءهم في قصورهم وأجنحتهم الرئاسية بينما (نحاول) نحن أن نحمي ونُبقي بعضنا البعض على قيد الحياة، صامدين وغير مستسلمين.

11- وصفت مناضلة بحرينية كيف أن تجربة تنظيم حملة دعم للفلسطينيين المصابين والنازحين بعد نكسة ١٩٦٧ عبر منظمة نسائية محلية، كانت، كممارسة، في جوهر عملها نحو التغيير السياسي والاجتماعي. لعب أعضاء الحزب الشيوعي العراقي وحزب توده الإيراني دوراً في تطوير النضالات السياسية والعمالية في دول الخليج منذ الخمسينيات. في السنوات العشرين التي تلت النكبة الفلسطينية عام 1948، تطورت حركة القوميين العرب من خلال شبكات امتدت من جنوب اليمن إلى الجزائر. وسمحت مساهمة أحد أعضائها المركزيين، وهو طبيب من الكويت، بتسعين بالمائة من راتبه الأول بأن تقوم المجموعة بتنظيم أعمال في أيامها الأولى. تم بناء العمل الاجتماعي والتعليمي والثقافي والثوري لمنظمة التحرير الفلسطينية في أيامها الأولى من خلال المساهمات المالية التي أرسلها فلسطينيون يعيشون في الخليج. في ظفار، تضمنت الحركة الثورية اليسارية، التي نجحت في المقاومة المسلحة ضد القمع العسكري الاستعماري البريطاني الوحشي هناك من أواخر الستينيات إلى منتصف السبعينيات، متطوعين، من بينهم: مدرب عسكري من فلسطين، مهندس زراعي من البحرين، فدائيون من الكويت ومعلمون من البحرين من بين آخرين. وعمل مكتب إعلامي في دمشق على دعم هذه الجهود.

تشكلت هذه الشبكات من خلال المجموعات الطلابية، الاتحادات العمالية، والأندية الرياضية والثقافية والمهنية، وكذلك من خلال الانتاجات الثقافية والفكرية. وكانت تُدار هذه الشبكات عبر الحركات السياسية. ربط هؤلاء الأشخاص أنفسهم، أيديولوجيًا وعمليًا، بآخرين مثلهم وبالنضال من أجل عالم مختلف في سياقات أخرى، مثل فيتنام وأفغانستان وإثيوبيا وكوبا. لا نحتاج لأن ننظر على هذه التجارب السابقة بطريقة رومانسية أو أن نتظاهر بأن هذه العلاقات لم تكن من دون تعقيدات أو عرضة للتغيرات من أجل استخلاص بعض الدروس حول مساحات النضال المشتركة بينهم. ويعني هذا أن ممارسة وتنمية التضامن يجب أن يكون من خلال علاقات التزام وصداقة وحب ورفاقة. في بعض الأحيان، تتجاوز هذه العلاقات حدود المجتمعات المتخيلة التي فرضتها البيروقراطيات الإمبريالية على الهويات والجنسيات، وتعمل نحو رؤية سياسية مشتركة. فقد سعت حركات التضامن بين الشعوب بمرور الوقت نحو جعل الروابط بين العمل في السياق المحلي والسياق العالمي أكثر وضوحاً (من خلال الدعم المالي والتقني والمعنوي الخ). وكان هذا العمل من منظور تضامني وليس من منظور خيري. كانت الجبهات والقواعد متجذرة محليًا ولكن الروابط التي تطورت بعد ذلك ونطاق عملها كان إقليميًا (وفي بعض الأحيان أممياً). هنالك صعوبة وجمال وقوة في العمل مع الاختلافات ومن خلالها، وكذلك في هدم المسافات من خلال معرفتنا أننا نحارب من أجل أنفسنا كما نحارب مع (وليس فقط "من أجل") الآخرين. لا يتطلب هذا العمل محو الاختلافات في الهويات أو خصوصيات التجارب المُعاشة أو منهجنا في المقاومة. ولكن بدلاً من ذلك، يبدأ العمل بسياقات الهوية أو المكان كنقطة انطلاق نحو تطوير فهم مادي للعلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية العالمية، وفهم مكاننا في هذ الشبكة والنطاق والقيود المكانية الذي يمكننا فيها التصرف ضمن "جماعة" أكبر من الحياة الفردية.

12- كلن يعني كلن

على الرغم من أن هذا ليس محور هذه المقالة، ولكن من المهم الاعتراف بأن هذه المجموعات والحركات الاجتماعية التي تصرفت بقوة شعبية هائلة، وعلى فترات زمنية مختلفة، كانت مرتبطة أيضًا مع دول وأجهزة الدول الصديقة.

 في الوقت الحالي، يجب أن نُبقي ذلك كتذكير بأنه إذا كنا جادين في تغيير الظروف التي أدت إلى الكارثة الأخيرة في بيروت، فإن الهدف النهائي لعملنا يجب أن يكون الاستيلاء على هذه الدول جنبًا إلى جنب مع نزع الجذور العسكرية / السلطوية / الأوليغارشية / الاحتكارية / الطائفية / الأبوية الرأسمالية. وأنه علينا رؤية عملنا التضامني من أجل التحول الاجتماعي كجزء من ذلك. هل هناك سبيل لمن يلتزم بالتضامن ليجد طرقًا تجعل إعادة إعمار لبنان مختلفة عن سابقتها؟ جاءت "إعادة الإعمار" من الحرب الأهلية التي استمرت 15 عامًا واتخذت شكلها الكامل بعده. ويجب القول هنا بأن العديد من حروب منطقتنا كانت مترابطة (وتم خوضها في بعض الأحيان من خلال) المعارك بين القوى السياسية على الأرض هناك. أن "إعادة الإعمار" تقع في صلب الهياكل السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية للحياة بعد الحرب الأهلية – ونهايةً في صلب انفجار المرفأ يوم 4 أغسطس؟

بما أننا بدأنا بالصمت، دعونا ننتهي بأغنية. يعود تاريخ هذه الأغنية إلى التراث الشعبي الأمازيغي الممتد لقرون، والذي أعادات تقديمها فرقة برتغالية-فلسطينية باللغة العربية، يقول مقطع منها: "العتمة لما تخافيها، يابا غنيلي". عم نسمعكم.

[نشرت المقالة على «جدلية». ترجمها عن الإنكليزية سارة يوسف ويارا إسماعيل]

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • When the City Darkened

      When the City Darkened

      There is a sense of being in the midst of a maelstrom. 2,750 tonnes of an explosive substance have blown up the port of Beirut, its concentric circles of death, destruction, and displacement shattering through parts of the city and the lives of people there. Floods have rushed through Yemen, where the population is being punished by an unforgiving and unforgivable war and consequent public health outbreaks. Mauritius declared a state of emergency after more than one thousand tons of oil turned the sea black, endangering two ecologically protected marine reserves. Israel, with the ever longer litany of its colonial crimes, fired a missile into a primary school in Gaza, and continues to demolish the homes of Palestinians, this time in Bethlehem. The United Arab Emirates has confirmed its betrayal of over seventy years of popular struggle and support to stop the ongoing Zionist colonization of Palestine and normalized diplomatic relations with the colonizing authorities. The murder of those who fight to build conditions of dignity and safety for the people of Iraq—from the deathscape rolled out by the masters of war from 2003 onward—continues unabated. More recent manifestations of the Black Lives Matter movement have been met with a repressive ferocity which is all-too-familiar to the subjects and citizens of the United States’ allies, especially those it arms and abets. Kashmir marked a year since the Indian occupying authorities stripped its semi-autonomous status and imposed a military lockdown. And, of course, most of us are under lockdown because of COVID-19 (apart from British government senior advisor Dominic Cummings, that is). 

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬