لا يمكن فصل سردية أزمة اليسار السوري ونكوصه عن سردية اليسار العالمي سواء في صعوده، وهناته وانهياره كونه متصلًا بحبل سرة معه، وبالتالي فإن تراجع أحزاب اليسار على المستوى العالمي فكرًا وتنظيمًا ورؤى، انعكس على أحزاب اليسار السوري بأنساقه وأطيافه المختلفة (اشتراكي، ماركسي) وعلى ضفتي الصراع السوري موالاة ومعارضة، بحيث دخلوا جميعًا مرحلة تشرنق وتقوقع، ودوران حول الذات، وانعدام الوزن في الفعل السياسي، وحتى على المستوى النظري والفكري، وما زاد الطين بلة هو الصراعات الداخلية والانشقاقات لأسباب موضوعية وذاتية مما أضعف هذه الأحزاب. ولم يكن من باب الصدفة تزامن تراجع اليسار العالمي مع هزيمة الفكر القومي العربي نتيجة هزيمة الأنظمة القومية (1967) التي تُصنف كأحد تفرعات واشتقاقات اليسار.
كان الخط البياني الانحداري لليسار العربي والسوري قد بدأ منذ مطلع السبعينيات، رغم محاولات اليسار الجديد لإنتاج أحزاب من طراز مختلف سواء على مستوى الأفكار والرؤى والبرامج الراديكالية والفواعل السياسية والتنظيمية، متكئًا على حركة الطلاب في فرنسا وغيرها من حركات راديكالية في أوروبا الغربية (بادر-ماينهوف، الألوية الحمراء) وإلى حركات اليسار الغيفارية في أميركا اللاتينية والتجربة الفيتنامية (صحوة الموت السريري) في حين كانت المنطقة العربية تستيقظ على صحوة إسلامية سياسية يمينية التوصيف والوجهة، بدأت طلائعها في سوريا (1977) لتمتد إلى المنطقة ككل.
كانت محاولة اليسار الجديد تلك لإعادة الألق والروح النضالية لليسار السوري (المفلس والمشرذم والمتآكل) الذي تواطأ مع النظام (1970) وغطى يمينيته وقمعه وفساده، بل وتشارك معه عندما دخل الإطار الكرتوني لما يسمى (الجبهة الوطنية التقدمية) كرد منه على تلك السياسيات الانتهازية وعلى الهزيمة (منتصف السبعينات)، لكن فترة صعوده كانت قصيرة، فقد تعرض إلى نكسة ونكوص وكبوة، لم ينهض اليسار منها حتى اللحظة، وهذا يبدو منطقيًّا بعد حملات القمع والاجتثاث السياسي والاجتماعي، التي طالت اليسار المعارض بكل تلاوينه، ومع ذلك بقي يقاوم حتى جفت منابع النهر، منابع المشاريع والرؤى والأفكار وتجديداتها الماركسية والاشتراكية في أوروبا (تحول الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية إلى أداة سياسية ملطفة لمصالح رأس المال) ولن نستطيع أن نتجاوز سقوط الاتحاد السوفياتي وهزيمته الفكرية والاقتصادية (الشاملة) وتداعياته على العالم ككل وعلى اليسار السوري.
ترافق ذلك مع دخولنا عصر العولمة حيث طغى الاستهلاك على الحياة والقيم والأفكار باعتباره سمة العصر، وترافقت الإنجازات العلمية والتكنولوجية العظيمة مع تراجع في الشق الفكري، بحيث ساد التسطيح مناحي الثقافة والفكر بكل أشكاله (غياب مراكز أبحاث اقتصادية واجتماعية جدية) ونحن لسنا خارج العالم بل في القلب منه. ولجملة الأسباب تلك لم يبق من اليسار إلا الاسم، واستمراره بفعل قوة العطالة (قوى مشلولة تمشي على كرسي نقال) بعد أن كانت أقدامه من خشب وقصب في الثمانينات، وإن سبق له وملأ الفضاء حيوية وتجديدًا في الرؤى الفكرية والسياسية والتنظيمية بأقدام ثابتة وحية (الخمسينيات، الستينيات، أواسط السبعينيات).
وفي السياق سالف الذكر، فشلت ثانية محاولات إعادة إحياء أحزاب يسارية في القرن الواحد والعشرين، ولم تأت أكلها، واصطدمت بجدران العجز الاجتماعي والفكري والمعرفي، ووقف اليسار في مواجهة الحواجز الشائكة للخطاب السياسي، وأي خطاب يعتمد؟ خطاب يبقي التنظيم في خانة اليسار المدافع عن الفقراء والمهمشين وكل (الغلابة)؟ أو أن يجدد الخطاب باتجاه آخر؟ وبذلك يغادر مواقع هذا الحقل نظريًّا وسياسيًّا مثل حزب الشعب الذي أبقى نفسه ملتحفًا بعباءة اليسار، وكأن صبغة اليسار زينة، كي يصر عليها في برنامج الحزب وتحالفاته ليبرالية يمينية.
ولكن عجز وتعرية جميع القوى اليسارية تجليا أثناء الانتفاضة، عندما فشلت تلك القوى بإعادة إنتاج ذاتها وتجديد شبابها السياسي والتنظيمي في الميدان المتحرك وتجربة الاحتكاك المباشر مع الجمهور الثائر، كان هذا بمثابة بروفة لشعاراتها ولقدرتها على التقاط اللحظة السياسية والتمفصل معها، ولكن حصيلة مشاركتها المحدودة كانت صفرية. والحقيقة نجح بعض اليساريين في الالتحاق الذيلي بالإسلام الراديكالي وتغطيته، وبذلك فقدوا تميزهم وهويتهم وجلّ الجمهور المنتفض، وبنفس الوقت خسروا إمكانية دعم كتل اجتماعية وشعبية من الأقليات، التي شكلت بيئة مناسبة لتمدد أحزاب اليسار، فالتحق جزء كبير منها بالنظام، أو وقف على الحياد خوفًا من القادم الإسلامي من جهة ومن جهة أخرى نتيجة فشل اليسار في بلورة برنامج سياسي واجتماعي لساحة متعددة السلالات الطائفية والإثنية، وأضيف إلى تعقيدات المشهد اليساري وقصوره الذاتي والموضوعي تعقيد آخر، وهو إلصاق صفة اليسار بالنظام وحلفائه، ما خلق التباسًا لدى شريحة من الشعب، فهجر تلك التنظيمات هربًا من كل شيء يذكره بالنظام الظالم.
وكانت الانتفاضة سببًا في تعرية حجج الاستنقاع السياسي، التي شكلت شماعة تعلق عليها الأحزاب اليسارية ضعفها، فكشف الحراك عجزها عن قيادة الشارع أو التأثير فيه نتيجة غياب الرؤية والبرنامج، ما أدى إلى فشلها في التحول لأداة ورافعة للحراك الشعبي من أجل الوصول لأهدافه في الحرية والانعتاق والعدالة الاجتماعية، وذلك ضمن المرحلة الأولى من بداية الانتفاضة (قبل أن تتعسكر وتتطيف). وبعد مرور هذه السنوات لم يسأل أحد من اليسار ذاته: لماذا فشلنا؟ وما هي الأسباب؟ وهل يكفي إرجاع السبب إلى القمع المعمم والشامل الذي أدى إلى العقم السياسي وبوار الأرض لتبرير فشلنا الموصوف؟! أم يجب البحث في أكثر من حقل ومستوى عما وصلنا إليه من قصور الذات ومن متغيراتٍ في المناخ العالمي والواقع الموضوعي السوري، الذي شهد بدوره انزياحات وتموضعات طبقية جديدة أبرزها ضعف الطبقة الوسطى (حاضنة ومولدة الأفكار والأحزاب) ومتغيرات في الشرائح الطبقية ومراكز رأس المال، إذ طفت طبقات جديدة على السطح (بيروقراط، مالكو شبكات الاتصالات، مستوردو الكومبيوترات) خلال العقود المنصرمة، ولن نتغاضى عن الشرخ العمودي الذي أصاب المجتمع السوري (الطائفي، المناطقي والإثني) وما يشغله كل حيز من تلك العوامل في النكسة الكبرى لنا جميعًا.
في ضوء كل تلك الأسباب السابقة، أصبحت أزمة اليسار مستعصية، ويُضاف إليها استمرار بعض القوى اليسارية ببرامجها وشعاراتها القديمة، التي سبق ورُفعت طوال عقود، ولم تعد تلاقي الصدى المأمول، وتحتاج إلى تغيير جذري بشقيها التكتيكي والاستراتيجي، وإلى ضياع البوصلة عند قوى أخرى، بحيث التحقت بقوى طبقية وسياسية كانت تصنف بأدبياتها حتى الأمس قوى يمينية ومعادية وو..! والسؤال الذي يقفز مباشرة، وعلى اليسار الذي يريد العمل الجدي الإجابة عليه: ما البرنامج الملائم؟ برنامج ديمقراطي؟ أم هو مفتاح؟ وسوريا بلد مدمر ومحاصر ومفقر ومقسم ومحتل من أطراف عدة متناقضة! وكل طرف يحتمي بمحتل لخدمة مصالحه وكينونته! وكل ذلك ونحن ما نزال نرزح تحت وطأة القمع والاستبداد.
[هذه المقالة جزء من طاولة مستديرة خصّصتها جدلية لتناول موضوع اليسار في سوريا].