في ما وراء الهجرة: تقييم قطاع التهريب الليبي

في ما وراء الهجرة: تقييم قطاع التهريب الليبي

في ما وراء الهجرة: تقييم قطاع التهريب الليبي

By : Mattia Serra

ماتيا سيرا  

على امتداد الأعوام الماضيّة، تصدّرت ليبيا الصفحات الأولى من وسائل الإعلام العالميّة بموضوعات عن الهجرة، والإرهاب، وعدم الاستقرار السياسيّ. وكانت الإطاحة بالقذّافي والدعوة لأول انتخابات خلال خمسين عاما، قدّ مدّا بالأمل كلّ الّذين تمنوا مرحلة جديدة. بعد عقد من الزمن، مازالت البلاد ساحة معركة لحرب أهليّة تبقى نتيجتها صعبة التوّقع. فبوجود نظام سياسي معطّل، وقعت ليبيا في مأزق يتألّف من مزيج من العنف وانعدام الشرعيّة. واستغلّت شبكات إجرامية عابرة للجنسيّات عدم الاستقرار هذا، وحوّلت البلاد إلى مركز للعديد من التدفقات غير الشرعيّة، مما أثّر مباشرة على بقيّة أفريقيا الشماليّة وعدد من الدول في حوض المتوسط.

وبعيدا عن تهريب المهاجرين، وهو الموضوع الذّي احتكرته صناعة السياسة الأوروبيّة في المنطقة، فإنّ هذه الشبكات الناشئة العابرة للجنسيّات لم تحظ سوى باهتمام محدود من الجهات السياسيّة الدولية المعنيّة. هذا البحث، وفيما هو لا يسعى لكي يكون شاملا، فإنه يهدف إلى تقديم الموضوع للقارئ وإلقاء الضوء على مدى تعقيد الخليط الليبيّ.

ديناميات جديدة للتهريب

إن تطوّر ديناميّات التهريب في ليبيا تأثّر إلى حدّ بعيد بسقوط نظام القذّافي وما تبعه من انهيار للقطاع الأمني. والدولة الليبيّة المتّسمة أصلا بضعف مؤسّساتها، تهاوت في أعقاب تدخّل قوات حلف شماليّ الأطلسي في العام 2011. والتدّخل الذّي كان يهدف بداية إلى فرض عمليّة حظر جويّ، انتهى بالوصول إلى المشاركة في تغيير النظام.

بموت القذّافي، وجدت الحكومة الانتقاليّة التي أُسست حديثا أنّها عاجزة عن السيطرة على أراضي الدولة كاملة. أصبحت ليبيا، التي تشهد انقسامات جغرافيّة، وسياسيّة، وعشائريّة، أرضا خصبة لتوسّع المجموعات المسلّحة، والتي أضحت منذ ذلك الحين لاعبا سياسيا أساسيّا. وقي نهاية المطاف، أدّى ضعف العلمية الدستوريّة كما التفتيت المستمر، إلى اندلاع حرب أهليّة ثانيّة سنة 2014.

على الرغم من أن الجماعات المتحاربة وافقت مؤخّرا على وقف لإطلاق النار، إلا أنّ حلّ المأزق السياسي لن يؤدّي بالضرورة إلى حلّ مشكلات ليبيا الاقتصاديّة الاجتماعية طويلة الأمد. فالأزمة التي تعود إلى عقد من الزمن أضرّت بقوة بالاقتصاد الوطني، مساهمة بازدهار قطاع تهريب متعدد المستويات.

كان التهريب في عهد القذّافي يطال أساسا السلع المدعومة مثل النفط والطحين التي كان من الممكن للمجتمعات المهمّشة بيعها بسهولة للدول المجاورة. في المناطق المتخلّفة إنمائيا مثل "فزان"، كان النظام يتساهل مع ذلك النشاط الاقتصادي غير المشروع لأنّه كان يسمح بخلق فرص عمل، مخفضا مخاطر قيام معارضة سياسيّة فاعلة. وكانت الأسر أو العشائر القريبة من القذّافي هي من ينظّم الحركات غير الشرعية الأخرى، وهي كانت بالتالي مباشرة تحت سيطرة النظام. (1)

مع سقوط القذّافي، انتهى ذلك النوع من التهريب "المركزي"، ومنذ ذلك الحين، نما القطاع غير الشرعي في الاقتصاد الليبي بشكل كبير. وإلى جانب تهريب السلع المدعومة، وصل تهريب الأسلحة والمخدّرات إلى مستويات هائلة خلال العقد الماضي. وأسباب توسّع هذه التجارة غير الشرعيّة متنوّعة.

في الأشهر التي تلت الحرب الأهلية سنة 2011، كانت الزيادة في تهريب الأسلحة مرتبطة أساسا بقيام الميليشيات بالسيطرة على العتاد الوطنيّ. وبدأت الأسلحة تنتشر بلا ضوابط داخل ليبيا ونحو جيرانها، مغذيّة الانفلات الأمنيّ المسلّح في كل من مالي والنيجر وتونس. إلّا أن تلك الأسلحة كانت تصل في مرات كثيرة إلى أماكن بعيدة عن ليبيا. مثلا، عبر شرقي مصر، كانت البنادق والصواريخ المحمولة تصل إلى كل من سيناء وغزّة، فيما كانت الأسلحة الخفيفة تُهرّب إلى المعارضة السورية (2) حتى العام 2014. وحين عاد الصراع ليستعّر مجددا في ليبيا، ارتفع الطلب على الأسلحة الخفيفة والذخائر باضطراد. وفي السنوات الماضية، لم يكن المخزون المتوفّر يلبي الطلب المتنامي إلّا جزئيا (3). وعلى عكس تجارة الأسلحة، فإن توسّع تهريب المخدّرات مرتبط أكثر بالأبعاد الإقليميّة لهذه الظاهرة. حتى سقوط النظام، كانت ليبيا تمثّل نقطة ترانزيت لعمليات صغيرة من تهريب المخدّرات، تشمل أساسا حشيشة الكيف، في طريقها إلى أوروبا من مصر. منذ العام 2011، تطورّت ديناميات تهريب المخدرات بصورة جذرّية، نظرا لتوسيع بعض التدفقات، وإقامة منافذ مختلفة للتهريب، وانخراط أطراف جديدة في العمليّة.(4)

في السنوات الأولى التي تلت الانتفاضة، أصبحت ليبيا نقطة ترانزيت لتدفق جديد من الكوكايين الّذي كان يصل إلى الساحل من جنوبي غربي البلاد. وكان يتم نقل (الكوكايين) بقوافل تخضع لحراسة شديدة، أو بكمّيات قليلة يحملها المهاجرون في طريقهم إلى ليبيا، ووصل ذلك التدفّق إلى حدود واسعة، إلى أن أضحت السبل خطيرة جدا للتهريب مع (توسّع) الاضطرابات في كل من مالي والنيجر.(5) وإلى جانب (تهريب) الحشيشة والكوكايين، شهدت ليبيا إحياءً صغيرا للهيرويين وتوسعا بارزا في الأدوية الطبيّة المهرّبة. في خلال الأعوام القليلة الماضيّة، أغرقت مسكنّات الألم الّتي تتطلب وصفات طبيّة مثل "ترامال" و"كلونازيبام" سوق الأدوية الليبيّة، وهناك فئة واسعة من المجتمع تشتريها اليوم بانتظام، من شبّان الطبقة الوسطى في المدن الساحليّة إلى رجال الميليشيات الذين يحاربون على الجبهة (6). ومازال تهريب الأدوية، الذّي غالبا ما يتقاطع مع أنواع أخرى من التهريب، يشكّل جزء أساسيّا من الاقتصادي غير الشرعي الليبي.

مقارنة بعهد القذّافي، يتميّز التهريب في ليبيا ما بعد الثورة بالمنافسة الشرسة على منافذ التهريب. وأدّى ضخّ الأسلحة في الساحة السياسيّة الليبيّة إلى دفع المهربين لتسليح أنفسهم، مما جعل هذا النشاط أكثر خطورة، ودفع المهربين القدامى إلى التخلّي عن أعمالهم. بالإضافة إلى ذلك، تسبب الانتشار المتفلّت للأسلحة إلى توسّع سوق محدد للأمن الخاص، والذي أضحى محوريّا لاستمرار المهربين المستقلين في العمل. (7). وقدّمت هذه العوامل، إلى جانب التفتت السياسي، المناخ النموذجي للمجموعات المسلّحة للانخراط في أعمال قطاع التهريب. بالنسبة لتلك الميليشيات، يمثّل التهريب سبيلا لتحقيق أرباح من السيطرة العسكريّة على مساحات من الأراضي، مبقين على شعبيتهم المحليّة التي هي في الغالب قاعدة قوتهم. وتحصّل الميليشيات مردودا عبر السيطرة المباشرة على بعض التدفقات، أو عبر فرض ضرائب على السلع الّتي تعبر في أراضيهم. وقد سهّل انخراطهم في التهريب تطوّر شبكات متعددة الجنسيات أكثر تعقيدا إلا أنّه ساهم أيضا في زيادة العنف في الشوارع.

منذ العام 2013، أكّد "فريق الخبراء حول ليبيا" التابع لمجس الأمن أنّ السيطرة على طرق التهريب أضحت ضروريّة لاستمرار المجموعات المسلّحة. (8) منذ ذلك الحين، أنتجت السيطرة على تدفقات التهريب نزاعات محليّة على امتداد البلاد، مفاقمة في أحيان كثيرة خصومات سياسيّة موجودة سابقا. ونتج عن مساعي الدولة للتضييق على تلك الظاهرة ديناميّة معيّنة بدأت من خلالها بعض المجموعات المسلّحة الّتي كانت متورطة في السابق بأنشطة غير شرعيّة، بالتعاون في عمليات مكافحة التهريب للحصول على شرعية سياسيّة. (9) ومن المرجّح أن يبقى هذا التذبذب تحدّيا لأي حكومة ليبيّة مستقبليّة وللمجتمع الدولي.

طريق باتجاهين نحو أوروبا

في تمّوز\يوليو 2018، كشفت عمليّة تفتيش أجرتها سلطات المرفأ في برينديزي في إيطاليا للسفينة الحربيّة الإيطاليّة "كابريرا" وجود نحو سبعمئة ألف سيجارة وعدد من علب دواء "سياليس" (للعجز الجنسي) على متن السفينة، اشتراها البحّارون في ليبيا لبيعها بصورة غير شرعيّة في السوق السوداء في إيطاليا. وكان طاقم السفينة التي تمركزت في ليبيا لبضعة أشهر جزء من قوة نشرتها الحكومة الإيطاليّة في غربي ليبيا لتدريب عناصر خفر السواحل التابعين لحكومة الوفاق الوطني ولمنع إبحار مهاجرين إلى أوروبا.

كان التهريب في عهد القذّافي يطال أساسا السلع المدعومة مثل النفط والطحين التي كان من الممكن للمجتمعات المهمّشة بيعها بسهولة للدول المجاورة. . . وكانت الأسر أو العشائر القريبة من القذّافي هي من ينظّم الحركات غير الشرعية الأخرى، وهي كانت بالتالي مباشرة تحت سيطرة النظام. مع سقوط القذّافي، انتهى ذلك النوع من التهريب "المركزي"، ومنذ ذلك الحين، نما القطاع غير الشرعي في الاقتصاد الليبي بشكل كبير. وإلى جانب تهريب السلع المدعومة، وصل تهريب الأسلحة والمخدّرات إلى مستويات هائلة خلال العقد الماضي.

متخيّلين المكاسب المحتملة لعمل كهذا، استغّل البحّارون معارفهم المحليّين لشراء السجائر والأدويّة، زاعمين استخدام أموال صندوق الطوارئ التابع لوحدتهم لتسديد أموال للتّجار ووسطائهم (10). على الرغم من أن هذه الحادثة تُعدّ صارخة، إلّا أن قيام مجموعة من البحّارين الإيطاليين بالسعي لتهريب السجائر ليس إلّا دليلا على الديناميات الأوسع للتهريب في ليبيا.

إن انهيار القطاع الأمني سمح لأطراف دوليّة فاعلة بالحصول على موطئ قدم في البلاد واستغلال عدم استقرارها. بالنسبة للعصابات الأوروبيّة المنظّمة، شكّلت ليبيا ما بعد القذّافي سوقا كبيرة لتجارة الأسلحة، ومستودعا للسلع الشرعيّة وغير الشرعيّة للتصّدير إلى أوروبا. ومن الصعب تقييم حجم الارتباط بين المنظمات الإجراميّة الأوروبيّة وبين الميليشيات (المحليّة)، إلّا أنّه من الواضح أن منظّمتهم قد ساهمت بتحديد شكل قطاع التهريب الليبي.

واحد من أوضح الأمثلة على قدرات هذه الشبكات العابرة للجنسيات هو حلقة تهريب النفط التي ربطت محطة زاوية للتكرير بالسوق الأوروبي عبر مالطا وجنوبي إيطاليا. مرتكزة على تحالف بين المهرّب الشهير فهمي بن خليفة وزعيم خفر السواحل في زاوية، تنقل الشبكة النفط من محطة التكرير في زاوية إلى بلدة زوارة الساحليّة. هناك، يُنقل النفط عبر البرّ إلى تونس ثم بحرا إلى المياه المالطيّة، حيث يتم تفريغه في أسطول من المراكب الصغيرة لنقله إلى الساحل. من مالطا، يصل النفط المهرّب إلى إيطاليا وإسبانيا وفرنسا. وتسبب توقيف بن خليفة وأعضاء آخرين في الحلقة سنة 2017 في تعقيد سير الظاهرة، التي غيّرت منذ ذلك الحين كلا من أساليبها والأعضاء الناشطين فيها (11).

إلّا أن تعقيدها واتساع نطاقها كشفا قدرات شبكات التهريب متعدّد الجنسيات التي مقرّها ليبيا. فإلى جانب النفط، تعدّ الأسلحة والمخدّرات من أكثر المنتجات نقلا من وإلى أوروبا. ويصل الكوكايين والحشيشة إلى جنوبي أوروبا بعد إبحارها من الموانئ الليبيّة. (12). في المقابل، غالبا ما تكون الموانئ الإيطاليّة واليونانيّة والمالطيّة نقطة وسطيّة لتهريب الأدوية الّتي تحتاج إلى وصفات طبيّة الآتيّة من الهند لتصل إلى ليبيا.(13) بطرق مماثلة، فإن جنوبي أوروبا متواجد على وجه الخصوص في ديناميات تهريب الأسلة الليبيّة. مثلا، في صيف 2017، وقبل أشهر من غزو حفترلبنغازي، لجأ "مجلس الشورى" الّذي يسيطر على المدينة إلى مجموعة واسعة من صلاته لشراء الأسلحة.

كان أحد الوسطاء الذّين وفروا الألغام ومنصّات الصواريخ للمجموعة، رجل أعمال إيطالي يعمل في مجال اليخوت، هرب إلى ليبيا بعد إفلاس شركته واستخدم بقايا أسطوله لتهريب الأسلحة إلى بنغازي.(14)

وقام عبد الرؤوف الشّطي، وهو ليبي اعتقل في المملكة المتحدة سنة 2014، بتأسيس حلقة تهريب أكثر تقدّما. وكونه على اتصال بالوسيط زيناتي، عمل الشّطي كسمسار في شبكة معقّدة تشمل مصريين وإيطاليين، كان عميلهم الأساسي هو تاجر أسلحة إيطالي في السبعين من عمره، كان منخرطا أساسا في تهريب الأسلحة إلى البلقان في التسعينيات. (15). في هذه الحالة وغيرها الكثير، وفّرت ليبيا سوق أسلحة متوسّع إلى طبقة انتقاليّة من الوسطاء والمروّجين مقراتهم في جنوبي أوروبا وشرقي المتوسّط. رشاشات سوفياتيّة الصنع، ومسدّسات بيضاء معدّلة، وذخائر مصّنعة يدويا كلها جزء من العرض الدائم للأسلحة التي تشتريها الميليشيات والمواطنون في ليبيا.

خلاصة

إنّ تطوّر التهريب في ليبيا منذ 2011 مرتبط بعمق بفشل إعادة الإعمار بعد القذافي. والسعي لدمج الميليشيات مع الدولة تضارب مع إمكانيّة الحفاظ على استمراريّة تسلسل رتبهم. وهذه الميليشيات، المستقلّة بشكل كبير، اتخّذت موقفا محدّدا إزاء بنى الدولة، وهي داخلها وهي خارجها في آن. ومع وجود قطاع أمني يرتكز بصورة كبيرة على هذا الالتباس، ليس من المفاجئ أن يكون الخط الذي يفصل المهربين عن الجهاز المكافح للتهريب ضبابيا في غالب الأحيان. بالإضافة إلى ذلك، وفي مجالات عدّة، برز قطاع التهريب كبديل عن الاقتصاد الرسمي، مشكلا المنفذ الوحيد لشعب من المدنيين المنكوبين. وكما يقول أستاذ جامعي ليبي في مقابلة مع "فريق الأزمة الدولي"، فإنّ "التهريب هنا وظيفة، ليس جريمة". (16).

سوف يتعين على الحكومة الانتقاليّة الجديدة أن تواجه هذا الموضوع بالتزامن مع إعادة توحيد البلاد سياسيا. ولكن، من المرجّح أن يستمر قطاع التهريب، ومعه نتائجه الاجتماعية والاقتصادية، في ترهيب ليبيا لأعوام مقبلة بعد.

[نشرت المقالة على «جدلية» وترجمتها إلى العربية هنادي سلمان]

***

(1) مارك شاو وفيونا مانغان "التهريب غير الشرعي والمرحلة الانتقالية الليبيّة: الفوائد والخسائر" معهد الولايات المتّحدة للسلام، تقرير "بييسوورك" الرقم 96 (شباط\فبراير 2014)، ص 7-8.

(2) تقرير لـ "فريق الخبراء حول ليبيا" التابع لمجس الأمن (2013)، ص 33-35، (2014) ص 41-43، و(2015) ص 47-48.

(3) مارك ميكاليف، رؤوف فرّاح، الكسندر بيش وفيكتور تانر "بعد العاصفة: الجريمة المنظّمة عبر الساحل- الصحراء عقب الانتفاضة في ليبيا ومالي"، المبادرة الدولية الجريمة المنظمة (2019)، ص 54-55

(4) لعرض حول تطور تهريب المخدرات في ليبيا بعد 2011: فيونا مانغان "التهريب غير الشرعي"، معهد الولايات المتّحدة للسلام، تقرير "بييسوورك" الرقم 161 (أيّار\مايو 2020).

(5) مارك ميكاليف "رمال متحرّكة: ديناميات تهريب المخدرات المتغيّرة في ليبيا على الحدود البحرية والصحراوية"، المركز الأوروبي لمراقبة المخدرات والإدمان على المخدرات (2019)، ص 23-25

(6) فيونا مانغان "تهريب المخدرات غير الشرعي"، ص 12-13 و18-23

(7) مارك شاو وفيونا منغان "التهريب غير المشروع" ص 17-19

(8) تقرير لـ "فريق الخبراء حول ليبيا" التابع لمجس الأمن (2013)، ص 11

(9) انظر مثلا إلى قضية كتيبة أنس الدبّاشي في صبراتة: تيم ايتن "اقتصاد الحرب الليبية: نهب، استغلال وضعف الدولة"، عن شاتام هاوس للنشر (نيسان\ابريل 2018) ص 12-13

(10) باتريك كينغسلي وساره كريتا "السفينة التي أوقفت سبعة آلاف مهاجر، وهرّبت سبعمئة ألف سيجارة"، صحيفة "نيويورك تايمز (28 أيلول\ سبتمبر 2020).

(11) تقرير لـ "فريق الخبراء حول ليبيا" التابع لمجس الأمن (2018) ص 38-45

(12) مارك ميكاليف "رمال متحركة"، ص 13-17. فيونا مانغان "تهريب المخدرات غير الشرعي" ص 8-13

(13) خفر السواحل الإيطاليّة واليونانيّة والمالطية تصادر بانتظام شحنات من مسكني الألم في طريقها إلى ليبيا. انظر مثلا إلى مقال "مصادرة شحنة من مسكنات الألم" في صحيفة "كوريري ديلا سيرا" (تشرين الثاني\نوفمبر 2017).

(14) "ليبيا، الإرهاب وتهريب الأسلحة، الروس يوقفون متعهد إيطالي"، قناة "راي نيوز 2" (1 كانون الأول\ديسمبر 2019). موجود على هنا.

(15) تقرير لـ "فريق الخبراء حول ليبيا" التابع لمجس الأمن (2016) ص 30-31. انظر أيضا : "ليبيا، ترحّل إلى إيطاليا فرانكو جورجي، الوسيط المتهم بتهريب الأسلحة". عن "إل فاتّة كوتيديانو" ( 1 نيسان\أبريل 2019) موجود هنا.

(16) فريق الأزمة الدولي، "كيف أصبحت فيزان الليبيّة الحدود الجديدة لأوروبا" (تموز\يوليو 2017) ص 5

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • Beyond Migration: Assessing Libya's Smuggling Sector

      Beyond Migration: Assessing Libya's Smuggling Sector

      Over the past years, Libya has hit the front pages of international media outlets with stories of migration, terrorism, and political instability. The ouster of Gaddafi and the call for the first elections in fifty years have given hope to all those who wished for a new era. A decade later, the country is the battleground of a civil war whose outcome is still difficult to forecast. With a broken political system, Libya has fallen into a quagmire made of violence and illegality. Exploiting this instability, transnational criminal networks have transformed the country into a hub for several illegal flows, impacting directly the rest of North Africa and various countries in the Mediterranean basin. Aside from migrant smuggling, a subject that has monopolized European policymaking in the region, these emergent transnational networks have received little attention from international political stakeholders. This essay, while not trying to be exhaustive, aims at introducing the reader to the topic and at shedding light on the complexity of the Libyan patchwork.

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬