لا شك أن أغنية "سقف" لرامي جمال وضعته في الواجهة كمغنٍ، ومنحته اتساعاً لدائرة متابعيه، وكأنها أغنية الحظ، لكن الأهم من ذلك أنها بالنسبة لكثيرين، وأنا منهم، كانت دافعاً لاكتشاف عالمه، كما أنها منحت جسراً للمستمع يربط من خلاله بين ذلك الشاب الذي يحمل على صوته أغنية من كلمات مصطفى حسن، وألحان بلال سرور، وتوزيع توما، مفعمة بالحيوية والإيجابية كدافع للعمل، واللامبالاة حيال مصاعب الحياة وتقلب ظروفها، وبين الملحن الذكي الذي يقف وراء أعمال كبيرة، حققت نجاحات من حيث الاستماعات ومن حيث شق خط جديد في عالم الأغنية العربية.
الحديث عن رامي جمال كمغن قد لا يمنحه الكثير، فهو واحد من الأصوات ذات الخامة الجيدة، التي يعول عليها في قول الأغنيات الجديدة، والتعامل مع القالب التجاري بشكل نافع، لكنها لا تخوله بالقفز على أعناق عدد من مجايليه، وهذه مساحة جيدة تمكن من حجزها بتأن وهدوء، صوت ينتمي إلى شريحة محمد حماقي، وهذا التصنيف بقدر ما يمنحه بقدر ما يأخذ منه، فلأول لحظة من أغنياته قد يلتبس الأمر على المستمع، فيظن الأغنية لحماقي فعلاً، وللزمن والفرصة حظ كبير في تحديد اسم صاحب اللون، إذ بدأ حماقي انتشاره قبل أن يفعل جمال، مما جعل الأخير أخيراً فعلاً في الترتيب عند الحديث عنهما، لكن المثير أن الواقف وراء انتشار أغنيات حماقي الأولى، واتساع دائرته، هو ملحن ذكي اسمه رامي جمال!
بدايات رامي جمال كملحن كانت بعد إخفاقه أمام لجنة تحكيم مغنين هواة، إذ نصحه بهاء الدين محمد بالبحث عن مجال آخر، بحث جمال فعلاً بعدها عن مجال آخر، ولكنه لم يبتعد كثيراً، فاتجه للكتابة والتلحين وتمكن من بيع أول عمل من كلماته وألحانه، والذي ظهر في فيلم فرح 2004، بصوت أحمد فوزي وكان أغنية "وأنا جنبك"، وكانت فاتحة لطريقه الجديد.
5 أغان في ألبوم حماقي الذي شكّل انعطافة نحو الرواج، وهو "خلص الكلام" 2006 لحنها رامي جمال، وهي خلص الكلام، وكنت تتكلم، وليه يا حبيبي، ووقت قريب، ويا ريت، حقق من خلالها تسجيل دخول قوي كملحن، بعد أن أسند قامته على أغنية فيروسية الانتشار بصوت الفنان الأكثر جماهيرية حينئذ فضل شاكر وهي "فين لياليك" من ألبوم سهرني الشوق 2005.
كان هذا المدرج الذي حلق من خلاله رامي جمال، فصنع أكثر من 230 لحناً حتى عام 2011، لثلة من المغنين، وقد ربحت أغلبها في سوق الهيتات، مما جعل معظمهم يعيدون التجربة معه، واستمر الأمر كذلك، حتى قرر دخول المجال من بابه الأول، عام 2011 عندما أصدر أول ألبوم بصوته، بعنوان "مليش دعوة بحد"، من إنتاج مزيكا، والذي جاء في عام الثورة المصرية، لكنه نجح في الوصول إلى أذن المستمع برغم ذلك، وعلى ما يبدو فقد شكل هذا الألبوم إعاقة لعمله كملحن، ولكنه لم يعطله تماماً.
تتمتع ألحان رامي جمال بخفة وبساطة، واعتماد كبير على سلاسة الجملة الموسيقية المتسقة مع الجملة المحكية، وربما هذا ما يشرح شراكته الطويلة مع الشاعر الغنائي محمد عاطف، لنقل إن الانسياب سمة أساسية من سمات اللحن، فلا وقفات إيقاعية ولا سكتات، إنما مواصلة للدفع بالكلام للانسياب على منحنيات اللحن، ويبدو تكرار الجملة اللحنية واضحاً، ولكنها تحمل في كل عودة حليات جديدة، تجعل المتلقي أكثر حماسة لإعادتها واستساغتها في كل مرة، ويظهر ذلك جلياً طبعاً في أغنية "فين لياليك".
على مستوى المقام، فثمة انحياز كبير لدى جمال لمقام الكرد، فأغلب ألحانه تنتمي لهذا المقام: بحبك كل يوم أكتر، ووقت قريب، وخلص الكلام، وكان مالي، لحماقي، وعلى حس حكايتنا لإليسا، وأعمل عاقلة لنانسي عجرم، ودايب، و180 درجة، لتامر حسني، وبوعدك لهشام عباس، إلا أنه يعتمد على تلوينها إيقاعياً، فهو يراوح بين الإيقاعات الشرقية، والإيقاعات الغربية، والإيقاعات المركبة، وبهذه الأداة، يستطيع أن يقدم جملاً موسيقية متشابهة بأسلوب مختلف يدعم تعدد هويات ألحانه.
كما أن حزمة أخرى من أغنياته كملحن، تعتمد على المزاوجة بين مقامي الكرد والعجم، فإما أن يبدأ بالعجم كما فعل في أغنيتي "بسلم عليك" لمصطفى قمر و"فين لياليك" أيضاً، ثم يذهب باللحن إلى الكرد ليركز هناك، أو يبدأ بالكرد مثل أغنية "أنت تاني" لهيفاء وهبي، و"ده اللي عندي" لأنغام، و"أنا مصمم" لبهاء سلطان، ويتصاعد حتى يصل الدرجة الخامسة فيدخل مجال العجم، في مزاوجة لطيفة وذكية بين مقام شجي وهو الكرد، وآخر مبهج وهو العجم، فتخرج ألحانه هجينة تقف بين موقفي الشجن والفرح، بما يؤدي إلى طرب يقرّب الدمعة ويرسم الابتسامة، وقد يدفع لتحريك اليدين في الهواء مرة باتجاه الفرح وأخرى باتجاه الحزن.
ثمة أغنية على سلم أعمال رامي جمال الملحن، أحسبها فارقة، وهي "أنا مش بتاعت الكلام ده" لشيرين، فبقدر ما تبدو هذه الأغنية خفيفة، ومازحة إن جاز التعبير، إلا أنها أغنية مجهدة على مستوى الصناعة والعزف، يذهب بها جمال جنوباً، باتجاه اللون السوداني أو النوبي على الأقل، لينتج مقولة موسيقية جديدة على الأذن العربية الكلاسيكية، العلامة الكاملة للملحن في هذه الأغنية تبدو مستحقة، لأنه طوع اللحن السوداني ليصبح تجارياً، فلقد رددنا الأغنية تلك في بقاع العالم العربي، ولم يفكر بعضنا بهوية هذا اللحن، ولا بالمسافة التي قطعها من أقصى الجنوب العربي، ولم يلتفت كثيرون ربما للفستان المزركش الذي ألبسه ملحن مصري لكلمات مصرية كتبها حسن عطية، وصوت مصري أليف، فبدت أغنية من وادي النيل، أعادت مقولة تاريخية بوحدة ثقافة البلدين. وبالعودة إلى صنعة اللحن، نجد جملاً معقدة، فيها انحناءات دقيقة، وإيقاعات لم تألفها الأذن في الشمال كثيراً، لكنها الحرفة النظيفة وقفت وراء تقديمها بشكل سائغ.
على المستوى الغنائي فقد أنتج رامي جمال 6 ألبومات، وهي مليش دعوة بحد 2011، وفترة مش سهلة 2013، وملناش إلا بعض 2016، وليالينا 2018، وأنا لوحدي 2020، وما زال يطلق أغنية تلو الأخرى من ألبومه الجديد "ولسه" 2021.