ليس إبراهيم صموئيل من الأسماء المشهورة المتداولة في المشهد الأدبيّ العربيّ، وهذا ليس بمستغرب، إذ اختار صموئيل منذ البداية المضيّ في الطريق الأصعب ذات السالكين الأقل. أن تكرّس نفسك للقصة القصيرة وحدها يعني بالضرورة أن ترتضي العيش في الظلال، في الهوامش. لم يتخلَّ صموئيل عن القصة القصيرة أبدًا، حتّى حين ظهر «زمن الرواية»، وحين بات لهذا الزمن جوائزه المغرية. اكتفى بالقصة وحدها وبزوايا صحفيّة متفرّقة لا تبتعد كثيرًا من أسلوبه القصصيّ. لعلّ قائلًا يقول: ليس هو الوحيد الذي اكتفى بالقصة القصيرة، فلدينا المثالان الشهيران الدائمان: سعيد الكفراوي في مصر، وزكريا تامر في سوريا. غير أنّ صموئيل يتمايز عنهما، وعن كلٍّ منهما، في نواحٍ عديدة: لم يكن ابن جيلٍ أدبيٍّ له مجلّاته وداعموه مثل سعيد الكفراوي، ولم يكن مؤسِّسًا لمدرسة قصصيّة فارقة الوضوح، أو كاتبًا مُكرَّسًا في رئاسة وإدارة تحرير المجلات مثل زكريا تامر. خرج صموئيل متأخّرًا حتّى في سوريا التي تُنتِج كتّاب قصّة بالأطنان، خرج متأخّرًا عقدًا كاملًا على الأقل، إذ كانت المجلّات قد بدأت رحلة شيخوختها، وكانت القصة قد بدأت تطوي أشرعتها، وكانت سوريا قد دخلت مرحلة السُّبات الثقافيّ الطويل، وكانت ظروفه ستؤثِّر سلبًا على تلقّي أعماله داخل سوريا، إذ بقي مُهمَّشًا داخل ما تبقّى من الأوساط الثقافيّة السوريّة. لم يكن تأخيره مقصودًا، بل كان نتيجة اعتقال مرير ترك آثاره بقوّة في أعماله. أدب سجون إذن؟ نعم ولا. إذ لم يكتفِ صموئيل بهذا التوصيف المحدود، ولم يترك لنا «أدبًا توثيقيًا» للتعذيب والاعتقال، على أهمية هذا الأدب، بل اختار الطريق الأصعب مرةً أخرى حين قرّر الكتابة عن التّجربة الموازية لتجربة السجن: عن الأسوار الداخليّة التي لا تترك السجين حتّى بعد «تحرّره»، عن «الحياة» داخل السجن وخارجه، إنْ كان ثمّة خارج أصلًا في هذه المعادلة المرعبة. هل كانت تجربته ستتغيّر لو بدأ في السبعينيّات قُبيل اعتقاله؟ ليس بوسعنا الجزم، وإنْ كانت مجموعتاه الثالثة الوعر الأزرق (1994) والرابعة البيت ذو المدخل الواطئ (2002) (الأخيرتان فعليًا إذ توقّف عن النّشر منذ عام 2002) قد انطلقتا من عالمٍ آخر يختلف عن عالم مجموعتَيْه الأولى رائحة الخطو الثقيل (1988) والثانية النّحنحات (1990)، وإنْ كان ليس بعيدًا بهذا القدر، إذ تبدو قصصه كلّها ترجيعات أو أصداء لصوت أوحد، هو صوت البشريّ الذي يعيش من أجل التقاط ما تبقّى من بشريّته، ومن أجل صون ذلك الفُتات، مثل أولئك البشر الأوائل الذين لا يعرفون عالمًا أكثر من عالم البحث عن الثّمار وجمعها، قبل أن يداهمهم جحيم زمن الصيد والدم.
كانت سوريا أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيّات تشهد موجة أصوات قصصيّة جديدة نأت عن مدرسة زكريا تامر في السبعينيّات واقتربت أكثر من مدرستَيْ سعيد حورانيّة وحسيب كيّالي المنسيّتَيْن. عاد مريدو هاتين المدرستين إلى القصة من دون أن يمثّلوا تيارًا قويًا لأنّهم عجزوا عن منح دفق قصصيّ قويّ ينافس حورانيّة أو حتّى كيّالي أو يكمل مدرستيهما، مثلما عجزتْ قصص مقلّدي زكريا تامر في الثمانينيّات عن منافسة المعلّم الكبير، لعلّنا نستثني هنا (من مريدي حورانيّة وكيّالي) القصص الأولى لحاتم علي وحسن م. يوسف، إلا أنّ علي هجر القصة إلى التمثيل والإخراج التلفزيونيّ، وانخفض ألق تجربة يوسف تدريجيًا حتّى حينما حاول التوفيق بين السيناريو والصحافة والقصة. ما بقي في سوريا تجربةٌ قصصيّةٌ كبيرةٌ يُعوَّل عليها من بقايا المدارس القصصيّة السوريّة الثلاث الأهم (بعد وفاة جميل حتمل المباغتة)، ولذا بدت الساحة خاليةً إلا من الصوتين الجديدين الذين لا يمكن لنا إدراجهما بثقة تحت أيّة مدرسة من المدارس الثلاث، وهما إبراهيم صموئيل وغسّان الجباعي. خرجت التّجربتان من رحم المعتقل، وكانت النتيجة ثلاث مجموعات بديعة: اثنتان لصموئيل: رائحة الخطو الثقيل والنّحنحات، وواحدة للجباعي أصابع الموز (1994)، ولكنّ الجباعي ركّزَ لاحقًا على المسرح أكثر، بحيث بقي صموئيل الصوت القصصيّ المميَّز الأوحد في البلاد بعد بقاء تامر في المنفى. وعلى عكس ما توحي به القراءة الظاهريّة، نجد تقاربات كثيرة بين تجربتَيْ تامر وصموئيل تستحق بحثًا مستقلًا، إذ يهمّني هنا انفراد صموئيل عن تامر لا في العالم القصصيّ بل في شكل القصة لدى كلٍّ منهما. لم يركن تامر إلى شكل أوحد للقصة، بل أوغل في تجريب لاهثٍ يعجز القارئ عن ملاحقة إيقاعه بين مجموعة وأخرى، بل حتّى بين قصة وأخرى ضمن المجموعة نفسها، لا في الأسلوب فقط بل حتّى في طول القصص التي بدأت تقصر مع كلّ مجموعةٍ تباعًا، ما عدا نوڨيلا القنفذ (2005) التي أصرَّ تامر على إبقائها ضمن جنس القصة برغم طولها الغريب على عالمه، إذا استثنينا القصتين العظيمتين «البدويّ» و«رحيل إلى البحر» من مجموعة دمشق الحرائق (1973)؛ إلا أنّ صموئيل احتفظ بشكلٍ أوحد لقصصه على اختلاف عوالمها، وركَّز على حجمٍ شبه متطابق بين جميع القصص التي تتراوح بين 4 و 7 صفحات، باستثناء قصة واحدة هي «المرحاض» التي انفردت بحجم يعادل ضعف حجم أيّة قصة أخرى من قصص صموئيل. وإنْ كان لنا اختزال عالم صموئيل القصصيّ في قصة واحدة، فستكون «المرحاض» هي القصة المنشودة، لا بسبب الحجم وحده، بل لأنّها المرآة الأصفى التي تعكس شواغل صموئيل القصصيّة كلّها.
لا تبدأ «المرحاض» بدايةً تقليديّة، إذ تباغتنا إشارة من المؤلّف إلى المصائر المتعثّرة التي نالتها القصة وعنوانها، حين نُشرت مرّتين بعد استبدال العنوان الأصليّ، مع أنّ القارئ سيدرك أثناء قراءة القصة وبعدها أنّ «المرحاض» هو العنوان الأمثل، بل الأوحد، إذ لا معنى للقصة من دونه. يلفتنا هنا إلى أنّ الأسوار التي اشتغل صموئيل في قصصه كلّها على نبشها عاريةً أمام أعين الجميع، طوّقتْ السّجين الذي لم يتخلّص من سجنه حتّى بعد إطلاق سراحه وغرقه في كتابة القصة. وكأنّ قيود المعتقَل القديمة ستبقى هي هي: لا حقَّ لك في أشيائك، وذاكرتك، وأفكارك بالرغم من أنّها (وربّما لأنّها) تكشف الوجه الحقيقيّ للسجن الكبير الذي يأسرنا كلّنا معتقلين وغير معتقلين. عانت قصص صموئيل من رقابتين صارمتين: الأولى، هي الرقابة السلطويّة المباشرة (المفهومة؟)؛ عُومِل صموئيل وكأنّه غير مرئيّ في المشهد الأدبيّ السوريّ، بشقّيه السلطويّ في اتّحاد الكتّاب أو حتّى الشقّ الأكثر تحرّرًا في وزارة الثقافة. كان يكتب بصمت وينشر بصمت في دور نشر خاصة (دار الجندي في سوريا، ومن ثمّ المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر في لبنان)، وفي مجلة العربي الكويتيّة، من دون أن تحظى أعماله بقراءات نقديّة في المجلات السوريّة. بل إنّ الرقابة امتدّت من التجاهل إلى الاستهداف غير المباشر. أتذكّر هنا أنّي تشجّعتُ مرةً لشراء عدد قديم من أعداد مجلة الوحدة المغربيّة لأنّي وجدتُ قصة من قصص صموئيل في فهرس العدد، لأُفاجأ بأنّ الصفحات الثلاث التي تضمّ القصة ممزَّقةٌ من المجلة، مع صفحة من قصة أخرى لكاتب لا ذنب له إلا مجاورة قصته لقصة كاتب مغضوب عليه في بلاد الرقابة الذكيّة! أما الرقابة الثانية فهي الرقابة الثقافيّة التي تُجفِل من العناوين «المُزعِجة»: لمَ اختيار عنوانٍ «مُنفِّرٍ» مثل «المرحاض» إنْ كان بوسعك اختيار عنوان جذّاب مثل «حزينًا قرب النافذة»؟ حتّى عناوينك ليست بيدك عزيزي الكاتب الحاليّ، المعتقل السابق، وإنْ ظننتَ أنّك بتّ سيّد نفسك.
تتمحور قصة «المرحاض» حول زيارة سيتلقّاها أحد السجناء. تطرَّق صموئيل إلى الفكرة ذاتها في قصة سابقة بعنوان «الزيارة»، ولكنّ الفارق في القصة الجديدة هو أنّ الزيارة ستكون عن بعد. لا نعني أنّ الزيارة الأخرى كانت عن قرب، إذ لا يظفر المعتقلون السياسيّون بترف الزيارات التي تكون في غرفة واحدة، إلا إنْ كنتَ من أصحاب الحظوة. فالسّجن لا يختلف عن الحياة خارج الأسوار: التراتبيّة هي ذاتها، إما أن تكون من أصحاب الحظوة أو من المُهمَّشين الذين لن يكونوا أكثر من أرقام. ولكنّ الزيارة هذه المرة عن بعد بكل معنى الكلمة، إذ سيكون بين السجين وبين أهله مئات الأمتار. تخطر لنا صورة موازية مماثلة يفصل بين الأهل والأهل فيها مئات الأمتار؛ زيارات سنويّة تحظى بأضواء السُّلطة وكاميرات تلفزيوناتها، حين يُطِلُّ سوريّو القنيطرة على سوريّي الجولان. الاختلاف هو أنّ نصف الأهل رازحون تحت احتلال العدوّ بينما النصف الآخر في الوطن، بينما يكون الأهل والأهل في قصة صموئيل داخل «الوطن» نفسه. لا، هما أيضًا داخل وطنين لو شئنا الدقّة، إذ يفصل بينهما أسوار وحرّاس وشوارع خاكيّة بلون بزّات العسكر. الفارق الأقسى بين الحالتين هو أنّ الزيارة التي تكون تحت أعين العدو (أعني العدوّ الخارجيّ) زيارة صاخبة، تتضاعف حدّة أضواء فلاشات الكاميرات وحماس المذيعين بتضاعف لوعة الصراخ بين أفراد العائلة المُشظّاة بين بلدين، ولكنّ الزيارة داخل حدود الوطن صامتة، لأنّ أدنى صوت مسموع سيعني خراب الزيارة وخراب أيّة فرصة لزيارات لاحقة له ولزملائه السجناء الموجودين في سجون «الأهل». على أنّ هذه الفوارق التي نراها الآن نحن الذين أيدينا في الماء، لا تخطر في بال بطل القصة الذي يكون جسده كلّه، لا يداه فقط، في النار. الزيارة زيارة، أيًا يكن شكلها، ولذا لا بدّ من الاستعدادات. سيترك الاستعدادات اللوجستيّة (نعم لوجستيّة، لأنّ التخطيط لها لا يقل أهمية عن التخطيط لمعركة) لزملائه، فيما سينشغل هو بالاستحمام وبارتداء ثيابه القديمة التي كاد ينساها، وبالتعطُّر. نعم، التعطّر، حتّى لو كان هذا الفعل العبثيّ سيثير سخريتنا (وربّما شفقتنا لو كنّا حنونين) كما أثار سخرية زملائه، إذ هو يوقن إيقانًا لا تشوبه شائبة شك بأنّ أهله سيشمّون عطره حتّى لو فصل بينه وبينهم مئات الأميال، لا بضع مئات من الأمتار. أو هذا ما كان يظنّه قبل أن يُطل من الشبّاك، لأنّ تلك الإطلالة مزّقته حين أدرك أنّ المسافات هي المسافات، ولا معنى لتكذيب الحواس. فليترك الأحلام لأهلها؛ تلك الأمتار بلاد وبلاد، لا محض شوارع معدودة. عالمان منفصلان لا سبيل إلى رتقهما بالصمت وبالإيماءات كما يفترض المنطق، وكما يتمنّى زملاؤه، ولذا شرع بالصياح الذي اختزنه طوال فترة اعتقاله. سيصيح ليُقلِّل المسافات حتّى لو فُرضت عليه مسافات أكبر لاحقًا. فليكن ابن اليوم، ابن اللحظة؛ فليكن أنانيًا، وسيتفهّمه زملاؤه، أو فليذهبوا إلى الجحيم. ها هو يرى ابنه وقد بات طفلًا يمشي، وأمه وقد كسرتها هموم العُمر، وزوجته التي هدّها الشوق. سيصرخ ويصرخ إلى أن يلطمه الواقع مرةً أخرى حين جاءته شتائم الحرّاس، لتُنهي الحركة الأولى في كونشرتو القهر.
انكسرت الأحلام فورًا حين اندلع صوت السُّلطة صارخًا فاجرًا قاهرًا. قفز السجين من الشبّاك ليختبئ في المرحاض الذي يأنف المحرّرون الأدبيّون الحسّاسون من بقاء اسمه في قصة، لأنّ الفن أسمى من الوحل والقذارة. قفز ليواصلَ أحلامه الصامتة وترقّبه المؤلم بانتظار خروج الحارس الذي جثم في الزنزانة ككابوس لا براء منه. يُصوِّر صموئيل ببراعة العالمين المتجاورين المتناقضين داخل المرحاض وخارجه: داخل المرحاض كانت الأحلام، كانت ثياب حريّة الماضي، كان عطر اللحظات المسروقة، كانت لهفة المشتاق؛ فيما خارج المرحاض كانت قذارة الحارس، كان فجور العسكر، كان جحيم الأسئلة الجارحة التي يرشقها الحارس في محاضرةٍ على تلاميذه المعتقلين: «العمى! الواحد منكم لا يفهم بالكلام! سياسيّون اضرب واطرح ولا تفهمون! ... يعني وماذا ترون من الشبّاك؟» يلخّص صموئيل في سؤال الحارس الغبيّ مفارقة السّجين والسجّان في كلّ العصور؛ لا فارق إنْ كان السجناء السياسيّون في سجون الاحتلال أو سُلطة الاستقلال أو النظام التقدميّ أو الرجعيّ، فالسؤال الغبيّ هو السؤال الغبيّ. الدنيا كلّها خارج هذا الشبّاك! الدنيا التي كانت، والسجن الكائن والذي سيكون. يُقرِّعهم الحارس لأنّهم لا يفهمون الكلام، في حين أنّ تهمتهم الوحيدة كانت فهم الكلام، فهمه إلى درجة السجن، إلى درجة تناسي تلك الدنيا القابعة خارج الشبّاك، الدنيا المعتقلة هي الأخرى في أسوار أكبر لا مفرّ منها. يدقّ الحارس ببسطاره على باب المرحاض ليُشدِّد – من دون أن يدري – على السجين المحبوس داخل عطره في المرحاض بأنّ المسافة بين الأحلام وتحقّقها تُقاس بالبسطار العسكريّ وحده، عَلِمَ الحارس أم لم يعلم، سمع السجين أم لم يسمع. الأحلام سحابات عطر مخنوقة داخل مرحاض بأسوار مضاعفة حين ننتبه إلى مفارقة أنّ السجين يختبئ من السجّان، فيلجأ إلى سجن داخل سجن داخل سجن سماؤه وأرضه هي البسطار الذي سيُنهي الحركة الثانية من كونشرتو القهر.
يخرج البسطار من الزنزانة فينداح العطر مرة أخرى، وتندلق اللهفة. يُعاوِد السجين صعوده فوق سطح المرحاض البهيّ ليُطِل من الشبّاك مسابقًا الوقت الذي التهمه الحارس بمحاضرته الغبيّة. يُباغَت السجين بأنّهم قد استداروا وقرّروا العودة خائبين، فنسي تعاليم زملائه وعاود الصياح. استحال جسده كلّه صوتًا صادحًا يكسر المسافات، كلّ المسافات، ليُرمِّم ما مزّقه الزمن الذي التهمه الحرّاس أمس واليوم، وكل يوم. حركة ثالثة تبدأ وتنتهي بصياح لوعة لا ينطفئ، حركة ثالثة لكونشرتو القهر الذي لا ينتهي؛ كونشرتو صادح لا هدوء فيه: صراخ السُّلطة من بسطارها، وصياح السجناء من قلوبهم وأرواحهم وأجسادهم، أو ما تبقّى منها بعد «حفلات» التعذيب، وقهر الطوابير، ووطأة الانحناءات التي تكسر الظهر. صياح الأحرف المُهرَّبة في رسالة على ورقة نقديّة في قصة «العيون المُشرَعة»؛ صياح وجع الأب الذي يتمنّى لو باع عمره كلّه مقابل أن يرضى به ابنه الطفل أبًا في «الرجل الذي لم يعد أبًا»؛ صياح القلوب التي يدهسها وقع الأقدام في «رائحة الخطو الثقيل»، وهواجس اللحظات المُختلَسة في «شتاء طويل»، وألم الترقُّب الذي لن ينتهي في «الهاجس»؛ صياح الخواء الذي سيبقى منّا لو بقينا أو هاجرنا أو متنا أو عشنا في «الصناديق»؛ صياح الفَقْد الذي سيكسرنا «هذه المرة» وكلّ مرة؛ صياح الندم بعد لحظات تردّدنا الجبان في «النّحنحات»؛ صياح نداءاتنا الملتاعة على الناس، كلّ الناس، حين نظنّ أنّهم سيُنصِتون أو سيكترثون أو سينطقون، فيُحرِقنا صمتهم الذي يعني موتنا وموتهم، قهرنا وقهرهم، سجننا وسجنهم في «الناس .. الناس»، و«مثل حجر في نهر» التي يرسمنا فيها صموئيل بصرامةٍ قاسية: «غابة من وجوه. وجوه مثلومة بكآبة، ووجوه مُخدَّدة بالتّوهان، وأخرى وأخرى تنزّ فزعًا مُفزِعًا. ... ولحظة شرعتْ تنهال فيه قبضات رجال السيّارة وأرجلهم على مساحة جسد الشاب المنتفض مثل دجاجة لم تُذبَح جيدًا، وقبل أن يرفعوه ليحشوه من الباب الخلفيّ ويحشو معه صياحه المخنوق: «يا ناس، أمسكوهم عنكم ... يا ناس، أمسكوهم عنكم».»