[هذه المقالة جزء من ملف حول اللغة الأمازيغية، تحت عنوان «"تانكرا تمزيغت": الصحوة والأصلانية الأمازيغتَيْنِ في الآداب والفنون»].
اتّخذ انتشار الثقافة الأمازيغيّة، في سبيل الاستمرارية والصون والمقاومة، أشكالًا متنوّعة من التعبير والنشر. وفي حين أدّت عوامل عدّة إلى إبطاء الإنتاج الفكري الأمازيغي، إلّا أنّ الموسيقى الأمازيغيّة ازدهرت داخل المغرب الذي كان يشهد تغيّرا سياسيا وإيديولوجيا في فترة ما بعد الاستقلال. وأدّت عمليّة التعريب في الربع الأخير من القرن العشرين، التي تلت لجوء الاستعمار إلى سياسة "فرّق تسد"(1)، إلى إعاقة بروز الأمازيغية كعنصر لغوي وثقافي وهوياتي، يتساوى أهمية مع العربية. واعتُبر بروز اللغة الأمازيغيّة مشروعا بعيد المنال وشديد الطموح. والأصوات المطالبة بمساواة اللغة الأمازيغية، التي ينطق بها نصف المغاربة على الأقلّ، أهميّةً مع اللغة العربية في الحقل العام، اعتبرها المناهضون لها نوعا من الفتنة، تهدد بالتالي وحدة المغاربة. وقبل بروز أي تحرّك واضح للقضيّة الأمازيغيّة، شكّلت موسيقى الروايس، وإن بصورة غير رسميّة، رمزا للثورة وصوتا للأمازيغيّة لتحقيق الاعتراف بها وبكرامتها. وفي خضم النقاش حول موقع الأمازيغيّة في اللغات والثقافات المغربيّة، تمكنّت شخصيات موسيقية بارزة من فرض ذاتها كثوابت في التاريخ الموسيقي المغربي. الحاج بلعيد، وعمر واهروش، ومحمد الدمسيري (البنسير)، وفاطمة تبعمرانت، وعبد الهادي إكوت (إزنزارن)، لذكر بعضهم فقط، يعتبرون أيقونات الغناء الأمازيغي والموسيقيين حاملي العبء الأمازيغي.
وأتاح العمل على ترويسا سبلا منتجة للخروج بنظريّات حول التداخل بين الموسيقى وبين الإثنيّة. وتقدّم ترويسا بديلا عن التعبيرات الموسيقيّة المهيمنة مثل الكلاسيكيات المستوردة من مصر، والذي يعبّر ألبنسيرعن امتعاضه المرير من هيمنتها. وترويسا هي نوع موسيقي أمازيغي شعبي تعرض للتهميش مقارنة مع الأنواع الموسيقية السائدة. وإذا كانت دراسات كثيرة قد أنجزت حول التشابك بين الموسيقى وبالعرق، مبينة كيف أنّ ذلك يتعلّق بمسألة المقاومة ومرحلة ما بعد الاستعمار (غيلروي، Gilroy ،1991)، فقد حان الوقت لكي يخوض الباحثون في تقاطع الموسيقى مع الإثنية الأمازيغية من أجل القضيّة المشتركة المتّصلة بالهويّة وإتاحة الوصول إلى الفضاء العام بشكل متساوٍ.
وفي هذا المقال[2]، أناقش كيف أن الحاج بلعيد والدمسيري وتبعمرانت كوّنوا صيغة أدبية صوتية. وتشكّل أغنياتهم خلفيّة يمكن من خلالها دراسة مجموعة من القضايا في علاقتها بالأمازيغيّة. وتعيد أغنياتهم إحياء ذاكرة مهمة من التراث اللامادي. واختياري لهؤلاء المغنيين بالذات ينبع من دورهم الرئيسي في تحفيز وصياغة الوعي إزاء الهويّة الأمازيغيّة في المغرب. ونجح هؤلاء الفنّانون في تشكيل مجموعة أوسع من المستمعين بين أمازيغيي المغرب وما يتجاوزها. وهكذا، فإن دراسة الظروف التاريخية/السياسيّة التي صاغت المغنين الأمازيغيين الثلاثة، وتوفير تحليل مختصر عن أشعارهم سوف يزيد من عمق معرفتنا بدورهم التأسيسي على الساحة الموسيقيّة الأمازيغيّة.
الحاج بلعيد: مركز حيّ للذاكرة
الحاج بلعيد، المولود سنة 1873 بالقرب من ضواحي تيزنيت، هو شخصيّة رياديّة في عالم الموسيقى الأمازيغيّة، وهو واحد من الأصوات التي تحدّت اختبار الزمن في ما يتعلق بالثقافة الأمازيغيّة. وفي الواقع، فإنّ مصادر عدّة تورد أن الحاج بلعيد هو المغني الأمازيغي الأوّل الذي سُجّلت أغنياته. وقد كان شخصية هامة جدا في الثقافة الأمازيغيّة لدرجة أنّ صورته كانت تُعرض إلى جانب صور الملك محمد الخامس في البيوت الأمازيغيّة. وعلى الرغم من وفاته منذ زمن طويل، إلّا أنّه يبقى واحدًا من أكثر الشخصيات رمزيّة في الذاكرة الأمازيغيّة عبر كلّ من وجوده الصوَري وأدائه الموسيقي. ويتناول بلعيد موضوعات العشق والحج والهجرة. وشعره يزخر بوصف أماكن ووجهات مختلفة في المغرب وخارج الحدود.
وفي قصيدته "لْماكينة"[3] (الآلة) يتيح بلعيد المجال لمجموعة متنوعة من التفسيرات لدلالات الآلة. وهو يبدأ بمديح "باب ن لماكينة" (مالك الآلة) لتمكينه من إنجاز تسجيلات طبق الأصل للكلام. ومن الممكن أن تكون آلة بلعيد تشير تحديدا إلى "الفونوغراف" الآلة الأوّلى التي توّفرت لتسجيل أغنياته في أرشيف التاريخ. وعلى نحو مماثل، يعمم استخدام "لماكينة" للإشارة إلى وسائل نقل آليّة أخرى، وهي مرتبطة مباشرة بمسألة التنقل والهجرة، والتي ظهرت للمرة الأولى في الموسيقى الأمازيغية خلال ثلاثينيات القرن العشرين (المجاهد، 2012). وكانت الهجرة تشكّل معادلة طاغية في شعر بلعيد.
وبالتالي، تتردد مفردات عدة في أغنياته: "توموبيل" (سيّارة)، "توموبيلات" (سيّارات)، "سي تي أم" (اسم شركة باصات)، "لبابور" (المركب) بالإضافة إلى جمل وتعابير حول الوجهات والتجوال: "لخبار ن فاس ولا مراكش، كيغ آر أغلميم" (جاءتني أخبار من فاس ومرّاكش وصولا إلى كلميم)- "يان اكشمن د ترودانت" (حين تصل إلى تارودانت). وكان بلعيد مفتونا بالعالم المُمَكْنَنْ (mechanized)، والتي قدّمت نعمه للمسافرين فرصا سهلة للوصول إلى عبور الحدود بين المدن. وهو يتعجّب كيف أضحت حياة الإنسان لتصبح سهلة وسريعة بفضل الوسائل التقنيّة والميكانيكية. وهو يقدّر "المأوى في المركب/السفر"، عاكسا بذلك مفهوم غيرتس (Geertz) للهجرة بعيدا عن الاضطهاد. ولا داعي للراغبين بالذهاب إلى مكّة كي يحملوا متاعا: "إيكاند أنادر تومبيل أولا لبابور" (فلنذكر السيّارات والمراكب)- (إيغ أوكان أوسين لحجاج آر مكّة) "حين تحمل الحجّاج إلى مكّة"(وانا ايران لحج أدور أسين والو غوغاراس) ليس على الحجاج أن يحملوا متاعا على الطريق". في مكان آخر، في نهاية قصيدة باريس، يشير إلى سهولة السفر:(اورسول اللي شقا غ لبر أولا غ وامان) "لم تعد هناك مشقّة في السفر بالبرّ أو في السماء" "-(أنّا ايران أمودو أور ياكا لاعدورات) "لم تعد هناك ذرائع للذي يريد السفر".
وتتجاوز مسألة الهجرة في شعر بلعيد جغرافيّة المغرب لتصل إلى الشرق الأوسط وأوروبا. وفي تحفة فنيّة أخرى عنوانها "أمودو ن باريز" (رحلة إلى باريس) (1933)، يروي بلعيد رحلته إلى باريس كوجهة مثالية في ما يتعلّق بأخبار مواطنيه المهاجرين. وفي قصيدته، يقدّم بلعيد شهادات عن المهاجرين المغاربة على وجه خاص. وأحيانا، يصوّر السفر كجهد دؤوب يسبب الحنين إلى الوطن والغربة: (أوا هان لفراق إيشقا بهرا ي بعد الحا)"إن الفراق صعب جدا، إنّه شديد البعد". ومع ذلك، تشيد بعض الأبيات بباريس وتأثير المهاجرين الإيجابي على بلادهم. ويشدد بلعيد على الإنجازات التي تحققت للمغرب والأسر المغربيّة بفضل عائدات المهاجرين.
"مْقَّارْ دْلْعُمْرَانْ إِدْ بُوفْرَنْسَا أَتْنْتْ إِبْنُّونْ" (المباني يشيّدها المهاجرون)
"قُوّْمْنْ تِمْزْكِيدَا سْ كِيكَانْ دْ لْمَالْ" (ولقد تبرّعوا بالكثير للمساجد)
"قُوّْمْنْ طْلْبَا دْ اِمْحْضَارْنْ سْ لْهْدِيَّاتْ" (وأعطوا هدايا لرجال الدين وتلامذتهم)
"كَدَا دْ لْمَحَلاَتْ أَدْ فُوكَّانْ سْ لْمَانْدَا نْ بَارِيزَا" (وتمكّن العديد من الأسر المغربيّة من تأمين السكن بفضل الرواتب (الآتية) من باريس)
وفي شهاداته عن مصر ترد انطباعات مماثلة، حين يصف عظمة الأهرامات والأزهر:
"مِصْرْ أُورْ إِحُدِّي رَاكْ نْ مْلْ كْرَا غْ لاَخْبَارْ نْسْ" (مصر بلا حدود، سأعطي شهادة مختصرة عنها)
"لْعْجَايْبْ نْ لَهْرَامْ دْ وِينْ لاَزْهَارْ أدْ إِوِيغْ" (أحضرت لكم عجائب الأهرامات ومسجد الأزهر)
في 2009، أنشأت السلطات المحليّة صرحًا تذكاريّا تكريما للريّس الحاج بلعيد. وشيّدت هذه المنحوتة الرائعة (4) عند مدخل "دار الثقافة" في تيزنيت إحياء لذكرى نوع ترويسا على امتداد منطقة سوس.
والمغزى من مبادرة كهذه يكمن في تداول الذكريات الثقافية عبر الفضاء الثقافيّ. وهكذا، ينتقل التركيز على تخليد الذكرى من النطاق الخاص للبيوت حيث تتدّلى صور الحاج بلعيد إلى جانب صور الملك محمد الخامس، إلى النطاق العام لـ "دار الثقافة" في مدينة تيزنيت. وبناء المنحوتة يعني نوعا من "إعادة التداول" للذاكرة عن طريق الخروج من الحيّز الخاص للأسر نحو فضاء مفتوح بشكل أكبر للجمهور العام. وإذا كانت الصور تثير غالبا الذكرى بالنسبة للأسر الأمازيغيّة في المنازل فقط، فإنّ المنحوتة، وهي أيقونة عامّة، قابلة للاستمرار لإنشاء صلة بين الأمازيغيين والمجموعات الأخرى، وتقدّم روابط استذكار تتجاوز إثنية واحدة، وهي في هذه الحالة الأمازيغيّة. و"دار الثقافة"، وهي مؤسسة تابعة للمجتمع المدني، سُمّيَّ على اسم الكاتب المغربي الفرانكوفوني العظيم محمد خير الدّين (1941-1995)، وأصله من تافراوت، وهي بلدة جنوبيّة أخرى في منطقة سوس. وهكذا، فإن الحاج بلعيد يصبح راسخا على مستويات متعدّدة من المعاني عبر مجاورة نصبه التذكاري مع ذكرى خير الدين. ومنحوتة بلعيد تخلق مساحة لارتباط وتمازج الموسيقى والأدب الأمازيغيين. وبالتالي، يتم إحياء ذاكرة سوس، وتيزنيت على وجه الخصوص، عبر وجهين بارزين يكمّلان بعضهما البعض في سبيل القضيّة الأمازيغيّة، على الرغم من أنّهما عاشا في زمنين مختلفين. و"دار الثقافة"، وتمثال الحاج بلعيد، بصفته عازف رِباب أمازيغي لا مثيل له، كما الرباب الذي يحمله، يمثلان سبلا لاستذكار الثقافة الأمازيغيّة.
[الشكل الأول: (يمين) منحوتة Lhaj Belaid في بيت الشباب في تيزنيت، (يسار) دار الثقافة في تيزنيت]
محمد البنسير: الريّس المثير للجدل
ربما يكون محمد أجوهاد، المعروف بالدمسيري (1937-1989)، وهو أصغر من بلعيد، واحدا من أكثر الموسيقيين الأمازيغيين جرأة في المغرب بعد الاستعمار. والريّس ألبنسير، كما يسميه معظم معجبيه، عاش حياة مضطربة شهدت تنقلات بين المدن، وحادث سير رهيب، وفترات اعتقال. ويجسّد ألبنسير وموسيقاه الاضطرابات الاجتماعية التي شهدها المغاربة في السبعينيات والثمانينيات. وتتناول أغنياته مجموعة من القضايا، أبرزها يتمحور حول خيبة الأمل من طريقة التعامل مع الثقافة الأمازيغيّة. وتدلّ أغنياته على "مؤشرات مذهلة من مقاومة" الظلم فيما يتعلق بكيفيّة تلقيّ الأغنيات الأمازيغية والنظرة |إليها لاسيما في الدوائر الإعلامية في المغرب.
وتُظهر أغنياته أن الموسيقى لا يمكنها الهرب من التعبير عن الهواجس المجتمعيّة للشعب الذي تخاطبه. وعلى سبيل المثال، أدّى عدم الاستقرار البنيوي في المغرب في الثمانينات إلى ارتفاع حاد في أسعار السلع الاستهلاكيّة الأساسيّة، مما تسبّب بفترة من الاضطرابات المدنية في البلاد. وفقد مئات المواطنين حياتهم في المواجهات مع قوى الشرطة، وبعضهم اعتقل، بسبب اعتراضهم على ارتفاع كلفة العيش. وقام ألبنسير بتأليف وغناء "أكورن" (الطحين) في 1982. وأكورن، وهي قصيدة طويلة تتألف من عشرات الأبيات التي تعبّر عن الاضطرابات الاجتماعيّة وتأثيرها على المغاربة العاديين، انتقدت الارتفاع المبالغ فيه بالأسعار، والذي يجرّد الطعام كما الحياة من متعتهما:
"تْحْرَّا لْخْنْشْةْ نُوّْكّْرْنْ تُوتِي الثَّمَنْ نْسْ" (كيس الطحين مرّ، يكلّف أكثر من قيمته)
وعن طريق مقارنة مجموعة واسعة من المنتجات، يُظهر ألبنسير فطنته المعهودة بقوله:
"أَخِيزُّو دْ بَطَاطَا دْ أُوخْسَايْ أُوفْنْ تَامّْنْتْ" (الجزر، البطاطا والكوسا أصبحت أفضل من العسل)
وتصف الأغنية الاستياء من كون المغارية يصطفون في طوابير لشراء سلع يجب أن تكون متوّفرة للجميع في العادة. إلّا أنّ السخرية هي أيضا عنصر متضّمَن في القصيدة. جامعا بين التنديد الجدّي بالأسعار المرتفعة وبين مقاربة ساخرة للموضوع، يوجّه ألبنسيردعوة هادئة للمقاطعة بصفتها بديل حضاري وفعّال للاعتراض بدلا عن الاصطفاف بذلّ في الطوابير للحصول على الخبز. وفي هذا الإطار، انخرط ألبنسير في الإدانة الموسيقية للسياسات النيوليبراليّة التي أملتها المؤسسات الماليّة العالمية على دول العالم الثالث. وعوضا عن قبول تقديم دمائهم للجهات المالية التي يمثّلها البنك وصندوق النقد الدوليين، يطرح ألبنسير بديلًا للناس للجوء إلى الموارد المحليّة العضويّة كما العسل مثلًا.
وهذه الروح الاعتراضيّة تنعكس أيضا في أغنيته "نغا زوند ايزامارن" (نحن كالخرفان)، التي تظهر رفضه للإخضاع المنهجي للشعب. "القطعان سوف تذبح"، وهي استعارة مجازية للسياسات التي تضعف الغالبية المحرومة والفقيرة من الشعب. "أوانا ديوسين أجنوي نيس/أراغ إيتسوتول إيزاكارن" (كل من كان سكيّنه جاهزا/يبدأ بتقييدنا) بمعنى الاعتراض على القانون المبني على الازدواجية الظالمة بين القوي مقابل العاجز الضعيف. وتأتي أغاني ألبنسير ضمن إطار من المجازات التعديليّة. وهو يستخدم القضيّة الأمازيغيّة كأساس للتعبير عن نقمته إزاء سوء المعاملة السياسيّة، والتباينات بين الطبقات الاجتماعية، والتفاوت الاقتصادي. وهذه الآراء تضعه في خانة المغنيين المتداخلين في فترة ما بعد الاستعمار. لذلك، تظهر محاولات المغني لإحياء قيمة الشخصية المتداخلة، على أسس لغويّة وثقافيّة وسياسيّة. وفي مقارناته وتناقضاته الواضحة والصريحة، نشعر بالإشادة للموضوعات وللأشخاص المهمّشين وثقافاتهم وفنونهم. واستخدام صيغة الجمع في الضمائر مثل "نحن" و"أنا"، "نكا (نحن) زوند ئزامارن/ أراغ (نحن) ايتسوتول ئيزاكارن)" يجعله في فئة المتداخلين ويؤسس حملة جماعية في سبيل القضيّة.
والمقارنة بين العربيّة وبين الأمازيغيّة واضحة في الطريقة التي عومل بها كمغنٍ. في إحدى الأغنيات يٌبرز كيف أن المغنيين المصريين، مثل عبد الوهاب وفريد الأطرش وأمّ كلثوم، يصلون بسهولة إلى الفضاء المغربي العام في حين يغيب المغنون الأمازيغيون عن محطات البث الإعلامي الوطنية. وحرمان الأغنيات الأمازيغيّة من منبر الإذاعة الوطنيّة ينطوي على محو منهجي لعنصر في غاية الأهمية من الهويّة الثقافيّة المغربيّة. ويرثي المغني (لغة) تشلحيت:
"لْقِيمْةْ نْ تْشْلْحِيتْ إِدْرْ غْ إِمُورِيكْ" (سقطت قيمة اللغة الأمازيغيّة في أماكن العرض)
"لْقْيمْةْ نْوِلِّي دَارْ تْلاَّ غْ إِمُورِيكْ" (والذين لهم قيمة هم)
"فَرِيدْ دْ كْلْثُومْ نْتَا دْ عْبْدْ لُوهَابْ" (فريد، كلثوم وعبد الوهاب)
"يَاكْ عْبْدْ لْحَلِيمْ مْسْكِينْ حْرَا يَفُوضْ" (وعبد الحليم كوفئ للتو، أليس كذلك؟)
وتكشف الأغنية كيف كانت معاملة المغنيين الأمازيغيين تختلف عن معاملة المغنيين العرب في وسائل الإعلام المغربية التي يموّلها دافعو الضرائب. والموسيقى المستوردة (المصريّة) كانت تخفي منهجيا على أغنيات تشلحيت. وهذه المعاملة غير العادلة، التي تتمثّل بفرض العربية في مكانة أعلى من تشحليت، يتم تناولها في قصيدة "الطحين" عبر مقارنة الإثنيات المختلفة في المغرب.
والكرامة بالنسبة للأمازيغيين هي عامل يتكرّر في أغنيات البنسير. وهو يشرح أن الأمازيغيين يحالون إلى مرتبة أدنى بين العرب، وهي إحالة يواجهها بالغناء عبر استحضار قائمة من أسلافه الموسيقيين إلى الذاكرة: الحاج بلعيد، سعيد أشتوك، إبراهيم بيهتي، لحمدي، عمر واهروش. واستحضار ألبنسير للموسيقيين الأمازيغيين يهدف إلى الإعراب عن تقديره وتعاطفه مع الفنانين المهمّشين. وهو يخطّط سبله الخاصة في المقاومة، والاستعادة والتثمين، مما يوفّر دلائل قويّة على معتقداته المبنيّة على مسار من الأولويات بالنسبة للقضيّة الأمازيغيّة.
وغالبا ما يتكرر البيت التالي: "أَكْ إِفْسِي رْبِّي غْ أُوسْكْرْفْ أَيْمُورِيكْ/أيتها الموسيقى الأمازيغيّة!! عسى أن تتحرري من القيد". وهي فكرة هامة توضّح نضال الموسيقى الأمازيغيّة وجهود المغني الحثيثة لتحريرها من قبضة الكتمان والنسيان. وتشبيهه الرمزي للموسيقى والموسيقيين الأمازيغيين بأيتام في حال من السبات في الظلمة، مستبعدين ومحجورين باستمرار، هو تشبيه دائم تقريبا في غنائه. وهو يعتقد أنّه يتعيّن تذكّرهم وتقديرهم: " إِمَّانْ تْكِيتْ إِكِكِيلْ كَاغْ نْكِّي وِيَّاضْ/ كلانا يتيم، فعلا". وفي بيت آسر، يصوّر المغني الربابة والعود في حالة من التفاعل لتكرار الاستعارة الدائمة بالاستعلاء الثقافي على الأمازيغيّة عبر استخدام رمزها أي الربابة: " كِيِّينْ دْ الرِّبَابْ إِكْسَاوْنْتْنْتْ لْعُودْ/ أيتها الربابة، لقد أخذ العود قيمتك". ومصرّا على دعم القضيّة الأمازيغيّة عن طريق كلمات الأغاني وأنغام الربابة، تنبأ ألبنسير بمستقبل الثقافة الأمازيغية وساهم في بناء وعي ثقافي جماعي. وانخرط في مساع واعية لهدم الصوت المهيمن، مما يجعله رمزا للمقاومة والاعتراض، مناديا بإعطاء قيمة للغة والثقافة الأمازيغيتين.
[الشكل 2: Lhaj Mohamed Demsiri (ألبنسير)]
فاطمة تبعمرانت: التبشير بالأمزغة
وتضم الساحة الموسيقيّة الأمازيغية الكثير من المغنيات. ومنهن فاطمة شاهو وهي مغنيّة مشهورة وملتزمة بقوة، معروفة فنيّا باسم فاطمة تبعمرانت. وولدت تبعمرانت في منطقة آيت باعمران القبلية سنة 1962، وهي تنحدر من بلدة إفران الجنوبيّة والواقعة على بعد كيلومترات قليلة من مدينة كلميم في أقصى الجنوب المغربي قبل الصحراء.
وتعتبر تبعمرانت فنّانة متميّزة ومسيسة. وهي مغنيّة ومؤلّفة موسيقيّة، ونسويّة وناشطة في مجال حقوق الإنسان. وتعكس أغنياتها هذه القضايا بطريقة جذّابة لدرجة أنها باتت تساهم في تكوين الأجيال الشابة من المستمعين الأمازيغيين. وكونها فنانة أنثى، يتعيّن على تبعمرانت مواجهة الصعوبات على جبهتين: كونها امرأة، وأيضا كونها أمازيغيّة من الجنوب المهمّش. وكامرأة، فهي تعي حاجتها للنضال لاحتلال المكانة التي تستحقّها في المجتمع. ولأنها تنطلق من إرث كل من بلعيد وألبنسير، تجسّد الريّسة تبعمرانت تراكم النضال في موسيقى الروايس. والأمازيغيّة هي الموضوع الرئيسي لأغنياتها. وهي تحوّل مفهوم الحب، الذي يتكرر في الموسيقى الأمازيغيّة، إلى حب معين سام لقضية الهويّة. وكونها مناضلة صلبة لحقوق النساء والأطفال المحرومين، تتبنى تبعمرانت مقاربة إنسانيّة مبنيّة على تساوي الفرص للهويات المختلفة التي تشكّل الثقافة المغربيّة. وهي تعترف: "لقد استبدلت أغنيات الحب بحب الثقافة الأمازيغيّة". وبالنسبة لتبعمرانت للفنان واجب متواصل، معتبرة أنه يتعيّن على الموسيقيين أن يحملوا عبء هموم المقاومة والتغيير.
ويمكن التأكيد أن جهود تبعمرانت لمناصرة قضية لغويّة وثقافيّة مشروعة مكّنتها من تأسيس وغرس "تريسا" كنوع ضمن الموسيقى النضالية. وأيا كانت أغنيات تبعمرانت الانتقائية في موضوعاتها، إلا أن الهوية الأمازيغيّة تشكّل فيها جذورا لا تتزعزع تستحق الحياة في سبيلها. وفي الكثير من الأبيات، تقارن الأمازيغية بالماء والهواء، وكلمات أغنياتها حافلة بصور مباشرة عن الفخر، الذي يتجاوز زهو الفن السطحي نحو مشاعر عميقة من الاعتزاز بالنفس متجذّر بإيمان راسخ بالقضيّة:
"أَيُّوزْ إِغِّ لِّي تُرُومْتْ أَتِيمَازِيغِينْ" ("فليفتخر أولئك الذين ولدتنهم أيها الأمازيغيات)
وعن طريق تكرار مشتقّات عدّة من كلمة أمازيغي-تامازيغت، إيمازيغن، تيمازيغين-في أغنياتها، تتوّلى تبعمرانت عمليّة نقش أسلوب فريد يحتوي بإسراف على صور مقاومة ونضال في سبيل هويتها الأصليّة. في "بيدامت أتمازيغت" (قفي أيتها الأمازيغية) (2004)، توّجه المغنيّة إيمازيغن لكي يدافعوا عن تدوين اللغة الأمازيغيّة من وجهة نظر تفكيكيّة.
"أَنْسَّقْرَا تَمَازِيغْتْ أَنْكْشْمْ التَّارِيخْ " (سوف نعلّم الأمازيغيّة، أن ندخل التاريخ)
"لْمُدَّ جْلاَنِينْ أَدْ نْ كْتِّي غِلِّي غْلاَّنْ" (لقد تم إخفاؤها لوقت طويل)
"نْسّْنْ تِغْزِي نْ تْمَازِيغْتْ" (نعرف أنها قديمة الجذور)
"نْسّْنْ تُورُّوتْ نْسْ" (نعرف أصول ميلادها)
"نْسّْنْ أَ يْمَازِيغْنْ أَوِلِّي سْنْنِّينْ" (تحرّكوا! من يقدر على ذلك من بينكم، أيها الأمازيغيين)
"أَتْنْتْ إِسَاوْلْ أَفَادْ أَيْسّْنْ أَتْنْتْ أَرَانْ" (تحدثوا بها حتى تتمكّنوا من كتابتها)
"أَفَادْ أَسِسّْنْتْ رْبُّونْ وِيلِّي مُتْ إِمْلاَ" (واستخدموها في تربية وتعليم دارسيها)
وتناشد المغنيّة دمج اللغة الأمازيغيّة في المدارس لافتة النظر إلى أن الترميز والتدوين والمأسسة هي وحدها قادرة على إنقاذ الأمازيغيّة من النسيان التاريخي. ومهما انتقلت الأمازيغية من جيل إلى جيل، فإن إيجاد شكل مؤسساتي لتوريث الثقافة هو حاجة ملحّة. وقبل نحو عقد من هذه الشهادات الشعريّة، "أيوز نم أتامازيغت" (1995) انطلق نقاش لافت حول "تمزيغ المغرب" عبر استخدام حروف تيفيناغ الأمازيغية (سليماني 2015، الكبلي 2020). وعن تيفيناغ، تغني تبعمرانت:
"يَاوْزْمْزْ الرّْشْمْ نْ تْزْرْبَايْ كَغَاكْ نْ تَّنَّايَ" (كنّا نمّيزك من قبل فقط كرمز على الزرابي
"أَكِّيغْنْ سْيتُونْ رْبِّي أَلْحْرْفْ نْ تِفِينَاغَ" (آه! لطفا أيها التيفيناغ!)
وتحتفي تبعمرانت بتطور التيفيناغ، والذي كان من قبل شبه غير مرئي باستثناء وجوده على البسط التي كانت تحكيها النساء الأمازيغيات، ليدخل في نطاق الاعتراف بوجوده. بالنسبة لتبعمرانت، فإن الأمازيغية هي قضية عمر، وهي تردد أن الكفاح في سبيل الهوية الأصلية لن يكون أبدا صراعا يجلب الندم، وكما الحاج بلعيد وألبنسير وعدد آخر من المغنين الأمازيغيين، تحمل تبعمرانت مقاربة متبصّرة لمستقبل الهوية الأمازيغيّة. وبما أن العديد من الحقوق المشروعة التي سعى إليها الأمازيغيون قد خضعت لعملية مأسسة رسمية تدريجيا، واكتسبت شعبيّة على امتداد الفضاء العام لاسيّما خلال العقد الأوّل من بداية الألفية الثالثة، يتبيّن أن الرايسة تبعمرنت سابقة لعصرها. والمكانة اللغويّة والثقافيّة والسياسيّة التي سعت إليها طويلا بالنسبة للهوية الأمازيغيّة هي قطعا في طريقها للتشريع السياسي والتجسيد المدني. وفي واحدة من أجدد تعليقاتها لمناسبة إطلاق "ديوان الروايس" لابراهيم المزند، تعبّر عن افتتانها بكيفية تشكّل وعي عام حول أهميّة الثقافة الأمازيغيّة، وتحثّ في الوقت ذاته على المزيد من النشاط إزاء القضية من خلال التوثيق، والبحث، والدراسة والمؤتمرات. وقدرة الموسيقى على النشر هي أقوى من أي آليات أخرى مثل المنشورات الأدبية والأكاديميّة. وبغض النظر عن سبل التوزيع، فإن القضيّة قد باتت مرئية ومعترفا بها من خلال الأبيات الموسيقية.
وتبعمرانت هي نجمة أنثى تتميّز بفرادتها الأكيدة على المستويين الجندري والسياسي. أولا، هي تعي موقعها الجندري وتبني عليه من أجل وضع النساء في القلب من أعمالها. في بدايات الترويسا، كانت ترايسين جزءا من الكومبارس، يرددن من خلف المغني الرئيسي، عادة الريّس الذكر. إلا أنّ تبعمرنت تتجاوز هذه العقبة كونها نجمة فرقتها، تؤلّف وتغني بالحد الأقصى من الأصالة. وأصبحت مغنية محورية ساهمت في ترسيخ تقليد ترويسا، بهالة أنثوية في النضال من أجل القضيّة. ثانيا، فإن تبعمرنت أصبحت المغنية الأمازيغيّة الأولى من المناطق المهمّشة التي تولّت موقعا سياسيا من خلال عضويتها في البرلمان. وشهرتها الفنيّة، يعزّزها إبداعها المتفرّد ونضالها الصادق من أجل الهويّة الأمازيغيّة، مكّنتها من دخول المعترك السياسي. في 2012، أصبحت فاطمة شخصيّة رائدة في التاريخ السياسي في المغرب من خلال توجيه سؤالها لوزير التربيّة آنذاك محمد الوفا، بلغة تشلحيت، في خطوة استثنائيّة بالنسبة للكثير من المعلّقين، أشعلت أكثر بعد نقاشا عموميا ساخنا حول دمج اللغة الأمازيغيّة في المدارس العمومية. وإذا كانت أغنيات البنسير، مثلا، "شاهدة وتوّثق لأعمال ظلم"، فإن قصائد تبعمرانت "تلهم وتنّظم وتعيد شحن المقاومة، مطالبة بوحدة جماعية ونضال (من دون) الإعراب عن مطالب الإصلاح" (لوفيسي، 2016، Lovesey).
[الشكل 3: فاطمة تبعمرانت]
خاتمة
بغض النظر عن المسافة الزمنية والأطر التاريخيّة والسياسيّة الخاصّة التي عاصرها كل "رايس"، شكّلت الأمازيغية ظاهرة تخاطريّة وقضيّة مشتركة لهم كلّهم. اليوم ولو أنها تطورت نحو أنواع مجدّدة من المزج بين الأنواع الموسيقيّة بفضل استخدام الآلات الحديثة، إلا أن التيرويسا تبقى عنصرا رمزيا مؤثّرا في الهويّة الأمازيغيّة، وهي تحمل قابلية حاسمة على الاستمرار لإثراء الذاكرة الجماعية الأمازيغيّة، إلى جانب تعبيرات أو مواقع هوياتيّة أخرى مثل تيفيناغ، والمتاحف، والتماثيل الاستذكاريّة والمؤسسات التربويّة المسماة على أسماء فنانين أمازغيين إلخ. وكل هذه تؤدي وظيفة يسميها الكبلي (2020) "ذاكرة هدّامة"، "تخلق وتنبش تأريخات متعدّدة للمغرب ترتكز على الأمازيغيّة، مما له نتائج هامة على مواطنيه، وتاريخه وذاكرته الجماعيّة".
[ترجمت المقال عن اللغة الإنجليزية هنادي سلمان].
المراجع:
Brahim El Guabli, (Re)Invention of Tradition, Subversive Memory, and Morocco's Re-Amazighization: From Erasure of Imazighen to the Performance of Tifinagh in Public Life. Expressions maghrébines, Volume 19, Numéro 1, été 2020, pp. 143-168.
Dris Soulaimani, “Writing and rewriting Amazigh/Berber identity: Orthographies and language ideologies,” Writing Systems Research, (2015). DOI: 10.1080/17586801.2015.1023176
El Houssain El Moujahid. L’immigration dans les chansons d’expression amazighe: Vision édénique et représentation dantesque. Dans Études et Documents Berbères 1, no. 3, (2012), pp. 117-126.
Gilroy, Paul. “Sounds Authentic: Black Music, Ethnicity, and the Challenge of a ‘Changing’ Same.” Black Music Research Journal, vol. 11, no. 2, 1991, pp. 111–136. Accessed 2 May 2021.
Oliver, Lovesey, Decolonizing the Ear: Introduction to “Popular Music and the Postcolonial,” Popular Music and Society, 40:1, 1 4, (2017). DOI: 10.1080/03007766.2016.1230695.
الهوامش:
[1]: Authorities of the French protectorate (1912-1956) highlighted an Arab/Amazigh dichotomy as part of their 'divide-and-rule' policy in Morocco (Spickard, 2005, quoted in Souleimani, 2015).
[2]: تتعين الإشارة إلى أن هذا المقال يركّز على لهجة تشلحيت في الموسيقى الأمازيغيّة، وهي الأساسّية في منطقة سوس.
[3]: إن كلمة لماكينة أخذت من الكلمة الفرنسية "machine" واستخدمت على نطاق واسع كجزء من مصطلحات اللهجة المغربية الدارجة وتشحليت.
[4]: صمم التمثال الفنانان رشيد حاحي ومحمد لغنسات. انظر إلى مقال أبو لحرمة.