في العاشر من ديسمبر 2020 ، أصدر البيت الأبيض المنتهية ولايته "قراراً" مفاده أن "... الولايات المتحدة تعترف بالسيادة المغربية على كامل أراضي الصحراء الغربية." ووفقًا للإعلان المذكور، فإن الولايات المتحدة "... ستفتح قنصلية في منطقة الصحراء الغربية [...] لتعزيز الفرص الاقتصادية والتجارية في المنطقة." في غضون دقائق من "نسخة" تويتر لهذا القرار، أُعلِن أن "إسرائيل والمملكة المغربية اتفقتا على علاقات دبلوماسية كاملة".
انتقد المعارضون هذه الصفقة من زاوية "الخيانة" بينما أصر المؤيدون أنها تخدم مصالح المغرب. الغريب في أمر بعض المتحمسين لمنطق المصلحة هو تأرجحهم بين ترديد أكاذيب صهيونية متآكلة من قبيل "الفلسطينيون باعوا أرضهم" و الخوض في استعارات معادية للسامية مقززة من قبيل "اليهود متحكمون في كل شيئ، فما علينا إلى أن نتحالف معهم". ما علينا القيام به بدلاً من ذلك، هو التحالف مع المضطهَدين في كل من الصحراء الغربية و فلسطين المحتلتين. و لذلك يجدر بنا أن ننظر إلى صفقة التطبيع المزدوج هذه من زاوية الإستعمار الإستيطاني و مدى قدرته على التناسخ و التعاضد و توسيع نفوذه.
في أوج هيمنة السرد الصهيوني لمسألة "الحق التاريخي" لليهود في أرض فلسطين، كتب إدوارد سعيد مقالاً عنوانه "الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها" قلب فيه (رأساً على عقب) الطرح الأحادي البعد و الذي مفاده أنما الصهيونية هي إلاّ حركة تحررية ليهود العالم و الذين ضلوا في أمس الحاجة إليها خصوصاً بعد المحرقة النازية. يقول سعيد أن "الفحص التاريخي للأفكار السياسية الفعّالة" يتطلّب مقاربة جينيولوجية (حتى نتمكن من إثبات ارتباط سلاليّ لها بأفكار و مؤسسات سياسية أخرى)؛ إضافة إلى التعامل معها "كنظم عملية للتراكم (أي تراكم السلطة والأرض والشرعية الأيديولوجية) و الإزاحة (أي إزاحة البشر و الأفكار البديلة و الشرعية السابقة)"
مقاربة سعيد النقدية فتحت المجال لمقاربات مثيلة تثمن تموقُع الكاتبة إزاء موضوع الكتابة. أذكر منها مقالاً للأكاديمية إيلا شوحيط وسّعت فيه "حدود النقاش إلى ما وراء الثنائيات السابقة" أي بين "يهود/إسرائيلين" و"عرب/فلسطينيين" محاججةً أن أي تحليل مكتمل يجب أن يعتبر "النتائج السلبية للصهيونية، لا على الشعب الفلسطيني فحسب،" بل على اليهود الشرقيين (المزراحيم) الذين سُخّروا لخدمة مشروع سياسي استعماري لا علاقة لهم بها. تناولت شوحط في مقالها مختلف جوانب الطغيان الصهيوني الذي جعل من المزراحيم ضحية له، منها: العمل النقابي كأداة لخدمة مصلحة النخب الأشكنازية والنظام التعليمي القائم على التمييز العرقي والطبقي وكذا مجال الدفاع الذي "دفع" بالمزراحيم إلى الواجهة الحربية حتى يشكلوا درعاً واقياً من هجمات العرب. في المقابل تم هجوم ممنهج على احتجاجات "الخبز والعمل" بل وشيطنة الحركة المعادية للصهيونية من أوساط المزراحيم وبالتالي استفحال الصراع الطبقي و قمع كل محاولة للتغيير باسم الأمن القومي.
أوجه التشابه بين أسلوبي عمل السلط الحاكمة في كل من المغرب وإسرائيل تثير تساؤلات حول ضحايا محتملين لسياسة التوسع المغربية داخل المغرب. فتحالف الرباط-تل أبيب السياسي والإقتصادي والأمني يحثنا على تحالفات على أصعدة أخرى: تحالفات تُسائل السرد المهيمن للدولة إدراكاً أن للنزعة التوسعية في سياقيها المغربي و الإسرائيلي جينيولوجية مشتركة، وأن النظامين في نسختهما النيولبرالية يعملان بطرق موازية –كإيديولوجيات وكنظم عملية للتراكم الرأسمالي و النزوح وسلطة الحياة والموت.
لن أتحدث في هذا المقال باسم الصحراويين أو الفلسطينيين حيث أنهم أثبتوا قدرتهم على المرافعة عن قضاياهم باستحقاق، بل سأتحدت عن النزعة التوسعية المغربية من وجهة نظر ضحاياها المغاربة. حسناً، أنا أيضاً من مواليد ما يسمّى ب"جيل المسيرة الخضراء"، وكسائر أبناء وبنات جيلي فقد تعرضت لتنشئة سياسية كان من مقاصدها إنتاج مواطنين (بل رعايا) منصاعين للمصلحة العليا للدولة سواء في سلوكياتهم أو مواقفهم السياسية. فالخطاب السياسي المغربي المتعلق بالصحراء الغربية منبنٍ على إنتاج معرفي مضلِّل كأول مراتب الهيمنة التي تعمد إلى تخييل الصحراء بكل مكوناتها –المجالية والبشرية والتاريخية– بدل التعامل الواقعي والصريح معها. يجب إذن التحرر من الخطاب المهيمن الذي لطالما أقصى، بعنف، كل خطاب نقدي بديل للمسألة الصحراوية.
منذ أن تولت جبهة البوليساريو مسؤولية الدفاع عن حقوق الشعب الصحراوي، فقد اعتمدت، إضافة إلى العمل العسكري، لغة القانون الدولي ومنطق "الحقوق الطبيعية" للشعوب في تقرير مصيرها. كذلك، لعبت الجبهة ومناصروها دوراً كبيراً في تسليط الضوء على انتهاكات السلطات المغربية لحقوق الإنسان. بينما تبنى الخطاب المغربي منطق "الوحدة الترابية" والدور التاريخي لأمارة المؤمنين في تدبير شؤون الصحراء. وبالتالي، فإن مطالبة المغرب بالسيادة على الصحراء الغربية تقوم على (1) روابط تاريخية ذات طبيعة سياسية-دينية "استثنائية" ثم (2) على فهم انتقائي للرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية.
على مدى العقود الأربعة الماضية، لم تدّخر الدولة المغربية ومفكروها (من فقهاء قانون وأكاديميين) أي جهد للإلتواء القانوني على حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره. فمنهم من حاول "نسف" مفهوم تقرير المصير على أنه "اعتباطي" ومنهم من حاجج لنزع الصفة القانونية للصحراويين كشعب، وبالتالي من حقهم في تقرير المصير الذي أكد عليه القانون الدولي.
تفيد الرواية المغربية أن محكمـة العـدل الدوليـة "تؤكـد وجـود روابـط البيعـة بـين المغـرب والقبائـل الصحراويـة" بينما كان موقف المحكمة صريحاً في "عدم وجود أي رابط للسيادة الإقليمية" بين الطرفين. لا يخفى على أحد كون هذه المناورات للاستهلاك المحلي المغربي، حيث لا يوجد هناك أي رأي معتبر في كتابات القانون الدولي يؤيد أطروحة المغرب. هنا يأتي موقف أحد الأكاديميين المغاربة أقل تضليلاً حيث يقر بكون الرأي الإستشاري يدحض موقف المغرب. لكنه، في محاولة مستميتة لتأكيد نظرية "الإستثناء المغربي"، اتهم محكمة العدل الدولية بـ"تطبيق تعسفي لمفهوم السيادة الإقليمية". في نفس السياق، تقول باحثة مغربية في مقال لها تفتعل فيه مسألة "غموض" يتخلل القانون الدولي تجاه مفهومي "الشعب" و"تقرير المصير" أن الجمعية العامة ... لا تعير أي اعتبار للحقوق القانونية والتاريخية للمغرب في ]الصحراء["
نجد في هذه الأمثلة و غيرها توازياً واضحاً للمناورات القانونية الإسرائيلية لإنكار حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. فتحريف رأي محكمة العدل الدولية لخدمة الموقف المغربي يذكّرنا بالتفسير الصهيوني لوعد بلفور متناسياً الفرق بين "موطن" و"دولة ذات سيادة" للشعب اليهودي على أرض فلسطين. وأما التقليل من دور ونزاهة الجمعية العامة فهي من المناورات المعهودة عن الديبلوماسيتين المغربية والإسرائيلية. في هذا الصدد، تطرقت الأكاديمية الفلسطينية-الأمريكية نورا عريقات للحالة الفلسطينية فيما سمته "الفرص القانونية" استناداً إلى مفهوم "الإنتهازية ذات المبادئ" القاضي باتخاذ القانون الدولي "كأدات فحسب... واختزاله في تكتيكات" حجاجية مسخّرة لأهداف سياسية توسعية. غير أن الشعب الصحراوي ليس استثناءً في هذا السياق. بينما طمس الصفة القانونية للصحراويين كشعب جاء نتيجة لسيادة "استثنائية" مفترضة للدولة المغربية، فهي حتما ليست استثناءً إذا أخذنا بعين الإعتبار الممارسات المعتادة للإستعمار الإستيطاني.
لم تكد تمر أشهر على مسيرة الحسن الثاني الخضراء حتى أعلنها هذا الأخير انتصاراً إعجازياً ولحظة حاسمة لصياغة المجتمع المغربي كرعايا "جدد" حسب رؤيته. "حدث" المسيرة الخضراء هذا أصبح مناسبة لتأجيج خطابات استبدادية من خلال منظومة تعليمية وإعلامية "مخزنية" متعصبة للرأي الواحد. فالصحراء، حسب الخطاب الرسمي، هي عبارة عن أقاليم جنوبية"مغربية" والمسيرة "معجزة الزمان" جاءت لاجتياز "الحدود الوهمية" و حريرها من الإستعمار الإسباني. وأما جبهة البوليساريو والجمهورية الصحراوية، فهما كيانان "مزعومان" لقضية تحررية "مفتعَلة". وعلى مستوى التعليم، تمت خردنة برامج تربوية هادفة من أجل تفاهات مثل "قسم المسيرة الخضراء" والذي لازال يُردَّد في السادس من نوفمبر من كل عام في طقوس تكاد تكون دينية يتجلى فيها خليط مقلق من اللاهوت المسيَّس والتسلط الأبوي بأبعاد اسكاتولوجية-روحانية زائفة. لم تكن المسيرة نفسها سوى نشوة عابرة، لولا البهرجة السنوية التي تقام "لتلخيدها" في مخيال الشعب.
استعجل خطاب الحسن "النصر" المفترض، لكن "نبوءة" الشعب والأمة الجديدين قد تحققت. فأصبح المغرب الجديد ديستوبيا قويت فيه شوكة الإستبداد و كممت فيه أفواه المعارضين السياسيين للحسن الذي تمكن من تجييش الفاعلين السياسيين حول "مغربية الصحراء" وبالتالي تقوية قبضته على الحكم. وصفت الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان العمليات العسكرية للمغرب خلال فترة الحرب (1975-1991) "بالإبادة الجماعية". وفتح قضاة دوليون تحقيقات عامي 2007 و 201 إثر وجود "أدلة معقولة" تتيح محاكمة مسؤولين بتهمة ارتكاب "إبادة جماعية" استعملت فيها القوات المغربية أسلحة محرمة دولياً حسب شهادات موثقة في دفاتر وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية. كل ذلك في جو من التعتيم الإعلامي الداخلي حول الإغتيالات والتهجير القسري للمدنيين وقصف مخيماتهم.
بعد أن أخفق المغرب في السيطرة على الموقف على المستويين العسكري والديبلوماسي خلال أواخر السبعينات، إتجه الحسن الثاني إلى إقامة جدار رملي مستنداً إلى الخبرة العسكرية الإسرائيلية وذلك لعزل البوليساريو في الشرق، وبالتالي حماية منطقة التراكم ولإستخراج الرأسماليين التي سيراهن عليها ابنه محمد السادس. ومنذ ذلك الحين عملت الدولة المغربية على إدماج السكان الصحراويين غرب الجدار من خلال برامج تشجع الإستيطان (حسب النموذج الإسرائيلي) وذلك بتوفير خدمات عامة للمغاربة القادمين من الشمال أو إغراء صحراويين بوظائف في مدن الشمال. عادة ما أدى هذا الإدماج القسري إلى مواجهات بين مغاربة الشمال والقادمين الجدد خلال فترة التسعينات أثرت سلباً على مواقف كلا الطرفين تجاه الآخر: ازدراء وازدراء مضاد. المغرب الجديد في قبضة النظام النيوليبيرالي ترتفع مديونيته إثر تكلفة الصحراء الباهظة مما أدّى إلى نشأة برجوازية بنكية وتجارية على حساب الطبقات الكادحة. تخبرنا مجموعة الأزمات الدولية أن المغاربة يتحملون تكاليف سياسة التوسع الإقليمي المادية والمعنوية. من مئات الأسرى الذين تعرضوا للتعذيب على يد البوليساريو إلى تكاليف الإستيطان من ميزانية عسكرية واستثمارات وإعفاءات ضريبية ورواتب مُغرية للموظفين الحكوميين في الصحراء، كل هذا على حساب سياسات من شأنها أن توفر ظروف العيش الكريم للمغاربة.
طبيعي إذن أن يحصل تقارب بين النخب البورجوازية في كل من المغرب وإسرائيل –فقد قاربت صفقة التطبيع المزدوج بين نظاميْن توسعييْن استعمارييْن. لكنني أتوقع أمراً أكثر كارثية: أن يستوعب المغاربة منطق المنتصر ويتماهى المستفيدون من الإستيطان المغربي مع الصهاينة. ذلك لأن الخطابات المضللة للدولة تستمر في ترويض العقول على قبول التطبيع باسم التسامح وباسم "الرافد العبري" في الهوية المغربية. لهذا يجب علينا ألاّ نتصور كل إسرائيلي على أنه متواطئ مع الصهيونية بل هناك أصوات معارضة مثل أرييلا أزولاي وهي أكاديمية إسرائيلية أخرى انخرطت في حملة المقاطعة بهدف الكشف عن جرائم الصهيونية والتضامن مع ضحاياها والمرافعة في مجتمعها حتى يرى هذا الأخير إنسانية "الجار" الفلسطيني.
يجب لا نكون كالذي وصفته حنة آرنت بـ"المتآمر المغيب للعقل": ذلك الفرد النمطي في المجتمع "المنتصر" الذي لا يتجرأ –بل ليس له القدرة– على رؤية الفاجعة من وجهة نظر الضحية. فاجعة الشعب الصحراوي المستمرة هي جزء لا يتجزّأ من بنية النظام المغربي و(نموذج) المواطنة المترتب عنه. كثر الحديث عن المواطَنة في مغرب محمد السادس، ومن حقوق المواطنة أن نرفض كوننا متورطين في جرائم الدولة –ولو بالصمت و الإذعان. ذلك "العمى الجماعي"، كما سمّته أزولاي، لا يأتي من فراغ، بل يخضع لعمليات إنتاج وتوزيع تجعل منه "جانباً أساسياً من النكبة". الجرائم المرتكبة في حق الشعب الصحراوي –إن أخذنا آردنت بجديّة– هي جرائم ضد الإنسانية. فالكشف عنها والتنديد بها ومساءلة النظام ليست مسؤولية الصحراويين فحسب بل مسؤولية المغاربة كذلك (مغاربة الداخل ومغاربة العالم خصوصاً) و ذلك لأن الجرائم ارتُكبت باسمهم لبناء "مغرب جديد" لهم.