نظمي الجعبة، بمشاركة من رنا بركات وخلدون بشارة ويعقوب عودة
(مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت – رام الله، 2020)
جدلية (ج): كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
نظمي الجعبة (ن. ج.): في الحقيقة إن فكرة الكتاب تعود إلى الصديق يعقوب عودة، ابن قرية لفتا والمدافع الشرس عن تراثها الثقافي، وقد جاء الكتاب نتيجة لعمل مضن وطويل دفاعًا عما تبقى من القرية من أن يتم إزالتها بأنياب جرافات الاحتلال الإسرائيلي. وقد شارك في الورشات المختلفة التي جرى تنظيمها عدد كبير من المختصين في العمارة التاريخية وتخطيط المدن والتاريخ والآثار والقانون، عمل كل في مجال تخصصه. ومن أهم إنجازات هذه الورشات قيام فريق رواق - مركز المعمار الشعبي في رام الله - بمسح شامل لكل مبنى بقيت آثاره في لفتا ورفعه هندسيًّا، حفظًا للذاكرة وحماية لهذا التراث المتجذر. وبعد أن تراكمت كل هذه المواد الهامة، ووجود عشرات الدراسات السابقة، كان لا بد من جمع هذه المعارف بين دفتي كتاب، إذ أُنيطَ بي القيام بهذه المهمة الصعبة. صحيح بأنني كتبت معظم الكتاب، إلا أن هناك مساهمات هامة لكل من الزملاء رنا بركات حول التاريخ الشفوي للفاتِوَة، ومساهمة لخلدون بشارة حول التحليل المعماري لمباني لفتا ضمت نشر عشرات المخططات، ومساهمة ليعقوب عودة حول تاريخ النضال للحفاظ على ما تبقى من لفتا. فالكتاب مدين للكثير من الزملاء والأصدقاء الذي عملوا بلا كلل على حماية لفتا.
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
(ن. ج.): صحيح أن هناك أكثر من 120 كتاباً حول القرى المدمرة والمهجرة منذ عام 1948، وهي جميعها بلا استثناء تشكل استحضارًا للذاكرة وتعبّر عن عمق العلاقة بالوطن ومعاني ذلك. وهي كتابات تراوحت ما بين سرد التاريخ بشكل بسيط إلى التركيز على التراث الثقافي غير المادي من عادات وتقاليد، كما وثقت التركيبة العائلية وبعض العادات والتقاليد، وجمعت الكثير من الشهادات الشفوية وقصص البطولات والاقتلاع والتهجير. إلا أن كتابنا هذا يعبّر عن درجة إضافية أكثر تطورًا في كتابة تاريخ القرى الفلسطينية المدمرة، فعلاوة على توثيقه للتاريخ بطريقة علمية موثقة تعتمد على نتائج الحفريات الأثرية وقراءة العمارة والوثائق التاريخية، وبهذا فقد اعتمد بشكل أساس على توثيق التاريخ المادي الحضاري، كشهادة واضحة وغير قابلة للتأويل.
لفتا، كنموذج للقرية الفلسطينية، يعود تاريخها إلى العصر البرونزي واستمرت بالوجود، تقريبًا بدون انقطاع، على مدار ناجز أربعة آلاف سنة، وكانت شاهدة على التطور الحضاري الذي عاشته فلسطين عبر العصور، أثبتت قدرة هائلة على التكيف والتطور بغض النظر عن تغير الديانة الرسمية أو نظام الحكم. أثبتت دراسة لفتا عن قدرة عالية للتكيف مع الطبيعة وليس على حسابها، فانخرطت فيها وأصبحت مكونًا أساسيًّا منها. ومع وصول بدايات الحداثة إلى فلسطين مع القرن الثامن عشر، تلقفت لفتا هذا الأمر وانسجمت معه، وهذا يعني أن ريف فلسطين لم يكن بمنأى عن الحداثة، والتي اعتقد بعض مؤرخي المدن أنها اقتصرت على المدن. لفتا تعبر عن ذوق تخطيطي ومعماري رفيع؛ جمال مبانيها، وتماهيها مع الكونتورات الصخرية المطلة على وادي الشامي (أحد روافد واد الصرار)، وفي حضنها نبعها الدفاق الذي يروي الحقول الواسع الممتدة غربًا، جعل منها مكانًا مميزًا. لفتا تعبير عما كان وفي ذلك الأمر بعض النوستالجيا، لكنها تعبر أيضًا عن الإصرار على البقاء وعما يحجب أن يكون. جاء الكتاب موثقًا ومعبرًا عما ذُكر.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
(ن. ج.): لا يختلف عن أي كتاب بحثي أكاديمي آخر، اللهم أن المحاولة الدائمة للتخلص من العواطف الجياشة التي أصابتني كغيري حين يتم الحديث عن الظلم التاريخي الذي تعرض له أهل فلسطين. فالكثير من أبناء وبنات لفتا المقتلعين من بيوتهم، يعيشون على بعد رمية حجر من قريتهم، وأعرف الكثير منهم، هذا الأمر جعلني دائما أرزخ تحت وطأة حمل هائل. جسّد اللفاتوة بالنسبة لي مأساة فلسطين مضاعفة، فقد هجروا كغيرهم من اللاجئين، لكن الكثير من بيوتهم ما زالت قائمة، ويستطيعون زيارتها، لكنهم يحرمون من حق استردادها، فأي ظلم يفوق هذا.
وكما هو معروف، فإن كتابة تاريخ الريف في فلسطين، كغيرها من بلدان العالم، يعتبر تحديًّا كبيرًا نظرًا لفقدان المصادر حولها، لكن لفتا حالة خاصة، قد لا تكون فريدة، فبسبب موقعها على البوابة الغربية لمدينة القدس على طريق يافا، جعلها أكثر حظًا من غيرها في البروز في المصادر. كما أن الاهتمام الإسرائيلي في اقتلاع ما تبقى من الحجارة الشاهدة على شعب عنيد وعلى ريف متطور يطيح بالنظريات الصهيونية حول أرض فلسطين وسكانها، هذا الأمر أضاف المزيد من التحديات في تأليف هذا الكتاب.
(ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
(ن. ج.): قد يعتبر كتاب لفتا هذا تاريخًا لريف فلسطين، وقد يعتبر توثيقًا للتراث المادي للقرية الفلسطينية، ويمكن اعتباره وثيقة تاريخية حضارية تردّ على الادعاءات الصهيونية وتشهد على المستوى العمراني والاجتماعي لريف فلسطين على مدار قرون طويلة، ويمكن اعتباره بورتريه ممثّل للقرى الفلسطينية التي جرى تدميرها والتي شارف عددها على 500 قرية وبلدة. وإن كان الكتاب لا يعالج تاريخ النكبة بشكل مباشر، إلا أنه يحدد تمامًا ما تم نكبه، ويساهم في إبراز عظم الخسارة للتاريخ الثقافي الإنساني الذي سُحق على يد الاحتلال عقب نكبة فلسطين.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والإبداعية؟
(ن. ج.): منذ ما يزيد على ثلاثة عقود وأنا أعمل على حماية وصيانة وترميم التراث المعماري التاريخي في فلسطين، إذ شاركت بطريقة أو بأخرى في غالبية مشاريع توثيق هذا التراث، وعملت في مشاريع ترميم عشرات المباني والمراكز التاريخية، كما تمحورت غالبية كتاباتي إما حول التراث الثقافي المادي أو حول توثيقه وحمايته. وبالتأكيد جاءت كتاباتي الكثيرة حول القدس ضمن هذه السياقات، مراقبًا أيضًا لكل النشاطات الإسرائيلية الهادفة إلى تغيير المشهد الحضاري للقدس. وآخر كتاب نشرته كان تحت عنوان "حارة اليهود وحارة المغاربة في القدس القديمة: التاريخ والمصير ما بين التدمير والتهويد" وهو من منشورات مؤسسة الدراسات الفلسطينية، لعام 2019.
جاء كتاب لفتا جامعًا للكثير مما أود قوله، فهو نموذج على كيفية استعمال التراث الثقافي، في الحالة الفلسطينية على أقل تقدير، في تشكيل الهوية، وإثبات الحق التاريخي، وللرد على الأكاذيب، كما يأتي هذا الكتاب أيضًا موضحًا لجماليات التراث، وكيفية الاستمتاع به، واستعماله في تشكيل الذائقة البصرية. كما يوضح منهجيات توثيق التراث الثقافي.
(ج): من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
(ن. ج.): غالبية أجزاء الكتاب صيغت بلغة سلسلة قدر الإمكان، حتى في الوصف المعماري والأثري، وهُذّبت اللغة لتصبح مفهومة لدى الغالبية العظمى من القراء، وزُوّد بعدد كبير من المخططات والصور والأشكال التوضيحية ليوسّع دائرة المستفيدين من الكتاب، لذلك يمكن لعدد كبير من القراء (المثقفين عمومًا) الاستمتاع بالقراءة، لكنه يخاطب أيضًا الباحثين في تاريخ النكبة، والمؤرخين (خاصة تاريخ الأرياف)، ومؤرخي العمارة والفنون، والمعماريين، والأثريين، والمختصين في التراث الثقافي. بالإضافة إلى اللاجئين عمومًا، وأهل لفتا بشكل خاص.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(ن. ج.): لقد انتهيت من تأليف كتاب حول كنيسة المهد في بيت لحم، وسيكون هذا أول كتاب وضع باللغة العربية حول هذا المعلم الديني والحضاري الفريد من نوعه، إذ تعتبر كنيسة المهد من أقدم مباني العالم التي ما زالت مستعملة وتحمل في طيات حجراتها وزخارفها كنوزًا لا تضاهى. آمل أن يخرج هذا الكتاب إلى النور خلال عام 2021. وحاليًّا بدأت كتابًا حول القدس المملوكية، لا أعرف أين سيقودني، وإن كان في العمر بقية ستمكنني من إخراجه.
من الكتاب
لا يمكن اليوم، دخول أزقة لفتا وبيوتها المدمرة، نتيجة التهجير وسوء الاستخدام وأنياب الجرافات الإسرائيلية وتدريبات جيش الاحتلال على اقتحام القرى الفلسطينية والجنوب اللبناني من دون أن تدمع العين وتتهيج المشاعر. فتركيبة القرية الحضرية ومبانيها الرائعة تجبرك على تخيل أهلها يسرحون ويمرحون، وينادي بعضهم على بعضهم، من الحقول البعيدة. ولا يمكن لك إلا أن تستحضر الأطفال يسبحون في بركة النبع، وأمهاتهم يغسلن على حافتها، أثوابهن المطرزة بأجمل الألوان والأشكال. وسوف يتراءى بعض الرجال متقدمين في السن، يجلسون في ساحة القرية ويلعبون السيجة بحصىً ملساء جُمعت من وادي الشامي. وثمة بضعة شباب يتنقلون على سطوح المباني، ويقومون بحركات بهلوانية، بينما يجلس أمام العِلية أفراد عائلة متعددة الأولاد، يتناولون طعام الغذاء، في وقت متأخر، على طبق من القش افترشوا به الأرض. وتسبح الشمس في الأفق القريب، مبتعدة عن القرية في اتجاه الغرب، مسرعة في أفولها صوب البحر، وأصوات زقزقة العصافير تُطرب الأذن وتكسر الهدوء الذي يخيم على القرية، وهفيف ريح شرقية تهب منعشة في تموز. وجلس رجل، بنظارة عدستاها سميكة، في بيت بُني على صهوة جبل خلة الطرحة، وتسمّر أمام قطعة من الحرير، يخط عليها أجمل الخطوط العربية، في حين كان جاره الطبيب يطالع آخر ما نشرته المجلات الطبية، وتداوي زوجته الممرضة جروح طفل جاء من الحارة التحتا، وتحضّر جارتها الأخرى دروس الغد لطلابها. ووصلت الحافلة القادمة من القدس، تقلّ طلابًا وموظفين وتجارًا عائدين إلى القرية، قبل أن تشق طريقها في اتجاه قرية دير ياسين المجاورة، ولم يتخلف من ركابها إلا أصحاب الدكاكين في شارع يافا وأطراف القدس القديمة لأنهم يفتحون محلاتهم إلى وقت متأخر، ويعودون بعد حلول الظلام إلى لفتا، حيث يتعالى في أفقها البعيد، مختلطًا ببقايا دخان منبعث من طوابين جذر القرية، غبارُ المحاجر والكسارات، التي طالما زودت القدس بالحجارة المهذبة والشيد وحصى البناء.
نجا جزء مهم من قرية لفتا بالصدفة وكمعجزة، من المصير الذي واجهته أكثر من 450 قرية وبلدة فلسطينية بعد نكبة سنة 1948، متجسدًا في تدميرها الكامل ومحو آثار وجودها. لذلك، لم يكن العمل على لفتا مجرد بحث، مثل غيره، فقد اختلط بكثير من المشاعر الجياشة، والأحاسيس التي خطفت الأنفاس، كما امتزج بِنَهَم معرفة المكان والبحث في جذوره، ولم يخلُ من تحدي نبش تاريخه والوصول إلى كل معلومة تلقي ضوءًا على لفتا وأهلها الذين كانوا ينعمون برغد العيش، مثلما يدل على ذلك ما تبقى منها، وسعة أراضيها الزراعية وخصبها، علاوة على وصول حدودها إلى أسوار القدس القديمة. وما زاد التحدي كثرة المشاريع الإسرائيلية المتلاحقة لمحو تاريخ المكان، فلا يكاد يُنتهى من طرح مشروع إلا ويتبعه آخر، وحدث على مدار أكثر من ثلاثة عقود متلاحقة، بحيث أصبح ما تبقى من لفتا وأراضيها هدفًا لأعمال البلدية التي تقع تحت سلطة الاحتلال، ولمختلف الأذرع الحكومية الإسرائيلية. لكن هذه المخططات واجهت وقفة نضالية صلبة من أهالي لفتا في الوطن والشتات، ودعمهم في صمودهم هذا حشد كبير من الأفراد والمنظمات داخل الوطن وخارجه، بحيث نجحت هذه النضالات، مجتمعة، في تجميد تلك المخططات. لكن الخطر ما زال ماثلًا، ويجب ألا تغيب عن البال قدرة هذا الاحتلال، وخبرته باستعمار فلسطين، وتحينه الفرصة الملائمة لالتهام ما تبقى من بيوت لفتا وذاكرتها المادية الماثلة.