محمد علي نايل
"نقول للأمة إنّ هذا الوحش هو وهم من غبار".
- صرخة الأسير محمود العارضة قبل دخوله جلسة محاكمة أسرى نفق الحرية الستة.
كنت أحدق في شاشة موبايلي مأخوذاً بمسار عملية الشهيد رعد حازم عندما فاجأني عقلي وعزف أغنية وتمايلي (تأليف نديم محسن) وقرعت الطبول تحت جمجمتي. على إثر الاقتحام المفاجئ رميت الهاتف جانبا وانطويت لأنصت إلى الموسيقى التي احتلت عقلي وفتحت نغماتها أبواب الذاكرة. يا لها من أغنية فوارة! كنت قد نسيتها، وحين عزفت أنغامها داخل نظامي العصبي تذكرت أني لم أسمع هذه الاغنية منذ زمن وتدفقت المشاهد من ذاك الزمان والمكان.
وإذ عادت بي الأغنية إلى نهاية صيف سنة ٢٠٠٦ عندما كنت جالسا ذات مرة على أرض منزل من طابقين تدمر الجزء العلوي منه بعد أن سقط عليه صاروخ إسرائيلي وخلف فتحة في السقف، وفجأة طنت الأغنية: وتمايلي دم دم دم. هناك، في جنوب لبنان، في قرية عيتا الشعب، طنت أذناي حين سمعتها لأول مرة عندما شغلتها إحدى رفيقاتنا المتطوعات على حاسوبها المحمول وهي منكبة فوق أزراره. في تلك الفترة، أي ما بعد الحرب مباشرة، ذهبت مع بضعة شبان وشابات للتطوع ومساعدة أهلنا في الجنوب خلال عودتهم إلى بيوتهم ورفع أنقاضها. في ذاك الزمن تعالت أغنية وتمايلي داخل جمجمتي بشكل متواصل وصارت ألحانها شيئاً كالهوس. علقت بها ولبستني ضربات طبولها وتغلغلت في وجداني كأغنية تعبوية أضفت جمالياتها رونقا يليق بهذه القرية التي بدت بعد صمود ثلاثة وثلاثين يوم كنهاية العالم.
هناك عند آخر نقطة على الحدود مع فلسطين المحتلة في آخر أيام صيف سنة ٢٠٠٦ شعرت بنوع من الهدوء والسكينة لم أألفه في لبنان من قبل. كان الصمت بعد المعركة تاماً، وعميقاً. كان ذلك السكوت الذي يطغى خلال استراحة المقاتل يبعث التصفير في الآذان ويستفز شعوراً يغلف الذات ويشي بالفراغ والعدم. تحت سماء النهار البعيدة شعرت وكأنني صفحة فارغة ولم يكن هناك فراشات ترفرف ولا أتذكر سماع زقزقة عصافير الدوري أو نباح كلب او صياح ديك. كانت رائحة البارود تملأ الدنيا وأعمدة الدخان تتصاعد بكسل من السهول المتفحمة على طرف الوادي. وفي الليل كان يهيمن في عمق السواد السائد طنين متواصل لنوع من البعوض الإسرائيلي المسير التي يسميه أهل الجنوب: طائرة أم كامل (مسيرة MK). لربما كان الشعور بالفراغ، في الأيام الأولى بعد الانتصار، قد تسبب به صمت مآذن المساجد المدمرة في أنحاء القرية. وحين تهب الريح كانت تهب بصمت مريب فتعبر الوادي وتمر بالأشجار من غير عويل وجلبة. في صيف ٢٠٠٦ شهدت قرية عيتا الشعب أعتى أنواع المعارك خلال ثلاثة وثلاثين يوماً من الحرب الضروس، ورغم تدمير ومحو شوارع، أحياء، وأجزاء بأكملها من القرية وتسويتها بالأرض، رغم هذا التوحش كله، لم يستطع جيش الاحتلال التقدم واحتلالها. وكان من جملة الدمار الذي لحق بمعظم بيوت القرية قصف طيران الاحتلال شبكة الاتصالات الخلوية في مناطق الجنوب اللبناني وإذ بنا ننقطع (بشكل صحي) عن باقي المناطق اللبنانية.
في ذلك الصيف ذهبت مع مجموعة تطوعية عرفت باسم "صامدون"، وكان حظي أني توجهت إلى قرية عيتا الشعب الحدودية ولم أبق في مدينة صور مع فرع آخر من المجموعة. لست هنا بصدد الكتابة عن إنجازات في عيتا للمجموعة الشبابية المهضومة الآتية من بيروت. لكن الإنجاز الأكبر بالنسبة لي حدث في وعي. كانت هذه التجربة بمثابة فتح عين العقل للتبحر في الأرض التي حمتها المقاومة والتماس خطوط الدماء المتناثرة على التراب بعد معركة ردعت العدو في سابقة تاريخية منذ احتلال فلسطين.
في أول ليلة لنا في عيتا لم يكن أحد من السكان قد عاد إلى القرية. وحين وصلنا استقبلنا شبان ورجال المقاومة وامرأة واحدة كانت في منتصف العمر صمدت معهم لتعد الطعام وتهتم بهم طوال فترة الحرب. في أول ليلة رأيت السماء في عيتا كما لم أرها من قبل، فجأة خطر على بالي أني لم أنظر إلى الأعلى منذ أيام الطفولة. في تلك الليلة نمنا في خيمة بلاستيكية ركيكة وفي الصباح دخلنا حسينية القرية فوجدنا مدخلها مدمراً بصاروخ خلف عددا من القنابل العنقودية على الأرض وفي زاوية القاعة. ومع وصول أول شحنة مواد غذائية صارت الحسينية المطلة على الوادي مركز الإغاثة لمجموعة "صامدون" في عيتا الشعب. كان بعض الأهالي قد بدأ بالرجوع مع نهاية الأسبوع الأول بعد وقف إطلاق النار ومع عودتهم رجعت الحياة تدب في أرجاء القرية. فتكرم علينا أحد أصحاب البيوت وسمح لنا بالنوم في منزل من طابقين بفتحة سقف. وقد دمر القصف الإسرائيلي، طوال ثلاثة وثلاثين يوم، معظم البيوت ومسح بجرافته الضخمة عددا من الأحياء والمناطق السكنية في عيتا الشعب. وعندما كنا نذهب لنتطلع في أنحاء الضيعة مع أحد من الاهالي كنا ننصت ونتأمل حين يحكى لنا عن معالم القرية المدمرة: "هنا تحت أقدامك كان الحي الفلاني، والآن نحن نمشي فوق بيت فلان." تحت أقدامنا وجدنا التراب مخلوطاً بقطع البلاط من غرف جلوس البيوت المهدمة، وكنا نلاحظ ألواناً متعددة لأشياء ناتئة من بين الدمار كصور العائلات، أوعية وأواني الطبخ، وألعاب الأطفال.
يوماً ما، في أحد صباحات أيلول الدافئة، أتى رجل لدعوتنا لتناول طعام ترويقة مع عائلته العائدة من النزوح للتو. هناك من على شرفته المطلة على الوادي الفاصل بيننا وبين فلسطين المحتلة أكلنا لبنة وزيتون وغمسنا قطع الزلابية المقلية بالزعتر البلدي ورشفنا رأس الحصان. وبينما انشغلت أفواهنا في مضغ ورشف بقيت عيوننا وآذاننا تتابع حديث الرجل وهو يدلنا على نقاط في التلال الترابية والمنحدرات على الجانب الآخر. ثم نهضت ربة البيت واقتربت من حافة الشرفة مدت سبابتها واسترسلت تحرضنا بنوع من الشماتة والسخرية عن صغر جنود الاحتلال المتمركزين هناك. وإذ بنا نفقع بالضحك بصوت عالي حين تحمس صاحب البيت وصرخ مستهزئاً بهم فدوت بعض الكلمات في الوادي وتردد صداها: "نحن هون قاعدين نشرب الشاي ونأكل الزلابية بأمان وأنتم هناك مختبئون كالفئران في الجحور". ثم ازداد حماس الرجل فقام وأتى بالستريو من داخل المنزل وضع السي دي وشغل أغنية نصرك هز الديني ورفع الصوت حتى الآخر. دوت موسيقى الأغنية في الوادي الضيق وتردد صدى حاد ملأ المساحة بيننا وبين جنود الاحتلال. يبدو أن الأغنية ازعجتهم حين بدأوا يخرجون من أوكارهم ويتجمعون في حالة استنفار وتململ. هنا صاح صاحب البيت وأتى بمنظاره وراح ينظر وهو يقول لنا إن الأغنية أفحمتهم، أكيد أخافتهم. لكن فجأة قطع حديثه فرقعة رشقات أتت من هناك وتلتها المزيد من الفرقعات. لاحظنا بغتة تفتيت قطع من حائط الشرفة فوق رؤوسنا. ضربنا اليقين وباغتنا حقدهم، لكننا لم نخف ولم يتحكم بنا أي نوع من أنواع الهلع. حين نظرت إلى وجوه من كانوا حولي شعرت بنوع من الشجاعة استمديتها من صاحب البيت وزوجته حيث ظهر الاثنان بنوع من الجدية والثقة وهما يرددان أن هناك مقاومة فعلت فعلها بالميركافات وحمت القرية طوال ثلاثة وثلاثين يوم. فلا داعي للهلع. كانت قد انتهت الأغنية حين أوعز لنا صاحب البيت بصوت هادئ أن لا نخاف: "وعادي هيدول شكلهم خافوا مننا. يللا نفوت نكمل الشاي جوا وبلا هالمناظر".
بعد مرور عدة أسابيع من التطوع في عيتا شربنا من طبائع المكان الريفي الخارج من الحرب بدمار هائل. لكني كنت مذهولا حين كنت أشاهد عودة أصحاب الأرض أفرادا ثم أفواجا وهم يصلون من أماكن نزوحهم مبتهجين؛ يرفعون علامة النصر، عازمين على إعادة بناء ما تهدم ومتابعة حياتهم بشكل أفضل. في هذا المكان الحدودي تولد لدى البعض منا الشعور بالنفور من المدينة وكرهنا فكرة العودة إلى نمط الاستهلاك اليومي في بيروت. كنت أشعر في ذلك المكان في تلك اللحظة أن مواضيع المظهر، والمرتبة الاجتماعية، وكم تجني، لم تعد أموراً مهمة بالمقارنة مع الشعور الجمعي المحيط بنا. خصوصا حين كنا نجلس حول إبريق الشاي لنسمع حكايات البطولات التي سطرت خلال ثلاثة وثلاثين يوما من القتال الشرس. على ضوء القنديل تجمعنا حول أهالي القرية وهم يتلون بفخر حكايات البطولات ويتغنون بشهدائهم: "عند المفرق الفلاني أحكمت المقاومة كميناً كان بمثابة مصيدة موت الصهاينة. البطل ابن سرور عمل بهم العمايل وكان يخاطبهم بلغتهم ويرتدي ملابسهم ويخرج عليهم من قبو البيت الذي كانوا فيه. وهناك في بيت أبو فلان خرج لهم وصاح شالوم، قبل أن يفتح عليهم النار ويفرمهم حيثوا كانوا في استراحة في مطبخ البيت، وما زالت أشلاؤهم وقطع من أدمغتهم ملتصقة على الحائط. تعال شاهد هذه الجرافة العملاقة كيف حولتها قذيفة الكورنية إلى كتلة خردة مفككة". في عيون أهالي القرية لمع بريق الانتصار كبهجة العيد، كانت الناس تروي وتشير وتزيد وتبالغ لتأكيد أن ما كان مستحيلاً قد حصل. في ذلك الصيف تحت خيمة النجوم في عيتا انكسرت الكثير من الأساطير التي كنا نسمعها من جيل أهلنا في بيروت عن جيش الاحتلال الإسرائيلي.
أما بالنسبة لي، فقد شهدت على واقعة حدثت معي في أول أيام الحرب كان لها تأثير ضخم على وعيي وبصيرتي. في بداية شهر تموز سنة ٢٠٠٦ باغتتني الحرب وارتعدت فرائصي حين سمعت وشعرت بالقصف قريبا مني. فجأة تدفقت عليّ مع ارتجاجات زجاج المنزل، بعد عصف الانفجار، كل أشباح الحرب الأهلية ومجزرة قانا وسقط الاستقرار الزائف. فكان صوت الطيران الحربي حين يغير ويقصف ومن بعدها الانفجار وموجات العصف تثير في أمعائي خوف طفولي عاد واستحل وعيي بنفس الحدة التي كانت تعصف بي في ثمانينيات القرن الماضي. استفزني كثيرا هذا الخوف الذي ظننت أنني قد تخلصت منه حين بلغت السن القانوني. لذلك قررت البقاء، ورفضت الهرب إلى الجبل لنختبئ في بيوت اصطياف الأقارب. فغادر أهلي وبقيت وحدي في بيروت. ويوما ضاقت بي الدنيا وحاصرتني الأشباح في الشقة التي كنت أسكنها فأخذت نفسي إلى البحر وركنت سيارتي على الرصيف الفوقي لكورنيش رملة البيضة. سحبت فرملة اليد وجلست في سيارتي أدخن، سيجارة تشعل سيجارة، وأرتشف بكسل من عبوة إفيس وأتابع نشرات الأخبار عبر أثير إذاعة صوت الشعب. مع مرور الوقت أصابني نوع من الخدر، وتركت بصري يسرح فوق موجات البحر. فجأة اشتعل شيء أمامي في عرض البحر. يه! ما هذا؟ معقول البحر يحترق؟ بلبنان كل شي معقول. لكن مهلا، هذه أول مرة أرى البحر مشتعلاً والنار تطفو فوق الماء! ثم انشد انتباهي، وتصحح سمعي، وطبت في اذني جملة الأمين العام السيد حسن نصرالله وهو يقول: والآن انظروا إليها تحترق في عرض البحر.
نظرت مجدداً وقلت لنفسي كيف وأين؟ لأني كنت شاردا في نفس مساحة المياه التي اشتعلت ولم ألاحظ البارجة. وعلمنا من بعدها أنها كانت بارجة حربية مسطحة اسمها ساعر صممت بطريقة تجعل من الصعب رؤيتها بالعين المجردة من مسافة. لكن مسطحة كانت أم لم تكن فقد أصابها صاروخ المقاومة بدقة خارقة، وهنا نزل عليّ اليقين وصفعني كفا وجوديا. طار الخدر وتدفقت الأفكار. فتحت الباب وخرجت من السيارة. هنا طار الخوف من مخي واحتل مكانه شعور بدا كحصان جامح. وبسرعة انهمرت الأسئلة تقرع عقلي: منذ متى كنا نطالهم بهذه الدقة؟ لماذا قيل لنا إن هذه ليست حربنا؟ وما معنى عبارة: الحرب هونيك، عندهم بالجنوب؟ لماذا كل التضارب في بيروت والكلام عن المقاومة عن حزب الله كأنهم غرباء وهم الذين يدافعون عنا بهذه الدقة والقوة؟
في تلك اللحظة اليقينية فهمت الكثير من الأشياء بشكل فطري، فكان تأثير الصاروخ الذي شهدت فعله بمثابة انقشاع الرؤية، فظهر التغيير في معادلة نحن والاحتلال. وبسرعة تملكتني نزعة فطرية وتحركت في باطني موروثة "على دا العونا" كما شرحها الشهيد باسل الأعرج في كتابه "وجدت أجوبتي". قلت لنفسي بحزم: يجب أن أفعل شيئاً، أي شيء كي أساهم بالذي يجري من حولي. بسرعة عدت إلى سيارتي قمت بتشغيلها ورحت أقودها في شوارع بيروت الخاوية. أيقنت بعد حين أنني أبرم في الشوارع وأصرف البنزين بلا جدوى. لكن تحكمت بي رغبة وأردت أن أفعل شيئاً مفيداً. في جسدي طاقة تغلي تريد أن تساعد، يداي تعضان على المقود وتؤلماني من كثرة الشد عليه... لكن ماذا أستطيع أن أفعل؟ ليس لدي المال للتبرع به في صندوق المقاومة. أأذهب إلى الجبهة؟ لكني لا أجيد القتال. صحيح أني خدمت في الجيش خدمة العلم طيب، ولكن لا هذه كانت تسلية. ومن غير أن أدري ذهبت سيارتي بي إلى حديقة الصنائع وهناك وجدت بضعة شبان وشابات لا يمثلون جهة سياسية معينة وقد شرعوا في حملة الإغاثة صامدون بمبادرات شخصية. قلت لهم: "مرحبا، لدي جسمي وسيارتي أستطيع التبرع بهما والتطوع كيفما أرادت الحاجة". وفي اليوم التالي وصلت باكرا إلى حديقة الصنائع أحمل شنطة فيها دفتر وقلم لم أكن أستعملها فيما مضى كانت مجرد ستايل والآن اصبحت مفيدة. هكذا زرعت نفسي أمام مدخل الحديقة أستقبل النازحين من الجنوب ومن مخيمات اللاجئين الفلسطينيين والضاحية الجنوبية لتسجيل احتياجاتهم وتحضيرهم للإقامة المؤقتة والاهتمام بهم. وبقيت متطوعا في حديقة الصنائع طوال فترة الحرب. لكن البعصة الوجودية في بيروت عادت بسرعة حين انتهت الحرب وكان عليّ العودة إلى العمل.
قبل الحرب كنت أعمل مندوب مبيعات في أحد متاجر تيمبرلاند في وسط المدينة. قبل الحرب والتطوع كنت أقف طوال النهار وأتكلم بنبرة مصطنعة لكي أبيع أحذية باهظة الثمن لنوع من المستهلكين يبتاعون صرامي فاخرة لا للحاجة لكن كما يقولون: "بس ع الزهق". وحين نظر إليّ مدير المتجر بعد أن عدت للعمل خاطبني بفوقية مفرطة: "ما الذي فعلته بنفسك؟" قلت له، "أرخيت لحيتي طوال فترة الحرب كنوع من التضامن مع أهل الجنوب والمقاومة". فقال باستهزاء مزق سذاجتي: "أي روح تضامن ببيتك. منظرك هيدا يقطع الرزق". وصرفني. في الطريق إلى البيت قررت أني لن أحلق لحيتي ولا أريد العودة إلى نمط الحياة هذا. عاد الصاروخ الذي رأيته يشعل البحر ويصيب البارجة الحربية وراح يحلق في مخيلتي. فجأة انفجر الصاروخ وأشعل ناري وتركت العمل من دون إنذار ورحت إلى عيتا الشعب من غير تردد.
منذ بضعة شهور رزقنا بهر صغير سميناه مكدوس. ولكن حدث شيء أصابني بخضة ظللت أتعجب منها لعدة أيام. فبعد أن خرج مكدوس من القفص الذي جلبناه به أتى هرنا زيتون وراح يتشمم كتلة الفرو الخجولة. قبل أن يأتينا مكدوس كان معنا زيتون منذ أكثر من اثني عشر عاما وكنت حتى تلك اللحظة أتصور زيتون قطا صغير الحجم. ولكن حين وقف قرب مكدوس، ابن الثمانية أسابيع، بدا حجم زيتون أكبر بكثير مما عرفته قبل هذه اللحظة. صدمني هذا التغيير بالحجم بمجرد إضافة بسيطة في عملية الإدراك الحسي وهنا فهمت إن الأحجام تتغير بمجرد تغيير نسبي في وجهة النظر.
لفتت نظري حادثة الإدراك التي أصابتني بين مكدوس وزيتون وراح مخي يبحث عن حدوث مماثل بقي عالقا في مؤخرة رأسي منذ أيام تطوعي في عيتا الشعب. يوما ما بعد ان انتهينا من تفريغ شاحنة أكياس طحين في حسينية الضيعة رحنا في نزهة مع رابط المقاومة. كنا نمشي ببطء على طريق ترابية حول الرابط بينما كان يروي لنا بدقة أين وكيف وقعت المعارك، مشيرا بسبابته إلى المواقع التي خرج منها جنود المقاومة وهم يصدون تقدم جيش الاحتلال. ثم من غير أن ندري راح بنا الرابط إلى طرف الضيعة وإذ بنا نصل منطقة خلة وردة فينفلش أمامنا مشهد غير مألوف.
في المسافة أمامنا وجدنا دبابتين وجرافة عسكرية مرميتين على التراب بشكل عشوائي. على إثر هذا المشهد صدرت من بيننا شهقات وتأوهات وارتفعت الأصابع ومدت كالرماح تشير يمينا يسارا. حثنا الرابط على الاقتراب، اقتربنا بسرور حذر لنتفحص هذه الكتل الجبارة. صعب جدا الوصف بالكلمات ذلك الشعور العرمرمي الذي يشتعل في أعصاب الدماغ حين تقف أمام دبابة ميركافا وتراها مقلوبة ظهرا على عقب وأغنية وتمايلي وطبولها تصدح في رأسك: دم دم دم. هناك خرجت أصوات صدرت من بعضنا لا شعوريا في محاولة للتعبير عن ضخامة الدهشة حيث عجز المخ في عملية ربط الأصوات بمجموعات أحرف في نظام نطق أبجدي ليعبر عن هول الواقعة. دبابة الميركافا هي عبارة عن آلة قتل ضخمة وصلبة جدا، وحين تقف بقربها وتضع يدك عليها ستشعر بشكل مريب بتضاؤل حجمك ككتلة عظم ولحم بشرية هشة أمام كل هذه الصلابة. لكن حين تقف بقربها في سهول عيتا الشعب وتنظر إليها ممزقة محترقة ومقلوبة على جنبها من حدة انفجار قذيفة الكورنية ستشعر بمخك يتحرك، يكبر ويتمدد داخل جمجمتك. هكذا هي إذا النسبية في تصور الأشياء. فحين تنظر إلى دبابة الميركافا مرمية كالخرية يمينا وشمالا وتنظر وتتأمل وتركب صورة ومشهد المقاوم وهو يصوب وهو يأخذ نفساً عميقاً ثم يحبسه ويضغط زر النار. هكذا، فقط لا غير، تنكسر الأسطورة وتتضاءل هذه الدبابة العملاقة أمامك بشكل مثير. هناك على وقع صمت مدوي في سهول عيتا شعرت بالعقدة الدونية وهي تتفتت داخل أنسجة دماغي.
لكن ستجد في العودة إلى بيروت، بعيدا عن الجبهة، كيفما أدرت وجهك عقدة النخب إياها في سردية الهزيمة مع العدو، ومن كثرة ترددها فقد تجد نفسك تجترها عشوائيا من غير أن تعلم. ففي بيروت تجد النخب تتكلم عن الدمار الذي لحق البلد بأكمله كهزيمة وفشل المقاومة، وفي المقابل، هناك على أرض المعركة، كان يصل أهل القرى رافعين علامات الانتصار فوق بيوتهم المدمرة. هنا مقولة الشوف مش مثل الحكي تصلح للتخلي عن سردية العجز والهزيمة بمجرد إعادة النظر إلى الشيء نفسه لكن من منظور واقعي مادي يعيد تشكيل المعنى خلف العيون لتظهر صورة أخرى تعيد صياغة سردية المواجهة من المسافة صفر. كما أوضح لنا فعل الشهيد رعد حازم مؤخرا حين استل مسدسه في مدينة تعتبر عمق الاحتلال. وقد أدى فعله الفدائي إلى اهتزاز الكيان بأكمله من حول رعد، وقد شاهدناه وهو يشاهد الوحش الذي قيل لنا إنه لا يقهر يترنح أمامه. هكذا إذا يصغر الاحتلال في المخيلة كلما شاهدنا الذئاب تخرج كالأمواج الكاسرة وتنهش جسد الاستيطان على كامل التراب الفلسطيني. كذلك كانت تجربة مشاهدة الميركافا تصغر في سهول عيتا وتتحول بفعل المقاومة إلى مجرد كتلة حديدية ممزقة تنتظر سحلها إلى مزبلة التاريخ.
في لبنان كنا قد سمعنا بالميركافا بعد اجتياح ١٩٨٢ وكانت تلك السنة قد سطرت بانسحاب المقاومة الفلسطينية من لبنان بعد الاجتياح، مجزرة صبرة وشاتيلا، وأسطورة الميركافا. في أواخر الثمانينات وأول التسعينات سمعنا الرجال في سهرات الليل يتكلمون بدهشة عن هذه الدبابة العملاقة وكيف أن قذيفة الـB7 كنت تضرب بها وتنزلق من غير أن تنفجر بشكل عجيب. الميركافا يسميها صانعوها بـ"عربة الرب" التي لم يكن بمستطاع الجيوش العربية المحيطة بالاحتلال هزيمتها. لكني حين رأيتها متفحمة في سهول عيتا الشعب بدت لي كعربة الرب العاجز عن حمايتها بعد أن مزقها ابطال وحدات ضد الدروع في المقاومة الإسلامية.
في آخر أيام عام ٢٠١٩ عندما وصل الفشل في لبنان إلى مرحلة الانهيار الاقتصادي عاد إليّ مشهد الدبابات المحترقات في منطقة خلة وردة في عيتا الشعب. يومها كنت أخوض نقاشاً مع أحد ناشطي ما يسمى المجتمع المدني أولئك الذين صاروا يعرفون عن أنفسهم بصفة "الثوار". قلت له انظر جيدا هذا الغضب سيتم امتطاؤه وتوجيهه وفي نهاية المطاف سوف نصبح في وجه المقاومة. وهذا شيء لا يجب أن ننزلق اليه. نظر إلي الشاب مطولا ثم فتح فمه قائلا: الأمريكيون لديهم درونات وسيقصفوننا بها. نحن لا نستطيع أن نصمد في وجه الأمريكان، الدرونات ستفنينا". قلت له منفعلا: شو بك يا زلمة المقاومة صارت قادرة على إسقاط المسيرات إن كان من خلال القرصنة الالكترونية أو الإصابة المباشرة بصواريخ مضادة للطائرات الحربية. والجماعة عملوها وأثبتوا.. ولكنه امتعض بشكل مبالغ، وعلق ساخرا: "نحن فينا للأمريكان يا زلمة؟" ثم تنحنح الثورجي واشرأب عنقه ومد رأسه وراح يدوره بتساؤل: "ليك، صار لازم نحكي عن الفيل بالغرفة". ماذا قال هذا؟ الفيل في الغرفة؟ أغاظني بتلك الطريقة الببغائية في ترجمة هذا المصطلح إلى اللغة العربية على طريقة عملاء الـ NGOs. عرفت مباشرة أنه كان يقصد سلاح المقاومة، لكني لم أكن للحظة أظن أن فخر الصناعة المحلية ودرعنا الواقي في وجه العدو صار "الفيل في الغرفة".
فهمت في لحظتها أنه إذا كنت تصر على عدم الاعتراف وترفض النظر في المقاومة كجدوى مستمرة أظهرت لنا أن الاحتلال الإسرائيلي هو مجرد وهم من غبار قد آن أوان تكنيسه ستظل خانعاً لمشيئة الأمريكيين وسوف تستسلم لهم عند أول مطب ومحنة تضرب امتيازات الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها وتتقلص قوتك الشرائية. لكن إذا كنت تؤمن في صوابية الفعل وتراكم الخبرة والتنظيم والمثابرة؛ كمثال حفر أنفاق الحرية والمقاومة بملعقة الأكل، فلن تجد أي داع للهلع من "درونات الأمريكان". ولابد هنا من التكرار لتنشيط الأذهان الضعيفة بمقولة المثقف المشتبك باسل الأعرج: فعش نيصاً وقاتل كالبرغوث.